أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - هاني جرجس عياد - الإعلام والسياسة: من يقود من؟















المزيد.....


الإعلام والسياسة: من يقود من؟


هاني جرجس عياد

الحوار المتمدن-العدد: 8102 - 2024 / 9 / 16 - 19:58
المحور: مواضيع وابحاث سياسية
    


تمثل طبيعة العلاقة القائمة بين النظام السياسي في الدولة ومختلف القوى التي يمثلها أفراد المجتمع أحد أهم المعايير في تقويم مستوى الاستقرار السياسي، وقدرة النظام السياسي ذاته على تحقيق أهداف المجتمع. ومع تطور النظم السياسية الحديثة، لم تعد السلطة السياسية وحدها هي القوة المؤثرة في استقرار النظام السياسي وتحقيق أهدافه، بل ظهر الرأي العام بوصفه قوة لها اعتبارها في اتخاذ القرارات، وتحديد السياسات العامة في المجتمع. وأصبح لزاما على السلطة السياسية في الدولة الحديثة مراعاة أفراد مجتمعها في رسم سياساتها، بعد أن تكونت لديها القناعة الكاملة به، وبأنها تستمد قوتها وثباتها ووجودها من هذا المجتمع.
ويرجى الإحاطة علما بأن التنظيم السياسي في أغلب المجتمعات يقوم على الأسس التالية:
1- وجود الهيكل التنظيمي الذي يمثل السلطة السياسية العليا في كل تنظيم سياسي في المجتمع.
2- وجود الحكومة التي تتولى ممارسة السلطة السياسية في المجتمع وفق الكيفية التي يحددها دستور الدولة وقوانينها ولوائحها.
3- وجود العلاقة التي تحدد سعة الاتصال بين الفرد والدولة من جهة، والسلطة السياسية من جهة أخرى على أساس المصلحة المتبادلة بين كلا الطرفين.
4- وجود الديمقراطية التي تقوم على أساس احترام الحقوق والواجبات والحريات العامة، وحرية الاتصال واستيفاء المعلومات.
5- وجود نظام اتصالي إعلامي يضمن عملية نقل الوعي الهادفة والمقصودة التي تتعلق بالحياة الشاملة لأفراد المجتمع، وتعكس البنى السياسية والاجتماعية للمجتمع الذي توجد فيه، وعلاقة المجتمع بالدولة والحكومة، وسياسات تنفيذ الواجبات واستحقاق الحقوق.
6- وجود قاعدة للتطور التقني، وبخاصة انتشار المعلومات وطنيا ودوليا.
ويتضح لنا مما تقدم أن وسائل الإعلام مرتبطة بالقيم والنظم الاجتماعية والسياسية في هذا البلد أو ذاك، فالإعلام بأدواته يعد من أشكال العمل السياسي، وكما أن الممارسة السياسية اليومية تمس مجالات الحياة البشرية، وتهم الرأي العام الداخلي والخارجي، لذا فإن الإعلام بوسائله ينبغي فهمه على أساس سياسي؛ لأنه يمارس بشكل يومي، ويمس الحياة العامة للمجتمع.
ومن هنا برزت أهمية وسائل الإعلام وحاجة الدول لها، ابتداء من المفهوم التقليدي لدور وسائل الإعلام، الذي كان يقتصر على خدمة السلطة بجميع نشاطاتها، ودعم توجهاتها وتحسين صورتها أمام أفراد المجتمع، إلى أن وصل الأمر إلى العمل بالمفهوم الحديث لحرية وسائل الإعلام، الذي قام بتعزيز هذا الدور، فأصبحت مرآة كثير من الأمم، ولسانها الناطق بأفكارها وقضاياها والمعبر عن آمالها وآلامها، فهي تخدم المجتمع من خلال نشر الأخبار، وتوضيح طبيعة السياسات الخارجية وأهدافها للشعوب، وتقديم صورة شاملة لما يحدث في أرجاء العالم لحظة بلحظة، وهو الأمر الذي من شأنه إلغاء الفواصل الزمنية والجغرافية بين المواطن وبقية أجزاء وطنه، وبينه وبين العالم الخارجي من حوله.
