أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - صميم حسب الله - فرضيات الاشتغال الدراماتورجي في العرض المسرحي (خوف سائل)















المزيد.....


فرضيات الاشتغال الدراماتورجي في العرض المسرحي (خوف سائل)


صميم حسب الله
(Samem Hassaballa)


الحوار المتمدن-العدد: 8087 - 2024 / 9 / 1 - 18:13
المحور: الادب والفن
    


مدخل تأسيسي:
لم تكن فكرة الاشتغال الدراماتورجي حاضرة في بادرة تشكل التجربة المسرحية التي تأسست على وفق فرضيات السيولة التي قدمها عالم الاجتماع البولندي ( زجموند بومان)، لاسيما ما تعلق منها بطروحاته حول (الخوف السائل)، إذ جاءت البادرة الأولى في تقديم عرض مسرحي يتناول الخوف موضوعاً، وبعد رحلة في البحث والقراءة لم أتوصل إلى نص مسرحي يتوافق مع مفهوم الخوف الذي أريد تقديمه، الأمر الذي قادني إلى عقد شراكة مع المؤلف (حيدر جمعة)، بعد أن تكشف لدي الخط العام لمشروع الخوف الذي أبحث عنه والذي تبلورت أفكاره الرئيسة في عملية مقاربة بين الطروحات النظرية (للخوف السائل) والنص الدرامي (خوف سائل)، بدأت معها تجربة الكتابة التي قادها(حيدر جمعة) وعمل فيها على تشكيل نص مسرحي درامي يتضمن عددا من مفاهيم (الخوف السائل) التي كشف عنها( بومان)، وبخاصة ما يتعلق منها بالتكنولوجيا وسيطرتها على حياتنا الاجتماعية، وبعد رحلة من القراءات والملاحظات والتعديلات تم الاستقرار على مشروعنا المسرحي الجديد (خوف سائل).
بدأنا كفريق عمل مكّون من السينوغراف (على محمود السوداني) والممثلين (يحيى إبراهيم، بهاء خيون، هشام جواد) فضلا عن وجود المؤلف (حيدر جمعة) في البحث عن الممثلة التي يتأسس العرض على وجودها، لأنها تجسد شخصية الأم في هذه العائلة، ولم تكن رحلة البحث يسيرة، بل إنها باتت عسيرة في كثير من المراحل، حتى سيطر علينا اليأس وصرنا نبحث عن فرضيات جديدة تساعدنا في الإطاحة بشخصية الأم في خوفنا السائل، إلا أن ذلك لم يكن ممكناً، لاسيما وأن النص قد كتب بوصفه نصاً جاهزاً للعرض ومنسجماً مع فرضيات الإخراج المقترحة في تلك المرحلة، لتنتهي رحلة البحث بإزاحة النص عن طاولة الاشتغال والبحث عن نصوص اخرى تكون ملائمة للمرحلة التي نحاول فيها أن نقدم مسرحاً يشبه أفكارنا، ولم يكن ذلك يسيراً فالخوف السائل سيطر علينا حتى صرنا نبحث عنه في كل النصوص التي نطلع عليها، لتنتهي الحكاية بهجوم الفايروس على الحياة وإجبارنا على العزلة .. إنها (الكورونا).
الفرضية الأولى:( خوف سائل) بيوت في حالة عزلة:
لم تكن حياة ما قبل الكورونا هي ذاتها حياة ما بعدها، بالنسبة لي على الأقل، ذلك أن فكرة اقتراب الموت مني أو من الكثير من عائلتي وأصحابي وانا أترقب كل يوم خبراً عن إصابة احدهم، واللاجدوى المدمرة التي أحاطت بمشاعر الجنس البشري وهو يواجه لحظات انقراضه المستمرة، في تلك المرحلة المزمنة بما فيها من عزلة قاتمة لم يكن الهروب منها يسيرا، كنت أشعر فيها بالأسى لمن لم يكن الكتاب صديقاً له، فالعزلة مع كتاب أو فلم سينمائي أفضل بكثير من عزلة يكون فيها الخوف قاتلاً، في تلك المرحلة بدأت بإعادة قراءة نص (خوف سائل) مرات عدة وصولا إلى ضرورة التدخل الدراماتورجي في إعادة تشكيل النص بما يضع (العزلة) أساساً في فرضيته الإخراجية، لم أعمل على تغيير بنية النص الرئيسة، بل تضمينه لعديد الأفكار التي جاءت متوافقة مع تأثير (العزلة) ومحاولة التعاطي معها في تقديم عرض مسرحي لا تكون فيه (الكورونا) سحابة صيف عابرة.
