أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - سعيد الوجاني - دراسة تحليلية نقدية لأزمة منظمة التحرير الفلسطينية















المزيد.....



دراسة تحليلية نقدية لأزمة منظمة التحرير الفلسطينية


سعيد الوجاني
كاتب ، محلل سياسي ، شاعر

(Oujjani Said)


الحوار المتمدن-العدد: 8105 - 2024 / 9 / 19 - 16:00
المحور: مواضيع وابحاث سياسية
    


لماذا انتصرت إسرائيل ؟
" البوليس السياسي DGST قطع الانترنيت عن منزلي حتى لا اكتب ، ولا اقرأ .. الدولة التي بها هذا البوليس المريض البسيكوباط ، تترأس مجلس حقوق الانسان بالأمم المتحدة – الدولة البوليسية دولة مارقة L’Etat voyou "
اظن ان الجميع المهتمين بالشأن العام الفلسطيني ، يكونون قد توصلوا الى حقيقة لا غبار عليها ، هي نهاية شيء كان يسمى فيما مضى ب " منظمة التحرير الفلسطينية " ، وآمن بهذه الحقيقة بدرجة أولى قادة رام الله ، المبرمجين وبمنتهى الإخلاص ل " أمان " و ل " الشاباك " و ل " الموساد " و ل " الجيش الإسرائيلي ، وللدولة اليهودية الصهيونية الإسرائيلية ، التي تمارس حرب الحضارات ، من تورات وزبور ، وحائط مبكى ، والتراث الحضاري اليهودي منذ آلاف السنين .. ومن ثم يكون الطرف الذي ( يتفاوض ) يتحاور مع دولة الحضارة ، انه يجهل ولا يزال يجهل ان إسرائيل تخوض حرب وجود قبل خوضها حرب حدود . وعندما تكون اللاّآت الإسرائيلية معروضة في طاولة ( المفاوضات ) الحوار ، واهمها لا رجوع ، لا دولة ولو دويْلة منزوعة السلاح ، يكون يجهل الطرف الذي يعتقد انه ( يفاوضه ) يحاوره ، ويجهل ان ارض الميعاد وشعب الله المختار ، لا يقبل غير كل إسرائيل كما كانت منذ ثلاثة آلاف سنة ، يكون قد أضاع الوقت ، وأضاع فرصة إيجاد حل يَنقد بعض الشيء ( المقامة والهبة العربية المجروحة ) ، في حين ان دولة شعب الله المختار ، عندما كانت تحاور ، وهي لا تتفاوض الاّ مع الدول ، كانت تمارس العقل والدهاء ، لجر الخصم الى الاعتراف في اخر المطاف ، وبشعور اومن دون شعور ان إسرائيل انتصرت ، فأقفلت مع دعم الاوربيين والامريكان لها ، في خياراتها وليس ( مطالبها ) الاستراتيجية ، أي حلم بحق العودة ، واي حلم حتى بدُويْلة تجاور دولة ارض الميعاد التي لا تزال تبحث عنها . أي ممكن تصور نكسة جديدة ، عندما تتحسن الظروف وبالشروط اليهودية ، لان المستهدف الحضارة اليهودية . فإسرائيل رغم ادعاءها بالدولة اللائيكية ، فهي دولة يهودية بامتياز ، ولن تكون غير كذلك عندما تتطور بعض العوامل التي ستساعد في الايمان ، أي الايمان وليس الاعتراف بالدولة اليهودية .. فعندما حاول صدام حسين ابتزاز العالم بالكويت مقابل فلسطين ، خرجت أمريكا وأوربة معلنين رفضهم للدّويْلة الفلسطينية .. ويكون هذا الابتزاز الرخيص ، الى جانب ارساله لصواريخ طبّل لها كثيرا عبد الباري عطوان ، وناصر قنديل ومنهم بالإلاف سبب ارجاع العراق الى الوضع الذي عليه . ولنتذكر ما قالته " مدلين أولبرايت " وزيرة الخارجية الامريكية ، عندما تعهدت بإرجاع العراق الى العصور القديمة ..
لقد ارتكبت عدة أخطاء خطيرة من قبل ( قيادة ) الفلسطينيين ، عندما وجهوا وباراتهم الرصاصة الى رأسهم ، وساهموا بارتكاب هذه الأخطاء في خدمة مشروع الدولة اليهودية الصهيونية ، التي انتصرت . فالدخول في فخ مدريد سنة 1982 ، وفي فخ Oslo سنة 1993 ، كان الرصاصة التي قضت على حلم الدّويْلة الفلسطينية ، وقضت على حق العودة .. وإسرائيل التي تدعمها أنظمة سياسية عربية ، تتكلم بالحقيقة التي فهمها محمود عباس متأخرا ، وفهمتها قيادات المنظمات الفلسطينية ، وتفهمها قبلهم الشارع الفلسطيني ضحية الحروب الدائرة ، والتي لا تزال تدور من دون مخرج .. لذا سنحاول تحليل الوضع الفلسطيني والإسرائيلي ، منذ انطلاق ما سموه بالمقاومة ، وما يسمونه اليوم بالجهاد .
1 --- شكل الكفاح ضد المشروع اليهودي الصهيوني في فلسطين ، حتى قبل التأسيس الرسمي لدولة إسرائيل في عام 1948 ، بل منذ فرض الانتداب البريطاني في عام 1920 بوجه خاص ، عنصرا مركزيا في النضال القومي العربي ضد الوصاية الغربية . وقد دشنت حرب 1948 بين الدولة الجديدة وجيرانها ، مرحلة أخذت فيها الدول العربية على عاتقها وبصورة مباشرة ، هدف ( تحرير ) فلسطين . بيد ان الهزيمة التي لحقت بهذه الدول ، قد اثارت موجة أولى من التجذر المعادي للإمبريالية في المنطقة ، أدت الى انقلابات يقودها قوميون في مصر وسوريا والعراق . وقد أعلنت الأنظمة الجديدة جميعها عزمها على الثأر من إهانة عام 1948 المنسوبة الى الأنظمة السياسية العربية السابقة ، لا سيما وان اشتراك دولة إسرائيل في العدوان الفرنسي – البريطاني على مصر في عام 1956 ، جاء يؤكد تماما دورها كحارس امين للإمبريالية في الشرق الأوسط .
لكن التقاعس الذي ابدته الأنظمة القومية في وجه استفزازات إسرائيل المتغطرسة ، قد غدى التشكيك بها . ومن جهة أخرى ، فان الانتصار النهائي لحرب التحرير الشعبية الجزائرية ، في عام 1962 ، روج مفهومي " الكفاح المسلح " و " الحرب الشعبية " ، وحث على تقليدها لتحرير فلسطين . وقد انتظمت شتى تعبيرات الحركة القومية العربية من اجل ذلك ، وجرى خلق " منظمة التحرير الفلسطينية " ( م ت ف ) تحت الوصاية المصرية ، وبقرار من القمة العربية الأولى في عام 1964 ، لأجل احتواء الدول لموجة التجذر الجديدة التي بدأت ترتسم معالمها . هذا وقد دخلت شتى اتجاهات الحركة القومية العربية غير الحاكمة ، هي أيضا ، ميدان المنافسة . والحال ان اكثرها تخلفا من حيث الأيديولوجيا ، حركة فتح الاخوانية الأصولية ، كان لها فضل تدشين الكفاح المسلح ، في اول يناير 1965 . وكانت هذه الممارسة بالرغم من أيديولوجيتها غارقة في يمينيتها ، تنفي أي وجه اجتماعي للنضال ، كافية لعزل فتح عن الأنظمة العربية ، باستثناء اكثرها جذرية ، نظام يسار البعث الذي استولى على الحكم في سورية سنة 1966 .
ان الهزيمة الساحقة التي منيت بها الجيوش العربية في وجه الجيش الإسرائيلي في يونيو 1967 ( النكسة ) ، قد أكملت تجريد الأنظمة العربية من مصداقيتها ، وسمحت لموجة تجذر ثانية بالتدقيق ، على صعيد حركة الجماهير هذه المرة .. فان التعبيرات الرئيسية عن هذه الموجة ، ألا وهي منظمات الكفاح المسلح المشار اليها عادة بتسمية عامة هي " المقاومة الفلسطينية " ، شهدت نموا كبيرا جدا في سنتي 1967 و 1969 ، وبالأخص في الأردن . وقد وضعت يدها سنة 1969 على ( م ت ف ) الرسمية ، بعد ان سبقت الاحداث بالكامل هذه الأخيرة .
كانت تلك المنظمات امتدادات فلسطينية ، لشتى اتجاهات القومية العربية البرجوازية ، والبرجوازية الصغيرة . فعدا فتح ، كانت المنظمات الرئيسية هي الصاعقة البعثية ، الوثيقة التبعية لسورية ، والجبهة الشعبية لتحرير فلسطين التي تزعمها جورج حبش ، والتي انبثقت عن حركة القوميين العرب الناصرية . وقد عرفت هذه الأخيرة تجذرا أيديولوجيا بنتيجة ازمة الناصرية عقب الهزيمة المصرية في عام 1967 ( النكسة ) ، وانتهى الامر بالجبهة الشعبية الى تبنيها الماركسية اللينينية ، بعد ان سبقها الى ذلك جناحها اليساري المنشق عنها بزعامة ناييف حواتمة الأردني الأصل ، والذي أسس الجبهة الشعبية الديمقراطية لتحرير فلسطين ( لا حقا الجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين ) . ولم يبق خارج نطاق المقاومة المسلحة الفلسطينية ، بين التيارات المضادة للإمبريالية في المنطقة سوى الستالينيين Staline ، على الرغم من محاولة خجولة اجهضت بسرعة . ويجد ذلك تفسيره في سببين : خطيئة الستالينيين بتأييدهم لتقسيم فلسطين عام 1947 ، ودعمهم " للتسوية السلمية " التي نص عليها القرار242 ( نوفمبر 1947 ) الصادر عن مجلس الامن ، وهما موقفان نبعا كلاهما حصرا من خضوع الستالينيين للاتحاد السوفياتي المنحل .
