أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - فوز حمزة - أربعة في الظلام















المزيد.....

أربعة في الظلام


فوز حمزة

الحوار المتمدن-العدد: 8107 - 2024 / 9 / 21 - 16:23
المحور: الادب والفن
    


صحوتُ على رنة هاتفي الجوال، أنها صديقتي ياسمين المقيمة في مدينة مانشستر تدعوني لحضور احتفالات رأس السنة الميلادية برفقتها وأولادها، وافقتُ دون تردد ليس فقط من أجل الاحتفال، لكن لمواساة الصديقة، التي انفصلت عن زوجها إثر معاناة استمرت لثمانية عشر سنة.
بعد أربعة أيام كانت ياسمين تنتظرني في المطار مع ابنها يوسف ذي الستة أعوام، بينما ابنتها ناني؛ البالغة من العمر أربعة عشر عامًا، كانت تجلس على سياج المنزل، تنتظر وصولنا مع شقيقها زيد الذي يكبرها بعامين.
ونحن في سيارة الأجرة، أشارتْ ياسمين إلى محل صغير لبيع الحلوى. قالت بعد ضحكة قصيرة : زوجي سرق عمري وصاحب العمل يسرق نقودي!.
لم أعقبْ، باب المواجع إن فُتح لن يجلب سوى ريح الألم. أشغلتُ تفكيري بالنظر إلى مدينة مانشستر الهادئة، التي كانت ـ ذينك الليلة ـ فاتحة ذراعيها لمطر خفيف. كان الاتفاق أن نذهب إلى لندن بعد يومين لحضور أعياد الميلاد. تحمسنا جميعًا للفكرة، لكن سرعان ما خاب ظنّنا عندما أبلغتنا ياسمين أن مديرها هددها إن لم تأتِ إلى العمل ليلة رأس السنة فسيتم فصلها نهائيًا، قلت لها:
ـ ما نشستر لا تقل روعة عن لندن!.
ابتسمتْ لأنها تعرف انني أقوم بمواساتها، فأنا لم أزُر لندن من قبل.
الحفل الموعود سيقام في حديقة كبيرة تدعى (ماري لويز) تفصل بين حي (ديد سبوري)الذي تسكنه ياسمين، وحي آخر لم يتمكنوا من معرفة اسمه، قلت لنفسي: لابأس بساعتين نقضيهما بمشاهدة الألعاب النارية وسماع الأغاني الانجليزية وشراء الذرة المسلوقة مع الملح والزبدة، ثم نعود للسرير حيث الدفء والراحة.
في تمام الحادية عشرة، كنت أمسك بيد يوسف الصغير لأعبر الشارع مع ناهد وزيد نحو الحديقة وأنظر إلى البيوت الجميلة على جانبي الشارع المزينة بالورود ونشرات الزينة والكرات الملونة؛ أما الدخان المتسلل من المداخن فقد جعلني أتخيل "موقد النار الحنون"، الذي يؤجج الحسد تجاه ساكني هذه البيوت!.
دخلنا من البوابة الشمالية للحديقة ثم علمتُ من زيد؛ أن ثمة حيّان يحيطان بـ (البارك)، بينما من الجهة الجنوبية لا يوجد سوى البحر.
الحديقة كانت مظلمة ولولا أن القمر كان بدرًا تلك الليلة لما استطعنا التقدم خطوة واحدة، بالرغم من تعثرنا بين فترة وأخرى بالأغصان الساقطة على الأرض. سألتُ زيد: زيزو هل أنت متأكد من وجود احتفال هنا؟!.
أجابني ببطء محاولاً التحدث معي باللهجة العراقية:
ـ خالة هذيج السنة سووا بارتية كبيرة حضرناها كلنا، ثم وجه الحديث بالإنجليزية لشقيقته : مو صحيح ناني؟.
ابتسمتُ حينما سمعتُ كلمة بارتية!.
أجابتْ ناني بطريقة مسرحية:
ـ ئي صحيح حتى آني شفت (ماي فريند) إيسلا مع أمها وأبوها و(هير دوك) روسكابي.
ـ لا .. روسكابي لم يكن معهم.
ـ أنا متأكدة. ردّت ناني
