(وبغداد في نفسي أعيش همومها
وهمي أنا عبء ثقيل على رأسي)
* إبراهيم عبوديا
أكبر شاعر عراقي حي.
آخر عمالقة الشعر في بلاد الرافدين.
والشاعر العراقي الوحيد الحي الذي عاش وشارك وسجل كل انتفضات الشعب العراقي.
إنه الشاعر المنسي الصديق إبراهيم عوبديا أقدمه اليوم لمناسبة صدور ديوانه الأخير( 60 عاما وأنا والشعر) وقد تأخر هذا التقديم طويلا رغم أني كتبت عنه أكثر من مرة وكتبت جزءا من سيرته الذاتية في روايتي( عزلة أورستا) التي كانت عزلة المثقف في كل مكان وليست عزلة شخصية.
ولد الشاعر العراقي اليهودي ابراهيم عوبديا في بغداد سنة 24 ثم انتقل إلى البصرة وتحديدا منطقة العشار محلة البريهة، ثم عاد مجددا إلى بغداد، وكان والده تاجر أخشاب مستوردة لصنع البناء والأثاث في البصرة.
ومثل جيله من النخبة المثقفة العراقية الأولى، التحق إبراهيم في صفوف اليسار العراقي، وعرف عنه مناضلا وطنيا صلبا سواء في مسيرات الاحتجاج التي كانت تعج بها بغداد في ذلك الوقت، أو في المنافي التي فرضت عليه، أو في أشعاره التي كانت تغني لمسيرات الرافضين وعشاق الحرية بصرف النظر عن اللون والعرق والقومية والدين، لأن إبراهيم كان شاعرا وحالما وإنسانا كبيرا، وفي واحدة من قصائده المدهشة خلال هروبه إلى طهران سنة 49، لا ينسى إبراهيم آلام شعبه العراقي الذي تركه مجروحا:
يقول في قصيدة كتبها في طهران سنة 51:
( أيدت أحرار العراق مناصرا
وسرت بركب الوعي والنهضة الهادي
هناك ملايين تكدّ جياعها
وتكد مرضاها لخدمة أفراد
ما فرق الجلاد بين مسلم
وبين سواه من يهود وأكراد).
كتب إبراهيم في مقدمة ديوانه( صيحة) الذي كتب قصائده في العراق بين السنوات 47 ـ 51، يقول:
( في عام 1948 غادرت العراق، وحللت في طهران، ومكثت فيها حتى أواخر العام 1949( هرب إبراهيم مرتين إلى طهران) وهناك كتبت مجموعة شعرية نشرتها بعد عودتي إلى العراق باسم( زهرة في خريف) وفي العراق فوجئت بالتغيير الذي طرأ على الحكم في البلاد، فقد اجتاحت العراق عاصفة من التمييز الطائفي والتعصب القومي.
كانت تلك عاصفة عاتية هوجاء أثارها سماسرة السياسة من صنائع وأذناب لإلهاء الشعب العراقي ولصرفه عن سياسة حكومته في الصعيدين الداخلي والخارجي.
ومن بين هؤلاء نفر من بعض أصحاب الصحف ومحرريها من الذين كانوا يتقاضون مخصصات سرية أو رواتب شهرية تصرف لهم من خزينة الدولة...
إني كمواطن عراقي ولدت في بغداد تحت ظلال الحكم العراقي وترعرعت في ربوع بلاد الرافدين وأقمت أسرة، لم أستطع أن أتعامى عما يجري من حولي من ظلم واضطهاد وغطرسة...وقد حذرني أحد المقربين لرجال الحكم من التمادي في مهاجمة سياسة الحكومة في أي شكل كان والسبب لم يكن خافيا علي...
كان من الجنون أن انشر أية قصيدة أو مقالة تمس بسياسة الحكومة أو تنتقد تصرفاتها، لكني تجاهلت كل ما يحدق بي من أخطار...).
وتحديا نشر إبراهيم قصيدته الشهيرة التحريضية التي نشرت في ديوانه( زهرة في خريف) عام 50:
( ضاق بالصمت فانفجر/ أي شيء يروعه وهو في موطن الخطر).