تسلم فريق العرض النص بما فيه من تغييرات دراماتورجية تركت لديهم الكثير من علامات الاستفهام، فالممثلين كانوا يبحثون عن شخصياتهم التي اعجبوا بمسارها الدرامي في النص الأول ، والمؤلف وجد نفسه أمام عملية هجوم كاسحة دمرت النص الذي اشتغل عليه زمناً، وكان يعتقد أن النص لن يتغير أبد الدهر، ولكنهم جميعا كانوا يبحثون في نص ينتمي إلى زمن آخر، لم أكن قادراً على الانتماء إليه، فالصدمة التي تكشفت بعد غبار الفايروس تركت أثرها في جسدي وروحي؛ مراقبة المدينة وهي تتغير، ومتابعة الناس وسلوكياتهم التي إكتسبت العديد من المتغيرات التي صرت ملزماً بالتواصل معها بوصفها واقعاً جديداً، كلها صارت من الضرورات التي تدفع بإتجاه تقديم عرض مسرحي ينتمي إلى حقبة الصدمة وما بعدها.
بدأت إعتراضات المؤلف على التغييرات التي وجدها جوهرية في النص، وكنت مستعداً لتقديم الإجابات، لأن الفكرة عندي لم تكن أبداً تنتمي لتغييب دور المؤلف أو الإطاحة به، فأنا أنتمي للمشروع ولا شيء سواه، لذلك كانت أجاباتي حاضرة، بضرورة تغيير حالة النص وإزاحة كل ما فيه من خشونة في الملفوظ الذي تأسس على وفقه نوع محدد من الأداء (العنيف) الذي عرف عن تجاربي السابقة، والانتقال بالعرض إلى مرحلة الأداء النفسي والتعبير الحركي، بوصفهما بديلاً ممسرحاً عن حالة التكرار في اللغة الملفوظة، بالتأكيد لم يكن المؤلف على قناعة بما أود أن أفعل، لاسيما أنه كان شريكاً في التمثيل أيضاً، وقد طال التغيير الشخصية التي كان من المفترض أن يجسدها، وكان له الحق في التعبير عن رأيه بما يراه مناسباً له، ولي الحق في المشروع الذي أسعى لتقديمه.
وبالعودة إلى إختيار الممثلة التي جسدت شخصية الأم فقد تحول الاختيار بعد تغيير مسار النص دراماتورجياً إلى إختيار ممثلة بمواصفات تنتمي لحالة الحدث (العزلة) لذلك جاء إختيار الممثلة (رضاب أحمد) بما إمتلكت من قدرات مهارية وجسدية تقترب من التصور الدراماتورجي المعبر عن حالة الشخصية في زمن العزلة.
وقد تم إختيار الممثل (احمد المختار) لتجسيد شخصية (الغريب)، بذلك صار فريق العرض مكتملاً بحضور السينوغراف (علي محمود السوداني) والممثلين (يحيى إبراهيم – الأب) (رضاب أحمد- الأم)، (بهاء خيون- الأخ الاعمى)، (هشام جواد- الأخ الأكبر العنيف)، (احمد المختار – الغريب الذي اقتحم العزلة)، وانضم للفريق (احمد سلمان – لتصميم المؤثرات السمعية والبصرية)، لتبدأ بروفات العرض المسرحي (خوف سائل).
لم يكن إختيار (العزلة) الذي بدا حاضراً في الفرضية الدراماتورجية أحادي المعنى، على الرغم من أنه بدا كذلك في مدونة النص، ذلك أن التصور الدراماتورجي كشف في البروفات عن مستويات مختلفة للعزلة بدا فيها أن العائلة عاشت أزمنة متعددة في رحلتها مع (العزلة) وإن تغيرت أسبابها، وعلى نحو محدد فإن العرض في واحد من مستوياته يقف أمام عائلة عاشت العزلة في ظل حقبة الاقتتال الطائفي، من اجل أن يحافظ الأب على عائلته، إلا ان تلك العزلة لم تساعده في إنقاذ (ابنته) من الخطف، (شخصية الأبنة التي جاء التعبير عنها في العرض من دون أن تظهر للجمهور من أجل التعبير عن حالة عامة في ذلك الزمن وأقصد به عمليات الخطف والقتل بسبب الانتماء الطائفي)، أما المستوى الثاني للعزلة في العرض فإنه ينتمي إلى الحقبة التي سيطر فيها التنظيم الإرهابي(داعش) على بعض المدن العراقية، ودفع العائلة إلى إختيار العزلة وقد تشكل ذلك بمساعدة السينوغراف (علي محمود السوداني) الذي تحول البيت مع رؤيته السينوغرافية إلى مساحة خاوية من مفردات البيت التقليدية، وتم تحويل قطع الأثاث إلى مصدات لغلق الأبواب والشبابيك، فيظهر لنا التلفزيون مثلا في أحد شبابيك البيت، في صورة بدت فيها خشونة العزلة واضحة، وفي إحالة أخرى إلى زمن العزلة، الذي إكتسب فيه حالة شملت العائلة المرتحلة عبر الزمن للإشارة إلى أنها عائلة تعيش وتنتمي إلى تلك المدن المحتلة من قبل الإرهاب، وللتعبير عن ذلك يقتحم الغريب فضاء البيت طلباً للصلاة بلغة إشارية مبهمة، في للتعبير عن عدم وجود لغة للتخاطب بين العائلة ومن يحتل المدينة، إذ تعود لغة الحوار اللفظي بين الزوج والزوجة وهو يقول لها مدافعا عن نفسه ( لم أفتح الباب .. أراد أن يصلي وهو واحد منهم.. ماذا أفعل؟).
