أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - عبد الله خطوري - عُقْلَةُ آلأصبع ... (قصة)















المزيد.....



عُقْلَةُ آلأصبع ... (قصة)


عبد الله خطوري

الحوار المتمدن-العدد: 8109 - 2024 / 9 / 23 - 10:27
المحور: الادب والفن
    


.. نعم .. هو أنَا .. مجرد أنا .. شيء ممم لَقيطٌ أو ما يشبه ذلك .. وَلَدْتني المُسَمَّاة أمِي في معيشة فوضى مشوشة في زريبة من زرائب خش عْشَايَش (1) بيوت واطئة خارج المدينة .. لَمْ ترحمني سماء، ولا أرض آلهوام التي أدِبُّ عليها كسُلحفاة وضيعة أشفقتْ لحالي، ولا الأيام ولا الليالي .. بعشوائية والتباس عارم قُذِفْتُ بالرغم مني إلى عالم لا يرغب بي إثر علاقات عابرة مؤداة عنها دراهم معدودات .. أنا كَيانُ هباءٍ مفرغ من المعنى .. حَصيلةُ آجتماع ما لا يَجتمعُ منْ إفرازات خُصَى أولاد الحَرام .. أنا آبن العَرَّام (2) .. أنا "إنسان" بلا آسم بلا هوية بلا سجايا .. هكذا .. أعيشُ من فُتات الآخرين أقبضُ الريحَ في البَريّةِ أتتبعُ فضلاتها أينما ولّتْ آرتَحَلَتْ ارتحَلْتُ وإياها .. لَسْتُ إمَّعةً، لا أحدَ يُريدني معه .. لا أعرفُ لي مكانا أو مستقرا داخل المدينة وخارجها .. كل يوم ورزقه .. هكذا، في أحايين كثيرة، ألجَأُ إلى بيت السيدة "حُورية" الأرملة التي تزعم أني آبنُها، لكني في الحقيقة، كنتُ أشكُّ دائما فيما تقول .. هي مفرطة الحنان معي .. لا ترفض لي طلبا أبدا .. لعلها كانت تريد أن تُعوضَ عيشة الضياع التي تعيشها منذ أن سَرَطَتِ الحرب زوجَها العسكريَّ البعيد، اغتالتْهُ قنابلُ لا ترحم وتركَتْها وحيدةً بمَانْضَا (3) أفْقَر من الفقر تتضاءلُ كلما آرتفعتِ أسعار الحياة بنت الكلب التي نعيشها في مؤخرات قيعان المدينة .. هي دائمة السهر .. لا تتردد على الغرفة الواطئة التي تكتريها ومجموعة من النساء يُشبهنها في الفاقة والعوز إلا في ساعات متأخرة من الليل .. عمَلُها يتطلب ذلك .. بجُملة واحدة، كانت تشتغل راقصة هَوَى في إحدى عُلب ليل الشوارع المُعاقة .. في أحيان كثيرة، كانت تُعَنفني لأني أعاملُها بفَضاضة وأنْكِرُ عليها حياتها التي لا تجد عنها بديلا .. كنتُ أهجرُ قَبْوَها وأرتَادُ أماكنَ آعتدتُ عليها مثل السينما وحلقات جوطية الخردة وأسواق الطرابندُو والقهوة التي أخدمُ فيها، ومحطة القطار العتيقة حيث أتسلقُ ورفقتي من الأطفال والفتيان النزقين أسقفَ المقطورات المركونة فوق القضبان في آنتظار أن تتحرك ذات يوم وشيكـ، لكنها تظل جامدةً ساكنةً ميتةً، وظللنا نحن نتسابق على متنها حالمين بيوم قريب آتٍ نرحل فيه جميعا من مواقعنا القميئة في حبس وكْرنا الصدئ الرذيئ .. كنتُ أعْدُو أجري طيلة النهار لأصَوِرَ شدق خُبز أشفي به رمقي الجائع أبدا ثم آوي إلى إحدى دور القصدير بفيلاج "لاَحُونا" صُحبة شيخ طاعن في السن الذي كانتْ له بعض الماشية يرعاها .. كُنَّا نقتاتُ الخبز والحليب كثيرا .. سعيدا كنتُ وإياه إلى أن رأيتُه ذات مساء يُراودُ ما يراود على نفسه .. كان يفعل شيئا شنيعا ولعياذُ بالله ..!!.. بَدَا لي في صورة النذل البذيئ الرخيص بوجهه المليئ بحَبّات كبيرة ودُمّلات مُقعرَة حَفَرتْ صَفيحتَه الخائبةَ كأنَّ به الجذري يا لطيف، بآلإضافة إلى نُدوب وثقوب وأخاديد خلفتها تجاعيد كَمَّشَتْ مُحياه فآختلطتِ الجبهة بالذقن بالخديْن فلا تكاد تميز في ملمحه شيئا .. لستُ أدري لِمَ لَمْ يظهر لي بشعا قبل تلك اللحظة التي رأيتُه فيها يفعل قرفه الشاذ .. بَدَا منظرُه شبيها بالأرض الخرباء المحروقة بقنابل النبَّالم، والتي لا تنتظر إلا سيلا جارفا من المياه لترتوي .. أتعرفُ ما تحتاج إليه أيها القَـ ..؟؟.. قلتُ له، أتعرف ؟ إخْ تفو عليك ..!!.. البصاق والقيح والسخط هو مْطَارَكْ يا واحد العِضَرِي .. ما تحتاج كذلك بعد أن ترتوي ؟؟ قلْ لي .. الغرس الزرع يا وجه الشر .. هاااا هو الخير هاااهو الزرع يا زريعة القنب ..!!.. ورُحْتُ أنزلُ عليه رجما بالحجارة وضربا ولكما ورفسا كما آتفق غير مُبال بشِيبته الرّعناء حتى خَرّتْ قواي وتركتُه على حاله لا يلوي على شيء شبه ميت وآنصرفتُ .. مثل هذه النماذج الشوهاء كثيرة في المدينة المسخوطة التي أتسكعُ فيها .. وقد حصل لي الشرف أن تعرفت على العديد منها .. كان المتعلقون بالحياة كنبات العليق عالقين يعيشون حياة صدف وكفى .. حياة ..؟!.. لا حياة لهم .. بائسة شقية حركاتهم سكناتهم وكل ما يفعلون ولا يفعلون .. لَمْ يحصلْ لي أن تعاملتُ معهم أبدا .. كانوا يشتغلون بحرفة الشحاذة والتسول وامتهان الغرق في قواديس المخدرات والقرقوبي والسيليسيون ونشل جيوب المشردين في حلقات الفْرَاجَا (4) في الساحات والعتبات ورحبة الجوطيات والأسواق التي يتكدس بها ركام الناس؛ وفي الليل، يتعاطون صنوف الكيف وفرية الزطلة وعيشة ضنك بَزَّزْ (5) والسِيفْ وكُحول جَانْكَا سِيكْ (6) القاسحة القاطعة والأعمال الدنيئة .. كل الأعمال الخايْبَة التي لا تخطر على قلب بشر .. الواحد منهم لا يضحك إلا إذا رأى فيكَ منفعة أو نزوة شاذة .. كذا ..!!.. نعم هو كذلك .. لا يعرفون للمعروف طريقا، فالذئب حتى لو رضع لبن الشاة لن يكون إلا ذئبا .. أتذكرُ الشيخ .. آخ ..!!.. هكذا علمتني الدنيا بنت الحرام أن أكون متوجسا مرتابا فالحياة مع مثل هؤلاء البائسين مشرعة على كل الاحتمالات .. الحذر الحذر ..!!.. حقيقة واحدة نملكُها في هذا الوجود، كان يقول صاحب المقهى الذي أعملُ عنده .. أنْ تكون أو لا تكون .. وما عدا ذلك، فهو مجرد لغو أصفاااار هراااء لا غير ..!!.. صاحب المقهى فْهَايْمِي بَزَّااافْ، لَقْلاقٌ بَقْبَاقٌ مكثارُ الكلام، لكنه طيب القلب، يعامل الزبائن بآحترام كبير .. يُعَلمني كيف أعاملهم بلباقة كي أربَحَ ودهُم وحُسن عطائهم .. مهمتنا _كان يقول_ الترويح على الناس، فتعلمْ كيف تبتسمُ أيها الأهوك .. ابتسمْ ابتسمْ بمناسبة وغير مناسبة .. كَشِّرْ عن أسنانك الصغيرة اضحكْ مِلْءَ شدقيْك لا يهمك غير الابتسام .. العمل والرشوق .. وهااا أنتَ ناضي ماضي ..ههه.. كان يضحك كثيرا صاحب القهوة، وكنتُ أضحكُ لضحكه، بل الرواد كلهم كانوا يضحكون لضحكه .. وهكذا تعلمتُ كيف أبرزُ أسناني وأضحكُ ههه بسبب وغير سبب .. اللهم في الضحك ولا صدعان الراس .. كنتُ أعلم جيدا أني لا أساوي شيئا .. لا شيء البتة .. فأنَا لستُ إلا لقيط قذر ابن قذارة قميئة، أما تلك الكلبة ديال "حورية"، فإنها لا تفتأ عن هرطقات الكذب .. فالمْعَلْمْ أخبرني ذات يوم بحقيقتي بأصلي وفصلي الأجْرَبيْن، فأنا لستُ إلا ابن عثر عليه في سطل المتلاشيات قُبْ دَالزبلْ، ابن قمامة ونُفَاضَة خصي الآخرين .. أنا بقية البقايا .. أنا رزية الرزايا .. أنا الوَضاعة في أسفل دَركاتها الخسيئة .. أنا الخَسْأ بعينه العوراء العرجاء اللعينة .. ربما أكون كائنا ضائعا كما يقولون، لكني أصارح نفسي قبل كل شيء .. هل أنا كائنٌ بالفعل حتى أكون ضائعا بعد ذلك أو غير ضائع ؟؟ لطالما كنتُ أتساءلُ _عندما كنتُ صبيا لا أزال_ عن الكيفية التي يجيئ بها أولاد الحرام، لماذا يولَدُون في أكوام القمامة؟ ولمَ هم أولاد حرام ..هكذا.. وما الفرق بينهم وبين الآخرين ..؟؟.. كانت حورية تحاول التخفيف عني، تناديني بآبنها .. تبا ..!!.. لستُ آبنَ أحد .. اِبن زُناة أنا ابن قُساة ابن سُقاة ابن عراة ابن فَلاة ابن كل الرّعاع كل الغوغاء في كل زمان في كل مكان .. مسكينة حورية .. كانت ترسلني الى المدرسة ..ههه.. المدرسة ..!!.. ومن أين لمثلي أنْ يقرأ أو يكتب أو يعرف ما يعرف الناس .. رأسي كان قاسحا كالصنم الصوان .. لَمْ أكُ أفهمُ شيئا لِمَا كانتْ تقوله المعلمة ذات وجه البندير .. كنتُ لا أشبعُ من اللعب والعبث في المياه العكرة .. حافيَ القدمين أخبُّ أغطسُ أعفسُ لا أبالي حتى إني كنتُ ألِجُ القسمَ ومن قدمايَ تنبعث الروائح الكريهة .. كانتِ المعلمةُ تُؤَنِّبُنِي دائما بقولها ...