هذا وقد شكل اقتحام منظمات المقاومة الفلسطينية للساحتين الإقليمية والدولية ، بعد زمن ( النكسة ) ، واقعا غير قابل للارتداد ، وذا بعد سياسي مهم .
نحن عنينا تأكيد وجود شعب ، هو الشعب الفلسطيني ، لان إسرائيل والرجعية الهاشمية الأردنية ، والنظام السياسي العربي المهزوم ، عملوا المستحيل لمحو هويته ، بتحويله الى " عرب إسرائيل " في جانب من الحدود و " أردنيين " ( غربيين ) في الجانب الاخر . هذا وقد جندت المنظمات الفلسطينية معظم الويتها أصلا في صفوف الجزء الثالث من أجزاء الشعب الفلسطيني – لاجئي مخيمات ( شرق الأردن ) ولبنان وسورية ، المطرودين من المناطق التي احتلتها الدولة اليهودية في عامي 1947 – 1948 . ان ( م ت ف ) بضمها مجمل تلك المناطق بعد عام 1969 ، قد فرضت نفسها عبر السنين كقيادة للنضال القومي لمجموع الشعب الفلسطيني ، وبالتالي كتعبير عن هوية وكرامة وطنيتين طالما أهينتا .
2 – بالرغم من التنوع الأيديولوجي الكبير لمنظمات المقاومة الفلسطينية ، ولكن أيضا داخل اوسعها " حركة فتح " ، حيث تعايشت تيارات تراوحت بين السلفية والماوية ، فان عدة سمات سياسية وعملية كانت مشتركة بينها ، وشكلت في الواقع حدودها العضوية . هذه السمات تتعلق بميزتين سياسيتين :
-- القصوية : ان تحرير فلسطين ، وهو الهدف المشترك الوارد في اسم جميع المنظمات الفلسطينية ، لا يمكن مماثلته بتحرير الجزائر ، مثلا . ففي هذه الحالة الأخيرة ، كان ميزان القوى على الأرض ، بحيث ظهر الهدف معقولا . بينما الهدف في الحالة الفلسطينية ، يتعدى حجمه بكثير ، إمكانات الشعب الفلسطيني وحده ، لا سيما وان ستين في المائة من الفلسطينيين يقيمون خارج وطنهم التاريخي ، وهم خاضعون لحكومات عربية شتى . من جهة أخرى ، فان تمسك السكان اليهود الإسرائيليين ب " ارض الميعاد " --- هؤلاء السكان المطرودين من بلدانهم الاصلية من قبل الاضطهاد العنصري ، والمزروعين في فلسطين من قبل الحركة الصهيونية --- ، هو تمسك اقوى بما لا يقاس ، مما كان لدى المستعمرين الأوروبيين في الجزائر ، الذين كانوا يحوزون على وطن اصلي هو فرنسا . وعلاوة على ذلك ، فان الدولة الصهيونية ، بالإضافة الى القوة العسكرية الهائلة التي تميزها ، هي في نظر الامبريالية الامريكية جزءٌ لا يتجزأ من ارضها الخاصة بها . ان تحرير فلسطين في تلك الشروط مجتمعة ، تحريرها بمعنى التمكن من تفكيك الدولة الصهيونية ، مهمة رائعة النطاق ولا تكفي لتحريرها " الحرب الشعبية " التي دعت لها المنظمات الفلسطينية بمجملها . لذا فمع افتقادها لأهداف انتقالية ، كالانسحاب الإسرائيلي غير المشروطة عن الأراضي المحتلة سنة 1967 ، اقتصرت هيمنة المقاومة الفلسطينية ، خلال سنواتها الأولى ، على سكان مخيمات اللاجئين الفلسطينيين ، الذين جعلهم وضعهم الاجتماعي الهامشي يتقبلون القصوية . هذا وقد اتسم مفهوم " الكفاح المسلح " الفلسطيني ذاته بالأوهام القصوية . فبدل تصور نشاطات المقاومة المسلحة كعنصر من عناصر استراتيجية ثورية شاملة ، مكمل لمختلف اشكال تعبئة الجماهير ، درج تصورها على " الطريقة الجزائرية " ، أي كوسيلة ملائمة لهدف التحرير ، وقادرة على تحقيقه . وقد حتم ذلك التصور بلوغ مأزق في امد قصير ، مأزق يفسر لجوء المنظمات الفلسطينية المتزايد ، منذ عام 1967 ، الى نشاطات من النمط " الإرهابي " خارج ارض فلسطين ، وخارج المنطقة العربية ..
-- " القطرية الفلسطينية " : لقد اقترنت قصوية المقاومة الفلسطينية ، بعجزها عن الانخراط في استراتيجية ثورية إقليمية شاملة . بل وبحفز من الأوهام التي نجمت عن نموها بالغ السرعة في عامي 1967 و 1969 . آمنت المقاومة بإمكانية ، ان لم يكن بقرب ، انتصارها الخاص بها على الدولة الصهيونية اليهودية . فلم تبد بالتالي ، وفي احسن الأحوال ، سوى اهتمام ثانوي جدا بما كان يفترض به ان يشكل طليعة مهامها . أي تعبئة الحلفاء الذين ليس لنضال المقاومة بدونهم ، أي افق انتصار واقعي .
أولا ، الجماهير الكادحة في البلدان العربية ، وخاصة البلدان حيث يتركز اللاجئون الفلسطينيون ، وحيث كانت قواعد الكفاح المسلح موجودة . والحال ان ( م ت ف ) بوضعها المصالح المباشرة لنشاطها الخاص بها فوق أي اعتبار – وهو خيار تبين لاحقا انه خاطئ كليا – اتفقت مع الحكومات العربية باسم النضال المقدس ضد العدو القومي المشترك ، بدل دمج قواها بقوى الجماهير الكادحة من اجل الإطاحة الثورية بالأنظمة الموجودة ، وقيام حكومات مستعدة حقا لدعم نضال الشعب الفلسطيني .
ومن ثم ، الجماهير الكادحة اليهودية ، ولا سيما جماهير اليهود الشرقيين الأكثر اضطهادا . والحال ان " نزع الصهيونية " عن قسم جدير بالذكر من السكان اليهود الإسرائيليين ، يقتضي ان يبين بوضوح ، من جهة التناقض بين مصالح الشغيلة اليهود ، ومصالح المؤسسة الصهيونية البرجوازية ، ومن جهة أخرى ، وحدة مصالحهم التاريخية مع مجمل شغيلة المنطقة . ويتطلب هذان الهدفان السياسيان ، تصورا برنامجا امميا للمسألة الإسرائيلية ، يعترف بالواقع القومي الذي خلقه الاستعمار الصهيوني ، وممارسة سياسية وعسكرية ، تأخذ هذا التصور بعين الاعتبار . غير ان السلوك العسكري بين المنظمات الفلسطينية جميعها ، وتصورها السياسي والبرنامجي المهيمن – باستثناء عابر وهامشي في حالة الجبهة الشعبية / الديمقراطية – تعارضا بالضبط مع الاعتبارات المذكورة .
كانت اوخم عواقب القطرية ، قطرية المقاومة الفلسطينية ، هي ارتهانها بالأنظمة العربية . فسواء " فتح " الاخوانية التي جعلت من " عدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول العربية " أيديولوجيا رسمية ، او الجبهتان الشعبية والشعبية الديمقراطية ( لاحقا الجبهة الديمقراطية ) اللتان كانتا تتكلمان باسم الثورة العربية – ناهيكم بالصاعقة ، وهي افراز مباشر للدولة السورية – جميع المنظمات الفلسطينية تكون قد ارتهنت منذ نشأتها بهذه او تلك من دول المنطقة . فارتبطت الجبهة الشعبية بالعراق ، والديمقراطية بسورية وباليمن الجنوبي ، وفتح بمجمل الدول العربية وعلى الأخص بأكثرها رجعية ، أي السعودية . وقد اختارت هذه الأخيرة اغراق محروستها بأموال طائلة بالنسبة لحركة تدعي انها ثورية ، بقصد جلي يرمي الى التحكم بها من خلال الإدمان على الثراء الذي خلقته عند الحركة . كانت جميع المنظمات اذن تابعة ماليا الى درجة او أخرى ، بالرغم من محاولات التمويل الذاتي المسلح التي بذلتها منظمة كالجبهة الشعبية .