اما المستوى الثالث في التعبير عن (العزلة) فقد إرتبط بزمن (الكورونا)، والذي تمثل في المشهد الأول الذي جاء التعبير فيه عن حالة (الجد) الذي تم عزله في غرفة خاصة كما هو حال المرضى المصابين بالفايروس، وهو (شخصية يشار إلى موتها من دون أن تظهر للجمهور) إلا ان العائلة كانت قد بدت في حالة ترقب وحزن لموته بسبب (الكورونا) وللدلالة على ذلك فإن العائلة اتشحت بالسواد تحضيراً لموته المرتقب.
لم يكن إختيار (منتدى المسرح) وهو (بيت بغدادي قديم) ليكون فضاءً للعرض محض صدفة أو فرض، بل كان إختياراً جمالياً للتعبير عن حالة الخوف التي تعيشها العائلة وتنتقل على نحو مباشر إلى الجمهور، بالشراكة مع أداء الممثلين الذي جاء منسجماً مع مفهومنا كفريق مسرحي لطبيعة الإيقاع الذي نريد أن نقدمه في عرض مسرحي.
فضلا عن ذلك فإن تحويل المكان (معمار المنتدى) إلى بيت موحش، أبوابه مغلقة وشبابيكه موصده بأثاث منزلي تخترقه حزم الضوء التي تستدل فيها العائلة على الليل والنهار، دفعت بالعائلة التي سيطرت عليها العزلة بمستوياتها الثلاث التي سبق ذكرها إلى أن تتخذ من أحد غرف البيت لتكون مقبرة لتأمين جثث الموتى داخل البيت لعدم قدرتهم على الخروج لأداء مراسيم الدفن في المقابر العامة، الأمر الذي صارت العائلة تمارسه على نحو مستمر حتى تبين أن القبور قد تزاحمت داخل الغرفة وخرج بعضها إلى الخارج وصولا إلى فضاء العرض (باحة البيت)، وصارت العائلة غير قادرة على إحصاء أعداد الموتى الذين تحولوا إلى قطع من القماش الأسود الذي تناثر على شباك المقبرة، للدلالة على حالة زمن العزلة المستمر وللتعبير عن ما تبقى من عائلة بدت كبيرة بحسب ما صورته لنا لوحة القطع السوداء على شباك المقبرة المعتم.
لم يقتصر الاشتغال الدراماتورجي على معالجة النص الدرامي، بل إتسع وصولاً إلى إعادة توصيف الشخصيات للممثلين والعمل معهم على تغيير نظم التعبير التي تغيرت بحسب سلوك كل ممثل وعلاقته بالشخصية التي يؤدها، فشخصية الأب التي جسدها الممثل (يحيى إبراهيم) إكتسبت بعدا أدائيا مغايراً لما هو مثبت في المدونة النصية، ذلك أن الاشتغال الأدائي ارتبط على نحو أساس بشخصية الأم التي جسدتها الممثلة (رضاب أحمد)، لما في علاقتهما من مضامين مضمرة تتكشف في لحظات الانفعال أهمها أنهما ينتميان إلى طائفتين مختلفتين دينياً، وفي ذلك إحالة واضحة إلى حالة الرفض للصراع الطائفي الذي فرض الخوف على العائلة ، إلا ان حضور المخيف بشخصية (الغريب) التي جسدها الممثل (احمد المختار) أعاد إلى الأب والأم ذاكرة الاختلاف الطائفي الذي طفى على السطح بعد أن كان مدفوناً في الذاكرة، ليتحول الأداء من الخوف من الآخر الغريب إلى الخوف من الآخر (الأم / الأب) القريب، في لحظة إستعادية لتأريخ من الخوف الذي تسرب إلى الأبناء من دون قصد واضح فصار الأبن الأكبر الذي جسد شخصيته الممثل(هشام جواد) يتصارع مع أخيه الأصغر/الاعمى الذي جسد شخصيته الممثل (بهاء خيون) من اجل إكتساب قوة الأب وحضوره والابتعاد عن عاطفة الام التي صار يشير إليها بتعبير (أمك) وكأنما هي ليست (أمه) أيضا، هو تعبير مضمر عن انقسام العائلة طائفياً بحثاً عن القوة والخلاص من الخوف، إلا أن جهلهم بالغريب الذي لم يكشف لهم عن الطائفة التي ينتمي إليها، أعاد إليهم إحساس الانتماء إلى العائلة، وصار الأخ الأكبر يقدم اعتذاره إلى أمه بعد أن تسبب بفضحها، عبر الفضاء التكنولوجي الذي اخترق فضاء العائلة الاجتماعي وصار ظهور الأم يشكل فضيحة تستحق أن تموت لفعل صوره لهم الغريب بأصوات وصور كشفت لهم حقيقة أطماعه بـ (البيت/الوطن)، و(الام/ الشرف).. وهي ثنائية مقدسة لا يمكن للعائلة التخلي عنها حتى لو وصل الأمر إلى نهائية حياتهم وهو ما حصل بالفعل في المشهد الأخير.