_وسخ ولد الوسخ يلعب في الوسخ..الله يلعن طاسيلْتَكْ اَلْفَرْخْ ..!!.. (7)

ثم تطردني كالعادة .. وهكذا .. بقيتُ في قسم التحضيري ثلاث سنوات بالتمام والكمال .. وفي الأخير، كانت الزنقة مصيري .. فيها أصْلِي وفصلي وعرقي ومَحْتدي وكل شيء .. تعلمتُ في أقبية أحشائها ودهاليز منعرجاتها كيف أشربُ وآكل من الحياة حتى النخاع دون أشبعَ أو أرتوي .. تعلمتُ كيف أعاشر أخلاطَ القوم وأوباشهم وأسافلَ الناس وأراذلَ الخلق مثلي .. تعلمتُ قتل الوقت .. تعلمتُ التوغل في النجاسة والوضاعة أغرقُ في دهاليزها أتيهُ أتلفُ أضحكُ كمخبول .. ههه .. نعم .. أضحك لا أبالي
... في القهوة، أقوم بعدة مهام .. أخدم الزبائن أسليهم أضْحِكُهُمْ بالتنكيت الغبي وتصنع الحركات البهلوانية كمَنْ يُراقص القرود على حبالِ منْ شَفَرَاتِ الحديد حادة النصل .. لَمْ يك ثمة قرودا، كنتُ أنا القرد الوحيد على منصة الدنيا بنت الكلب، أقهقهُ أصخبُ أتحرك هنا هناك وفي كل مكان كأي بليد سخيف خَرَأتْهُ الحياة .. وفوق هذا وذاك، كانت لي مُهمة توزيع عجينة العشبة الخضراء على باعة السجائر المتجولين الذين يتعامل معهم المعلم .. كنتُ ناجحا في عملي والمعلم يرضى عليَّ دائما، حتى إنه أخذ يَعفيني من العمل في الصباح، فكنتُ لا أستيقظُ إلا في أوقات متأخرة، إلا أن حورية كانت تزعق في وجهي تأمُرُني بالبحث عن عمل إضافي لأسُدَّ بعض حاجياتي وبعض حاجيات المنزل .. كنتُ أتضجرُ منها كثيرا ومن نصائحها وأوامرها ونواهيها، لكن سرعان ما رضيتُ عندما آستقررتُ في عمل بحَمّام دوش للنساء يعمل بالنهار .. عملي كان يقتصرُ في إضرام النار وإشعالها لتسخين الماء وتدفئة غرف الاستحمام .. وكنتُ لا أتوانَى في النهوض كل صباح، فقد كنت مسرورا بعملي الجديد وبالبقشيش الذي احصل عليه، وبمغامرات لا تحصى مع زميل لي في العمل .. كان المسخوط يرتقي درجا خفيا إلى مكان الاستحمام ثم يتلصص من ثقب صغير .. ويا لهول ما كانت تَرَى مُقْلَتايَ الصغيرتان .. أشياء لا تخطرُ على بال .. كان الخُرْمُ في أحَد حيطان الغُرف المؤدية مباشرة إلى حجرة صغيرة مستقلة .. كنا كل صباح نَتجسَّسُ على المستحمات بأنواعهن المختلفات .. عجائز شارفات وفتيات صغيرات على حد سواء .. كلهن يشتركن في العري الكامل الذي لم أعاينْ نظيرَه من قبلُ، لكن ما هالني كثيرا ولا أفتأُ أذكرُهُ، ذاك المنظر المفاجئ الذي ذُهِلْتُ لرؤيته أيَّمَا ذهول .. كانت في الغرفة فتاتان في عمر الزهور تتشابكان بالمعاصم والأيدي والأفخاذ وكل البدن. تضمان بعضيْهما بتشنج وعصبية .. تلثمان تنهشان تفرسان كما يفعل أصحاب الفريسة من العيساويين بفريستهم يلتهمونها حية (8) .. يا إلاهي .. كانت كل واحدة منهما تقبض جسم الأخرى تبتعله بنشوة حيوانية غريبة .. وسرعان ما دخلتا في تلاصق وآحتكاك عنيفيْن حاديْن كالكلاب .. كانتا تشهقان تزفران تلهثان تئنان تصرخان تضحكان تبكيان .. كل ذلك، في آن واحد ..ربي.. ما أشنع هذا .. ما أبشعه ..!!.. هربتُ من مكاني وغشاوة من ظلام تغطي مقلتَيّ بغلالة سميكة .. فَرَرْتُ نجوتُ بجلدي، لكن صورتهما المتشنجة والإعياء الظاهر والترنح السافر والتباس الهيستيريا البغيضة والمرض الجذام يكِرُّ ورائي يتبعني يطارد ظلي فأمعنُ في الفرار قُدُما إلى ما صادفَتْ رجلاي لا ألْوي على شيء سوى النجاة بجلدي من هول ما رأتْ عيناي .. تركتُ هذا العمل اللعين متقززا ساخطا ألعنُ وَسَخَ الدوش وقرافةَ الحَمّام وصاحبه ورفيقي وحُفْرَته المَمسوخة وحورية الجَرْباء والشيخ العفن المهترئ وبرَّاكته الواطئة الصدئة والعشبة الخضراء والحلاقي والجوطية ومحطات الحافلات ومقطورات القطار الرابضة غير المسافرة أبدا والقهوة والمعلم والرواد الملاعين والمدرسة المقلوبة على رأسها والمدينة والعباااد، كل العباد وجهنم الحمراء التي نَعيش في دياجيرها غارقين والمجانين والعفاريت والشياطين الفاجرين .. أعوذ بالله منهم أجمعين ..!!.. أعوذ بالله مني ومن كل ما يحيط بي ..!!.. إننا مُدَنَّسُونَ متعفنون قذرون قذارة مَنْ يدخل الكانيف ويأكل بعره ..تبا.. اللعنة علينا كلنا ...
منذ ذلك المشهد، أصبحتُ تالفا لا أعْرِفُنِي ولا أفقه ما يدور حولي .. وبدأتُ أمْلأُ صباحاتي الفارغة في التسكع وإعادة التسكع في الشوارع والأزقة إلى أنْ يَحينَ وقتُ عملي بالقهوة .. كنت دائم التجوال والدوران دون هدف، دون غاية تُذكر .. من المدينة العتيقة إلى الشوارع الجديدة وهكذا .. أدخل من باب الخميس أو باب الغربي وأخرج من باب سيدي عبدالوهاب لألِجَ الجوطية حيث زحمة المَدَّاحين والمُتسولين والعجزة يرفلون في أطمار وجلابيب فضفاضة مُرَقعة .. قرب موقف الحافلات الحمراء، كان طلاب الجامعة يتسابقون على شراء أكلة "كَرَانْ" الأصفر المصنوع من طحين الحمص المخلوط بالبيض .. كان يحزُّ في نفسي أنْ يكون جيبي فارغا، فالنقلة من كَران الساخن اللذيذ إلى المشروب الحلو البارد المثلج نقلة حادة نفاذة مثيرة لأمعاء وريق وأشداق كل جائع .. لكن ما كان يهيلني أكثر، منظر المشردين وهم يزحفون في أكوام القذارة يبحثون في القمامة عن لقمة تسد الرمق .. أطفال صغار نساء شبه عاريات شيوخ ومُعَوَّقُون وعَجَزَة ترتعش أطرافُهم من عناء الإرهاق .. آه .. لَكَمْ كانتْ وجوهُهم بائسة ..!!.. أفواه كبيرة مفتوحة فاغرة فارغة تنهش النفايات تلتهم الأزبال بنَهَم وشَرَه كبيريْن .. ورغم بشاعة ما كنتُ أرى كل صباح وكل مساء، فإني لكثرة آعتيادي عليه، لَمْ تعدْ تصيبني الدهشةُ ولا التقزز ولا القَرَف ولا الغضب .. لا إحساس البتة .. إنها حياة تُعاشُ وكَفَى .. وحال هؤلاء وغيرهم جزء من ديكور المدينة المُمَيز ودونَه لن تعرف طعما أو نكهة للحركة داخلها .. إنَّ حُضورَ الآفَةِ والبؤس طقس لازم ضروري من طقوسنا اليومية التي بدونها لا يستقيم شيء أبدا .. إن العوج والانحراف والشذوذ والخروج عن الجادَّة هو عين الصواب عندنَا .. ودون ذلك، لن نعرف معنى لوجودنا .. نحن هكذا جئنا سرنا عشنا نعيش نموت وكل شيء بخير وعلى ما يرام ... عرفتُ فيما بعد أن العادة هي الكامنة وراء صبر هؤلاء البائسين .. العادة .. نعم .. كل شيء يُتعود عليه حتى هول المآسي وسياط زبانية القذارات .. هكذا كان يقول صديقي الطالب .. لا حول وآخلاص .. إنه السبب وراء كل الهرطقة التي ألُوكُها وتلوكني .. إنه أحدُ رُواد قهوة المْعَلَّمْ .. تعرفتُ عليه هناك .. كان إنسانا غريبَ الأطوار .. يسخط يتذمر يتأفف من كل شيء .. ميال إلى العزلة .. نافر من الناس .. كان يَرى فيهم مجموعة متصلة من الخداع والأكاذيب والنفاق .. إنهم صور لنسخة الكذبة الكبرى التي نتيه فيها ضائعين .. نسخة للدنيا اللعينة التي ليس لها وجه تستقر عليه ...

