قصة قصيرة : شفت منام !

محمد عبد المنعم الراوى

الحوار المتمدن-العدد: 8095 - 2024 / 9 / 9 - 17:56
المحور: الادب والفن
    

"شفت منام"
ـ يا بوى!..ـ يا بوى الله يرضى عنيك ـ أنا من ساعة ما وعيت على الدنيا دى وانت عمّال تحلم وتحكيلى فى منامات!..وكيف ما انت واعى..لا حالنا اتغيّر..ولا انت بتبطل تحلم..وأخرتها يا بوى حنفضل لحد ميته فى المرار الطافح ده!
ـ يا ولدى..صدقنى!..المنام اللى شفتهولك المرة دىّ غير كل مرة!
ادعى انت بس إن ربنا يجعله من حدك ومن نصيبك!
ـ أمرى لله!..قول يا بوى..أمّا أشوف آخرتها ايه؟!
ـ قال ايه ـ خير الله ما أجعله خير ـ لقيت نفسى صحيت من النوم وأنا مخنوق..
ينهض حسنين معترضاً..
ـ طب لمّا انت صحيت من النوم حلمت كيف؟!..يا بوى حرام عليك حتى وانت صاحى بتحلم كمان!
عبد المولى يجذب حسنين من جلبابه غاضباً ويعيده للجلوس..
ـ يا واد افهم!..صحيت من النوم فى الحلم..مش بحق وحقيقى..وبعدين معاك..ماتخلينى أكملك!
يعود حسنين للجلوس بجانب والده عبد المولى واضعاً يده على خده..
ـ كمّل يا بوى ..كمّل.. بس يا ريت تخلص قوام أحسن أنا خلاص عصافير بطنى عمتصوصو..
ـ انت ايه؟!..ما فيش وراكغير بطنك..يا واد اللى عمقلهولك دلوقت أهم بكتير من الوكل والشرب..ده اللى حيخيلك تعيش فى عز ونعيم..وبكرة حتفتكر كلامى..وتقول أبوى كان عنده حق!
ينظر حسنين بطرف عينه لأبيه ممتعضاً..
ـ اسمع كلامى يا حسنين..أحلام أبوك ما بتخيبش واصل..أنا وارث الحكاية دىّ عن جدك وأبو جدك..ويا ريت انت كمان تطلع لأبوك!
ـ هىّ عيلتنا دىّ يا بوى ما بتصحاش واصل..مقضياها على طول منامات وأحلام اكده!..
طب ما فيش مرّة حد جاله كابوس..وما قمش منيه..
ينهض عبد المولى وقد بدت على وجهه علامات الحزن والتأثر..
ـ جدك!..جدك الله يرحمه!..اليوم اللى مات فيه كان معاود من القرافة بعد ما قرا ربعين على روح عوضين شيخ البلد..ويوميها عطوله فطرتين..دسّهم فى عبّه..عشان ما حدش منينا ياخد باله..أصل الله يرحمه كان بيحب الفطير قوى..
وبعدين فرد جسمه على المصطبة اللى جار الفرن..وراح عاطينا ضهره..وطلّع فطيرة بالرّاحة..وقعد ياكل فيها لحد ما خلصها..وبعدها راح فى النوم..وهو بيتقلب على المصطبة الفطيرة التانية وقعت منيه..راح افتكر وهو بيحلم إن أمى الله يرحمها هى اللى خطفتها من عبّه..وفضلت تاكل فيها قدامه وتغيظه..وهوّ يحاول يمسكها ومش طايلها..أصله كان كفيف يا ولدى..ما بيشوفش..لحد ما خلصت عليها..قمنا الصبح لقيناه واقع على الأرض ميت وماسك الفطيرة بيده ومتبت عليها!
عبد المولى يبكى بشدة..وابنه حسنين يقترب منه ويواسيه..
ـ معلش يا بوى..تعيش وتفتكر..
ـ أنا يا ولدى مش ببكى على جدك..جدك خلاص الله يرحمه..زمانه دلوقت فى الجنة..بياكل فطير وعسل وكل اللى نفسه فيه!
ـ وه أمال بتبكى على ايه دلوقت يا بوى؟!
ـ أنا ببكى يا ولدى على الفطيرة اللى اتهرست فى التراب..وما عرفناش نخلعها منيه..لحد ما دفناها معاه..وما حدش فينا داقها..لا أنا..ولا ستك الله يرحمها!
ـ خلاص يا بوى..اللى راح راح..ما تبكيش..
تعال..تعال اقعد وكملى الحلم اللى كنت بتقول عليه..
ـ إيوه صح!
يبتسم عبد المولى وهو يمسح دموعه ويعود للجلوس بجانب حسنين..
ـ إحنا وقفنا لحد فين؟!
ـ انت كنت بتقول إنك صحيت من النوم مخنوق..وبعدين ايه اللى حصل؟!
ـ إيوه صُح..وبعدين رحت طالع على سطح البيت والدنيا كانت عتمة كحل..برفع راسى للسما اكده رحت لقيت وشك طالل علىّ كيف البدر المنور..ونجوم كتيرة قوى بتاجى من بعيد زى ما تكون كربانة اكده!..وعمّالة تحوم حواليك..وكل ما وشك يضحك هىّ كمان بتضحك وتقرب منيك أكتر..وما رضياش تهملك واصل!