يقول عوبديا عن تلك المرحلة:
( في اليوم الذي فتش فيه رجال الشرطة دارنا بغية اعتقالي كنت في الطريق إلى طهران. وعلي أن أذكر أني مدين بحريتي آنذاك، لأحد الإخوة المواطنين الذي كان ذا صلة وثيقة بضابط شرطة التحقيقات. وعن طريقه علمت أن أمرا صدر للقبض علي. فقررت الفرار وليس السجن..)
هرب إبراهيم عوبديا كما سجلت ذلك في روايتي إلى إيران عن طريق خسروي وهي منطقة مجاورة لخانقين، وبعد 40 سنة تقريبا على هذا الهروب سنقف النقابي العراقي العريق صادق قدير الخباز والسيد محمد حبيب أبو سلام المسؤول السياسي عن حركة حسن سريع( وكان قد خرج من السجن بعد انقلاب 68)، وفي سنة 81 خلال الحرب كمراسلين في منطقة خسروي لكي يروي لنا الخباز ذكريات هروبه هو الآخر إلى إيران بعد انقلاب شباط الدموي والمجازر التي استخدمت فيها البلطات في سجون الانقلابيين، وحين دخلنا مقر حزب تودة( الحزب الشيوعي الإيراني) شاهدت صادق الخباز يقرأ بذهول رواية كتبت باللغة الفارسية، وكانت(البومة العمياء) وهي الرواية الوحيدة للروائي صادق هدايت الذي انتحر قبل نشرها وكانت مخطوطة بيده، وكان صادق قدير الخباز يجيد الفارسية قراءة وكتابة، وغمز لي أبو سلام ضاحكا:
ـ ألا تعرف؟ هو في الأصل مجوسي! (سخرية من حملة التشنيع السائدة في ذلك الوقت عن الفرس المجوس).
خلال مرور عوبديا، هاربا، بخسروي كتب هذه القصيدة التي تعكس الحالة النفسية لتلك المرحلة الصعبة:
( أني انسللت إلى " الحدود" مع الدجى/ هربا كأني كنت جاسوسا
ومضيت في جنح الظلام، كأنني/ في كل شبر كنت محروسا
لكن دمعي قد جرى حولي، لما رأت/ عينايَ من حولي المتاريسا
فذكرت بغداد التي فارقتها/ والقمع والإرهاب والبوسا( الأصل البؤس للتخفيف).
والساسة العملاء والدس/ المبيت والصنائع والجواسيسا
ومساوئ الحكم التي جعلت من/ الأذناب أسيادا غطاريسا
ومجالسا عرفية أحكامها/ ضرب" العراق" بها المقاييسا
فالعدل قد سحقوه تحت نعالهم/ أو بات في الأوحال مطموسا
والشعب ـ أين الشعب؟ ـ والطغيان قد/ شل الضمائر والأحاسيسا
هل أسكتوه أم أنه لزم السكوت/ وألجموا أحراره الشوسا( جمع أسوش، شجاع).
يذكر البروفسور الصديق شموئيل موريه عن ابراهيم عوبديا:
( نبغ في العراق جيل من الشعراء اليهود الذين تلقوا ثقافة علمانية حديثة، وقد تعاطف ها الجيل وما بعده مع القومية العربية والوطنية العراقية، إثر الحرية النسبية التي تمتع بها أبناء العراق على اختلاف طوائفهم الدينية وقومياتهم المختلفة...
كل هذه التطورات الايجابية جعلت كلا من هؤلاء الشعراء اليهود يرى في نفسه " عراقيا" أولا و" يهوديا" ثانيا، وهكذا ساهموا مع اخوتهم العراقيين من الادباء والشعراء والصحفيين والمسلمين والمسيحيين في شتى الحقول الأدبية والثقافية والاجتماعية والصحية والقانونية والاقتصادية، خدمة منهم لوطنهم العراق...
في منتصف الأربعينات من هذا القرن( العشرين) ظهر في العراق أغزر هؤلاء الشعراء اليهود أنتاجا، وأكثرهم غنائية وعاطفة وهو الشاعر إبراهيم عوبديا.