3 --- حملت معها منظمة فتح الاخوانية قبل اخوانية حماس ، مجمل السمات الموصوفة أعلاه الى حدها الأقصى . وبفضل مرونة ايديولوجيتها ، و( المجد ) الناجم عن دورها الراشد ، وآخرا وليس أخيرا ، بفضل وسائل مالية فاقت بكثير وسائل منافسيها ، فرضت فتح نفسها سريعا جدا كمنظمة الأكثرية ، والمنظمة المهيمنة في المقاومة الفلسطينية . ومع تضخمها ، الذي تجلى في التزايد لجيشها من " المقاتلين المحترفين " ، ولعدد المستفيدين من اعانتها بشتى الدواعي ، عرفت فتح سيرورة تبقرط لا تقل سرعة ، تغديها وفرة مواردها في اطار التبذير الخارق . وقد تدعّمت تلك السيرورة من خلال الاندماج عام 1969 ، بين منظمات الكفاح المسلح ، و )م ت ف OLP ) ، التي غدت هكذا تحت هيمنة فتح . ذلك الاندماج ، كان تجسيدا لزواج فتح ، مع البرجوازية الفلسطينية الممثلة داخل " المجلس الوطني الفلسطيني " ( يعين ولا ينتخب ) ، كما لانخراطها الرسمي في ( جامعة الدول العربية ) التي تشترك فيها " م ت ف "، وهي ذاتها بنت الجامعة .
لقد إلتفّ مجمل الرجعية العربية والفلسطينية ، حول منظمة ياسر عرفات ، بغية " تقزيم " الخطر الذي شكله الصعود الزاخر لحركة اللاجئين الفلسطينيين المسلحة . هكذا ، فان قيادة فتح غدت مرتهنة بصورة دائمة ، بالتوازن بالغ التقلب ، بين ضغط الجماهير التي كانت تؤطرها ، وضغوطات مموليها العرب . انما تبرْجزها البيروقراطي المتسارع ، هو الذي حدد قراراتها ، ويحدده في التعيينات ، كلما اضطرت الى الاختيار بين الضغوطات المتناقضة .
تلك كانت الحال على الأخص في الأردن ، في فترة 1969 و 1971 ، حيث اخذت قيادة فتح على عاتقها ، قمع أي تدخل من قبل منافسيها اليساريين ، في الشؤون السياسية والاجتماعية للمملكة الأردنية الهاشمية ، وذلك باسم الأولوية المطلقة ل ( التناقض الرئيسي ) إسرائيل . هكذا جردت قيادة فتح المقاومة الفلسطينية من سلاحها المعنوي ، في وجه ملكية الأردن ، التي كانت تستعد بكل وضوح ، لإزالة حركة جماهيرية مسلحة ، تحملتها رغم انفها ، مع علمها بانها متناقضة موضوعيا مع سلطتها الخاصة بها . فلم يكن ممكنا ان تبقى ازدواجية السلطة الى الابد في الأردن ، بالرغم من أوهام التعايش التي روجتها قيادة فتح . بيد انه بين الطرفين ، كان الطرف الوحيد العازم على حسم تلك الازدواجية لصالحه هو الملكية والملك .
هكذا فعندما شنت الأخيرة هجومها الكبير ضد المقاومة الفلسطينية في عام 1970 ( أيلول / سبتمبر الأسود ) ، وجدت بوجهها قيادة فتح ، مترددة وملتزمة بموقف دفاعي صرف ، وحريصة فوق ذلك على التمايز عن منافسيها اليساريين ، الى حد القائها بمسؤولية المعرك عليهم . والى التجريد من السلاح المعنوي ، انضاف التجريد من السلاح بحصر المعنى ، عندما وافقت قيادة عرفات على نزع سلاح الميلشيات ، وسحب المقاتلين من المدن ، وجمعهم في مناطق معزولة ، لم يجد جيش الملك صعوبة كبيرة في طردهم منها ، عام 1971 ( أيلول سبتمبر الأسود ) ، منهيا بالتالي الوجود الفلسطيني المسلح داخل المملكة .
ان تلك الهزيمة الخطيرة ، ملحقا بها هزيمة 1982 بلبنان ، لم تكن نتيجة ميزان قوى موضوعي ، بل حقا نتيجة سياسة محددة ، لا سيما وان الفلسطينيين الأصل لا يشكلون غالبية سكان الأردن ( الضفة الغربية ) المدنيين وحسب ، بل يشكلون أيضا غالبية جنود الجيش الملكي ..
لقد انجز سحق " م ت ف " OLP في الأردن ، سيرورة انحطاطها البيروقراطي ، من خلال استشهاد خيرة مقاتليها في المعارك ، واكثرهم اخلاصا للقضية الفلسطينية ، من خلال انقطاع علاقاتها المباشرة بأهم قاعدة جماهيرية كانت تحوز عليها ، من خلال تدني المعنويات الذي عقب الهزيمة ، ومن خلال انكفاء مؤسساتها الى بلد اخر هو لبنان ، حيث كان بالإمكان " التمتع " بالامتيازات البيروقراطية على اكمل وجه .
4 --- كان محتما ان يترافق التحول البيروقراطي ( والبرجوازي في ما يخص قيادة " فتح " ) ، الذي عرفته المنظمات الفلسطينية ، بمراجعة برنامجية . وقد نُسبت الهزيمة في الأردن الى " المنظمات اليسارية " ، وأعيد النظر تدريجيا في قصوية سنوات العز . فأضيفت لها نظريا – حلت محلها في الواقع – " أُدنوية " ( من ادنى ) اكثر انسجاما بكثير مع طموحات البيروقراطية الفلسطينية الجديدة .
فبعد ان اكتست طابع جهاز الدولة ، جهاز دولة حقيقي ، لكنه في المنفى ، اخذت تلك الأخيرة تبحث ، الذي اصبح فارضا نفسه ، عن السبيل الأقصر الى الحصول على ارض خاصة بها ، تستطيع ان تنعم عليها بدون موانع ، بامتيازاتها التي تغديها الهبّة النفطية . وقد أُبقي على هدف تحرير فلسطين ، كأفق بعيد اقرب الى الطوبى الرسمية منه الى البرنامج الحقيقي . وغدا الهدف المباشر الجديد ، الذي وُصف بالواقعي والقابل للتحقيق ، هو انشاء " دولة فلسطينية مستقلة " في الضفة الغربية وقطاع غزة ، الارضين الفلسطينيتين اللتين احتلهما جيش " التساحال " الإسرائيلي عام 1967 ( عام النكسة ) .
كان هذا الهدف الجديد واقعيا ، في ذهن دعاته ، بقدر ما يمكن بلوغه بدون التغلب عسكريا على الدولة الإسرائيلية الصهيونية اليهودية والحضارية ، طبعا الحضارة ما قبل ثلاث آلاف سنة مضت .. فالاتجاه الى الغاء العنف بمختلف اشكاله للتحرير ، أي تحقيق ما لم تحققه المشادات المسلحة ، أي بالوسائل السياسية والدبلومسية ، المرفق بكفاح مسلح عند الضرورة . هنا تم الغاء الكفاح المسلح ، وحلت محله الدبلوماسية والاتصالات المباشرة مع القادة الإسرائيليين . وعندما يتحول الكفاح المسلح الى مجرد وسيلة للضغط ، ضغط إضافية ، وإسرائيل سيدة الساحة والمتحكمة في كل خيوط اللعبة ، لا يجب انتظار مفاجئة غير تلك التي ظهرت في مؤتمر مدريد Madrid عام 1982 ، وبعد فشل مؤتمر مدريد ، فعوض ان يحلل ( المفاوض ) المحاور الفلسطيني اصل الفشل واسبابه ، انتقل الى مؤتمر اخر، كان مؤتمر Oslo عام 1993 ، وليدخل في دوامة ( مفاوض ) محاور لينتهي مثل مؤتمر Madrid الى اكثر من الفشل ، حين كانت الخلاصة : لا دُويْلة فلسطينية ، ولا التفكير في حق العودة .. فأضاع الفلسطيني أربعة واربعين سنة وهو يحاور ولا يفاوض .. حتى خرج الرئيس بوش الابن بالقطع ، مع أي تفكير يصب في الدّويلة وفي حق العودة . فالرفض كان صريحا من البيت الأبيض ، ولم يكن من مكاتب الحزب الشيوعي الأمريكي .. وهنا لنتفهم مواقف Netanyahou من الإشكالية الفلسطينية ، حين يرفض كل خيار متعارض مع ارض الميعاد ، ويمس حلم شعب الله المختار . فرغم وصف Netanyahou بالمتطرف ، فهو ينفد ما اختاره شعب الله المختار ، بالرجوع الى إسرائيل ما قبل ثلاثة آلاف سنة .. أي يرتبط بالتاريخ وبالحضارة اليهودية الصهيونية الطقوسية ، التي ترفض كل كائن لا ينتمي الى حضارة 3000 سنة .. فرفض حق العودة هو رفض طقوسي تراثي يهودي صهيوني زبوري و تورتي .. أيديولوجي وليس رفضا سياسيا .
وطبعا حين يجهل المحاور ( المفاوض ) الفلسطيني ، اصل الدولة الإسرائيلية ، فأكيد ان المحاور ( المفاوض ) الإسرائيلي سيوقع بعدوه في اول منعرج ينهي الاحلام الكاذبة .. ولنا ان نتذكر كيف صرحت وزيرة الخارجية الإسرائيلية السابقة Tsibi Levny ، عندما أطاحت في شباكها مسؤولون فلسطينيون ، باعوا فلسطين من اجل نزوة شبقية طائشة .. كعريقات ، وياسر عبد ربه الذي ترك منذ زمان الجبهة الديمقراطية ، وليصبح مالكا لفنادق بالنرفيج Le Norvège .... اما زوجة ياسر عرفات وابنتها ، فهي من اغنى الفلسطينيين الذين يسكنون ويملكون عقارات بالدائرة 16 الفرنسية ، و ب Le pont de Neuilly ...