وإلى جانب أهمية الإعلام كوسيلة فاعلة في إقناع الجمهور وحملهم على اعتناق سياسات الدولة، وكسب تأييد الرأي العام تجاهها، فقد ربط تطور الوعي القومي والسياسي بأفراد المجتمع الذين يكونون الرأي العام. وهذا الرأي لا يحقق أهدافه إلا إذا كان حرا وكانت وسائل الإعلام حرة أيضا. وعندما يتحقق ذلك يمكن للسلطة أن تتعرف على اتجاهات المجتمع ووجهات نظره حول مختلف القضايا والإشكاليات التي تواجهه من خلال وسائل الإعلام الحرة، التي تقوم بدور محوري في تنوير جمهورها وتوجيهه، وإقامة جسور التخاطب وتبادل المعلومات بين صناع القرار السياسي والجمهور من أجل إيجاد الحلول ورفع مستوى أداء أجهزة السلطة وأفراد المجتمع على جميع الأصعدة.
وتعد وسائل الإعلام مصدرا مهما من مصادر التنشئة السياسية، فهي تنمي الثقافة السياسية المتعلقة بالقضايا أو المؤسسات والأنظمة السياسية في المجتمعات أو رجال السياسة، من خلال اهتمامها ومتابعتها وما تقدمه من معلومات وأخبار، كما تعمل على زيادة الوعي والمعرفة السياسية لدى الناشئة والتأثير فيهم وتشجيعهم على المشاركة الفاعلة في العملية السياسية. فوسيلة اتصال قوية مثل التلفزيون ينمو الأطفال معها وتحكي لهم الأحداث والروايات، ومن خلالها يكتشفون العدوان والصراعات السياسية وغيرها، وتتطور لديهم عادة الإنفاق بناء على ما يرونه من إعلانات، حيث تشير أحدث الدراسات إلى أنه في الوقت الذي يتخرج فيه الطفل من المدرسة يكون قد قضى 18 ألف ساعة أمام شاشة التليفزيون، وشاهد 30 ألف موضوع وقضية، وما يزيد عن 350 ألف إعلان تجاري.
إن العالم اليوم بانفتاحه وبارتباط وسائل اتصاله بعضها البعض، لم يعد في منأى عن ضرورة السعي وراء تحقيق تنمية لشعوب لاتزال في عداد التخلف، بعيدة عن تحقق كرامة الإنسان في العيش الكريم، مبتعدة عن تحقيق الرقي والازدهار بسنوات ضوئية. وبالتالي، فإن الاهتمام بالتنمية، بتسخير جميع أدوات الاتصال الجماهيرية المرتبطة بتكنولوجيا الإعلام والاتصال، لمن شأنها أن تساهم على الأقل في التوعية وفي خلق دينامية جديدة أكثر إيجابية للنهوض بمستوى عيش الفرد والجماعة.
ولكي تنجح وسائل الإعلام في تحقيق أهدافها، يتطلب منها بذل الجهود، وإجراء الدراسات اللازمة للوصول إلى نتائج سليمة ومعلومات دقيقة، تساعد في بناء علاقة تكاملية بين الدولة وأفراد مجتمعها من أجل مجتمع واع بمسؤولياته، مجتمع يتمتع بحرية التعبير، يتداول المعلومات والأفكار والمعارف بكل حرية، مجتمع له حقوق وعليه واجبات، مندمج في العمل من أجل تنمية مستدامة، خصوصا أن العالم النامي الآن يعرف صعوبات جمة، تحديات ذات بعد تنموي بالدرجة الأولى، وللإعلام دوره الرئيسي في توعية الإنسان بضرورة التعاون مع أخيه الإنسان أولا، ثم العمل على إبراز كل القضايا التنموية التي بإمكانها الارتقاء بواقع المجتمع، وذلك لما لوسائل الإعلام من قدرة على استنهاض الطاقات البشرية من أجل توجيه مجتمعاتهم نحو الأفضل، نحو واقع يجعل من المرء المهمش إنسانا كريما في عيشه.