_ لكن الدنيا ما زَالا بخير ...

يُعقب صاحب القهوة مصعدا في الزبون الحانق نظرة فاحصة .. كان الطالب نحيفا، صغيرَ الجسم، ضئيلَ الحجم ذا أنف طويل مَعقوف كمنقار نسر، عينان زرقاوان غائرتان باهتتان، وجه أصفر قاتم ممتقع شاحب كَمَّشَتْهُ التجاعيدُ الغازيةُ قبل الأوان ...

_مالك .. آولدي .. واش مريض ؟؟

.. يسترسل المعلم ..

_آشْ سَمَّاكْ اللهْ ؟؟

_...... صمت .......

كان ساهما شاردا
.. جبهته تعلوها غُضونٌ وخيوط عميقة بارزة تتدلى جهة المحجريْن كدَالِيَةٍ متشعبة الفروع عارية بلا عناقيد ولا أفنان تُزينها أو تستر أعطافها اليابسة .. في كل مرة يأتي فيها إلينا، يبدو بدنه يتضاءل وبنيته تنحني أكثر فأكثر .. يدخل هيكلُه العظمي المقهى مذهولا مترنحا .. يرنُو خلفه بتوجس .. يتعثر في سيره كمُطارَدٍ فَارٍّ من شيء لا نعرفه .. ينزوي في ركن قصي .. يجلس كالصنم وحيدا على مقعده المركون على الحائط في قعر المقهى .. لا يتحرك .. متخشبا يبقى إلى أنْ يغادر .. لا حركةَ .. لا كلامَ .. يتجرع قهوته القطرانية .. ينظر في كتاب أو يُدَوِّنُ في ورقة ثم ينصرف دون تعليق دون أنْ ينظر إلى أي أحد .. في المرات الأولى لزيارته لنا، لم أستطعْ تبيُّنَ عمره على وجه التحديد .. ربما يكون في العشرين، ربما في الخمسين، مَنْ يَدري .. في الحقيقة، تبدو عليه الشيخوخة المبكرة والترهل رغم حداثته التي تيقنتُ منها عندما كلمتُه لأول مرة .. تجرأتُ وفعلتُ .. ولم يبدِ ممانعة أو آمتعاضا .. لقد كان على غير ما توقعتُ .. فقد طَفِقَ يتحدث منذ البداية ويسترسل في كلام يتلو كلاما حتى خلتُ أنه لنْ يصمتَ أبدا .. كان طالبا قاطنا بالحي الجامعي من أصول بدوية .. نَمَا ترعرعَ في جَـبل شاهق جدًّا يوجد في مكان ما لاتصله أقدامُ الناس الغرباء .. لقد كان في الأعالي ساميا أبيًّا شامخا متعاليا مثل أسلافه السابقين، وهَااااهُوَ قد رَضِيَ بالهبوط إلى ما كان يخاله نعيما يُخرجه من شقاوة عيش شعاب الفجاج والمنحدرات الحادة، وإذا به يكتشف أن نزوله لم يكن إلا آنحدارا هاويا سحيقا إلى دَرَكَاتِ سعير لا رحمةَ فيه لا خيْرَ يُرْجَى لا أملَ لا رجااااء .. يجب أن أصبرَ حتى لاأكرر خطأ الأسُود التي تركتْ أراضيها هربا من ضِباع المدينة .. على أي، لم يبقَ إلا القليل .. هكذا كان يُكرر مرارا .. يَجلس مع بعض الكتب يُغرق في صفحاتها رأسَه حتى ساعات متأخرة من الليل .. يقرأ يكتب غاطسا في دوامة من الدخان متجرعا عدة فناجين من القهوة السوداء غير مبال بأحد، ولا بنصائح المعلم ..

_" .. تهلا آ ولدي في صحتك شويا .. حَاوَلْ على راسك حَاوَلْ .."...

كان يُعامله بآحترام وإشفاق كبيريْن إلى درجة كان يتغاضى عن ثمن آستهلاكه المفرط للقهوة والدخان، لكن الطالبَ كان يحرص دائما على سَداد المُستحقات رغم ظروفه الخاصة، بل إنه مرارا يترك في يدي ويد العاملين بعض البَقشيش أفرحُ به وأمتنعُ أحيانا، لكنه يُلح ويُلحُّ، فأمتنُّ له كثيرا أشكره، فيضحك ضحكا غريبا وينصرفُ .. ومن أجل التخفيف عنه وتسليته، كنتُ من حين لآخر أقطعُ عليه خلوته بنكتة أو حوار ساذج، فيسر ويضحك مستملحا الحديث .. كان أنْفُه، وهو يتناول قهوته يسبق شفتيْه فيُثيرني المنظر أيَّمَا إثارة .. إنه مضحك، يقول .. هذا المنقار .. أليسَ كذلك ؟؟ اُنظرْ إليه يقف شامخا كبَرَّاد مقرف في هذا الوجه الصفيق .. تبا لي ولَه .. ألا تضحكك وجُوهنا المعتوهة ؟؟ قُلْ .. أليس فينا لَعنة موروثة أو مكتسبة أو لستُ أدري أصلها الماسخ .. هيه .. أليس كذلك ؟؟ بلا .. هو كذلك .. الله يحرقُو زمانْ عايِْشينُو .. كان يكره نفسه .. هذا ما بَدَا لِي من خلال حديثه وتصرفاته وسلوكه الغريب آتجاه نفسه وآتجاه الآخرين .. صوته يرتجف وكلماته تتزلزل تتعثر في فمه .. ما نحن إلا نسخة قذرة لهذا العالم القذر .. يردد دائما ... له أفكار غريبة لَمْ أستطعْ فهمها، لم أسمعْ بها قطُّ .. كان دائمَ الهذيان .. يدخن كثيرا .. يغرق في قطران السائل الذي يحتسيه .. يَعومُ وسط لُجَجِ الدخان .. يقرأ كثيرا .. يسهو يشرد يتلف .. وعندما أحسُّ برغبته بالانفراد بنفسه أدعه وشأنه .. آه .. كل شيء يخز ينْخس الرأسَ والرقبةَ .. حيرة تردد ألَم بُغض قذارة .. شلال من الوساوس يُسْكَبُ على الرؤوس .. يُزَوي ما بين حاجبيه محاولا فتح عينيه ما أمكنه ذلك، فيبدو والجو المشحون بالسخام بالزفت وبقايا بقايا أعقاب السجائر كأنه في عاصفة تلفُّ به من جميع النواحي .. كنت ألحظُ دموعا تتجمع تحت أجفانه تنتظر فرصة كي تطفر إلى الخارج ...

