أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - عبد المجيد إسماعيل الشهاوي - من الشورى إلى ديمقراطية جهنم















المزيد.....

من الشورى إلى ديمقراطية جهنم


عبد المجيد إسماعيل الشهاوي

الحوار المتمدن-العدد: 8099 - 2024 / 9 / 13 - 00:19
المحور: مواضيع وابحاث سياسية
    


3- الشورى
كانت صدمة حضارية أقسى من أن يتحملها عقل. كيف، ومن أين، أتت الهوة الحضارية الشاسعة التي أخرجت الإسلام من الدنيا وتركته يعيش في عالم آخر غير المعاصر له في كل مكان مُتحضر؟ متأخرٌ، متخلفٌ، أكثر فقراً وعوزاً، مستباحاً وغير مهاب البتة من كل أهل الأرض، وأقل مهارة ومقدرة على فهم وابتكار واستعمال وسائل تنظيم العيش وزيادة الإنتاج وحشد القوة وهندسة العمران قياساً على الأغراب المتكالبين عليه من خارج عالم المسلمين. كأن المدفع البونابرتي الذي وقف عاجزاً عن نزع أنف أبي الهول من رأس الأسد الرابض أمام أهرامات الفراعنة يحرسها منذ آلاف السنين قد أسقط بضربة واحدة كل جداران العقل العربي المتصلبة منذ عدة مئات السنين. ساعتها انكشف هذا العقل المُحنط أخيراً لشظايا الحياة الحديثة، ليجد نفسه وسط لهيبها تائهاً لا حول له ولا قوة في عالم آخر غريب وعدواني وغير مألوف له البتة؛ عالم سريع، تنافسي، وصراعي لا يعرف الرحمة ومغاير تماماً لكل ما قد بقي يدعو له ويدافع عنه ويضحي من أجله منذ أكثر من ألف عام. كيف، ولماذا، انهزم الإسلام شر هزيمة قد لحقت به على الإطلاق طوال عُمره المديد على أيدي بني عمومته وجيرانه، وفي الوقت نفسه ألد أعدائه- الغرب المسيحي؟!

وقد تصدى للإجابة على هذا السؤال الصعب والمصيري شيخان جليلان سيعود إليهما الفضل في رسم خارطة الطريق الفكرية التي ستصدقها وتسير على دربها أمة العرب جميعها من الآن فصاعداً إلى الزمن المعاصر، لا لأكثر من أن توصلها جاهلة ومغمضة العينين إلى تخوم التهلكة والانتحار الجماعي وبئس المصير. السبب الرئيسي لهزيمة الشرق المسلم أمام الغرب المسيحي يُعزى في المقام الأول والأخير إلى إغفال المسلمين الأخذ بمناهج التفكير العقلي ووسائل وتطبيقات العلوم التجريبية، ومن ثم اهدار الفرص لابتكار وامتلاك المنتجات والتقنيات المادية التي بفضلها هزمونا، أو بهذا المعنى كتب أكبر إمامين للفكر العربي والإسلامي في ذلك الوقت- جمال الدين الأفغاني وتلميذه المصري محمد عبده. في قول آخر، لقد انتصر علينا الغرب المسيحي بوسائله، لا بغاياته. بالتالي، إذا كان ثَمَّة من يتحمل المسؤولية عن هذه الهزيمة الحضارية المُذلة فهي وسائلنا المادية البدائية والمتخلفة مقارنة بما لدى الغرب المتقدم علمياً. لذلك، إذا ما نجحنا في تدارك هذا القصور، أخذنا بمناهج التفكير العقلي ووسائل العلم الحديث مثل الغرب، لن نتدارك الهزيمة ونسد الفجوة بيننا وبينهم فحسب لكن- في حكم القين- سنتفوق عليهم ذاتهم ونهزمهم في عُقر دارهم أيضاً. كيف؟ لأننا ساعتها- بعد تحقيق النهضة العلمية- سنكون متقدمين عليهم معنوياً ومادياً، في الغايات والوسائل معاً، وليس بالوسائل فقط كحالهم تجاهنا اليوم! من وقتها وكأن لسان حال الشعوب العربية يُردد على قلب رجل واحد: "إلى النهضة العلمية، معتدل مارش!"