وتجدر الإشارة إلى أن دور الإعلام في تشكيل السياسات العامة للدولة يتفاوت من نظام حكم لآخر، ففي نطاق أنظمة الحكم الديمقراطية، فإننا نجد أن الإعلام يلعب دورا محوريا في تزويد عامة الناس بمعلومات كثيفة ووجهات نظر متعددة، بما يسمح لها ببناء رأي عام مؤثر وضاغط يلهم صانع القرار، في حين أننا نجد أنه وفي نطاق أنظمة الحكم الشمولية فإنها تمارس تحكما شديدا في حجم ونوع المعلومات المقدمة للجمهور، بحيث يتعرض الفرد في ظل تلك الأنظمة لوجهة نظر أحادية، الأمر الذي يزيف إدراكه لحقائق الأمور ويجعل آراءه تصب في السياق الذي تريده السلطة الحاكمة، وبالتالي فإن السياسات العامة تأتي لتمثل وجهة نظر السلطة الحاكمة وليس إرادة الشعب.
ويلعب مضمون السياسات العامة التي تعدها الدولة دورا مهما في تحديد دور الإعلام في إعداد هذه السياسات، فحيث يتعلق الأمر بالجوانب السياسية التي تتعلق بالمصالح العليا للدولة والتي ترقى لأن تكون مسائل سيادية، فإن دور الإعلام يتراجع لصالح الرؤية الانفرادية للدولة، بالنظر إلى حساسية تلك المسائل، وبالتالي تتخذ فيها القرارات بعيدا عن الاعتبارات الشعبوية أو الجماهيرية، وهذا ينطبق بشكل خاص على الأنظمة الشمولية وغير الديمقراطية.
أما فيما يتعلق بالجوانب الاقتصادية والاجتماعية للسياسات العامة، فإن هنالك مجالا كبيرا للإعلام لأن يلعب دورا حيويا على هذا الصعيد. حيث إن هذه المسائل تمس حياة المواطنين بشكل مباشر، ودرجة التجاوب مع تأثيراتها تنعكس على الأمن السياسي والاقتصادي والاجتماعي واستقرار المجتمعات بشكل عام. ولذلك فإن الحكومات تأخذ بعين الاعتبار مضامين الرأي العام التي يجسدها الإعلام بهذا الخصوص.
فعلى سبيل المثال، أي قرارات اقتصادية تزيد من أعباء المواطنين مثل فرض الضرائب أو رفع أسعار بعض المواد والسلع الأساسية، والتي تؤدي بالتالي إلى زيادة التضخم وارتفاع تكاليف المعيشة، وتؤثر تأثيرا مباشرا وسلبيا على المستوى المعيشي للمواطنين، والتي تعتبر بمثابة قنبلة موقوتة تهدد الأمن الاقتصادي والسلم الاجتماعي، فإن الدولة تكون حريصة على التعرف على آراء وتوجهات المواطنين من خلال وسائل الإعلام واستطلاعات الرأي، قبل وضع هذه السياسات أو تعديلها واتخاذ القرارات التنفيذية بشأنها.
ويصح أن نقول إن تحالفات وأولويات النخب المحيطة بأنظمة الحكم تؤثر على شكل وتوجه وسائل الإعلام في بعض الدول، بحيث يصبح من الصعوبة بمكان نسبة المحتوى التحريري في نهاية المطاف إلى الناس من خارج النخبة، ولكن إلى جداول الأعمال السياسية التي تعكس أنماط وتوجهات النخبة وسيطرتها، وفي بعض الأحيان ملكيتها لوسائل الإعلام.
ويمكن أن يحدث تغيير على السياسات العامة إذا حصلت انقسامات، وإعادة تشكيل للتحالفات بين النخب التي تبرز عبر المشهد الإعلامي، فوسائل الإعلام تعكس، كمؤسسات، النمط السائد للنقاش السياسي، فحيث يكون الإجماع قويا فإنها تميل إلى البقاء ضمن حدود النقاش السياسي الذي يحدده الإجماع، وعندما يبدأ الإجماع في الانهيار تصبح التغطية نقدية ومتنوعة بشكل متزايد، ويصعب على المسؤولين السيطرة عليها، حيث تبدأ وسائل الإعلام بالعمل خارج نطاق الجدل المألوف والمطلوب، ويصبح الإعلاميون مشاركين نشطين ومؤثرين على نقاش النخبة، وبالتالي على صنع القرار. كذلك فقد تعمل الجهات الفاعلة السياسية التي تسعى إلى تغيير السياسة على استخدام التغطية الإعلامية النقدية التي قد تعكس اهتمامات غير النخبة للحصول على قوة مساومة تجاه أعضاء آخرين من النخبة.