_ .. إنـي أرى أحلاما غريبة .. حتى اني لا أعِـي تفسيرَها ...

_ .. قلْ لي أخي .. ما معنى أن يكونَ الانسان لقيطا ؟؟؟

_ .. أوووه .. أشياء متداخلة كنتُ أرَى صُورا حكايات مختلفة مختلطة أشاهدُ أبي يرفع عقيرته بالآذان فوق ذرا الجبال فوق هامات الموتى في المقابر ثم يبدأ بالغناء حزينا شجيا وكئيبا كان صوتُه ...

_ .. آه .. أنا ليس لي أب .. قل لي أخي ما معنى أن يكون الانسان بلا أب ؟؟؟

_ .. ثم أشاهد عرسا وفرحا .. رقصا هرجا مرجا ثم مأتما بل مآتم .. بكاء عويلا وتفسخا للجثث ...

_ .. إيـه .. الدنيا كَلبة بنت كلب .. قلْ لي أخي .. ما معنى أن يكون الإنسان آبن "قًُـبْ دالزبَلْ" ؟؟؟ (9)

_ .. الله الله .. أسمع صوتا غريبا منفعلا هائلا ما هو بالأجَشِّ المجهور ولا بالهامس الخافت .. صوت يشبه ألوان السنديان هناك في جبالنا الواقفة كالقدر .. شيء مثل أوراقه أو ثماره كان يصدح فوق اللُّحود فتتصدع أشلاء الموتى يقومون من قبورهم يهربون يفرون يَعْدون يسرعون يَـنِطُّون يطيرون ثم يَـرْمون بأنفسهم في أكوام القمامات

_ .. اللقطاء هم ألعنُ اللعنات .. ياكْ ؟؟

_ .. عيناي مغمضتان أرى ما أرى شدو مغنيات يصاحبهن عزف عيدان وطنابير ..

_ .. لا حسابَ للشرف أو الإنسانية في عيشة الجراء التي نعيشها ...

_ .. كل شيء كان يهيم بين زهْـر الأحلام شطحات الإغفاء سكرات النوم ومشاعر لا أدري من أين تتسلل إلى قلبي ولا كيف تأتي إليّ تأخذني تغمرني فأرُوحُ حالما محمولا إلى حيث لا أريد أنْ أؤوبَ ..

_ .. آمْسَحْ الطبلة آذاكَ البَرهوشْ ..!!..(10)

... يردد المعلم من حين لآخر ....

_ .. جبَاههم مُقَطَّبَة وجوههم متبرمة وألسنتهم مزمومة يا أخي عن أسئلتي الكثيرة .. لم يكن يطرق لي جفن .. كنا نغني في صغرنا ..
أشْـتَـا تَـاتَـا تَـاتَـا
يا وْلادْ الحَـرَّاتَـا
آمّـاكْ تَمْشي وطِّـيـحْ
آبَّـاكْ دَّاهْ الريـحْ ... (11)
قُلْ لي أخي، كيف تسقط الأمهات وكيف يأخذ الريح الآباء ..؟؟..

_ .. عهارة قذارة خيانة عمليات يدوية ميكانيكية رتيبة فوق أسِرَّة باردة تسخط على هذا الجنس البشري الغارق في العفن هذا ما كان ..

_ .. حورية تقول لي إن مَنْ بَاع نفسه للشيطان مرة باعها تباعا وإلى الأبد

_ .. مَزايا الشيوخ عندهن المال .. مزايا الشباب عندهن المال والنزوة .. سَافلة قميئة هي الدنيا تبا ..

_ .. حورية آمرأة جَمَّاءُ المَرافق كثيرة اللحم والشحم تربح فلوسا كثيرة وقد نسيَتْ الآنَ زوجَها الذي مات هناك .. لديها أموال خاصة، لكنها بخيلة ...

_ .. كل خنفساء تشبه أختها

_ .. على كل حال يا أخي هي ليستْ أمي .. أنا .. أنا ...

_أنتَ لقيطٌ .. أنتَ نجاسة مثلي مثل هذا العالم القذر المُهترئ المُتلاشي مثل كل البغايا مثل التهاب السَّحَـايا مثل جميع الدنايا والرزايا .. كفى .. كلنا كيفْ كيفْ .. نتساوى عندما ندخل الكانيفْ ...(12)

_ .. حتى اللُّقطاء يَدْخلونه يا أخي .. هل أنا مثل الآخرين مثل الجميع ؟؟؟

_ .. اسمعْ .. اُنظرْ إلى هيئتكَ .. تفحصْها جيدا .. أنتَ فقط صورة لكل مَنْ يدب ويهيم .. صورة للآخرين للأخريات والأخريات بدون أسماء .. صورة مشوهة لِـمَا تبقى من بقايا خصي الذكور المخصيين .. واطئ لقيط قزم قرد زعطوط بهلوان حيوان ممسوخ يتنفس من كل الجهات .. هكذا أنتَ .. عقلة أصبع ...

_ .. عقلة إصبع ..؟!.. لَـمْ أفهمْ شيئا يا أخي ...
_ .. نعم .. عقلة وأصبع .. مثلكَ مثلي مثل كل "اللِّيزانْ" (13) مثل كل المُرَكَّبَاتِ تركيبا مزجيا ممسوخا .. اُدْعُ على نفسك بجائحة تأخذكَ وتذهب لشأنِكَ .. حتى اللعنة لنْ تنجيك من ذاتك المنحطة فأنتَ ملعونٌ منذ أول نَـفَس تنفسْتَه في هذه الدنيا السخيفة ...

_ .. لا أفهمُ شيئا يا أخي ....

_ .. العالم كله لا يفهم شيئا .. كلنا هكذا لقطاء .. شرفاء قذارة .. أتحس .. ألديك إحساس ما ؟؟ انك لا تحس طبعا .. أفضل لك أنْ تبقى حلى حالك .. مالك والإحساس آشْ غادي تْنَيِّيطْ به گَاعْ ؟؟(14)

في الحقيقة، كنتُ لا أفقهُ شيئا مِمَّا يتفوه به، فأستشيرُ المعلم في شأنه فيُجيبني دائما ..

_ لا تأبهْ له لا تبال إنه مسكين مَهووس مريض دَعْهُ وشأنه .. عليكَ أن تضحك وتبتسم .. هذا كل شيء .. وللِّي قالك شي حاجَا أخرى كذب عليك ...