ـ وده معناتو ايه يا بوى؟!
ـ معناتو إنك حتبقى حاجة كبيرة قوى..وناس كتيرة حتاجى لحد عنديك وهى مهمومة وكربانة..
قصداك انت بالخصوص..وانت الوحيد اللى حتقدر تريحهم وتزيح همهم بعد ما كانوا تعبانين ومهمومين!
ـ طب كيف بس يا بوى؟!..دا ما فيش حد تعبان ومهموم أكتر منينا!
وبعدين حتاجى منين الناس الكتيرة واحنا قاعدين لحالنا فى البلد الفقرية دىّ اللى الكلاب والقطط فيها أكتر من البنى آدمين؟!
ـ عشان اكده لازماً تدلى مصر..هناك الخير كتير ومش حتلاحق عليه..الناس هناك كيف النمل رايحين جايين وما بينموش واصل من كتر الفلوس والعز اللى عايشين فيه!
ـ معقولة دىّ؟!
ـ زى ما بقولك اكده!..اسمع الكلام وما ضيعش وقت يا حسنين!
ـ وأهملك يا بوى؟!
ـ ما لكيش صالح بىّ ..أنا أعرف أدبر حالى..يالا يا حسنين ما تضيعش وقت..
انت متعلم يا ولدى..وليك مستقبل..ومستقبلك هناك مش اهنه!
ـ يا بوى أنا اتخرجت من الأزهر..وما تعينتش لحد دلوقت..أدلى مصر أعمل ايه؟!
ـ اللى زيك يا ولدى بقيوم هناك حاجة كبيرة قوى..بشفهم فى التلفزيون وأنا قاعد على القهوة..
اللى بيفسر منامات..واللى بيطّلع عفاريت..واللى بيرقى..وأنت شاطر قوى وتقدر تعمل كل ده وأكتر!
ـ يا بوى..يعنى ترضاها لولدك..عاوزنى وأنا متخرج من الأزهر وحافظ كتاب ربنا اشتغل نصاب على آخر الزمن؟!
ـ مين قال إنك حتنصب..دا الناس همّا اللى حياجو لحد عنديك ويتحايلوا عليك كمان..
اسمع الكلام يا حسنين وحقق الحلم اللى شافهولك أبوك..
همّل يا ولدى البلد الفقرية دىّ..واطلع على وش الدنيا..
نفسى أشوفك فى التلفزيون قبل ما أموت يا حسنين!
ارتدى حسنين الزى الأزهرى الوقور..الجبة والعمة والقفطان..وغادر القرية النائية متوجهاً نحو القاهرة..استطاع أن يتواصل بعد جهد مع إدارة إحدى القنوات الفضائية المجهولة..عرض عليهم أن يقدم برنامجاً دينياً يتناول من خلاله بعض الموضوعات والقضايا الدينية..مثل الصلاة وأهميتها..الحج وشعائره..الصيام وما يبطله..القيم والفضائل والأخلاق..لكنه فوجئ برفض القائمين على القناة والاعتذار له..لأنهم قدموا مثل هذا البرنامج عشرات المرات..وفشلت جميعها عن جدارة..بل إنها أصبحت سبباً رئيساً فى أن يقرر صاحب القناة إغلاقها مع نهاية الشهر لعدم قدرته على سداد حقوق البث الفضائى..ودفع رواتب العاملين!
حينئذ تذكر حسنين حلم والده حين رآه كالبدر الذى تلتف حوله النجوم فبدأ يشك فى أنها مجرد أضغاث أحلام ورغبة من المستحيل أن تتحقق..لكنه تيقن من صدق حديث والده عمن يدّعون تفسير الأحلام..ويمارسون الرقية..وإخراج العفاريت..إنهم حقاً يملأون الفضائيات..يظهرون على الشاشات كنجوم السينما..تُفتح لهم كل أبواب الشهرة والغنى على مصراعيها..
حينئذ قرر حسنين أن يعيد حساباته واكتشاف نفسه من جديد..عاد للتواصل مع إدارة القناة عارضاً عليهم اقتراحه أن يقدم برنامجاً حول تفسير الأحلام..أصابتهم جميعاً الدهشة..أوقعوا عليه اللوم والعتاب حين أخبرهم بقدرته على ذلك..لأنهم يبحثون منذ فترة عمّن يستطيع أن يقدم برنامجاً متخصصاً فى تفسير الأحلام..فاتفقوا معه على أن يرتدى زياً آخر غير الزى الأزهرىّ..وأن يصبغ لحيته بالحناء..وأن يرتدى نظارة سوداء..وأن يصبح اسمه منذ الآن الشيخ حسنين المغربى..كما قامت إدارة القناة بتغيير ديكور الاستديو..والإعلان عن موعد البرنامج الذى أطلقوا عليه اسم:
"شفت منام"
