|
خرجتْ ولم تعد .. ! ( قصة قصيرة )
جلال الاسدي
(Jalal Al_asady)
الحوار المتمدن-العدد: 8095 - 2024 / 9 / 9 - 13:41
المحور:
الادب والفن
أغرتني طراوة الجو عصراً ، فخرجتُ لأروح عن نفسي قليلاً ، وما إن واجهت الشارع حتى استقبلني صبيّة الحي ، وألحوا عليّ لأشاركهم اللعب .. لِما كانوا يعرفونه عن حبي لكرة القدم ، ومهاراتي فيها .. صادف أثناء المباراة أن حصل شد بيني وبين المدعو ( هاشم ) ، وهو أمر عادي يحدث كثيراً في كرة القدم ، ولدهشتي انفجر في وجهي كما لو كان ينتظر هذه اللحظة ، وأخذ يوجه لي شتائمه ، ثم هتف بصوت أجش : — تعال تعال .. ابن القحبة .. ( وهو يستدعيني بحركة من يديه .. ) .. ثم أمسك عضوه الذكري ، وهو يتغامز ويكركر ضاحكاً حتى بانت أسنانه الصفراء ، وقام بحركة إيحائية بذيئة مستفزة .. أدير رأسي .. أرى بقية الصبية يتضاحكون ويتهامسون .. بعضهم فعل ما فعله هاشم ، بل تجرأ أحدهم وأخرج عضوه فعلاً ، وأخذ يلوّح به أمامي .. وبعقلية صبي قابلتهم بالمثل ، إلا أن صوتي الناعم وحركتي الغير متقنة جائتا باردتين أمام أصوات وحركات هاشم وجماعته الخشنة .. حدثتُ نفسي : لا شيء يأتي من فراغ ، ولا شرارة من غير نار .. من غير المعقول أن يتفوه أبله مثل هاشم بهذا الكلام الخطير من وحي دماغه الصدء ؟ لابد أنه سمع شيئاً من أهله ، أو من آخرين في الحي .. وذات يوم .. رأيت أمي تتأهب للخروج بعد أن استحمت وتعطرت وبالغت في مكياجها وارتدت أحسن ثيابها ، ومضت تسير وهي تؤرجح ردفيها بشكل ملفت من وراء العباية المشدودة على جسمها غير مبالية بأحد ، وأنا أرصدها عن بعد بحذر شديد .. حتى وصلنا الى أطراف الحي .. كانت هناك سيارة لونها سمائي تنتظرها .. ألقت بنفسها في المقعد الخلفي .. سرعان ما انطلقت بها .. عدت وأنا ارتجف من فرط الانفعال ، ودمي يغلي في عروقي .. لا أدري ماذا أفعل .. جرت العادة أن نقوم أنا وأمي بزيارة جدتي كل أسبوع ، وفي إحدى هذه الزيارات كنت ممدداً في غرفة جدتي بعد انتهاء الغداء اتهيأ لأخذ قيلولتي عندما سمعت حديثاً هامساً يدور بين أمي وجدتي .. حديثاً أطار النوم من عينيّ وغير مسار حياتي .. كم كانت دهشتي عظيمة عندما سمعت أمي في غمرة غضبها من شيء لا أعرفه بالضبط انفجرت وبدأت تشكو أبي وتتهمه بأنه ليس رجلا ، وأنه عاجز لم يستطع أن يمنحها طفلا ، وأنه ضعيف لا يفي بحاجة المرأة ، وكلاما كثيراً لا يخرج عن هذا المعنى لا داعي لذكره .. صاحت بها جدتي بصوت مكتوم حتى لا تقطع عليَّ نومتي : — اخرسي .. ظفره بعشرة مثلك .. رجل طيب لم يقصر يوماً بحقك ولا بحق ابنك .. ماذا تريدين أكثر من ذلك ، أم تريدين من يقعدك برفسة ، وينومك بصفعة ويسلبك مالك .. هذا هو الذكر في نظركن .. نساء عقولهن فارغة .. ! رغم ولعي بكرة القدم إلا أني لم أكف يوماً عن الدراسة في كل دقيقة تفيض من وقتي .. كان أساتذتي يشيدون دائما بذكائي الحاد كلما ذهب أبي الى المدرسة للسؤال عني ، ويرددون أمامه : ابنك متقدم خطوة إن لم يكن أكثر على زملائه في الصف .. ! وفي يوم ونحن جالسون على العشاء نقل أبي الى أمي ما قاله المدرسون عني على سبيل التفاخر ، وأضاف ملطفاً : — حازم طالع علي في ذكائه .. ردت عليه بصلافة : — وما دخلك في الموضوع .. ؟ سكت أبي ولم يتفوه بحرف .. انزويت في غرفتي وتمددت على فراشي دون نوم ، ثم بدأت أسترجع الامر كله بدءً من شجاري مع هاشم واتهامه أمي بأنها قحبة ، وما سمعته من حديث دار بين أمي وجدتي تتهم فيه أمي أبي بأنه ليس رجلاً ، وأنه عاجز لم يستطع منحها طفلاً ، وانتهاءً بما سمعته قبل لحظات من أمي ، وهي تقول لأبي وما دخلك في الموضوع ، وخرجتُ بسؤال مهم : من هو أبي إذاً .. ؟ من هذا الوغد الذي يسري دمه في عروقي .. ؟ مهما يكن الجواب ، فأنا في داخلي لست على استعداد لتقبل أي مخلوق آخر غير أبي الحالي .. كان والدي رجلاً طيباً هادئاً وديعاً كقط أليف ذو طبيعة ضعيفة مستسلمة .. كانت علاقته بأمي شبه مقطوعة .. كانا متباعدّين .. لم يكن بينهما أي أثر للمودة رغم أنهما يعيشان تحت سقف واحد منذ سنين .. لم يصمد السلام الهش بينهما طويلاً .. كانا ضدّين متنافرين في كل شيء .. سرعان ما بدأت نُذر العاصفة تلوح في الأفق .. نشب يوماً عراك بينهما عندما عاتبها على كثرة خروجها بدون إذنه .. لم يستطع المسكين مجاراتها .. اهتز وجهه وتضائل صوته وتشتتت نظراته .. سرعان ما أعلن استسلامه أمام لغة المجاري التي كانت تنضح من فمها ، و وابل الألفاظ السوقية المتدفقة التي قذفتها في وجهه .. سكت .. ثم تراجع .. وانسحب مهزوماً .. ! كنت أحبه لكني بدأت أكره فيه صفة الوداعة والاستسلام حد الخنوع لأمي وإرادتها .. كنت أتمنى عندما يحدث شجار بينهما من هذا النوع أن يقوم ويكسّر رأسها لا أن ينقاد لإرادتها ، ويخاف من لسانها .. لكن طبيعته المسالمة هي التي تغلب دائماً على تصرفاته .. توقفت أمي عن الخروج لمدة تقارب الأسبوع .. لم أصدق عينيّ وأنا أراها في ثياب البيت دون مكياج .. تمارس حركتها الاعتيادية .. رغم أنها بدت لي شاردة .. مشغولة البال .. هائمة في عالم آخر .. تسمرتُ في مكاني حينما لمحتها تبكي في غرفتها ، وهي المرة الأولى التي أراها تبكي .. لم يكد بصرها يقع عليّ حتى أجفلت كأن ناراً لسعتها .. سارعتْ الى مسح دموعها ، وهي تخبئ وجهها متظاهرة بترتيب السرير ، لم توبخني كعادتها على عدم طرقي الباب .. لاحظتُ أيضاً أنها كانت تحدق فيّ طويلاً كأنها تحاول أن تحفظ ملامحي .. لم أجد تفسيراً معقولاً لتصرفاتها الغريبة هذه .. ما أن انقضى الأسبوع حتى خرجت ، ولم تعد .. أختفت من حياتنا الى الأبد ، وعندها فهمت كل شيء .. وكانت فضيحة .. ! بحثنا عنها في كل مكان .. قلبنا المدينة حجراً حجراً ، وتفرسنا في الوجوه وجهاً وجهاً .. سألنا عنها .. الأهل .. الأقارب .. المستشفيات .. مراكز الشرطة وحتى السجون .. كأنها رائحة وتبخرت في الكون .. ! ربَتَ أبي على كتفي في رفق .. رفع إليّ وجهه الشاحب ، وعينيه المتعبتين .. ثم قال وهو يسحب أنفاساً ثقيلة : — ابني حازم .. إنساها مثلما نسيتك .. لم يعد لنا مكان في هذه المدينة بعد كل الذي حدث .. كيف لنا أن نرفع رؤوسنا أمام الناس بعد اليوم .. ؟ .. إن بقينا فليس لنا سوى الخزي والعار .. لقد انساقت هذه الآثمة وراء مغامرة أودت بها وبنا الى الهاوية .. باعتنا وتخلت عنا ببساطة ، وضحّت بكل شيء من أجل نزوة زائلة .. دعنا نرحل فأرض الله واسعة .. ! ورحلنا الى أرض بعيدة ، وبدأنا دورة حياة جديدة ليس فيها أمي .. وأنا الان مهندس .. لم أتزوج ولن أتزوج .. أصبحت أمي بالنسبة لي مجرد ذكرى باهتة ، أما أبي فصحته في النازل ، ولا أعتقد بأنه سيصمد طويلاً .. أخشى أن تكون أيامه قد باتت معدودة .. !! ( تمت ) تنويه : القصة بشخوصها وأحداثها من وحي الخيال .