نحن، كمسلمين، لسنا من يقرر غاياتنا من الحياة لأنفسنا بأنفسنا، لأن الله كان قد قررها لنا مرة واحدة وإلى الأبد. لكن وسائلنا لبلوغ هذه الغايات البشرية ذات المنشأ الإلهي قد تختلف وتتباين من عصر لآخر، وهو أمر طبيعي وصحي ومطلوب. نحن غاياتنا كاملة وأسمى وأرقى من مثيلاتها في أي مكان أو زمان آخر في العالم بأسره، حتى في الغرب المتقدم المعاصر، ببساطة لأنها من وضع الله وليست من وضع البشر مثلهم. وفق هذا التصور، نستطيع أن نهون علينا وطأة الهزيمة المُذلة ونواسي أنفسنا: ’صحيح، هم انتصروا علينا بعلومهم وأسلحتهم المتقدمة، لكننا نعلوا عليهم بديننا وقيمنا الإسلامية؛ إذا أخذوا منا مُتَع وملذات الدنيا الزائلة بعلمهم، سيبقى نعيم الآخرة الأبدي يحفظه لنا تمسكنا بديننا. إذا كان الأمر كذلك، أننا لسنا اللذين قررنا أو نقرر أو سنقرر غاياتنا البشرية كمسلمين بل الله نفسه هو من فعل، تتبوأ مثل هذه الغايات حتى لو كانت في جوهرها بشرية محضة مكانة مقدسة لا يأتيها الباطل، أو يجرؤ على مراجعتها ونقدها بشر. على رأس هذا القطيع الفكري وقفت وعَلَت قامة الشيخين إلى ذرى لم يبلغها، ولم يحاول تفكيكها، أي من المفكرين العرب المسلمين حتى يومنا هذا. في ديننا الذي منه غاياتنا تكمن عصمتنا التي لا مساس بها أو نقد لها البتة، لكن في وسائلنا لبلوغ هذه الغايات السامية، ومن ضمنها طريقة تفكيرنا البدائية والخرافية، تكمن هزيمتنا ومصيبتنا الراهنة. الحل، إذن، هو تصويب طريقة التفكير وصقل الوسائل بالعلم الحديث.

وفق هذه النظرة القاصرة، انطلق العالم العربي لا لأكثر من أن يُلاقي جزاؤه الأليم في نهاية الطريق. التحديث! التحديث! التحديث! تحديث ماذا؟ مناهج التفكير والعلوم التطبيقية (الوسائلية). وماذا عن الغايات؟ ما علاقة الغايات بالوسائل؟ هل يمكن تحديث الوسائل من دون تحديث سابق في الغايات؟ هل تحققت الثورة العلمية في الغرب من دون ثورة مماثلة وسابقة في القيم والأخلاق والغايات والنظرة إلى الحياة؟ هل تملك الوسائل أي قيمة في حد ذاتها، إذا لم تكن لخدمة غايات بشرية محددة؟! لم يشغل العقل العربي نفسه بأي من مثل هذه التساؤلات.

نحن نستعمل العقل ونفكر بحثاً عن الوسائل التي تمكننا من تحقيق أهداف وغايات محددة من الحياة. ماذا لو كانت هذه الغايات بحد ذاتها قاصرة وبدائية؟ ماذا لو سخرنا لخدمتها وسائل التفكير العقلي والمنتجات التقنية المتقدمة؟ صحيح أن العالم الإسلامي قبل الصدمة الحضارية مع الغرب المسيحي كان يحيا حياة متخلفة وبدائية في طريقة التفكير والوسائل التقنية مقارنة بالأوروبيين، لكن رغم ذلك كانت دنياه وتفاعلاته الحياتية اليومية أكثر إنسانية ووئاماً ولُحمةً لأنها ببساطة كانت منبثقة من ومتوائمة مع منظومة من القيم والأخلاقيات والغايات والمثل العليا المماثلة لها أيضاً في ذات خصائص التخلف والبدائية. ماذا حدث حين تم استبعاد هذه المنظومة القيمية والغائية من التحديث، الذي اقتصر على طريقة التفكير والتطبيقات العلمية والتقنية فقط؟ أولاً، عجز العالم الإسلامي عن انتاج أي منتج علمي أو تقني يُذكر، لأن الغاية هي التي تُفتش عن الوسيلة المناسبة لها وتُوجدها وليس العكس. ثانياً، تحول العالم الإسلامي إلى مستودع ضخم من واردات كل أصناف المنتجات العلمية والتقنية الغربية. النتيجة، أحدث الوسائل والابتكارات العلمية والتقنية الغربية وأشدها فتكاً لكن بين أيدي لا تزال تحكمها وتُحركها منظومة قيمية أكل عليها الدهر وشرب، لا تختلف في شيء جوهري مما قد يجده الباحث المهتم وسط مجموعات البشر البدائية التي لا تزال تحيا حياة البداوة والانعزال والانغلاق على الذات وسط غابات الأمازون أو الأحراش والبراري الأفريقية جنوب الصحراء، من بين مناطق أخرى كثيرة حول العالم. هكذا، باستخدام الوسائل الغربية الحديثة، حَوَّل العرب أسلوب حياتهم من البداوة الساذجة والبسيطة لكن العطوفة عليهم الرحيمة بهم سابقاً إلى جحيم لا يُطيقه بشر.