لكن، يا سيدي يا ربي أنا لم أسمعْ أبدا ب "عقلةالإصبع" هذه التي يدعوني بها .. أنا لا أعرفُ إلا أني لا شيء البتة .. كانوا ينادونني باللقيط بولد الحرام، لكن أبدا لم أسمع "تركيب مزجي" هذه .. آه .. إنه مجرد كلام هذيان لا غير .. كلام مثل ما أسمعُ دوما .. مثلما تقول حورية والمعلم والزبناء .. هكذا .. لكن، أيكون الإنسان حقا نسخة قذرة من القذارة الكبرى التي نعيشها .. أهُو ذاكَ الجشع الجائع البائس الشقي الذي يقتات من مزابل النصارى قرب السجن المدني قرب أحياء رْوِينة (15) "العْشَايَشْ" والصفيح ومطارح بُوخْرَارَبْ (16) التي طالما نهلتُ منها الكثير والكثير من العذاب .. أنَكون نتاج نَزوااات شاذة بين مراهقات في غرف الحمام ؟؟ مجرد آستمناءات تُلقَى من فراغ لفراغ لفراااغ .. هكذا .. ربي .. قذارة تبحث عن حتفها بظلفها .. نقتل أنفسنا بمسخنا وجنونا المجنون .. أصحيح كل هذااا ؟؟؟

_ .. نحن نقتلها .. بل قتلناها .. وما عليك إلا أنْ تنظر إلى الوجوه الصفيقة التي تحيطك هنا هناك في كل مكان .. وسخ داعرون نحن زُناة .. بُغاة .. طُغاة .. كل شيء فينا وحولنا سافل وخليع ..

أتَـذَكَّـرُ الشيخَ وحوريةَ والفتاتيْن والحمَّامَ .. آه .. ياله من زؤام مُقرف .. إيـخ ...

_ .. نعم .. هو كذلك .. يجب أن تتقيأ وتتقزز من معيشتك من معيشتنا .. نحن مُسوخ نحن فضائع نحن فضائح نتجاهل أننا مُؤَمَّنُونَ على هذه الأحوال التي نَخَالُ نملكها لكن النزوة الاستهتار وعبث اللامبالاة .. تبا .. نحن بجملة واحدة أنذال سفلة ساقطون .. هكذا ..

كانت هرطقاتُه المهلوسة تصعد إلى الرأس كالسهام الثاقبة، فأبقى مشدوها لِبَلاهتي وعدم معرفتي ما تعني تلك الكلمات .. أيَكون حقا هذا هو الإنسان ؟؟ جوع بائس .. نهش في القمامات .. زبالة تتعفن تتفسخ .. آه .. يا سيدي يا ربي .. مَنْ يقدرعلى تحمل كل هذا ؟؟ أهذه هي حقيقتنا ؟؟ شَحْنٌ أكل مضغ بلع هضم إفراغ ثم إفراغ .. من الداخل إلى الخارج ومن الخارج إلى الداخل .. هذه هي الحياة ولا شيء فيها .. ما نبتلعه يصبح بعرا قميئا لا شيء غير …

_ .. نعم .. وسخ .. الإنسان ونفاياته شيء واحد .. مطلق الانسجام .. ألست ترى .. ألا تلاحظ .. انظر الي جيدا .. الإنسان مجرد أكذوبة ..

كان صوته الخافت يبرق يُرعد يُطاردني كالشبح كالفجيعة، كالقدر المُصيبة يقلقني يتبعني، يتراءى لي كابوسا خازوقا في الواقع والأحلام ...

_ .. أيَـكون كل هذا صحيحا ؟؟

_ .. نعم .. هو ذاك .. من حفرة لحفرة نُقْبلُ نُدْبرُ نأتي نَحُلُّ في بدن من بدن عبر ثقوب وحُفَر تتلاقى تتناءى تتقاربُ نصرخ نبكي نضحك نسبَحُ في أحواض ضيقة يغتال بعضنا بعضا في دهاليز وسراديب نتسابق نتقاتل يفني بعضنا بعضا عَلنا بآسم الحياة وقوة البقاء .. نُولدُ نسقط من حفرة يُرمَى بنا تحت وقع الرعُـود وقصف صراخات نسمعها وأخرى نُطلقها بالرغم منا ونسيخ بلا مشاورة في ميازيبَ دنيا دنية عابثين نخال أنفسنا كينونات بهوية وأصول وقيمة ما وبْلا بْلا بْلا من سَفاسفِ مُهَاتَرَاتِ نألفها تألفنا فلا نعود نستطيع منها فكاكا حتى إذا حان حيننا وجاءت النهاية الحاسمة تخرج أنفاسنا منهارة من حفرة في حناجرنا في مناخرنا في أفواهنا في مسامنا ويُلْقَى بنا بكل بساطة في حُفرة ختم عَرَايَا كما جئنا يُسْرعُ الأنَامُ بنا .. لا نقاشَ لا مُساومات لا إعْلانَ مسبق لا جدلَ لا كلامَ .. مجرد حفرة تستلقي فيها يا عُقلةُ وحيدا يتيما مفردا تغرق تغطس بِلا نَفَس بِلا حركَة كأي جربوع قميئ أجرب تلفظه الحياة خارجها ويهرع الأقربون والأبعدون للتخلص منه لأنه إذْ يَظَلُّ أمام أعينهم يذكرهم بمصيرهم وحقيقتهم المخيفة .. لا مفر .. كل هذا صحيح صحةَ وجودكَ الممسوخ يا عقلة الإصبع .. ههه ..

يا الله .. ما أقبحَني ما أقبحنا ..!!.. ما لي ومالْ كل هذه المصائب ؟ كنتُ لا شيئا .. لا هوية لا كيان لا وجود .. وهَا أنذا قذارة وسخ مثلي مثل الآخرين مثل حورية مثل الشيخ الداعر مثل تَيْنِكَ الفتاتيْن والحلايقية والحشاشون وأبي المفترض وغير المفترض وأمي الساقطة وكل الذين خَرُّوا هَوَوْا وأخذتهم دواهي الوَضاعة ... الدهر يأكل يشرب والوسخ يبقى الوسخ يبقـى ...

كنتُ أبدو كَمذهول في عملي .. أفكر كثيرا وأنسَى خدمة الزبائن، والمعلم يزعق يسب ...