#جلال_الاسدي (هاشتاغ)
Jalal_Al_asady#
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
الكاتب-ة لايسمح
بالتعليق على هذا
الموضوع
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
المخاض .. ! ( قصة قصيرة )
-
لعنة الموبايل .. ! ( قصة قصيرة )
-
المال حين يتكلم .. ! ( قصة قصيرة )
-
سرّي الدفين .. ! ( قصة قصيرة )
-
هَمْ البنات للممات .. ! ( قصة قصيرة )
-
راشيل .. ! ( قصة قصيرة )
-
يد القدر الثقيلة .. ! ( قصة قصيرة )
-
عامل الزمن .. ! ( قصة قصيرة )
-
لا حياة مع زوج خائن .. ! ( قصة قصيرة )
-
في حياتنا رجل .. ! ( قصة قصيرة )
-
رغبات مكبوتة .. ! ( قصة قصيرة )
-
شجاعة نسوان أيام زمان .. ! ( قصة قصيرة )
-
أنا .. وأمي الخائنة .. ! ( قصة قصيرة )
-
لعنة عناق .. ! ( قصة قصيرة )
-
نحن مسلمون .. ! ( قصة قصيرة )
-
البحث عن مكان في الحياة .. ! ( قصة قصيرة )
-
عودة الغائب .. ! ( قصة قصيرة )
-
راوية .. ! ( قصة قصيرة )
-
دردشة على عَتبة الدار .. ! ( قصة قصيرة )
-
الطلاق الصامت .. ! ( قصة قصيرة )
المزيد.....
-
مشاركة عربية في مسابقة ثقافة الشارع والرياضة الشعبية في روسي
...
-
شاهد.. -موسى كليم الله- يتألق في مهرجان فجر السينمائي الـ43
...
-
اكتشاف جديد تحت لوحة الرسام الإيطالي تيتسيان!
-
ميل غيبسون صانع الأفلام المثير للجدل يعود بـ-مخاطر الطيران-
...
-
80 ساعة من السرد المتواصل.. مهرجان الحكاية بمراكش يدخل موسوع
...
-
بعد إثارته الجدل في حفل الغرامي.. كاني ويست يكشف عن إصابته ب
...
-
مهندس تونسي يهجر التدريس الأكاديمي لإحياء صناعة البلاط الأند
...
-
كواليس -مدهشة- لأداء عبلة كامل ومحمد هنيدي بفيلم الرسوم المت
...
-
إحياء المعالم الأثرية في الموصل يعيد للمدينة -هويتها-
-
هاريسون فورد سعيد بالجزء الـ5 من فيلم -إنديانا جونز- رغم ضعف
...
المزيد.....
-
مختارات من الشعر العربي المعاصر كتاب كامل
/ كاظم حسن سعيد
-
نظرات نقدية في تجربة السيد حافظ الإبداعية 111
/ مصطفى رمضاني
-
جحيم المعتقلات في العراق كتاب كامل
/ كاظم حسن سعيد
-
رضاب سام
/ سجاد حسن عواد
-
اللغة الشعرية في رواية كابتشينو ل السيد حافظ - 110
/ وردة عطابي - إشراق عماري
-
تجربة الميج 21 الأولي لفاطمة ياسين
/ محمد دوير
-
مذكرات -آل پاتشينو- عن -العرّاب-
/ جلال نعيم
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
المزيد.....
|