ـ في السنة الماضية لم يكن لدى إيسلا كلب.
أجاب زيد بثقة أسكتتْ ناني.
صمتنا لنواصل المسير وكلما تقدمنا نحو العمق ازدادت قوة الظلام ومعها خوفنا يكبر إلّا يوسف الذي كان صامتًا حتى شعرت برغبة في سؤاله عن شعوره تلك اللحظة، لكن زيدًا استوقفني وقال:
- خالة نور، يمكن أحنا ضيّعنا!.
ـ تقصد ضعنا؟! بشرك الله بالخير!.
قلتها بجزعٍ بعد ضغطي بشدة على كف يوسف.
ثم وجه زيد السؤال لشقيقته:
ـ ناني، أحنا بوقتها مشينا منّا لو منّا؟. وأشار بيده لجهة اليمين والشِمال، لكن ناني لم تجب لأنها كانت تضع سماعات البلوتوث. نظرتُ إليها متسائلة: كيف يحلو لها سماع الأغاني تحت جنحي الظلام والخوف.
قلتُ بثقة:
ـ لا تخافون، بعد شوية يطلقون الصعادات ونسمع الموسيقا، فراح نعرف مكانهم.
ضوء القمر المنعكس على صفحة الماء جعل زيدًا ينفعل ليقول باللغة الإنجليزية: ـ جوزيف هل تتذكر قبل شهر حينما زلّت قدمك في البحيرة وأنت تحاول الامساك بالإوزة؟.
صرخ يوسف منفعلاً رادًا بالإنجليزية، التي لا يتكلم بغيرها:
ـ نعم وقد سحبني الحارس آرون بعد تبلل ملابسي وقال لي إياك أن تقترب من هنا ثانية!.
تلك كانت المرة الأولى والأخيرة التي يتحدث فيها يوسف منذ دخولنا هذه المتاهة.
شعور غريب يجعلك تفقد الإحساس بكل ما حولك وأنت تسير في طريق لا تعرف نهايته، لم أستطع البوح بما في نفسي تلك اللحظة ليس فقط لأنني كنت منشغلة بمداراة خوفي، بل لأن رفقاء الرحلة لن يفهموا قولي.
فتحت هاتفي لمعرفة الوقت، فأخبرني أن السنة الجديدة لم يتبق عليها سوى ثلاث دقائق. رفعت رأسي صوب السماء وتساءلت: هل حقًا ثانية واحدة من عمر الكون لها القدرة على إنهاء عام والبدء بآخر؟. سيل الأسئلة السخيفة لن ينقطع إن لم أشغل نفسي بأشياء أُخرى، فطلبت من الثلاثة التوقف قليلاً واستقبال العام الجديد ونحن ننظر إلى السماء، سألني زيد مستغربًا:
ـ ليش خالة؟
قلتُ بسرعة:
ـ خلي نشوف الصعادات من وين جاية ونحدد موقعنا.
ـ شنو يعني صعادات؟. سألني مرة ثانية.
ـ (فايروركس). قلت بعد لحظة تفكير.
انطلقت الألعاب النارية، لكنها بدت بعيدة جدًا، فأدركنا أننا توغلنا عميقًا في الاتجاه الخاطئ كما صرح زيد متعجبًا من سيرنا كل هذه المسافة. بعد مضي دقائق، استدرنا لنعاود أدراجنا مهتدين بأضواء الألعاب، لكن كنا ثلاثة فقط؛ ناني لم تكن معنا!.
ظننتُ لأول وهلة أن ناني تريد إشاعة جو من الطرافة على رحلتنا المظلمة، فقلت بعد أن تلفتُ:
- ناني، هذا مو وقت مزح!.
في تلك اللحظة، انتبه زيد لغياب شقيقته المفاجئ وبدأ ينادي عليها ثم قال لي بصوت فيه نبرة قلق وخوف كبيرين:
- خالة نور، ناني دائمًا تسوي هيجي بينا، بس ما أعتقد بهذا الظلام تكدر تسوي بينا هذا المقلب، هي كولش جبانة!.
كلمات زيد أجّجت الخوف بداخلي أكثر، وجعلت قلبي يرتجف. كان يوسف يمسك بمعطفي وهو يوزع نظراته بيني وبين شقيقه بعد أن فهم ما يدور.
طلبتُ من زيد الاتصال بها، لكن هاتفه قد أنهى شحنه، أما هاتفي فقد أخبرني أن هاتف ناني خارج التغطية.
لقد اختفتْ ناني!.

