|
الرواية الحديثة و اللحظات المكثفة في الزمن الرخو
ليلى العامري
الحوار المتمدن-العدد: 8093 - 2024 / 9 / 7 - 22:11
المحور:
الادب والفن
انطلقت الموجة الأولى للرواية الحديثة من فرنسا، مع إصدار (آلان روب) روايته الشهيرة )المماحي)، لتكن فاتحةً لعصرٍ جديدٍ في عالم الرواية، لأنها أحدثت خرقاً نوعياً لصالح التجديد، و كسرتْ العديد من المحرمات في بنية هذا الفن، ويمكننا اعتبارهذه الانطلاقة للرواية الجديدة ثورة، مازالت مفتوحة إلى الآن. فحين جمع (جان أيف تادييه) الرسائل التي تبادلها رواد الرواية الحديثة التي أحدثت تلك الثورة و الآفاق اللامحدودة في عالم الكتابة الروائية الفرنسية و العالمية، في حقيقة المآلات كان يعمل على رسم الملامح ولو بخطوط عريضة للرواية، ليست الفرنسية فحسب وإنما العالمية و إلى أجل. لم يقتصرالأمرعلى الموضوعات المستحدثة، بحكم تطور الزمن و معطياته، بل طال هذا التغيير بنية العمل الروائي، من حيث التقنيات الغير مسبوقة، في شكل و أسلوب تعاطي الكاتب و رؤيته الخاصة والمتفردة، إلى عناصر السرد من شخصيات، أمكنة، أزمنة، حبكة إلى ما هنالك من تفاصيل، تساهم في تمكين الإطار العام للعمل الفني، مع هذه الموجة من الكتّاب ( كلود مورياك، كلود سيمون، ناتالي ساروت) وآخرين، ترسخت المفاهيم الجديدة لهذا الفن، طبعاً نحن غالبية القراء العرب، نقرأ ما يرشح لنا عبرالترجمات، وهذا ربما يجعلنا غير قادرين على فهم الدلالات الخفية لقواعد النصوص أو للنصوص نفسها، و قد تكون الترجمات الجيدة قادره على النقل بحدود كبيرة لكن يبقى للغة الأصلية روحها الخاصة، هذا النمط من الكتابة أثار و ما يزال يثير نقاشاً طويلاً حول بنيته و طبيعة هذه البنية، و ماهيتها، و أهميتها وحتى جدواها و مصيرها من حيث قدرتها على الثبات، و استكمال قواعدها و حتى انتزاع الإعتراف بها. بعد أن تسرب هذا النمط الكتابي إلى العالم، واستهوى فئة واسعة من الكتّاب وخصوصاً الشباب منهم، المولعين بالذاتية و كتابات البوح، حتى يغدو العمل بأكمله يتمحور حول الذات، و لتقترب الأعمال الروائية كثيراً من الذاتية، بكل تأكيد، الأمر بأوربا يختلف عن ما نحن عليه من معطيات، حيث هناك ثمة تنسيق عام في بنية المجتمع، فتترافق به التيارات الفنية والفكرية، فيظهر تياراً في الفلسفة، ينبثق عنه تياراً في الرواية، و آخر في الفن التشكيلي و ثالث في السينما و المسرح، من هنا نلحظ أن هذا النمط من الكتابات لم يأت من فراغ، وليس هو حالة من حالات الكتابة العبثية، و إنما هو خطوات متتالية على طريق إرساء قواعد مدرسة أدبية، لها مبدعوها و منظروها ومن ثم نقادها، اللذين يميطون اللثام عن ما غَمِضَ منها، مشيرين إلى سيرها في دروب جديدة مفارقة و بحدود كبيرة لما سبق من قيم تحدد بنية الرواية، استفاد هؤلاء الكتّاب من التقنيات الموجودة في باقي الفنون، و قد اشتغلوا على اللغة البصرية، ليتم تحويل العديد من هذه الأعمال إلى أفلام سينمائية، رغم أن لكل فن لغته الخاصة، إلا