بتوجيه من منظومة قيمية وغائية أقل ما يقال عنها أنها مُهَلهلة وبدائية إلى حد التوحش أحياناً، استوردت الشعوب العربية العلوم والتكنولوجيا الغربية على أمل أن تحقق الحداثة والنهضة مثل غرمائها الغربيين. لكننا في الزراعة والصناعة والتجارة والتعليم وجميع المجالات، قضينا على ما كانت لدينا من بذور بدائية منها باستخدام الوسائل ذاتها التي حقق بها الأوروبيون حداثتهم ونهضتهم. وبذات الوسائل والتقنيات الغربية الحديثة، حققت حكوماتنا سيطرة وسلطة على شعوبها ما كان يحلم بها حتى هارون الرشيد أو صلاح الدين الأيوبي أو أعظم خلفاء أو أباطرة الأرض في الماضي. لكن هذه السلطة- بتوجيه من غايات بدائية شبه متوحشة- تحولت إلى تَسلط غاشم وخانق أكل الأخضر واليابس ولم يترك سوى غرباناً مُسلحة سواء في شكل نظامي في خدمة أنظمة حكم فاسدة أو ميليشياوي في خدمة مصالح خاصة لأصحابها.

والحال كذلك، أطل علينا من الكهف برأس أشعث وأغبر بتراب عُمره أكثر من ألف عام كائنٌ يُدعى ’الإسلام السياسي‘. ومن ذات البئر الغائي البدوي والمُهلهل والتافه الذي حفره الشيخان الأفغاني وعبده أخذ يشرب ويُردد: كيف سمحنا للغرب أن يسرق منا منجزاتنا؟! ألا تعرفون أن الشورى مذكورة لدينا في القرآن ومُطبقة بالفعل منذ نحو الألف ونصف الألف عام؟! كل ما هنالك أن الغرب قد سرق منا منتجنا القديم وعرف كيف ينميه ويطوره ويخلق منه ما يسميها الآن ’ديمقراطية‘. هذا مرده إلى تخاذلنا وتقاعسنا عن تأدية رسالتنا كما ينبغي. إذن، لإعادة الأمور إلى نصابها والحق إلى أصحابه، علينا أن نعمل على تعويض تقاعسنا في الماضي عبر استعارة بعض إضافاتهم الشكلية الحديثة مثل صناديق الاقتراع والانتخابات. الديمقراطية الغربية هي في جوهرها نفس الشورى التي أمرنا بها ديننا الحنيف وظل حكامنا المسلمون يمارسونها من بلاطهم مع رعاياهم طيلة قرون طويلة. إذا لم نتقاعس نحن المسلمون عن تنميتها وتطويرها بأيدينا كسائر أوجه الحياة، لكانت الشورى الإسلامية نظاماً سياسياً يحتذى به من كل دول العالم الآن بدلاً، وخيراً، من الديمقراطية الغربية التي يتشدقون بها. لكننا، للأسف، تخاذلنا وهم سبقونا وطوروا من شورتنا ديمقراطيتهم التي نحن مضطرون إلى استيرادها منهم اليوم. رغم ذلك يبقى هناك تعويض، لأنها في الأصل بضاعتنا قد رُدت إلينا باستثناء بعض الرتوش والكماليات من شاكلة ما قد طوروه من آليات ووسائل التي في النهاية سوف نُسخرها لخدمة غاياتنا الأسمى بالضرورة من غاياتهم، لأن غاياتنا ذات منشأ إلهي.