وما يمكننا قوله الآن هو إن السلطة في الوطن العربي وفي سائر الدول النامية تنظر إلى وسائل الإعلام كوسائل لتثبيت شرعيتها وبسط نفوذها وتمرير خطابها السياسي بغض النظر عن طموحات وهموم الجماهير. وهي بذلك مازالت بعد لم تستطع بناء نظام مؤسساتي مستقر ولم تستطيع أن تحقق المشاركة السياسية الفعالة داخل المجتمع، وفي الكثير من الدول العربية ينعدم المجتمع المدني تماما. وكنتيجة لكل هذا فإن معظم الدول العربية فشلت كذلك في إقامة وبناء جهاز إعلامي فعال يؤمن بتوفير الاتصال الأفقي ويعمل على إدماج مختلف الشرائح الاجتماعية في العملية السياسية والاقتصادية والثقافية. ولهذا نتجت النظرة الضيقة للإعلام على أساس أنه أداة من أدوات السلطة تستعمل في آليات وعمليات الحكم والسيطرة. وتجدر الإشارة هنا إلى أن الإعلام التنموي والفعال والأفقي لا يتأتى إلا بالديمقراطية والأجهزة المؤسساتية المختلفة التي تلعب بدورها دور المراقب والمعارض والمشارك في العملية السياسية وفي صناعة القرار.
فالنظام الإعلامي العربي الراهن يحتاج إلى نظرة نقدية جادة مع نفسه، كما يحتاج إلى مراجعة مع الذات، وهذا للوقوف على السلبيات والتعلم من الأخطاء والهفوات السابقة للانطلاق بخطى قوية وإيجابية نحو مستقبل لا يكون فيه الإعلام وسيلة للسيطرة والتحكم والتلميع والتملق، وإنما وسيلة للحرية والعلم والمعرفة والتفكير والإبداع والاختلاف في الرأي وفي إيجاد سوق حرة للأفكار. إن تحديات الألفية الثالثة كبيرة وجسيمة وتتطلب إعلام قوي وصناعات ثقافية قوية وفاعلة؛ سواء على المستوى المحلي أو الدولي، مع تمنياتنا بإيجاد آذانا صاغية لهذه المستلزمات عند أصحاب القرار في وطننا العربي.
ولم تغفل الأمم المتحدة العناية بالصحافة، ولا سيما حرية الأنباء بالوسائل المختلفة عن طريق الصحافة بالدرجة الأولى، فأدخلت عدة نصوص في ميثاقها، وفي "ميثاق حقوق الإنسان" لضمان حرية الرأي والفكر في العالم كسبيل من سبل التعاون الإنساني.
وفي أبريل 1960 تبنت اللجنة الاجتماعية للمجلس الاقتصادي والاجتماعي التابع للأمم المتحدة مشروعا بشأن المعلومات ينص على أن لكل فرد الحق بشكل فردي وجماعي البحث عن المعلومات وتلقيها ونشرها.
ولدى إقرار المشروع وافقت اللجنة بالإجماع على إرساله إلى الجمعية العامة للأمم المتحدة حيث صادقت عليه بصورة نهائية ويتضمن هذا المشروع المواد الخمس التالية:
1- إن معرفة الحقيقة والبحث عنها بحرية هما من الحقوق الجوهرية للإنسان، ولكل شخص الحق بصورة فردية وجماعية في البحث عن المعلومات وتلقيها ونشرها.
2- ينبغي على جميع الحكومات أن تتبع سياسات تؤدي إلى حماية حرية تدفق المعلومات والأنباء داخل البلدان وعبر الحدود. كما أن الحق في البحث عن المعلومات ونقلها يجب أن يؤكدا بغية تمكين الجمهور من الحصول على الحقائق وتقدير الأحداث.
3- إن وسائل نشر المعلومات يجب أن توضع في خدمة الشعوب، ويجب تشجيع إنماء الوسائل القومية المستقلة لنشر المعلومات. كما ينبغي ألا تمارس أية حكومة أو مؤسسة خاصة أو عامة أي إشراف على مثل هذه الوسائل والسبل يؤدي بالنتيجة إلى منع قيام مصادر متنوعة من المعلومات أو يحرم الفرد من التوصل إلى مثل هذه المصادر بحرية.
