حياتي في ذلك الزمن الذي قضيته مع انتونين ارتو 1993:مسرح القسوة

بلال سمير الصدّر

الحوار المتمدن-العدد: 8104 - 2024 / 9 / 18 - 04:48
المحور: الادب والفن
    

منذ ان اتيت الى باريس،الشخص الوحيد الذي رأيته وكان حيا وممزقا هو انت-جاك برفيل.
اقتباس عن انتونين آرتو
الفيلم مقتبس من كتاب في رفقة انتونين آرتو للشاعر الفرنسي جاك برفيل،وحقق الفيلم بألبيض والاسود محاولا استرجاع ماضي هذا الشاعر والممثل والمسرحي المثير للجدل(انتونين آرتو)،وان كان الفيلم مبطن جدا بالوثائقية،ومتهم بقدر كبير من السردية،إلا ان الصيغة النهائية التي من االممكن الاتفاق عليها هي الصيغة السينمائية التقليدية.
الفيلم من اخراج:Gerad Mordillant
ملخص عن موقع ويكيبيديا:
بعد تسع سنوات من الحبس،يتم اطلاق سراح أنتونين آرتو-الممثل سامي فراي-من الملجأ،ويعود الى باريس مع اصدقائه.
احد اصدقائه جاك بريفيل-الممثل مارك باربي-وهو شاعر شاب يتبع آرتو في تجواله بين دار رعاية المسنين في ايفري وسان جيرمان دي بري حيث كان آرتو يتابع بنفسه البحث عن الشعر والمخدرات والمطلق.
يصبح برفيل تلميذا ومدافعا ورفيقا اتجاه آرتو،وهو الذي يروي قصته في وقائع تنتهي بوفاته بعد عامين في باريس مابعد الحربنبحيث كان يعيش في البؤس والمعاناة....
يتقاسم بريفيل حياته بين امراتين،زوجته رولاند (فاليري جانيت)،وجاني عشيقته (جولي جينكيل)،بينما يواصل في الوقت نفسه ارتباطه بأنتونين آرتو...الرجل الذي هو صديقه الوحيد
إذا،يتتبع بريفيل وهو في بداية مشواره حياة انتونين آرتو،ومع لقاء التعارف الأول،يقول آرتو:
عندما قرأت مجموعتك الشعرية في مركز التأهيل اعتقدت بأنك سمينا سيد بريفيل...
بينما يعتقد بريفيل بان آرتو شخص مضطرب عقليا،أو ربما عقله غير مضطرب على الاطلاق لكنه فقط في غربة...هو ليس غريب الأطوار بل في غربة ولا سبيل لفهم عالمه.
ما يقوله بريفيل صحيح،فأنتونين آرتو وهو الممثل الذي شارك في الفيلم الصامت Joan of Arc
وصاحب النظرية الشهيرة التي هي اصلا من ابتداعه حول مسرح القسوة،وهو كشخصية ثقافية مؤثرة في فرنسا في ذلك الوقت لايمكن ان ننسبه الى ذلك الزمن الانبعاثي في السينما الفرنسية(الموجة الجديدة)،وعلى قلة اعماله الفنية،فانه يبدو احيانا اشكاليا أكثر من غودار نفسه وغامضا ايضا.
فالنظرية المسرحية التي لاتخلو من التعقيد والتي ابتدعها أنتونين آرتو ربما قد لاتكون تنتمي في الحقيقة الى أي شيء،حتى لفظ سريالية ليس سوى لفظ تجميلي ليس إلا لهذه النظرية...
فهل هناك مقياس للقسوة الشعورية...؟!
تلك القسوة الناتجة عن غضب داخلي ناشيء من تجربة معينة....
يقول آرتو لبريفيل:
هل تعلم ان كوليت مريضة....؟!
ويتابع:هي ليست مريضة جسديا،بل مريضة بسبب حادثة مرت بها...تم اغتصابها
نعم،كانت مرهقة،أحدهم دعاها للنوم في منزله ومن ثم اعتدى عليها ووصل الجرح الى معدتها...
هل هناك مقياس للقسوة الشعورية...ذلك الألم الداخلي الناتج عن مثل هذه التجربة...؟!
القسوة مصطلح مرتبط بالتجربة التي هي مادية بألأساس-فيزيائية-ومن غير الممكن قياسها بشكل دقيق،وهنا أراد آرتو ان يخرج هذه الاطنان من القسوة الى الخارج،لأن القسوة التي هي ألم داخلي ناتج عن تجربة كما قلنا،وضربنا مثلا عليها،ألا وهو الاغتصاب،من الممكن ان تزن حجم الكرة الأرضية،ومعيار القياس مؤشر على مسرح القسوة الذي ابتدعه انتونين آرتو ولذلك يبدو-وهذا صحيح-ان مسرح القسوة مسرح عصابي مضطرب.