لقد ظهر اسم عوبديا في عالم الادب والشعر فجاة. ومازلت اذكر ـ يكتب الاستاذ شموئيل ـ كيف كنت وأنا أسير في شارع الرشيد، في طريقي إلى مدرسة فرنك عيني( اليهودية) اشاهد دواوين شعره في المكتبات العامة، وصورته وهو يدخن سيجارته بنظراته الساهمة في واجهة المصور( أرشاك) أشهر المصورين في بغداد في الأربعينات..).
والأستاذ شموئيل موريه أو سامي هو الآخر شاعر وقاص وناقد أدبي وأستاذ في الجامعة العبرية في القدس وصديق لكثير من المثقفين والكتاب العرب والفلسطينيين، وهو مع الشاعر إبراهيم عوبديا ومع عدد من الكتاب العراقيين اليهود يشكلون ما يعرف باليسار أو تيار السلام.
وعندي( إذا كان عندي عند كما يقول الجاحظ) مع البروفيسور سامي مراسلات قديمة وممتعة ومفيدة كذلك مع الشاعر عوبديا أفكر في نشرها يوما إذا أعطتنا هذه الحياة الغادرة فرصة مناسبة في يوم ما.
وفي واحدة من رسائل سامي يحزن فيها لأني وجدت منفى ثلجيا في النرويج( لأن هذا لن يعوض عن حرارة الوطن ولا عن صحراء العراق، أني حزين لأجلك).
وكان ردي:
( أنا عثرت على منفى، وأنت عثرت على وطن. هل تقبل هذه المقايضة؟ هل يرضيك هذا؟ هل هذا هو العدل الأرضي؟!).
وهذه قصيدة أخرى من قصائد إبراهيم وهو في الطريق إلى المنفى عبر خسروي:
( من يدري، من سيكون غدا/ في هذا الدرب رفيقي
وأنا اتلمس كالأعمى/ في جوف الليل طريقي
ودليلي الليل بوحشته/ وجنون اليأس صديقي
أخشى أن اصرخ، أخشى/ أن أتساءل أين طريقي
وفي كرمنشاه سنة 51 كتب إبراهيم:
( ومثقفين من العراق/ عليهم السلطات حربُ
وسلاحها الماضي وشايات/ وتحريض وكذبُ
عاشوا، وفي السجن الكبير/ حياتهم قلق ورعبُ
هم من شباب الفكر/ أحرار عراقيون نجبُ
جيل من الشرفاء، في/ بغداد قد ولدوا وشبوا
ضاق الطغاة بهم فعانوا/ الويل في بلد أحبوا
والبغي شردهم ولكن/ للنضال الحر درب
تركوا العراق وراءهم/ ولهم به أهل وصحب
فإذا القلوب جميعها/ ملتاعة تهفو وتصبو
عصف الحنين بها، وما/ عجبا إذا بقيت تحب ).
وفي طهران عام 51 كتب:
( وأنا في طهران بعيد عن
بغداد وفوضى الإرهاب
أتذكرها، وسأذكرها
والذكرى شيء إيجابي
من ينسى" ركل الشرطة"
و"المأمور" وشتم البواب؟).
( مأمور الشرطة أو مأمور المركز).
وفي بغداد كتب سنة 51:
(تاريخ بغداد" السعيد" ملطخ
بالقمع والارهاب والطغيان
هم لطخوه ببغيهم، حتى غدت
"دار السلام" مدينة الأحزان
فكأنها زنزانة، صلبوا على
قضبانها حرية الإنسان
من ذا يمثل شعبها في مجلس
النواب أو في مجلس الأعيان
ودمى يضم المجلسان، كأنها
صور مجسدة على الحيطان
رفع الأيادي لا النقاش سبيلها
فكأنها ولدت بغير لسان
ولرب شهم بين هاتيك الدمى
حي الضمير مواطن انساني
شجب السكوت، وعندما قد حاولوا
ارشاءه قد ثار كالبركان
ورمى بكرسي النيابة زاهدا
بالجاه بالكرسي بالسلطان
ويعيش مغضوبا عليه بمكتب
أو متجر في السوق أو دكان
من ذا يحاسبهم على أعمالهم
ملكون أم عوني أم السمعاني؟
وجرائد العملاء في أسفافها
شحنت رؤوس الشعب بالأضغان
والمستغلون الصحافة منبرا
للقذف والتحريض والبهتان
بالعنصرية آمنوا وتمسكوا
فكأنها دين من الأديان ).