******

قاربت الساعة على الثالثة فجرًا وبضع دقائق حينما عادت ياسمين إلى البيت. رمتْ بحقيبتها على الأريكة ثم اتجهتْ لغرفة نوم أولادها، ابتسمتْ حينما لم تجد أحدًا، فكرتْ في الاتصال بهم، لكن وجود الهاتف في الحقيبة منعها من تنفيذ الفكرة وقالت تحدث نفسها قبل أن تغط في نوم عميق: يبدو أن الحفلة كانت رائعة. لن أقلق عليهم ما دامت نور معهم.
******


توقفتْ الألعاب النارية تمامًا وعاد الظلام يحيط بكل شيء وأولهم قلبي الذي لم يعد يحتمل مزيدًا من المفاجأت. نظرتُ إلى زيد التي تغيرت ملامحه في العتمة ليزيد معها رعبي. بدأ عقلي يرسم سيناريوهات عجيبة عن خروج كائنات فضائية بمركبات عظيمة ستقوم بخطفنا والذهاب بنا نحو مجرات بعيدة ثم يعيدونا ثانية للأرض بعد أن نصبح جواسيس لهم، لكن السيناريو الأكثر رعبًا سمعته من زيد حينما قال أن ناني ربما تعرضت للخطف من قبل عصابة تدعى ( الأخوة جيل ) وهذه العصابة مشهورة بخطفها للمراهقات فقط.
- لماذا المراهقات فقط؟. سألت زيد وكلي فضول لسماع الإجابة.
- صديقي بيتر أخبرني أن رئيس العصابة قد تعرض للخيانة من قبل صديقته المراهقة بعدما قررت تركه والذهاب مع صديقه الباكستاني الذي يعمل بياعًا في السوبر ماركت، لذا قرر الانتقام من الفتيات و...
طلبت من زيد أن يصمت كي لا أسمع مزيدًا من قصصه وأن نعود أدراجنا لعلنا نعثر على ناني.
سرنا نحو ساعة قبل قيام زيد بحمل شقيقه الصغير، فالنعاس تمكن من يوسف حتى لم يعد قادرًا على المشي.
- خالة، شنو رأيج نستريح أشوية لأن كولش تعبتْ.
لكن زيد لم ينتظر إجابتي، بل رمى بنفسه فوق الأرض ساندًا ظهره على شجرة كبيرة واضعًا يوسف بين أحضانه. سألت زيد:
- ما هذا الصوت الغريب؟.
- هذا صوت البومة، خالة ديري بالج، ترة الغابة مليانة حياية!.
كلمات زيد الأخيرة قضت على أي أمل لي في العودة سالمة إلى صوفيا.
بعد لحظات غاص زيد في نوم عميق واضعًا رأسه فوق كتفي تاركًا إياي أواجه الظلام والبرد والخوف وحيدة.
لم أشعر ببهاء النور ولا روعة الفجر ولا جمال الطبيعة إلّا بعد تسلل النور من بين الأشجار التي لم أرَ بضخامتها من قبل . بدأت أرى الأشياء بوضوح من دون خوف وأسمع هديل الطيور وتغريد البلابل وأصوات أخرى لم أعرف لمن، لكن سرعان ما خطرت ببالي صورة ياسمين حينما ترانا عائدين من دون ابنتها.
أيقظتُ زيد ويوسف كي نستأنف السير والبحث عن شقيقتهم وكان همي الأكبر إيجاد عذر مقنع لياسمين عن سبب تأخرنا.
- خالة، هذا حمام، تعالي.
صرخ زيد حين لمح من بعيد كوخًا خشبيًا مبني على مرتفع من الأرض نحو متر واحد.
- جاء في الوقت المناسب!. قلت لزيد وأنا أسرع الخطى كي أدخل الحمام
هناك كانت بانتظارنا مفاجأة. لقد وجدنا ناني نائمة فوق مصطبة خشبية بجانب الحمام وسماعات البلوتوث في ما تزال في أذنيها.