ان المراجعة ، لم تعد خيار فتح والمنظمات المرتبطة بها ، بل أصبحت مراجعة يسارية . فالجبهة الشعبية لتحرير فلسطين ، والجبهة الديمقراطية ، هما مع المراجعة شأن فتح ، خاصة بعد الهزيمة العربية في حرب 1973 ، حرب أكتوبر . وبعد ان قدرت هذه المنظمات ، ان الظروف السياسية الجديدة بعد الهزيمة في حرب أكتوبر سنة 1973 ، ولجوء المجتمع الدولي للدعوة الى التفاوض ، ستلعب القفزة النوعية والهائلة للمداخيل النفطية ، بالإضافة الى مؤتمر جنيف بين الدول المتحاربة ، والرعاية الروسية والأمريكية ، ستغلب التسوية السياسية على لغة الحرب والعنف ، وستعتبرها المنظمات الفلسطينية خاصة فتح بالمعقولة ، وعلى ضوء هذه الخلاصة ومن دون حشمة ، طالبت فتح بحصتها من الحلوى المتمثلة في الأراضي الفلسطينية المحتلة سنة 1967 ، والتي يشكل ردها من قبل إسرائيل ، الشرط المطلق لأي تسوية شاملة .
وقد تبنى برنامج " الدولة الفلسطينية " من قبل " م ت ف " ، التي تهيمن عليها فتح منذ سنة 1974 . غير ان التبني جرى بصياغات تدريجية : من " السلطة الوطنية على كل ارض محررة " ( 1973 ) ، الى " الدولة المستقلة " ( 1977 ) .
هذا وأيا كانت الصياغة ، فان البرنامج الجديد كان مبنيا على سفسطة .. بالفعل ، فإذا كان الهدف لاحقا هو انشاء " سلطة وطنية فلسطينية مستقلة " وذات سيادة ، كتعبير جزئي عن حق الشعب الفلسطيني في تقرير مصيره ، وذلك في الضفة الغربية وغزة – عدا انه لمِن الوهم بالكامل ، ادعاء الحصول على استقلال ، في دُويْلة واقعة كليا ، بين فكي الكماشة الإسرائيلية ، ظهرها الى الأردن في جانب ( الضفة الغربية ) ، والى البحر والصحراء في الجانب الاخر ( غزة ) ، وإسرائيل بين الجانبين – عندئذ يكون من المستحيل بشكل مطلق ، بلوغ ذلك الهدف من خلال انسحاب بالتراضي ( بالتفاوض ) ، للجيش الإسرائيلي من الأراضي المحتلة سنة 1967 . ففي اكثر الاحتمالات تفاؤلا ، قد ترضى الدولة اليهودية الصهيونية الطقوسية ( حرب الحضارة ) ، بانسحاب جزئي من الضفة الغربية ، التي تملكت حتى الان تقريبا كل ترابها ، وتخرج من قطاع غزة الذي دخلته بعد المجزرة الإرهابية لحماس الاخوانية ، مرفق بشروط تعسفية ، لأنها تحاور ، ولا تتفاوض ، لان المفاوضات تكون مع الدول ، وتكون مع الأمم المتحدة ، وتحاور من موقف المنتصر ، ومن موقع التحول العربي من إسرائيل ، وهو تحول نوعي ، فسوف تجعل من تلك الأراضي نوعا من " البنتوستانات " ، وذلك لقاء استسلام سياسي كامل من قبل " م ت ف " OLP المتهاوية ، بل تهاوت عندما قزمتها حماس الاخوانية ، وبالطبع سورية العراق والجزائر على طريقة استسلام السادات .
اعتقد ان تقرير مصير فلسطيني حقيقي ، حتى لو اقتصر على الضفة والقطاع الذي دخله الجيش الإسرائيلي مؤخرا ، لا يمكن تحقيقه عبر ( التفاوض) ( الحوار ) مع الدولة الصهيونية . لا بد من فرضه بالنضال . ولكن وباستثناء حماس والجهاد ، ومنظمات الإسلام السياسي ، لم تبق " م ت ف " قادرة على النضال ، والبرهان على تحركها كأنهم جزء من " أمان " وجزء من " الشاباك " ، حتى " الموساد " . فبهذا المعنى ، فان هذا الهدف الذي تكمن أهميته في انه يتيح تعبئة اكثر كثافة للجماهير الفلسطينية في الأراضي المعنية ، كما يتيح كسب دعم قسم هزيل من السكان اليهود الإسرائيليين . هذا الهدف اذن يكتسي طابعا انتقاليا . انه مكمل لمطلب الانسحاب الكامل وغير المشروط للجيش الإسرائيلي من أراضي 1967 . ولابد من اكماله هو أيضا ، بذلك التقرير للمصير الجزئي الاخر للشعب الفلسطيني ، الذي يمر عبر الإطاحة الثورية بالملكية الهاشمية ، ثانية المضطهدين الرئيسيين لذاك الشعب بعد الدولة الإسرائيلية ، والدولة السورية قبل سقوطها في ( الربيع ) العربي . ان تقرير المصير الجزئيين هذين ، هما مرحلتان انتقاليتان نحو الهدف الاستراتيجي ، الا وهو تحطيم الدولة الصهيونية الذي يقتضي الشروط الموصوفة أعلاه .
بالرغم من ان قيادة – " م ت ف " – كانت تدعي سنة 1974 ، انها تتبنى التفسير " الانتقالي " للهدف الجديد ، فان السياق السياسي لمشيتها بذاته ، لم يترك مجالا للشك في نواياها الحقيقية المتجهة نحو " الحل التفاوضي " . وهذا بالأصل ما أكدت عليه ، في تلك الفترة ، الجبهة الشعبية التي قررت مقاطعة الهيئات القيادية في " م ت ف " ، واسست جبهة الرفض مع منظمات ثانوية . وقد أعطت قيادة " م ت ف " اكثر فاكثر ، أولوية اهتمامها للنشاط الدبلوماسي ، بدءا من عام 1974 ، مستفيدة من الشروط الجديدة التي خلقتها حرب أكتوبر 1973 . فان برنامجها الجديد الأكثر ( مشروعية ) بكثير في انظار موسكو والأنظمة السياسية العربية ، والدول " غير المنحازة " ، وحتى بعض القطاعات الامبريالية .. ، قد أتاح لها تحقيق خطوات في المجال الدبلوماسي . وهكذا فان " م ت ف " ، بعد ان " تعقلت " ، حصلت سنة 1974 على اعتراف بها بصفة " الممثل الشرعي الوحيد للشعب الفلسطيني " من قمة " لاهور " الإسلامية ، وقمة الرباط العربية . فهل ان " م ت ف " ، لم تبق الممثل الشرعي الوحيد للشعب الفلسطيني ، واحتلت حماس الاخوانية والجهاد هذه التمثيلية ؟ .
والحال ان المقاومة الفلسطينية ، لم تجد من ينافسها بعد عام 1967 ، في مجال الكفاح ضد إسرائيل . لكن ما ان وضعت " م ت ف " OLP في افق الاشتراك في تسوية تفاوضية ، حتى اصطدمت بمنافسة حقيقية جدا من قبل النظام الأردني . لذا أصرت على حقها المطلق في تمثيل الشعب الفلسطيني ، الذي اعترفت لها به شتى حليفاتها من الدول العربية والإسلامية وغيرها ، بطيبة خاطر ، يزيدها كون هذه الدول تعلم علم اليقين ان " م ت ف " وحدها قادرة على تمثيل الفلسطينيين بمصداقية في تسوية تفاوضية . أي ان " م ت ف " ، وحدها بإمكانها الاسهام بفعالية في نزع فتيل ، احدى اخطر المسائل التي تهدد استقرار النظام الامبريالي الإقليمي والعالمي . وفي عام 1974 ذاته ، نشأ أيضا التحالف المميز بين " م ت ف " ، والاتحاد السوفياتي السابق ، الذي كان يصف فتح الاخوانية آنذاك ، قبل بضعة سنوات ، بانها " مغامرة " ، بل هي " تروتسكية " Trotski ، وليست ستالينية ....
5 --- ان اختيار قيادة " م ت ف " لاستراتيجية تسوية تفاوضية ، حتى لو تضمنت تركيبا من اشكال نضال مختلفة ، قد أدى بصورة حتمية الى مسارها السياسي اللاحق ، فان هدف " الدولة الفلسطينية " ذاته ، لا يمكن بلوغه بقوى الشعب الفلسطيني وحدها ، حيث ان المؤسسة الصهيونية ، لو اضطرت الى الاختيار بين احتمالي انسحاب غير مشروط من أراضي 1967 ، او ضمها رسميا مع طرد معظم سكانها ، لن تتردد في اختيار الاحتمال الثاني . لذا يقتضي الهدف المذكور أعلاه ، دينامية قوى تسير في اتجاه الهدف الاستراتيجي الأقصى . الاّ ان قيادة " م ت ف " ، لم تكن اطلاقا مستعدة للبحث عن وسائل هذه السياسة الأخيرة ، المتناقضة مع طبيعتها البيروقراطية البرجوازية ، وارتهانها المالي بالسعودية . فعوضا عن السعي لنيل دعم الجماهير الكادحة في البلاد العربية ، وإسرائيل و الاندماج الكامل ، دون لبس ، في النضال العالمي ضد الامبريالية ، سعت قيادة عرفات وراء وسائل سياستها الخاصة بها لدى الرجعية العربية ، والامبرياليات الاوربية وجماعات صهيونية " معتدلة " ، ووضعت في طليعة أهدافها الحصول على اعتراف بها من قبل الامبريالية الامريكية -- وهي الوحيدة القادرة على رفض " تسوية " على الدولة اليهودية ، رغم انف هذه الأخيرة .