_واش ضربك حمار الليل حتى أنت ؟؟ ياك قلتْ ليك دِّيـها في خدمتك !!اُوخَـللِّي عْليكْ ذاكْ المسطي وَاكَلْ المعجون .. واشْ باغين تسطيوني معاكم ؟؟ أعوذ بالله منكم يا لطيف ...(17)

في الحقيقة، لم أكن أدْرِ ما ألَمَّ بي .. أصبحتُ ألازمُ الطالب كثيرا .. لا أفارقه إلا في موقف الحافلات حيث الطلبة يجتمعون يتحاشدون على الطوبيسات. كنتُ أقفُ أبتسمُ أضحك هكذا دون مناسبة أسيرُ وسطهم كواحد منهم .. تُرى، هل يعرفون أنهم مجرد بعرات تُكورها قوائم زمن مُولع بالتكوير وإعادة التكوير ؟؟ على أي، الطالب صديقي يدرك ذلك .. أنا أعرف .. كلنا نعرف .. أكيد، كلهم يعرفون ...
لا أزال أتذكرُ .. كان ذاك اليوم ممطرا .. لمْ أرَهُ بين جموع الواقفين المحتشدة تحت سقيفة المحطة .. مرَّ أسبوع كامل لم يرتد فيه المقهى .. عندما أتذكر كلماته، رأسي يعاوده التصدع وتتشقق جنباته من جديد بآلاف من الأسئلة والاستفهامات التي لا أجد لها جوابا يشفي الغليل .. كنتُ أبحثُ عنه ليبعد عني هذه الهواجس، فأنا لم أعد أحتمل لم أعُد .. كل شيء داخلي كان يضغط يضغط .. رأسي يرتج ينفجر ويعاود الانفجار .. كانوا يُصَعِّدُونَ في هيأتي أعينا كالحَميم فاحصة متابعة ثاقبة راصدة مطاردة .. المطر يغمرني وأنا عنه لاه .. أخـبُّ في الأوحال والبرك العكرة .. هذا المحيط القذر .. الانسان القذر .. الإنسان فَسْوَة من ضراط خافت ومسموع .. ذكور إناث ولُقَطاااء من كل حدب وصوب ينسلون .. هكذا يحل ينحل الإنسان ..

_آسَـــمْ الخـــرَا بالفرنسيسْ ..؟؟..

أرددُ دون وعي .. هذيَاااان .. حُمَّى .. مرض .. حالة مثيرة فجة هشة كنتُ فيها أرى ما لا يُرَى ..صورا رؤوسا جماجمَ وجوها تضحك تبكي .. أتركُ محطة الحافلات .. أقول ما لا يُقَالُ .. أفرُّ .. كلاب آوى تعوي ورائي .. شيخ هرم يستمني بخروف يثغو يتوجَّع .. المعلمة ذات وجه البندير تصرخ .. الفرخ الفرخ .. حورية تناديني .. ابني ابني .. معلم القهوة يؤنب .. ابتسم اضحك ..كنْ أولا ثم فكرْ مَنْ تكون أو ما تكون سيان .. صبيان مُحَنَّطون تتشمَّمُهم جردان عملاقة تلتهمهم .. أنْ تكونَ خير من أن لا تكون ولو أن الحياة تبدو مأساة لا مفر من براثنها المتربصة .. المعلم يضحك يسقط يضحك يدخل في نوبة صرع يخرج اللعاب المزبد الكثيف من شفتيه يضرب رأسه في الهواء يضحك يضحك .. الطالب يتذمر يسخط يبصق على الزبائن .. يقلب القهوة رأسا على عقب .. يسب يلعن .. أصوااات مختلفة متداخلة متشابكة في هرج في لجب في وعوعة في لعلعة تتصاعد في صدري تنهشني .. كلنا لُقطاااء تائهون أموات بلا حُفَر ضائعون .. مسخ يا عقلة مسخ .. أنْ توقِدَ شمعة خير من أن تكتفي بلعن الظلام .. اِضحك فمَنْ لا يملك شيئا لا يفكر في شيء .. الإنسان قذارة وكفى .. حذار .. أصرخُ في حورية الشارفة الهارفة القرد الشارف ما يتعلم الشطيح .. تؤنبني أنتَ عاق مسخوط أنا بريئة منك .. اُسكتي أنتِ لستِ أمي أنا لستُ آبن أحد أنا عقلة إصبع أنا بصمة حيوان منوي تَاهَ عن مساره تلف في طريقه فضاع وضَيَّعَ أنا بقية البقايا أنا القاتلُ أنا المقتولُ أنا كيانٌ فَقَدَ كيانَهُ .. أنا مُركَّب تركيبا ملوثا ... هكذا يا صاحبي هكذا، لا تأبه للآخرين، اُتْركهم .. فكرْ في نفسك فكرْ في آسم جديد .. وجود .. كيان .. حياة مغايرة .. آه .. هذه الأصواااات .. لا أريد لا أريد ...

مررتُ بدكاكين الصائغين .. وقفتُ .. واصلتُ عدوي .. بالسينما هناك، ملصق تتعالق فيه فتاتان تتساحقان ورجُل يستجدي الجسد بالجسد وجمهوور من الشباب والشيوخ وكل الأعمار يتزاحمون على شراء التذاكر يتدافعون يتخاصمون يتراشقون باللكمات والركلات واللعنات.. أعدو كمخبول .. أصِلُ المقهى .. أدخلُ على وَجَل .. تهالكتُ على كرسي وغفوتُ .. تراءتْ لي عينان أنثويتان .. فتاة جميلة مدورة الوجه ممتلئة الخدين .. جسد بَضٌّ .. بنيان متين .. سحنة عامرة بالمساحيق .. شممت رائحة شبيهة برائحة المراقص حيث تتردد حورية .. هل كنتُ أحلم ؟؟ كانت غاضبة وربما خائفة .. تجمع أمتعتها التي تساقطت على الأرض .. أدارتْ لسانها في فمها وقالت .. أحبك .. أدار لسانه في فمه وقال .. اصمتي .. أدارتْ لسانها بسرعة وناحتْ .. أدار لسانه متذمرا حتى تجمع بين شفتيْه لُعاب كثيف .. رآها تُحرك لسانها مرة أخرى وأخرى كأفعى لَعُوب .. لم يصبر .. أشاح وجهه عنها .. فبادرته .. أحبك .. فعالجها بكل تلك الكمية من اللعاب في وجهها ...

_ .. كلبة أنتِ مجرد نفاية .. الانسان زيرُو يا ساقطة .. حب ياك .. قبلة على الشفاه وأنصال في الفؤاد .. هـكذا أنتِ .. هكذا كلكنَّ ...

الجو مشحون بالعنف والخلاف والغضب. المقهى في حالة طوارئ غير عادية ...

_ .. فلوس .. خائنة .. سارقة ..

وكلاما بذيئا سمعتُ، شيء مثل هذا .. كانت أشباح كثيرة تتراءى لي بارزة باهتة .. المعلم يصرخ ...