أن الخلط وارد جداً، فالمخيلة البشرية لا تكف عن الإبتكار أبداً، من هنا تحولت بعض الروايات إلى لوحات ورسم بالكلمات، هذا التواشج مع باقي الفنون، أعلن عن تحطيم الرواية الجديدة للمحددات القديمة للرواية، و يمكن أن نقول أن الرواية الجديدة، تلاعبت أيضاً بمفهوم الشخصية التقليدية و كسرت مفهوم الحكاية، و الأهم أنها لم تلتزم بالتفسيرات المنطقية لحركة التغيرات التي تحدث داخلها لا شكلاً و لا مضموناً. هذا استدعى حضور ناقد مختلف و بأدوات و مفردات لغوية مختلفه و خاصة تتناسب مع لغة ومفاهيم العمل المعني بالدراسة، فمع كسر الحكاية (الحدوتة) فقد البطل مرتكزه فتأخذه غالباً التداعيات الحره، لتبدو الرواية وكأنها فقدت بعضاً من التنظيم لخط سيرها، و بدت مليئة بالفجوات والإنقطاعات، ناهيك عن شكلها المفتوح و الغير مكتمل، في هذه الحالة ما علينا سوى لملمة الجزئيات المتناثرة، لنجمعها في إطار عام لنفهمها، و بما أن الذكرى السنوية لوفاة الكاتبة الفرنسية (مارغريت دوراس) قد مرت قريباً فسأقف قليلاً عند روايتها (العاشق)، هذه الرواية التي حظيت باهتمام كبير من قبل النقاد، فنالت جوائز مهمة، قد لا أضيف الكثير من القيم المعرفية لهذه الرواية، ولكن الأمر يتعلق بما تمثله هذه الرواية من حالة أصيلة و نموذجية لتوجه الفن الروائي الحديث. تبدو الرواية كتجربة خاصة، مغرقة في الذاتية عاشتها الكاتبة، تتحدث بها عن سيرتها الذابلة، التي تفتقد إلى الفرح، وقد وصفت أسرتها وصفاً دقيقاً بأنها أسرة فقيرة في وسط استعماري مليء بالأجواء الخانقة، هذه الأسرة الفقيرة التي تعمل بها الأم مديرة لإحدى المدارس، هي أسرة فقيرة قياساً للأسرالإستعمارية، وليس لأسر سكان البلاد الأصليين، الأم لا تمتلك المال لشراء الملابس لأولادها، حتى بدت البطلة أكبر من عمرها لأنها ترتدي ثياب غريبة ولاتناسب عمرها. إذا علمنا أن مارغريت ولدت عام (١٩١٤) نعلم أن زمن الرواية هو زمن حياة الكاتبة (مارغريت) التي ولدت في (سايغون) لتحيا حياة معتمة وعليها هالة من السواد، في هذا الجو التمييز يطال كل شيء، يطال الأفكار المركبة عن الإستعمار ومناهضة الإستعمار، و الإستعلاء على العرق الأصفر حتى لو كان ذلك الفتى الصيني العاشق للفتاة الفرنسية استقراطياً، يكفي إنه ليس أبيضاً ليطاله التمييز، و لم يقف التمييز عند هذا الحد بل كان معششاً في أسرة الكاتبة نفسها، فالأم تنحاز إلى ابنها البكر بالوقت الذي تتعاطف الكاتبة مع الأخ الأصغر و تكن له حباً عميقاً. هذا الخط العام للرواية و إلى جانبه القصص الفرعية ما هي إلا قصص في سياقات العمل تخدم المحتوى، والتضخم النرجسي للكاتبة، والتي هي الشخصية المحورية، فأفصحت بجرأة عن ميولها الجنسية حين كانت في السكن الداخلي، كما إنها ربطت بين الجنس و المكاسب المادية، حين حاولت تقمص دور بائعة الهوى، و مع التداخل و التراكب بين عناصر الرواية، يظهر الزمن، هاجس أساسي و جزء من نسيج الرواية الشخصي، حيث تجلى ذلك حين كانت الأم تقارن