ومع ذلك ، فان الازدواجية ذاتها التي اتسمت بها موقف قيادة " م ت ف " ، وهي تركيب من التصريحات المعادية للإمبريالية ، وغمزات العين للإمبريالية ، تلك الازدواجية التي تعكس ازدواجية موقعها الاجتماعي – السياسي ، كقيادة برجوازية مرتهنة بالتوازن بين حركة الجماهير التي تستمد منها قوتها السياسية ، من جهة ، وعملاء الامبريالية العرب الذين تستمد منهم مواردها الضخمة ، من الجهة الأخرى . ان هاتين الازدواجيتين اذن ، لم يكن اطلاقا بإمكانهما إرضاء الامبريالية الامريكية ، وكم بالأحرى الدولة الصهيونية . لذلك سعى الطرفان الاخيران بلا كلل ، وعبر شتى الوسائل المباشرة وغير المباشرة ، لتحطيم العنصر الأكثر جذرية في المعادلة برمتها : الا وهو حركة الجماهير الفلسطينية المسلحة ، التي باتت لبنان بعد 1971 ملاذها الرئيسي .
هذا وقد اصبح جليا منذ عام 1973 ، ان الجيش اللبناني الرجعي ، عاجز عن انجاز المهمة بقواه الذاتية وحدها . وقد ظنت واشنطن ان الإنجاز يصبح ممكنا ، لو أضيفت الى القوى المذكورة ، قوى المليشيات المسيحية الرجعية .
فأقحمت هذه الأخيرة في المعركة سنة 1975 ( الحرب الاهلية ) ، ولم تفلح سوى في اثارة رد فعل قومي – طائفي ، من قبل اغلبية سكان لبنان المسلمة ، الامر الذي أدى الى تفجر الدولة اللبنانية ، والى تقوية سلطة " م ت ف " في لبنان بشكل بالغ . بيد ان قيادة هذه الأخيرة ، أعطت دوما الأولوية لشتى الزعامات البرجوازية المسلمة ، سواء كانت سنية او شيعية ( منظمة أمل – نبيه بري ) ، او درزية . وقد ذهبت الى حد مد يدها مرات عديدة ، لكن بدون جدوى ، لأقصى اليمين المسيحي ، آملة عقد سلم معه . ولما أصبحت القوى المسيحية الرجعية على وشك الانهزام الكامل سنة 1976 ، تفاوضت واشنطن مع الحكم السوري ، واعدة إياه بالكف عن الالتفاف عليه ، في سعيها وراء سلم منفرد مصري / إسرائيلي ، وهو الهدف الذي جهد " كسينجير " من اجله منذ سنة 1975 . وقد تكفلت دمشق ، لقاء ذلك ، بإنقاذ حلفاء الامبريالية اللبنانيين ، وبإعادة النظام البرجوازي في لبنان . الاّ ان المحاولة السورية ، اصطدمت بمقاومة عنيفة جدا من قبل الجماهير اللبنانية والفلسطينية . ورغم ذلك ، افضت الى هيمنة سورية على مجمل الأراضي اللبنانية ، شمالي " الخط الأحمر " الذي حددته إسرائيل ، هيمنة تحققت بموجب اتفاق عقد مع " م ت ف " ، تحت رعاية سعودية ( مؤتمر الرياض في أكتوبر 1976 ) . كانت الأنظمة العربية قد اختارت التريث ، عشية انتخابات الرئاسة الامريكية .
لكن التغيير جاء من الانتخابات الإسرائيلية عام 1977 ، مع وصول متطرفي " الليكود " الى السلطة بقيادة " بيغن " . ولما اتضح ان افاق " تسوية شاملة " تفاوضية أصبحت معدومة ، انطلق السادات في " عملية السلام " الشهيرة ، التي نفذت بعد بضعة شهور ، في سبتمبر 1978 ، على اتفاقية " كمب ديفد " .
وقد وجدت سورية نفسها من جديد ، وبحكم الظروف ، في المعسكر المضاد للأمريكيين ، فجددت تحالفها مع " م ت ف " ، واليسار اللبناني ، على حساب المعسكر المسيحي الرجعي . ولم يبق سوى التدخل الإسرائيلي المباشر كوسيلة أخيرة ضد المقاومة الفلسطينية المتحالفة مع اليسار اللبناني وسورية . فجرى اجتياح إسرائيل اول سنة 1978 ، اقتصر على لبنان الجنوبي ، وافضى الى انتشار قوات الأمم المتحدة في تلك المنطقة . هذه القوات ، بدل ازعاج " م ت ف " وحلفاءها ، شكلت بالأحرى – موضوعيا – درعا لها . فتم اجتياح ثاني ، أوسع نطاق واطول مدة بكثير ، وجرى بالفعل في يونيو 1982 عندما اكتملت شروطه : ريغان في الحكم في واشنطن ، والانسحاب الإسرائيلي من سيناء منجز ( ابريل 1982 ) ، بحيث لا يعيق الاجتياح " السلام " المصري الإسرائيلي ..
6 --- ان حصار بيروت من قبل الجيش الإسرائيلي ، قد وضع قيادة " م ت ف " امام خيار بين احتمالين لا ثالث لهما : إمّا خيار المقاومة العنيدة ، مع الاخطار الاكيدة التي انطوى عليها ، لكن مع إمكانية حقيقية في النجاح ، حيث ان الجيش الإسرائيلي بعيد عن ان يكون جيشا لا يتزعزع ، كما اثبتته لاحقا انهزامه امام مقاومة الجماهير في جنوب لبنان ، او استسلام سياسي ، بحيث تحافظ قيادة " م ت ف " على اثاثها .. بنقله خارج لبنان .
هذا الخيار الأخير الذي كانت قيادة عرفات مستعدة لاختياره بطبيعتها الاجتماعية السياسية ، هو الذي ساد منذ أيام الحصار الأول ، عندما بدأت مفاوضات مع مبعوث " ريغن " حول شروط اجلاء المقاتلين الفلسطينيين عن بيروت . وبعد مساع جهيدة ، توصلت قيادة " م ت ف " الى الخضوع لكافة الشروط الامريكية ( خطة حبيب ) ، بما فيها تدخل قوات متعددة الجنسيات الامبريالية . وحصلت بالمقابل على وعد باعتراف إدارة " ريغن " بضرورة انسحاب إسرائيلي من الضفة الغربية وغزة ، لأجل قيام " حكم ذاتي فلسطيني " فيهما ، بشرط جازم فرضته الإدارة الامريكية ، هو ان يكون ذلك الكيان مرتبطا بالأردن . وقد اعلن هذا الموقف الرسمي الأمريكي الجديد ، غير المنصوص عليه في اتفاقات " كمب ديفد " ، في اليوم ذاته الذي اكتمل فيه جلاء قوات " م ت ف " عن بيروت .. انه مشروع " ريغن " ( اول سبتمبر 1982 ) .
بجلائها عن العاصمة اللبنانية ، خسرت قيادة " م ت ف " ، المكان الأخير ، حيث كان بإمكان المقاتلين الفلسطينيين العمل بشكل مستقل ، لا سيما وانها قبلت بتوزيعهم على ارجاء المنطقة العربية . كانت بذلك قد تبوأت الهدف الأساسي من العدوان الإسرائيلي الأمريكي ، الا وهو نسف القوة ، مانعة الاستقرار التي شكلتها حركة الجماهير الفلسطينية المسلحة .. حيث وجدت القيادة ذاتها في الامر ما يناسبها ، اذ انها تحررت في الوقت نفسه ، من الضغط المحرج الذي ارتهنت به حتى ذلك التاريخ .. ومذ اك اعتبرت ان ايديها باتت اكثر طلاقا بكثير ، للسير حتى نهاية خيارها السياسي المقرر في السبعينات ، لا بل لتعديه ، حيث ان منطق الاستسلامات القصري ، قد جرها الى التخلي عن برنامج " الدولة الفلسطينية المستقلة " ، الذي بدا في نهاية المطاف ، وكأنه يكاد لا يكون اكثر " واقعية " من قصوية الماضي ، لأجل تبني " الخيار الأردني " الذي فرضه " ريغن " . هكذا فلما تجاوب الملك الأردني حسين مع مشروع " ريغن " ، بضعة أيام من إعلانه ، واقترح إقامة " كونفدرالية اردنية فلسطينية " ، لم يتردد عرفات في الاستجابة لدعوته ، وذهب بنفسه الى عمان لبدء محادثات حول حيثيات تعاونه الجديد مع الملك الهاشمي ..