في النهاية، حين تجتمع الوسائل الحديثة مع الغايات القديمة، ستكون العاقبة كارثية وسنتحسر على الأيام الخوالي التي كنا نعدم فيها مثل هذه الوسائل وننعم بحياة البساطة والحرية البدائية. حين تجتمع غاية ’أمرهم شورى بينهم‘ القديمة مع الأدوات والآليات الديمقراطية الحديثة- مجردة من القيم والأخلاقيات والغايات الديمقراطية الحقة التي أوجدت وتستعمل هذه الأدوات والآليات كوسيلة لتحقيقها- وقتها لن نحقق أبداً التحول الديمقراطي المنشود أسوة بما قد حققته الأمم الغربية، لكننا بالتأكيد سنحقق ديمقراطية صورية مضمونها من جهنم، لا تُنتج سوى صب مزيد من السُعار على جحيم حياتنا الراهنة.



#عبد_المجيد_إسماعيل_الشهاوي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- بِكمْ تَبِيعُني إلَهَك؟
- بين الديمقراطية والبَيْعّة والشورى في الواقع العربي
- نَظْرة ذُكورية
- هل التعايش ممكناً بين الديمقراطية والدين؟
- التناقض بين الديمقراطية والدين
- كيف أضعنا غزة مجدداً
- ما هي منزلة المرأة في الإسلام؟
- محاولة لفهم الدولة
- مفهوم الدولة ما بين الإرادة والقوة
- حُلُم الدولة العربية المُجهض
- أصحاب الجلالة والسيادة والسمو
- عبادة المقاومة - حدود حق الدفاع عن النفس
- تفكيك السلطوية العربية-2
- تفكيك السلطوية العربية
- اللهُ في النفسِ الفردية والجَمْعِية
- جمهورية الجيش وحركة كفاية في يناير 25
- شرعية الحكم والأمر الواقع
- من خواص العقل العربي المعاصر- حماس عينة
- اللهُ في السياسة
- هيا بنا نَكْذب


المزيد.....




- السجن 10 سنوات لضابط سابق في CIA -تجسس لصالح الصين-
- الأردن: هل أفرزت الانتخابات التشريعية مجلسا في مستوى التحديا ...
- البيت الأبيض يتهرب من التعليق على تصريح الرئيس بوتين حول دور ...
- فانس يكشف عن خطة ترامب الخاصة بأوكرانيا
- السعودية.. صورة نادرة للأمير محمد بن سلمان داخل الفصل الدراس ...
- شركة -إكس- تغلق مكاتبها في مدينة سان فرانسيسكو
- تنظيم الدولة يتبنى هجوما داميا في وسط أفغانستان
- عاجل | يديعوت أحرونوت: حرائق كبيرة في محيط مدينة صفد وغابة ب ...
- وسط استبعاد لغياب التهديد الإيراني.. -تيودور روزفلت- تودع ال ...
- -أوبن أيه آي- تطلق نماذج ذكاء اصطناعي بقدرات -تفكير- كالبشر ...


المزيد.....

- دفاعاً عن النظرية الماركسية - الجزء الثاني / فلاح أمين الرهيمي
- .سياسة الأزمة : حوارات وتأملات في سياسات تونسية . / فريد العليبي .
- الخطاب السياسي في مسرحية "بوابةالميناء" للسيد حافظ / ليندة زهير
- لا تُعارضْ / ياسر يونس
- التجربة المغربية في بناء الحزب الثوري / عبد السلام أديب
- فكرة تدخل الدولة في السوق عند (جون رولز) و(روبرت نوزيك) (درا ... / نجم الدين فارس
- The Unseen Flames: How World War III Has Already Begun / سامي القسيمي
- تأملات في كتاب (راتب شعبو): قصة حزب العمل الشيوعي في سوريا 1 ... / نصار يحيى
- الكتاب الأول / مقاربات ورؤى / في عرين البوتقة // في مسار الت ... / عيسى بن ضيف الله حداد
- هواجس ثقافية 188 / آرام كربيت


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - عبد المجيد إسماعيل الشهاوي - من الشورى إلى ديمقراطية جهنم