بدأ البرنامج بالتتر الخاص به..مقدمة أغنية ليلى مراد الشهيرة..
شفت منام واحترت أنا فيه ..دلوقتى حاحكلكوا عليه..
خير إن انشالله شوفتى ايه؟!..يجعلوا خير اللى شوفتيه
دلوقتى حاحكلكوا عليه..
فى الحلقة الأولى
اتصال من سيدة تُدعى وداد تبلغ من العمر خمسة وسبعين عاماً طالما كانت تتمنى الحج وزيارة قبر الرسول صلى الله عليه وسلم..
ـ بقالى أسبوع يا سيدنا وأنا كل يوم بحلم حلم واحد ما بيتغيرش..إنى لابسة جلابية بيضة وواقفة فى مكان عالى ورافعة إيدى للسما وبدعى لأبويا ولأمى ولأولادى وأحفادى..وشايفة ناس وأطفال من بعيد ماسكين شمع وبلالين..قوم ـ اللهم اجعله خير ـ جه خروف فضل يطنطط حواليه..وقعد يجرى وأنا أجرى وراه..هو يجرى وأنا أجرى وراه..لحد ما فى الآخر مسكته قمت دبحاه وقعدت أوزع منه على الفقرا والمحتاجين..يبقى ده معناته ايه؟!
ـ بسم الله الرحمن الرحيم والصلاة والسلام على أشرف المرسلين سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين..أما بعد..
أحب أبشرك يا ست وداد وأقولك إن الجلابية البيضة والمكان العالى..يعنى حتبدأى حياة جديدة فى حياتك كلها فرح وسعادة..والناس اللى ماسكين شمع وبلالين دول بيزفوكى على الخروف..قصدى على العريس..اللى مش حيبخل عليكى بحاجة..واللى حتاخدى من جيبه وتدى للفقرا والمحتاجين..والله أعلم!
ـ معقول!..أنا مش مصدقة!..الله يبشرك بالخير يا سيدنا..
ـ الله يخليكى يا ست وداد..وألف مبروك مقدماً.
ظلت الست وداد تطلق الزغاريد..وتؤكد لأولادها الجالسين بجوارها قدرة الشيخ حسنين المغربى على تفسير الأحلام.
اتصال ثانٍ منشاب مغترب يدعى تامر تزوج منذ أربعة أشهر من امرأة لعوب.. اضطر للسفر للعمل بإحدى الدول العربية..بعد أن ضاق به الحال..
ـ أنا حلمت يا سيدنا إن فيه رجالة داخلة وخارجة عندى فى البيت..وحيطان البيت عمّالة تتشقق لحد ما البيت وقع وانهد..بالله عليك ريحنى..أحسن أنا مش جايلى نوم من ساعتها!
ثار حسنين وغضب غضباً شديداًحين سمع هذا الكلام من السيد تامروعلت نبرة صوته..
ـ يا أستاذ تامر..أنا فاهم كويس انت عاوز تقول ايه!..لكن أحب أقولك إنك غلطان وزوجتك دى إنسانة فاضلة..ولازم تشكرها..لأن الرجالة دى يعنى عمّال جبتهم علشان يهدوا البيت ويبنوه من أول وجديد..استغفر ربك يا أستاذ تامر..واعرف كويس إن بنات الناس مش لعبة..ويا ريت تسيبلى العنوان عشان أروح وأتأكد بنفسى وأطمنك!
شعر تامر بالحرج والسعادة فى نفس الوقت تاركاً العنوان للشيخ حسنين وهو يدعو له.
لم يصدق كل العاملين والقائمين على القناة قدرة حسنين على تفسير الأحلام..وكم الاتصالات والإعلانات التى بدأت تنهال على البرنامج من هنا وهناك..فألغوا العديد من البرامج..وأفسحوا المجال لبرنامجه الذى أصبح ينتظره الملايين من البشر..
لكن عبد المولى لا يزال ينتظر ظهور ابنه بفارغ الصبر..لقد أعياه الانتظار والتعب والجوع..
وهو لا يعلم أن الذى يشاهده الآن هو ابنه..إنه لم يستطع التعرف عليه بعدما تبدلت ملامحه..وصار اسمه الشيخ العلامة حسنين المغربى!
تمت

#محمد_عبد_المنعم_الراوى (هاشتاغ)      

---

اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين	حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل

كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على:

الفيسبوك

التويتر

اليوتيوب

RSS

الانستغرام

لينكدإن

تيلكرام

بنترست

تمبلر

بلوكر

فليبورد

الموبايل

كيفية إشراك-إيصال مواضيعكم أو مواضيع تهمكم  إلى اكبر عدد ممكن من القراء والقارئات