هذا وحتى بعد بيروت ، وفي اطار سياسة برجوازية ، لم يكن الخيار الأردني وحده مفتوحا امام قيادة عرفات . كان ثمة خيار آخر ، هو الحل السوري . غير ان هذا الأخير كان يحتم مواجهة مع واشنطن ، في تواصل مع السنوات السابقة لاجتياح عام 1982 ( لم يرد حتى ذكر بالاسم لهضبة الجولان السورية ، التي احتلتها إسرائيل عام 1967 في مشروع ريغان " النكسة " ) . وكان الخيار ذاته يعني أيضا ، بالنسبة لقيادة عرفات ، القبول بالوصاية السورية ، وتأجيل احتمال الحصول على دولة خاصة بها – حتى لو كانت ملكيتها مشتركة مع الأردن .. الى اجل غير مسمى . هذا في حين ان عرفات آمن بوعود مشروع " ريغن " ، دون ان يخلو الامر من سذاجة يمينية . فاختار بالتالي الانخراط في الاطار الذي حدده هذا الأخير ، وتوصل في ابريل 1983 الى مسودة اتفاق مع حسين . انما عرفات كان يعلم ان خياره الجديد لابد ان يثير معارضة واسعة من قبل سورية أولا ، وكذلك ليبيا ، المعارضتين للسياسة الامريكية ، ثم من قبل اليسار الفلسطيني ، بما فيه الجناح الراديكالي داخل منظمته الفتحاوية . مجموعة أبو موسى والقادة الذين قتلوا من قبل " الموساد " في تونس العاصمة ، وفي لبنان بيروت ، وفي باريس ولندن ونيقوسيا وجزر اليونان .. فعرفات اختار اذن قطع الجسور مع اخصام ( خصم ) الخيار الأردني الأشد حزما ، منذ مايو1983 ، بحيث يتمكن من المضي قدما في علاقته مع الملك الحسين . وقد أدت الاشتباكات مع سورية وحلفاءها الفلسطينيين ، واللبنانيين ( حركة امل الشيعية ) ، والحزب السوري القومي الاجتماعي ... الخ ، التي تلت ذلك ، أدت الى جلاء انصار عرفات في ديسمبر 1983 ، عن الأراضي اللبنانية التي بقيت تحت السيطرة السورية .
وإثر مغادرته طرابلس ( شمال لبنان ) عش الإسلام السياسي الأمريكي ( الحريري ) ، توجه عرفات رأسا الى القاهرة ، ليلتقي فيها بالصهيوني الأول حسني مبارك ، الذي اقام الليالي في البحث عن الجندي الإسرائيلي " شاليط " الذي تعرض للاختطاف . وبتوجه عرفات الى القاهرة ، يكون عرفات قد خرق بذلك المقاطعة العربية الرسمية للنظام المصري الدكتاتوري ، على توقيعه معاهدة السلام مع إسرائيل .
كان عرفات يشير بذلك السلوك ، ودون أي لبس ، الى انه اختار وضع نفسه في اطار السياسة الامريكية في الشرق الأوسط . وبقي له الامل بان تؤدي الجهود المركبة لمبارك وحسين ، والملك السعودي فهد ، الى الحصول على اعتراف رسمي به من قبل واشنطن مكافئة لسلوكه الرجعي ..
7 --- ان المعارضة الفلسطينية الأكثر جذرية للسياسة الجديدة التي انتهجتها قيادة عرفات ، جاءت من صفوف فتح بالذات . و" الانتفاضة " ، كما درج تسميتها ، تمثل في الواقع الاستمرار الراديكالي لخط فتح في سنوات 1967 – 1970 . أي أنها اعادت انتاج السمات الاصلية الموصوفة أعلاه ( البند 2 ) ، لكن بشكل اكثر انسجاما من فتح في تلك الفترة ، التي كانت ترتبط بالسعودية ، وتهادن الأردن ، وهما نظامان وثيقا الارتباط بالإمبريالية ذاتها التي أشار اليها مجمل المقاومة الفلسطينية ، بوصفها عدوا بمثابة الدولة الصهيونية اليهودية إسرائيل الكبرى . ذلك يعني أيضا ان انتفاضة فتح ، التي تزعمها أبو موسى ، لم تشكل باي حال نهجا جديدا للمقاومة الفلسطينية ، بل اعادت انتاج عيوبها الفطرية . هذا ما تجلى بشكل خاص ، في موقفها إزاء النظام السوري واداته الفلسطينية ( الصاعقة ) ، الذي لم تجد سبيلا الى التمايز عنه في المجالين السياسي والعملي ، وذلك بحجة التحالف " الاستراتيجي " معه . والحال انه على الرغم من الفائدة التي لا جدال فيها ، بالنسبة لمنظمة التحرير الفلسطينية المسلحة تعمل انطلاقا من لبنان ، في عقد تحالف مع النظام السوري ، يمكن إبقاء هذا التحالف عند مستوى تكتيك جبهة موحدة ، مع الاحتفاظ باستقلالية سياسية ، تتجلى بإبراز الفروقات بدل طمسها ، كما هي الحال . وقد مارست " م ت ف " بمجملها هذا النوع من التحالف ، وبدون تواطئ بين عامي 1977 و 1982 ، وذلك لما كانت قوات النظام السوري تسيطر مباشرة على قسم من الأراضي اللبنانية ( بما فيه بيروت الغربية ومنطقة المقرات الفلسطينية ) أوسع بكثير مما هي الحال اليوم . وحتى لو افترضنا ان دمشق باتت ترفض الان ان تتكيف مع تحالف كهذا ، وتسعى لفرض هيمنتها بالقوة ، لبقي بُعْد امام اليسار الفلسطيني ، خيار بناء نفسه بالاعتماد على قدراته الذاتية . وبالرغم من القمع السوري ، فان هذا القمع لم يفلح في منع التيار " العرفاتي " من إعادة بناء نفسه في لبنان ، لا بل حتى من فرض نفسه من جديد كتيار الأكثرية ، ضمن السكان الفلسطينيين في لبنان . اما الانتفاضة فبتفاديها ، أي احراج مع النظام السوري ، لا تفقد اعتبارها في نظر الجماهير السورية وحسب ، بل ايضا وخاصة في نظر اكثرية الجماهير الفلسطينية التي بدون دعمها ينعدم مبرر وجود الانتفاضة .
واما يسار المقاومة التقليدي ، الجبهتان الشعبية والديمقراطية ، المجتمعتان سنة 1983 في " قيادة مشتركة " ، فقد تبنى في بداية النزاع بين عرفات وخصومه ، موقفا توفيقيا منسجما ، مع موقف موسكو الحريصة على عدم قطع الجسور مع قيادة " م ت ف " الرسمية ، بأمل انها سوف تتخلى عن الخيار الأردني الأمريكي ، سواء عن قناعة او عن خيبة . هذا الموقف قد نسفه سلوك قيادة عرفات بذاته ، عندما دعت بغطرسة كلية ومن جانب واحد ، الى انعقاد المجلس الوطني الفلسطيني ، الذي طالما يختار ويعين أكثرية مريحة للقيادة المذكورة ، منذ عام 1969 ، وذلك في عمان في نونبر 1974 ، طالبة من الملك حسين ، جزار 1970 ، افتتاح الدورة . وقد انقطع التحالف بين الجبهتين الشعبية والديمقراطية ، اثر قرار فتح التخلي عن الموقف التوفيقي بعد ان فقد مصداقيته ، والانضمام الى انتفاضة فتح والصاعقة ، ومنظمات أخرى ثانوية ، لتشكيل جبهة الإنقاذ الوطني الفلسطيني ، وهي جبهة قومية تحت وصاية حزب البعث العربي السوري ، أي تحت وصاية سورية . اما الجبهة الديمقراطية ، فقد بقيت بالتحالف مع الحزب الشيوعي الفلسطيني ، وفية ومخلصة لموسكو التي عبرت اكثر فاكثر من مرة ، عن استيائها من عرفات ، لم يرض ان يتخلى عن الامل باستعادة هذا الأخير او ، على الأقل ، استعادت " م ت ف " الرسمية التي يقودها .
8 --- ان أهمية " م ت ف " OLP بقيادة عرفات ، في نظر موسكو ، لا تنجم فقط عن صفتها الرسمية ك " ممثل شرعي للشعب الفلسطيني " ، وهي صفة ساهمت موسكو مساهمة كبيرة في إقرارها من قبل الأمم المتحدة ، وصفة قد تخوّل عرفات او من سيجيئ من بعده التصديق على " سلام امريكي " . ان تلك الأهمية تنجم أيضا وعلى الأخص من واقع لا جدال فيه ، هو ان الصفة تلك ، تتناسب مع تأييد أكثرية الشعب الفلسطيني لقيادة عرفات ، ولا سيما أكثرية السكان الفلسطينيين في الضفة الغربية وقطاع غزة . وبالفعل ، فان الجانب الوحيد الإيجابي نسبيا في منعطف قيادة " م ت ف " سنة 1973 ، كان زيادة الاهتمام بتعبئة جماهير الأراضي المحتلة في عام 1967 ، التي باتت القيادة الفلسطينية تطالب بها لإقامة " دولة مستقلة " فيها ، فان برنامج " م ت ف " الجديد ، بالرغم من قرائنه اليمينية ( يجب ان يبقى في البال انها لم تكن صريحة في البدء ) ، كان اكثر قدرة بكثير على كسب أكثرية سكان الأراضي المذكورة مما كانت القصوية السابقة . والحال ان أولى المصالح المباشرة لهؤلاء السكان ، هي في التخلص من الاحتلال الإسرائيلي . انهم بالتالي ، وباستثناء اقلية راديكالية نقدية ، خاصة بين الشباب ، مدفوعين بصورة طبيعية الى تأييد ما يظهر لهم انه السبيل الأقصر لتحرير ارضهم من النير الإسرائيلي ، سواء كان السبيل اردنيا او فلسطينيا او منذ 1983 ، اردنيا فلسطينيا . وتتضافر مع هذا الضغط الموضوعي عوامل اجتماعية ومادية ، تربط جزءا من الوجهاء الفلسطينيين بالعرش الهاشمي ، وجزء آخر بقيادة " م ت ف " OLP ، مع حيازة كل جزء على أنصاره الخاصين .