4- إن ممارسة الحقوق والحريات يتبعها مسؤوليات وواجبات، إذ ينبغي على أولئك الذين يوزعون المعلومات والأخبار وينشرونها أن يعملوا بكل نية حسنة لضمان صحة المعلومات التي ينشرونها، واحترام حقوق البلدان والجماعات والأفراد وكرامتهم دون تمييز بين الأجناس والألوان والعقائد.
5- يجب الاعتراف بالحقوق والحريات المذكورة واحترامها على نطاق عالمي، ولا يمكن بحال من الأحوال ممارستها بشكل مناقض لمبادئ الأمم المتحدة وأهدافها، ويجب ألا تخضع لأية قيود باستثناء تلك التي يفرضها القانون بغية احترام حريات وحقوق الآخرين، ومواجهة المتطلبات الحقة للأمن القومي والنظام العام والآداب والفضيلة في مجتمع ديمقراطي.
ولعلنا لا نضيف جديدا حين نشير إلى أن ملكية وسائل الإعلام في النظم السياسية الشمولية مرتبطة ارتباطا وثيقا بالفلسفة التي تقوم عليها هذه النظم، والحكومات التي تنطلق من هذه الفلسفة ترى أن دور وسائل الإعلام يتمثل في تقديم دعم كامل لكل ما تقترحه الحكومة، وينظرون للإعلام باعتباره امتدادا للحكومة المركزية، ويبررون هذا الرأي بقولهم إن إعلاميا غير مدرب وشعبا أميا غير متعلم في معظمه لا يمكن أن يكون أداة لبناء أمة مستقرة، وإن وسائل الإعلام الغربية التي يباهي البعض بحريتها ما هي إلا وسائل لترويج المادية والنزعة الاستهلاكية.
وإذا كانت النظم الشمولية سائدة في معظم دول العالم، وبخاصة دول ما يسمى بـ "العالم الثالث"، فإن وجودها يتأكد في الدول العربية التي تكون معظم الصحف اليومية والمجلات الأسبوعية – فضلا عن الإذاعة والتلفزيون– مملوكة للدولة وتتحدث رسميا بسياستها، أو على الأقل الصحف الفاعلة في الوطن العربي تتحدث رسميا باسم أنظمتها السياسية، وعلى هذا أصبحت العلاقة بين الحكومة والصحف علاقة تعاونية. والدول العربية التي تسمح بالملكية الخاصة للوسيلة الإعلامية تشترط حكوماتها الترخيص المسبق لإصدار الصحف والمجلات، وهذا يتيح للسلطات الحاكمة فرصة التحكم المطلق في الترخيص، وسحب الترخيص كيف ومتى تشاء. إضافة إلى ذلك؛ فإن معظم الحكومات العربية تطبق نظام الرقابة المباشرة وغير المباشرة والتي تحول دون تقديم مواد من شأنها أن تتعارض مع سياسة النظام. كما أنها تسيطر على مصادر المعلومات فتسمح بما تريد وتحجب ما تريد.
وأما في النظم الديمقراطية فيتمتع المواطنون بحرية تملك الوسائل الإعلامية للقادرين على إنشائها وإداراتها وتشغيلها طبقا لبنود الدساتير التي ضمنت لهم هذا الحق. ففي الولايات المتحدة الأمريكية – مثلا– ليست هناك قيود على إنشاء الصحف أو محطات للإذاعة والتلفزيون يملكها فرد أو مجموعة أفراد، فقد ضمن الدستور الأمريكي حرية الرأي والتعبير بأية وسيلة يراها المواطن.
بل إن حرية التملك وإبداء الرأي والتعبير تجاوزت قضية الملكية الشخصية لوسائل الإعلام إلى إنشاء جمعيات ومنظمات نشطة تدافع عن أصحاب هذه الوسائل أو العاملين فيها أمام الكونجرس والقضاء، وأمام الرأي العام إذا ما حاولت الحكومات التضييق على المؤسسات الإعلامية، مثل منظمة الإذاعيين الوطنية(National Association of Broadcasters) ، ومنظمة منتجي الصور المتحركة (The Motion Picture Producers Association)، ومنظمة ناشري الصحف الأمريكية (American Newspaper Publishers Association)، وغيرها من المنظمات الأخرى التي تكون على مستوى المدينة أو الولاية أو الدولة، والتي حملت على عاتقها الدفاع عن العاملين في الحقل الإعلامي أمام أي تدخل حكومي يحد من حرية الممارسة الإعلامية أو حرية الرأي.