بين صور أبناءها في مراحل عمرية مختلفة. وما لا يمكن تجاهله أبداً، تفوق الكاتبة بالوصف وايراد مشاهد بصرية خاصة و مهمة و ذات معنى، لاسيما لحظة اللقاء بينها و بين الفتى الصيني، حيث تحدثت عن رسم الظلال على تشققات الجدار، شيء يشبة الشعر، يشبه السحر بعباراتٍ قصيرة و رشيقة لكنها تكتنز معانٍ غاية في العمق والجمال. قصة الحب هذه كانت بطلتها تستبطن الفراق في متن النص، و هي تتابع مشهد الشاب الذي أحبها برفقة فتاة أخرى، منصاعاً إلى التقاليد، "لا امكانية لتصور مستبقل مشترك"، و حين اتصل بها متأسفاً بموت أخيها قائلاً بأنه: مازال يحبها كما قبل و سيظل حتى الموت، كان الربط المؤلم بين الحب والموت. هنا يعود الزمن مرة أخرى ليقول كلمته بأن ثمة زمن قصير و مكثف قد يترك أثره على مجمل حياتنا، قاطعاً الزمن الأخر الهلامي الممتد الذي نعيشه، هذا الزمن الذي يفقد تتابعه عند الكاتبه ما هو إلا المعنى الحقيقي للعمل بأكمله، حيث تدوّره لتعود في النهايه إلى نقطة البدء، قصة الحب العابرة التي مرت بها الكاتبة والتي تتذكر تفاصيلها بدقة بعد مرور أكثر من خمسين عاماً، هي صنيعة هذا الحب و صانعته، هذا العشق هو الذي أنضجها، و حررها من سلطة الأم، ليغدو بهذا المعنى حرية، و فعلا الحب حرية، يكفي إنه جعلها تتمرد على سلطة الأم، وتقرر السفر إلى باريس، ربما حياتنا الحقيقية هي فقط هذا الزمن المكثف لتلك القصة النافذة في امتدادات الزمن الرخو.
#ليلى_العامري (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
قراءة نقدية للرواية: الحرب تشرب الشاي في المقهى /للكاتب: منص
...
-
المشهدية و جماليات السرد الروائي في رواية: أحقاد رجل مهم.. ل
...
المزيد.....
-
شباب كوبا يحتشدون في هافانا للاحتفال بثقافة الغرب المتوحش
-
لندن تحتفي برأس السنة القمرية بعروض راقصة وموسيقية حاشدة
-
وفاة بطلة مسلسل -لعبة الحبار- Squid Game بعد معاناة مع المرض
...
-
الفلسفة في خدمة الدراما.. استلهام أسطورة سيزيف بين كامو والس
...
-
رابطة المؤلفين الأميركية تطلق مبادرة لحماية الأصالة الأدبية
...
-
توجه حكومي لإطلاق مشروع المدينة الثقافية في عكركوف التاريخية
...
-
السينما والأدب.. فضاءات العلاقة والتأثير والتلقي
-
ملك بريطانيا يتعاون مع -أمازون- لإنتاج فيلم وثائقي
-
مسقط.. برنامج المواسم الثقافية الروسية
-
الملك تشارلز يخرج عن التقاليد بفيلم وثائقي جديد ينقل رسالته
...
المزيد.....
-
مختارات من الشعر العربي المعاصر كتاب كامل
/ كاظم حسن سعيد
-
نظرات نقدية في تجربة السيد حافظ الإبداعية 111
/ مصطفى رمضاني
-
جحيم المعتقلات في العراق كتاب كامل
/ كاظم حسن سعيد
-
رضاب سام
/ سجاد حسن عواد
-
اللغة الشعرية في رواية كابتشينو ل السيد حافظ - 110
/ وردة عطابي - إشراق عماري
-
تجربة الميج 21 الأولي لفاطمة ياسين
/ محمد دوير
-
مذكرات -آل پاتشينو- عن -العرّاب-
/ جلال نعيم
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
المزيد.....
|