هذا وبالرغم من اتفاق حسين – عرفات الذي عقد رسميا في فبراير 1975 ، لم ينفك التنافس بين الطرفين يتجلى في أراضي 1967 . وبتحديد اكثر ، فان الملكية الهاشمية لم تنفك لحظة واحدة ، تناور بأزلامها الخاصين بها ، بشكل مستقل ، بالتعاون فعليا مع شركائها القدامى في حزب العمل الصهيوني ، الذين عادوا الى الحكم سنة 1984 بقيادة " بيريز " . وقد أدى التواطؤ بين الطرفين الى تعيين رجل الاعمال المؤيد للحكم الهاشمي ، ظافر المصري ، على رأس بلدية نابلس محل القومي بسام الشكعة الذي فخخ له البوليس الإسرائيلي سيارته ، وليصبح بدون رِجْلين ، واقالته الإدارة الإسرائيلية من هذا المنصب في سنة 1982 . وانضاف الى تلك العملية السياسية التي كانت النية قائمة في تعميمها في الضفة الغربية ، وإعلان الملك حسين في فبراير 1986 وقف تعاونه مع قيادة " م ت ف " المتهمة بالمماطلة . بيد ان اغتيال المصري في مارس قد عرقل – لوهلة -- مناورة " بيريز " وحسين المشتركة ، دون منع هذا الأخير من المضي قدما بإثارة " انشقاق " فلسطيني عميل له ، في ابريل ، يتزعمه احد اكثر قادة " م ت ف " فسادا : أبو الزعيم .
هكذا وجدت قيادة عرفات نفسها خاسرة على كافة الأصعدة ، بعد ان وقعت في فخ خيانتها الخاصة بها ، التي غدتها الأوهام . وقد مدت لها الجزائر ، بمباركة موسكو ، خشبة خلاص ، بالدعوة الى إعادة توحيد " م ت ف " .. هذه الدعوة قد تروق بعض معاوني عرفات الأكثر تشكيكا في نهجه ، غير ان هذا الأخير ، مقامرا بكل ما لديه ، فضل الاتكال على مبارك وصدام حسين ( أنظمة ديكتاتورية ) حليفيه الراهنين ، كما على فهد ( السعودية ) ، سنده الدائم ليضغطوا على الحكم الأردني ، ويجبروه على التعاون معه من جديد . فعرفات يعلم انه ، بخلاف الملك حسين الذي هو منافس مباشر له ، لا يزال سائر الحكام الرجعيين العرب ، يحتاجون اليه كحليف سياسي . لكن هذا الواقع لا يمنعهم من الضغط عليه كي يمضي حتى نهاية استسلامه ويعترف رسميا بالقرار 242 الصادر عن مجلس الامن الدولي ( نونبر 1967 ) ، كما تطالب به واشنطن . هذا الاعتراف يعني بالنسبة لعرفات رمي ورقته الأخيرة ، الامر الذي يطالب لقاءه بضمان رسمي لاعتراف امريكي به . ومهما تكن نتيجة هذه المساعي ، فان محصلة نشاط قيادة عرفات كانت افلاسا ، افلاس كامل في النهج الرجعي الذي اختارته عمدا .
9 --- ان المقاومة الفلسطينية ، وحتى الخروج من لبنان / بيروت ، تعيش اليوم ازمة عميقة جدا . ولا يحمل أي من مكوناتها ، بما فيها اليسارية وتنظيمات الإسلام السياسي ، وعدا بتجاوز هذه الازمة . وهذا الوضع يقتضي في الواقع ، تغييرا جذريا في الاستراتيجية والسلوك ، بينما يمثل اليسار الفلسطيني ، في احسن الأحوال ، استمرارا للماضي في برنامجه وخطبه واشكال وجوده . وانما وحده انبثاق تيار بروليتاري ثوري داخل النضال الفلسطيني ، بتداخل وثيق مع الحركة البروليتارية الثورية في البلدان التي يجري فيها ذاك الأخير ، سيسمح له ، أي للنضال الفلسطيني ، بالخروج من مأزقه التاريخي الحالي . ولن يتمكن النضال القومي للشعب الفلسطيني من الانتصار ، الاّ بتداخله مع صراع الطبقات في المنطقة ، وبتزوده بتوجه اممي العامل الأساسي وحده المؤهل لخلخلة الوضع ..
الخلاصة وماهي بخلاصة :
بعد فشل المقاومة المسلحة ، وبعد مجازر الأردن في سنة 1971 ، وبعد مجزرة بيروت ، مخيم صبرا وشاتيلا ، وبعد الخروج من بيروت الى المنافي ، وبالرغم من اوفاق مؤتمر مدريد Madrid التي فشلت بعد عشر سنوات من اللعب بين القط والفأر ، وعوض القيام بمراجعة جذرية وتقديم نقد ذاتي يشرح أسباب الفشل .. " م ت ف " وقادتها السابقين والحاليين ، لم يقتنصوا العبرة من العشر سنوات ، ونظرا لخيبة الامل ، ارتموا من دون مقدمات في مؤتمر ليس غريبا ولا مختلفا عن مؤتمر مدريد ، هو مؤتمر Oslo في سنة 1993 . واذا كان مؤتمر مدريد قد استغرق عشر سنوات من دون نتيجة ، فان مؤتمر Oslo استغرق ما يناهز اكثر من ثلاثين سنة ، دون ان يحقق الجزء اليسير من المطال الفلسطينية .. والملاحظ ان هذا المؤتمر يكون قد انتهى ، رغم عدم اعلان النهاية من قبل إسرائيل التي تحاور ولا تتفاوض ، ومن قبل الفلسطينيين الذين تنازلوا عن كل شيء ولم يربحوا أي شيء ، وكأنهم يريدون إخفاء الفشل عن الشعب الفلسطيني الذي لم تعد تعنيه القضية الفلسطينية عندما اكتشف خيانة القادة ، ولمّا اقتنع في الأخير ، ان لا حل للقضية الفلسطينية ، في ظل الأنظمة السياسية العربية التي تكن الاحترام والطاعة لتل ابيب ، وهي في اوج غضبها .
ان ما يفسر الوضع الحقيقي للازمة ، من جهة الغياب الكلي لليسار الفلسطيني الذي تبخرت شعاراته مع افول الاتحاد السوفياتي السابق ، ومن جهة ظهور وسيطرة الإسلام السياسي على الساحة الفلسطينية التي كانت مرتعا للجبهتين الشعبية والديمقراطية ، اللتان تقزم دورهما الى اقصى حد . ومن جهة فشل حتى القوميون من تعويض فشل فتح وفشل اليسار الفلسطيني ، ومنهم الجبهة الشعبية القيادة العامة ، يساري فتح ( أبو موسى ) ... بل السؤال . كيف لمنظمة التحرير الفلسطينية ، ان تحاور ( تفاوض ) مباشرة إسرائيل ، ومن دون الحديث وتعريف الفلسطينيين بنتائج الاتصالات ؟ . بل كيف ان تكون منظمات فلسطينية رهينة للأنظمة السياسية العربية ، وهته الأنظمة هي السبب في كل ما يجري .. ؟ . والسؤال ، خطا ان كانت إسرائيل تتكلم بالصينية ، كيف الموقف من تصريحات القادة الإسرائيليين الكبر ، عندما ينفون الوصول الى حل ، لكنهم يكونون قد اعلنوا الحل الذي هو ، لا دُويْلة فلسطينية ، ولا امل او انتظار لحق العودة .. ومع هذه التصريحات الصهيونية ، يدفن عباس ومن معه راسهم في التراب كأنهم لم يسمعوا شيئا ..
منذ اكثر من ثمانية وأربعين سنة مضت ، واللقاءات مع الاسرائيليين تجري بتغطية للأمم المتحدة ، لكن الجميع لم يعد يتحدث عن الحلول ، وهي حلول مرفوضة من قبل تل ابيب .. إسرائيل دولة كبيرة ، ليس جغرافيا او بشريا ، وانما دولة كبيرة لأنها تحكم العالم من البيت الأبيض .. وهي حين كانت تحاور ( تفاوض ) فان انطلاقتها لم تكن سياسية ، ولكنها كانت حضارية ، تعني شعب الله المختار ، تعني ارض الميعاد .. ودولة تنطلق من الحضارة لترتيب البيت الإسرائيلي ، تكون قد رمت باكتشاف سبب التأخر في إيجاد الحل الى جماعة محمود عباس ، التي تتظاهر وكأنها تجهل سيرورة ونتائج اللقاءات .. ان الخطأ الكبير الذي سقطت فيه سلطة رام الله ، انها تجهل ان إسرائيل تتحاور ( تتفاوض ) كدولة حضارة . وان بمجرد القول بدولة الحضارة ، يعني انها تحارب من اجل الوجود اليهودي والمجتمع الإسرائيلي ، وليس فقط من اجل الحدود مع لبنان او مصر او سورية .. فحرب الوجود اكبر واخطر من حرب الحدود . والدولة الحضارية ترفض الدخلاء الذين لا ينتمون الى ارض الميعاد ولا الى شعب الله المختار .. وتكون تل ابيب قد انهت الجدل حول المسألة الفلسطينية ، باستحالة قبول دُويْلة جارة ، وقبول " غرباء " باسم " حق العودة " ..
ومرة أخرى انتصرت إسرائيل في الحرب عندما انتصرت في جميع المعارك .. وكيف لا تنتصر والنظام السياسي العربي اعترف بها وينشد ودها وصداقتها ..
ومشكلة الشارع العربي ، انه عاطفي اكثر من اللازم ..