وعلى العموم، فإنه حتى تحافظ وسائل الإعلام المحلية على جاذبيتها – وهذا أمر بالغ الأهمية في عالم الإعلام– وحتى لا تنعدم جدواها وتفقد أهميتها بالنسبة للقارئ، وبالتالي للسلطة السياسية لابد أن تقدم كل ما يحقق ذلك من مواد ثقافية متنوعة، وخدمات إخبارية وتحليلية، وطرح سياسي موضوعي جاد، وآراء هادفة من خلال تناول القضايا الوطنية التي تعمق العلاقة بين وسائل الإعلام وجمهورها، وتساعد السلطة في معرفة اتجاهات المجتمع وأفكاره حول مختلف القضايا، كما تساعد المجتمع في التعرف على سياسات الدولة والأبعاد السياسية لقراراتها من أجل بناء جسور التواصل، وتبادل المعلومات بين صانعي القرار السياسي وأفراد مجتمعاتهم.
وهذا من شأنه أيضا تنمية الثقافة السياسية لدى النشء، ودفعهم للتفاعل والمشاركة في العملية السياسية عن وعي وإدراك معرفي، علما بأن الثقافة السياسية لن تتطور إلا بوجود حالة من التعددية الحزبية والسياسية وتعددية في وسائل الإعلام بل ودمقرطتها، أي إفساح المجال للناس بصياغة المحتوى الإعلامي والمشاركة الإعلامية باتجاه المشاركة السياسية. فالتعددية بكافة أشكالها ومنها الدينية تشكل حالة ديمقراطية ننشدها، ونطالب بها في التحوّلات التي نطمح فيها لاستحضار المجتمع المدني الذي تتحقق فيه العدالة الاجتماعية والمساواة والتضامن والمواطنة.
وختاما، من المؤسف أن الإعلام قد يتعاطى مع المسائل المتصلة بالسياسات العامة بصورة سطحية وبعيدة عن العمق المطلوب، أو بصورة طارئة ودون متابعة حثيثة، على النحو الذي تستحقه أهمية المسألة موضوع النقاش، مما يؤدي إلى غياب رأي عام يؤثر في سياسات الدولة، وبالتالي يفشل في حماية مصالح الشعب. وعلى ذلك فإنه وعلى الرغم من إدراك الحكومات لأهمية المسائل التي ينبغي معالجتها في سياساتها العامة، فإن إدراكها كذلك لاهتمام الإعلام السطحي والطارئ والمؤقت لمضمون هذه السياسات يجعلها تتجاوز وسائل الإعلام، وعلى نحو يطلق يدها لمعالجة القضايا بصورة انفرادية وضمن رؤية حكومية أحادية.
ورغم ذلك، فإن السياسة لا تعمل بدون الإعلام. ولا يعيش الإعلام إلا في كنف السياسة. فالسياسة تحتاج إلى إعلام يعبر عنها وينقل للمتلقي – المواطن – بقوة وجهة نظرها. تريد منه أن يساعدها بكل ما يستطيع في استمالة الرأي العام وحشدهم خلفها. والإعلام بدوره لا يعيش إلا على السياسة. فأخبار الرياضة والأفلام وبرامج المنوعات لا يمكن أن تشبع على كثرتها فضول الإعلاميين أو الجسم الصحافي لأنهم يدركون أن الإعلام يقف دائما على مرمى حجر من السياسة، يراقبها وتراقبه. فالإعلام يرجع إلى القوى السياسية ليقول لهم هذا ما يقوله الناس عنكم وهذا ما يتمنونه منكم. ولم يكن غريبا بسبب حاجة السياسة والإعلام إلى بعضهما أن يكون لكل سياسي إعلامي مفضل لديه.