وكتب سنة 49:
( أبحتم لبعض الناس، كل محرم
وحرمتمو جلّ الورى كلّ ما حلاّ
وقلتم" ديمقراطية" حكمنا لكم
ولم نر إلا الظلم والفقر والجهلا
واين هو الدستور، اين نصوصه؟
اشرّع مشلولا، أم اليوم قد شلاّ).
وفي سنة 47 بعد توقيع معاهدة بورتسموت بين رئيس الوزراء العراقي صالح جبر والحكومة البريطانية خرجت مظاهرات صاخبة مرت فوق جسر بغداد فتصدت لها الشرطة وسقط عدد من الشهداء من بينهم جعفر الجواهري شقيق الشاعر محمد مهدي الجواهري الذي رثاه بقصيدة شهيرة لكن إبراهيم عوبديا كان صوته في انتفاضة الجسر مدويا عاصفا ثائرا ومن النقاد من يرى عن صواب لو أن النقد الأدبي نظر إلى الشعر بصرف النظر عن الخلفية الدينية للشاعر، لكانت قصيدة عوبديا أجمل وأعذب من قصيدة الجواهري في حق جعفر.
كتب إبراهيم:
( الجسر يصخب بالهتاف/ وبالصراخ وبالصياح
وكتيبة تعدو من / الحرس المدجج بالسلاح
ومكبرات الصوت تنقل/ صوت بغداد الكفاح
ويسود صمت حين ينطق/ الرصاص على الرعايا
وهناك فوق الجسر صاح/ مناضل بين الضحايا
نادى بأعلى صوته/ يا قوم إن سالت دمايا
فلقد نذرت دمي لصون/ كرامتي بين البرايا
ولتربة من أجلها/ صغرت بعيني المنايا
أنا لن أموت وفي دمي/ من كل مكرمة بقايا
أنا لن أموت وأخوتي/ الأحرار في هذي السرايا
***
يا إخوتي ورفاق دربي/ في النضال وفي الطماح
إن يخرق الظلام صدري/ بالرصاص أو الرماح
أو يتركوني جثة/ في الدرب هامدة الجراح
ما مات في موتى النضال/ ولا انتهى عهد الكفاح ).
تحدث إبراهيم عوبديا عن ملكون وعوني والسمعاني وهؤلاء هم رؤساء تحرير صحف مرتزقة في زمانه، أشهرهم توفيق السمعاني رئيس تحرير جريدة( الزمان) التي رقصت على كل الحبال.
وقد تكون واحدة من دورات هذا الزمن الأعمى( أم فيه حكمة؟) أن تعود هذه الجريدة( الزمان) اليوم مرة أخرى ممثلة ب "سمعاني آخر" في زمن الاحتلال قد يكون السمعاني الأول مجرد تلميذ أمام هذا المحترف وليرقص هذه المرة عاريا دون أن يخفي لحيته كما يقول المثل العامي المغربي( من يرقص عليه أن يخفي لحيته!).
والمفارقة الأخرى، والأشنع، أن يصدر ديوان إبراهيم عوبديا، أو مجموعة من مختاراته الشعرية القديمة والجديدة، في زمن يعاد فيه مرة أخرى، وهذه ملهاة ثانية تكذب مقولة (نحن لن نعبر النهر مرتين) تأسيس المجلس التأسيسي أو مجلس السيادة أو الأعمار أو مجلس الأعوان من قبل ذات الدمى بعد مرور نصف قرن على صيحة هذا الشاعر المناضل والنجيب.
لا تنسوا إبراهيم عوبديا
هذا الشاعر العراقي اليهودي الجميل الذي أحبنا بصمت
وحلم لنا بالشعر والسلام بصمت
كطبيعة السواقي أو عيون الماء أو النجوم
بلا ضجة أو مفاخرة
على طريقة العربات الفارغة الأكثر ضجيجا دون أن تحمل معها غير الفراغ الشاحب والضاج بالموت.
60 عاما من الشعر
60 عاما من السلام
وكل عام وأنت بخير أخي الكبير إبراهيم.