******

ونحن نقترب من المنزل عند الساعة العاشرة والنصف صباحًا - وكنا متأكدين أن ياسيمن نائمة الآن - اتفقنا نحن الأربعة، على إخفاء الأمر عنها كي نبعد شعور الذنب الذي قد ينتابها تجاه ما حصل، لكن صمت يوسف ونحن في الغابة لم يكن عبثيًا، لقد كان يسجل في رأسه كل ما حدث لينقله لياسيمن التي لم تتوقف عن لوم نفسها حتى يومنا هذا كلما تذكرتْ ليلة الحفل.



#فوز_حمزة (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- من يوميات أبو تكتك
- هي وذلك الفستان
- نافذة من رأسي
- مكالمة بعد منتصف الليل
- مفاجأة غير متوقعة
- لوحة عائلية
- قبل المحو
- قبل البداية
- لعبة ورق
- برنامج أرواق ثقافية
- كبرتُ .. حقًا كبرتُ
- زوجة لساعة من نهار
- ركن في ساعة
- رسالة قلب عاطل عن الحياة
- حلم أخضر .. حلم أزرق
- جيل الطيبين
- بين أبي وأمي
- إيلينا
- أنا وبلي
- السحب التي أمطرت ألمًا


المزيد.....




- قيامة عثمان.. استقبل الآن تردد قناة الفجر الجزائرية أقوى الم ...
- ايران تنتج فيلما سينمائيا عن حياة الشهيد يحيى السنوار
- كاتبة -بنت أبويا- ستصبح عروس قريبا.. الشاعرة منة القيعي تعلن ...
- محمد طرزي: أحوال لبنان سبب فوزي بجائزة كتارا للرواية العربية ...
- طبيب إسرائيلي شرّح جثمان السنوار يكشف تفاصيل -وحشية- عن طريق ...
- الفن في مواجهة التطرف.. صناع المسرح يتعرضون لهجوم من اليمين ...
- عائشة القذافي تخص روسيا بفعالية فنية -تجعل القلوب تنبض بشكل ...
- بوتين يتحدث عن أهمية السينما الهندية
- افتتاح مهرجان الموسيقى الروسية السادس في هنغاريا
- صور| بيت المدى ومعهد غوتا يقيمان جلسة فن المصغرات للفنان طلا ...


المزيد.....

- السيد حافظ أيقونة دراما الطفل / د. أحمد محمود أحمد سعيد
- اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ / صبرينة نصري نجود نصري
- ببليوغرافيا الكاتب السيد الحافظ وأهم أعماله في المسرح والرو ... / السيد حافظ
- السيد حافظ أيقونة دراما الطفل / أحمد محمود أحمد سعيد
- إيقاعات متفردة على هامش روايات الكاتب السيد حافظ / منى عارف
- الخلاص - يا زمن الكلمة... الخوف الكلمة... الموت يا زمن ال ... / السيد حافظ
- والله زمان يامصر من المسرح السياسي تأليف السيد حافظ / السيد حافظ
- جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل مسرحية "سندريلا و ال ... / مفيدةبودهوس - ريما بلفريطس
- المهاجـــر إلــى الــغــد السيد حافظ خمسون عاما من التجر ... / أحمد محمد الشريف
- مختارات أنخيل غونزاليس مونييز الشعرية / أكد الجبوري


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - فوز حمزة - أربعة في الظلام