ولم يكن غريبا كذلك أن تشترك السياسة والإعلام في خصلة واحدة هي الميل إلى المبالغة بل الكذب أحيانا. فما أن يجتمع الاثنان حتى تصاحبهما المبالغة. فكلاهما يقوم بالتبليغ. ولا تبليغ بدون مبالغة. السياسي يرسل للمتلقي من خلال بيان يلقيه أو مؤتمر صحفي يعقده ما لديه من خطط وبرامج والمواطن هو المتلقي وهو الذي يتلقى كل شيء من صدق وكذب! وكثيرا ما يبالغ السياسيون عندما يعدون بأن خططهم ستحقق أكبر عائد وأن سياساتهم ستجعل الوطن أكثر أمنا وتطورا. ثم تأتي الوسيلة الإعلامية التي تتبع لهذا الزعيم وتخضع لنفوذه، لتقوم بالتبليغ عبر مقالات وبرامج ونشرات تمتد لأيام وربما لشهور كالذي يطبق قاعدة كذب كذب لابد أن يصدقك الناس! إن ما نحتاجه اليوم هو إعلام صادق وصحافة شفافة لأننا نعيش في زمن ملبد بالحقائق غير المكتملة والملوثة. فبدون التخلص من جرعات المبالغة السياسية والإعلامية الزائدة يصعب الوصول إلى صورة دقيقة وواضحة.



#هاني_جرجس_عياد (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- حق المؤلف بين النظرية والتطبيق
- الشخصية الإدارية
- فن الاتصال والتأثير على الناس
- لمحات من حياة القديس مارمرقس مؤسس الكنيسة المصرية
- نظرية الوصم (الجذور التاريخية والافتراضات النظرية)
- إدارة التنوع في الموارد البشرية
- العواطف في العمل
- النسوية العربية: رؤية نقدية
- الفرق بين المهارات الصلبة والمهارات الناعمة
- «العربية» في أفريقيا
- الجامعات الافتراضية: إيجابياتها وسلبياتها
- أنواع دمج ذوي الاحتياجات الخاصة في المجتمع
- معوقات الموهبة لدى الأطفال والحلول المقترحة للعلاج
- الرعاية اللاحقة للمفرج عنهم إحسانا أم التزاما تتحمله الدولة؟ ...
- جرائم الاتجار بالبشر : المفهوم – الأسباب – سبل المواجهة
- الزواج السياحي في مصر
- المال السياسي ونزاهة الانتخابات البرلمانية في مصر
- في عالم خارج نطاق الحياة : سكان القبور أحياء بدرجة أموات
- التحرش الجنسي بالمرأة العاملة : مأساة تتكرر فصولها كل يوم
- حوار الثقافات في زمن العولمة : هل هو ممكن ؟


المزيد.....




- البرلمان الفرنسي ينظر اليوم في قرار لعزل ماكرون
- -حزب الله- يعرض مشاهد من سيطرته على -محلّقة- للعدو.. والجيش ...
- ما خطورة العسل المزيف؟
- شولتس يرفض التعليق على إلغاء مؤتمره الصحفي المشترك مع توكايي ...
- غضب في البيت الأبيض بسبب منشور ماسك حول عدم محاولة اغتيال با ...
- إعلام: تحطم مروحية رئيس زيمبابوي
- -صاروخ يفجر آلية واستهدافات أخرى-.. -حزب الله- يعرض مشاهد م ...
- ضوء أخضر لنتنياهو لضم ساعر وواشنطن تعتبر تغيير غالانت ضربا م ...
- مع اقتراب موعد -القول الفصل-.. تيك توك يخوض معركة مصيرية في ...
- إعلام إسرائيلي: نتنياهو -اقترب- من عزل غالانت.. والبديل ساعر ...


المزيد.....

- ، كتاب مذكرات السيد حافظ بين عبقرية الإبداع وتهميش الواقع ال ... / ياسر جابر الجمَّال
- الجماعة السياسية- في بناء أو تأسيس جماعة سياسية / خالد فارس
- دفاعاً عن النظرية الماركسية - الجزء الثاني / فلاح أمين الرهيمي
- .سياسة الأزمة : حوارات وتأملات في سياسات تونسية . / فريد العليبي .
- الخطاب السياسي في مسرحية "بوابةالميناء" للسيد حافظ / ليندة زهير
- لا تُعارضْ / ياسر يونس
- التجربة المغربية في بناء الحزب الثوري / عبد السلام أديب
- فكرة تدخل الدولة في السوق عند (جون رولز) و(روبرت نوزيك) (درا ... / نجم الدين فارس
- The Unseen Flames: How World War III Has Already Begun / سامي القسيمي
- تأملات في كتاب (راتب شعبو): قصة حزب العمل الشيوعي في سوريا 1 ... / نصار يحيى


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - هاني جرجس عياد - الإعلام والسياسة: من يقود من؟