الأمر إذا اردنا تبسيطه:كيف نعبر عن الالم الداخلي بحركة-حركة فقط-تعبر شكليا وضمنيا عن هذا الألم الداخلي...
لاحقا،تكون كوليت في خضم تجربة مسرحية-بروفا-يأمرها فيها آرتو بالصراخ...الصراخ اكثر واعلى،وبالتأكيد ستقود مثل هذه التجربة الى البكاء.
العلاقة بين بريفيل وآرتو في بدايتها تبدو وكانها علاقة قائمة على المصلحة المشتركة،علاقة شاب يحلم بالنجاح،ويحلم بالصعود على قامة شخصية شهيرة وكبيرة مثل انتونين آرتو،وبالمقابل هو يدفع ثمن أفيون آرتو تقريبا كاملا.
لكن لاحقا،يسود هذه العلاقة نوع من الاخلاص،ونوع من الدفأ والصداقة الحنونة،حتى لو كان هذا الشخص هو انتونين آرتو...
لنلاحظ هذا الاقتباس الطويل عن آرتو:
ارى صراع الذكور والاناث
أخطأ العلم،وأخطات الأساطير في القول ان الأرض وجدت قبل ملايين السنين من وجودنا
بل دروبنا متوازية في هذا العالم،جحيم مضطرب وهو في حالة حب مستمرة لا تنتهي حتى نشيخ
الحرب هي وقت الأبطال والمقاتلين،وفي احد الأيام بينما كانت كائنات الاناث العملاقة ترقص،ارادت صنع اشياء لاتنتمي لها،بل لي أنا،تلك الاشياء بدات بالسقوط وكان الهدم هو ما تبقى من الحب....في الفوضى
وعلى اساس هذا الغل وافق البعض على البقاء كإناث،وقرر البعض التحول الى ذكور بندم،بينما البقية تحولو لذكور بلا ندم...
هذا المشهد يتقاطع بين جاك بريفير وهو يمشي ويدخن،وانتونين آرتو يتحدث من خلف طاولة يفرد عليها ورق اللعب وكانه يقرأ الطالع...
لكن انتونين لايقرأ الطالع،بل يقرأ التاريخ...
جاك بريفيل كان من اولئك الذين أرادو التحول لذكور ولكن ببعض الندم...
أنا،أضعت اثر النوثة والذكورة،أرى نفسي جذع لشجرة عجوز وارى غابة تعدم فيها الضمائر التي يبدو على البعض منها الشراسة والعدوانية،لكن الاشخاص مثل جاك بريفيل يبدون مثل راية صادقة تبدو ظاهرة من مكان بعيد،موسيقى قصائدك تقبع في الأسفل...وبذلك اعني شعريتك تأتي من العمق،من المكان التي تكون فيه الكوارث متراكمة.
بعد المعاناة والخوف الأبدي تنهمر دموعك،وقلبك على وشك الانفجار قبل النهاية،دائما قبل النهاية،وهنا تكمن المفارقة،العذاب الأخير الذي ينتظرك هو ان تعاني أكثر،ما اشعر به هو نتيجة لهذه الأحداث وهذا ما يفعله الضمير...يصدر صوتا،ومع هذا فاولئك الذين ترتفع اصواتهم لايشعرون بهيجان الألم ولا بذلك الفن الذي يلاحق باستمرار وجود جاك بريفير....
هذا الاقتباس الشعري-نوعا ما-التاريخي الفلسفي-نوعا ما ايضا-المتصف بهيجان المشاعر يبين المكانة الحقيقية المزدوجة لجاك برفير عند انتونين آرتو...حقيقة الأحاسيس والمشاعر وحقيقة القيمة الأدبية...
هذا الاقتباس النقدي من قبل انتونين آرتو كافي ليطلق شهرة جاك بريفير الى الأعالي...هذا الذي سيحدث لاحقا.
لكن هناك الكثير من الجمل التي وردت على لسان آرتو تستحق الاقتباس...هي ملفتة للنظر،نذكر منها:
عند ولادة كل طفل يبدا قلبي بالنزيف
يجوز ان يكون هذا الاقتباس أعلاه لإميل سيوران من مثالب الولادة،ويجوز ان يكون هذا الاقتباس أيضا عن هنري باربوس من الجحيم.
اقتباس آخر:الجنس لم يعد نقيا،اصبح مجرد قذارة مثلما كان حال تناول الطعام في فترة ما...لهذا هلكت قوى سدوم وعمرة...
في الحقيقة انتونين آرتو هو جزء من الثقافة الباريسية...تلك الثقافة المرتبطة بالعدمية..