#سعيد_الوجاني (هاشتاغ)       Oujjani_Said#          



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)

الكاتب-ة لايسمح بالتعليق على هذا الموضوع


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- سلسلة دراسات ثقافية سياسية وتاريخية ( الفصل السابع )
- تجليات الموقف الاسباني من نزاع الصحراء الغربية .
- سلسلة دراسات ثقافية سياسية وتاريخية ( تابع )
- سلسلة دراسات ثقافية سياسية وتاريخية ( 6)
- سلسلة دراسات ثقافية سياسية وتاريخية ( 5 )
- على هامش اللقاء بين الاتحاد الافريقي والصين
- سلسلة دراسات ثقافية سياسية وتاريخية ( 4 )
- سلسلة دراسات ثقافية سياسية وتاريخية ( 3 )
- سلسلة دراسات ثقافية سياسية وتاريخية . المؤتمر الوطني الرابع ...
- سلسلة دراسات ثقافية سياسية وتاريخية
- أزمة النظرية الماركسية . أزمة المشروع الأيديولوجي الماركسي . ...
- البيان الختامي لمؤتمر - تيكاد - بطوكيو – اليابان ، كان ضربة ...
- أزمة النظرية الماركسية . أزمة المشروع الأيديولوجي الماركسي . ...
- فشل الدولة المزاجية التائهة البوليسية في غزوة طوكيو باليابان ...
- ما يجب على الدولة البوليسية ، المزاجية ، التائهة ، المارقة ، ...
- أزمة النظرية الماركسية . أزمة المشروع الأيديولوجي الماركسي . ...
- أزمة النظرية الماركسية . أزمة المشروع الأيديولوجي الماركسي . ...
- أزمة النظرية الماركسية . أزمة المشروع الأيديولوجي الماركسي . ...
- البوليس السياسي المدني اكثر من رديء
- ماذا من وراء دعوة سفير النظام المخزني بالأمم المتحدة عمر هلا ...


المزيد.....




- تحذير أمريكي للصين بعد مناورات عسكرية حول تايوان
- مرشح ترامب لرئاسة أركان الجيش الأمريكي: على واشنطن الاستمرار ...
- مقتل بلوغر عراقية شهيرة في العاصمة بغداد
- ترامب يزور السعودية في مايو المقبل
- مصر: السيسي بحث مع ترامب استعادة الهدوء في الشرق الأوسط
- الداخلية الكويتية تكشف ملابسات جريمة بشعة وقعت صباح يوم العي ...
- البيت الأبيض: نفذنا حتى الآن أكثر من 200 ضربة ناجحة على أهدا ...
- -حزب الله- ينعى القيادي في صفوفه حسن بدير ويدعو جمهوره لتشيي ...
- نصائح حول كيفية استعادة الدافع
- العلماء الروس يرصدون توهجات قوية على الشمس


المزيد.....

- أمريكا وأوروبا: ملامح علاقات جديدة في عالم متحوّل (النص الكا ... / جيلاني الهمامي
- قراءة جديدة للتاريخ المبكر للاسلام / شريف عبد الرزاق
- الفاشية الجديدة وصعود اليمين المتطرف / هاشم نعمة
- كتاب: هل الربيع العربي ثورة؟ / محمد علي مقلد
- أحزاب اللّه - بحث في إيديولوجيات الأحزاب الشمولية / محمد علي مقلد
- النص الكامل لمقابلة سيرغي لافروف مع ثلاثة مدونين أمريكان / زياد الزبيدي
- العولمة المتوحشة / فلاح أمين الرهيمي
- تداخل الاجناس الأدبية في رواية قهوة سادة للكاتب السيد حافظ / غنية ولهي- - - سمية حملاوي
- الخروج للنهار (كتاب الموتى) / شريف الصيفي
- قراءة في الحال والأداء الوطني خلال العدوان الإسرائيلي وحرب ا ... / صلاح محمد عبد العاطي


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - سعيد الوجاني - دراسة تحليلية نقدية لأزمة منظمة التحرير الفلسطينية