_ها العار .. ها العار يا سيدي لَمَا تخرجُـو بَـرَّا ... (18)

الطالب هناك .. نعم .. كان هناك .. يقبض على كتف فتاة يعنفها يطرحها أرضا يعفسُ وجهَها .. وكلام صارخ بذيئ كثير سمعته .. لم أفهم شيئا من عالم بَدَا جحيما يحترق فلا يُرَى منه إلا دخانٌ وضبابٌ وعتمةٌ وسوادٌ كثيفٌ … مرتْ لحظات .. كانت المقهى غاصة بجمع غفير من الناس .. شرطة .. قواة مساعدة .. ضباط محققون .. طوق .. سيارات جيب بيضاء مصطفة بالخارج وفضوليون .. وكان هناك دم أحمر قان يقترب من السواد .. بَحْث .. تنقيب .. تفتيش .. رُسُومات بصمات زعيق صراخ ثرثرة صخب ضوضاء .. لم أشعُرْ بنفسي إلا وأنا في مقر الكوميسارية شاهدا على جريمة قتل .. جريمة شنعاء جدا ... طالبٌ يخْرق بطن آمرأة بسكين حاد فيرديها ميتة ….

☆إضاءات :
1_عْشَايَشْ : خيم من شعر الماعز أو ما شابه كانت مازالت على قيد الوجود سبعينيات القرن الماضي بأحواز مدينة وجدة شرق المغرب
2_العَرَّام : بفتح العين أو ضمها كلمة تُحيلُ على كثرة الشيء دون تمييز في لسان المغاربة، نقول (عرام د البشر) أي بشر كثير لا يمكن التمييز من بينهم أحد
3_مَانْضَا : محولة من الكلمة الفرنسية mandat هنا تعني حوالة شهرية أو ما شابه يصرفها المعني بها مقابل عمل يؤديه، أما في حالة (حورية) فهي شهرية تصرفها بعد وفاة زوجها
4_الفْرَاجَا : الفرجة
5_عيشة بَزَّزْ والسيف : حياة صعبة مجبرون على عيش قساوتها
6_جَانْكَا سِيكْ : الكحول الحارقة
7_اَلْفَرْخْ : ابن الزانية
8_العيساويون : نسبة الى (عيساوا) مجموعة من الناس تتبنى طريقة الصوفية تخلد احتفالاتها في مواسم حاشدة في أضرحة الأقطاب التي تتبع نهجها بأهازيج وشطحات وحركات متشنجة تطلق عليها اسم (الحضرة)
9_قًُـبْ دالزبَلْ : كيس نفايات
10_البَرهوشْ : الغر الصغير
11_أهزوجة شعبية يصدح بها الصغار في ألعابهم
12_كلنا كيفْ كيفْ : كلنا متشابهون لا فرق بيننا
13_اللِّيزانْ : إحالة الى شخصية (اللاز بن مريانة) في رواية الطاهر وطار ( اللاز )
14_آش غاتنييط به : ماذا عساك تفعل به لا جدوى من الإحساس
15_رْوِينة : ركام
16_بوخرارب : الواد الحار
17_واش ضربك حمار الليل : أجننت
_ياك قلتْ ليك دِّيـها في خدمتك : ألم أنصحك بالاهتمام بعملك
_اُوخَـللِّي عْليكْ ذاكْ المسطي : دع عنك ذاك المخبول
_وَاكَلْ المعجون : الذي يتناول المخدرات
_واشْ باغين تسطيوني معاكم ؟؟ : أتريدون إخراجي عن طوري
18_أرجوكم أتوسل اليكم غادروا المحل



#عبد_الله_خطوري (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- تِيرْجَا/حُلْمٌ ... (قصة)
- اَلنَّهْضَة ... (قصة)
- قَرعُ آلْمَمْسُوحِ ... (قصة)
- وأَنْبِسُ آمِيييين رُبَّمَا
- كَانَتْ حَنُونَةً مُشْفِقَةً شَمْسُ آلْوَدَاعِ
- غَنَّتْ فَاطِمَة
- اِقْرَأْ
- حَتَّى تَلَاشَتْ هُنَالِكَ فِي أُفُقٍ بِلَا أُفق
- اَلنَّجْمْ الْأَزْرَقُ
- وَآخْتَفُوا كَأَنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا أَبَدًا
- لَقَدْ آخْتَرَقَ تِلْكَ آلْبَرَارِي أبِي
- سُكَّانُ بَلْدَتِنَا آلطَّيِّبُونَ
- كَباز خرافةٍ معْقوف القامةِ والمنقار
- أرَانِي أَغْرَقُ في زُلالٍ مِنْ خَيالٍ سَسَّغْ أمَانْ نْتْمَ ...
- يا أيّها آلطّفلُ آلجَميلُ آلعَالِقُ
- سُعَار (4)
- سُعَار (3)
- سُعَار (2)
- سُعُار (1)
- من تغريبة غضبان الموغربان


المزيد.....




- قيامة عثمان.. استقبل الآن تردد قناة الفجر الجزائرية أقوى الم ...
- ايران تنتج فيلما سينمائيا عن حياة الشهيد يحيى السنوار
- كاتبة -بنت أبويا- ستصبح عروس قريبا.. الشاعرة منة القيعي تعلن ...
- محمد طرزي: أحوال لبنان سبب فوزي بجائزة كتارا للرواية العربية ...
- طبيب إسرائيلي شرّح جثمان السنوار يكشف تفاصيل -وحشية- عن طريق ...
- الفن في مواجهة التطرف.. صناع المسرح يتعرضون لهجوم من اليمين ...
- عائشة القذافي تخص روسيا بفعالية فنية -تجعل القلوب تنبض بشكل ...
- بوتين يتحدث عن أهمية السينما الهندية
- افتتاح مهرجان الموسيقى الروسية السادس في هنغاريا
- صور| بيت المدى ومعهد غوتا يقيمان جلسة فن المصغرات للفنان طلا ...


المزيد.....

- السيد حافظ أيقونة دراما الطفل / د. أحمد محمود أحمد سعيد
- اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ / صبرينة نصري نجود نصري
- ببليوغرافيا الكاتب السيد الحافظ وأهم أعماله في المسرح والرو ... / السيد حافظ
- السيد حافظ أيقونة دراما الطفل / أحمد محمود أحمد سعيد
- إيقاعات متفردة على هامش روايات الكاتب السيد حافظ / منى عارف
- الخلاص - يا زمن الكلمة... الخوف الكلمة... الموت يا زمن ال ... / السيد حافظ
- والله زمان يامصر من المسرح السياسي تأليف السيد حافظ / السيد حافظ
- جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل مسرحية "سندريلا و ال ... / مفيدةبودهوس - ريما بلفريطس
- المهاجـــر إلــى الــغــد السيد حافظ خمسون عاما من التجر ... / أحمد محمد الشريف
- مختارات أنخيل غونزاليس مونييز الشعرية / أكد الجبوري


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - الادب والفن - عبد الله خطوري - عُقْلَةُ آلأصبع ... (قصة)