لنأصل هذا الحوار ايضا بين جاك بريفيل وانتونين آرتو،علما ان هذا الحوار يصح ايضا ان يكون اقتباس لجمل من قبل أنتونين آرتو:
آرتو:انت تزداد سخطا اكثر واكثر،قراءة قصائدك جعلتني ايقن انك تعاني نفس المرض الذي اعانيه،لكن عليك أن تتخلى عن شيء واحد...ارضاء المجتمع
هل هذا يعني ان قصائدي الأخيرة كانت مخيبة؟!
لم اقصد هذا،انت لست ثائرا بمما يكفي،سيد بريفيل:عليك ان تصبح شاعرا عظيما ،سأريك الاماكن الحساسة ي جسدك التي عليك لمسها...
أنت لست ثائرا بما فيه الكفاية...ما هي الخطوة القادمة عندما تتلقى انتقادا مثل هذا من قبل شخص مثل أنتونين آرتو...؟!
هل القضية بالنسبة للكاتب المغمور قضية نبوغ،أم قضية موهبة...؟!
الككاتب الجديد يتلقى مشكلة كبيرة مع النقد،حتى لو كان موهوبا ويمتلك العناصر اللازمة للشهرة،ولكن بعد بزوغ نجمه تختفي كل تلك المشاكل ونخوض نحن في نقد الألهة...نحاول ازالة كل تلك الألهة عن عروشها...
لكن،من منا يعرف كيف هي شكل النهاية...؟!
والقاعدة تقول،ان اي كاتب حتى لو كان عبقيرا سيتهم بالفشل في بداياته
ونختم بهذا السؤال:هل كان هذا اللقاء بين جاك برفيل وأنتونين آرتو عملاقي...؟
ان كان جاك بريفيل حقق شهرة واسعة،لكنه لم يصل الى درجة الاشكالية التي وصل اليها انتونين آرتو،ولا تلك الدرجة من الغموض التي أحاطت بأنتونين آرتو...
27/04/2024

#بلال_سمير_الصدّر (هاشتاغ)      

---

اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل	حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين

كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على:

الفيسبوك

التويتر

اليوتيوب

RSS

الانستغرام

لينكدإن

تيلكرام

بنترست

تمبلر

بلوكر

فليبورد

الموبايل

كيفية إشراك-إيصال مواضيعكم أو مواضيع تهمكم  إلى اكبر عدد ممكن من القراء والقارئات