من جهة أخرى فقد تشكلت حالة من العداء بين الأخ الكبير والأخ الأصغر /الأعمى، بمرجعيات إجتماعية تنتمي لمفهوم التربية الذي يعود إلى اهتمام الأب والأم بأكثر الأبناء حاجة إلى الرعاية وهو هنا الأبن العاجز/الاعمى، من دون ان يدركوا حجم أهمالهم للأبن الأكبر الذي بدأ يضجر من هذه الرعاية التي أجبرته على الارتباط بأخيه بسلاسل صار يراها مقيدة لحريته، وصولا إلى لحظات الانفجار الأدائي التي جسدها الممثلان للتعبير عن ظاهرة اجتماعية تتسبب في إنتاج قطيعة مستقبلية لا تختلف كثيراً عن تلك التي تنتجها القطيعة الطائفية؛ من جهته فإن الاخ الأصغر /الاعمى، الذي تبنى سلوك الشخصية على نحو مؤثر ودال على حالة تمثل (عزلة خاصة) سببها العمى داخل العزلة العامة بمستوياتها آنفة الذكر، إلا انه لم يركن للظلمة التي اجتاحت عينيه، بل استعان بدلا عنها بصوت الأنين الذي ينادي به باحثاً عن شكل للحياة الميتة في بيت العزلة، الامر الذي جعلنا نرفض توظيف المؤثرات الصوتية او الموسيقى، وصار العرض يعتمد على ثنائية الصوت الذي يصرخ به الأخ /الاعمى وصمت طويل يثير الخوف في عزلة قاتمة.
الفرضية الثانية (خوف سائل) بيوت صارت حطاماً:
لم تكن فكرة تغيير مكان العرض محض صدفة أو ظرف طارئ، بل هي جزء من فرضية الاشتغال على العرض الذي تأسس في منتدى المسرح، وكان فريق العرض على دراية تامة بأن الهدف هو التحول في مرحلة لاحقة إلى تقديم العرض على خشبة مسرح تقليدي، بصورة مغايرة عن فرضيات الفضاء التي توافرت في منتدى المسرح؛ وهذا ما تم بالفعل بعد أن أتيحت لنا فرصة المشاركة في مهرجان بغداد الدولي للمسرح، وكان طلبنا الوحيد هو تقديم العرض على خشبة مسرح الرشيد، أما الهدف من ذلك فهو محاولة تقديم العرض بتصور مختلف عن التصور الذي قدم فيه في منتدى المسرح، بالرغم من أدراكنا وفريق العرض ان هذه التجربة ستدفع بالعرض إلى مخاطرة كبيرة مفادها المقارنة بين عرض المنتدى والعرض على خشبة مسرح الرشيد، وإن هذه المقارنة يمكن أن تذهب بإتجاه المفاضلة بين العرضين، وهذا مالم نكن نسعى إليه كفريق عرض، بل إن هدفنا الوحيد كان محاولة إنتاج تصور جديد من زاوية نظر مختلفة عن تلك التي أنتجت في مكان مغاير.
فإذا كان العرض في منتدى المسرح قد كشف عن حجم العزلة التي تعيشها العائلة في مستويات وأزمنة مختلفة، فإن شكل العزلة في عرض مسرح الرشيد بدا مغايراً ، إذ وضع السينوغراف(على محمود السوداني) تصوراته للبيت الذي تحول إلى حطام بعد سنوات من الإقتتال الطائفي والابواب التي لم تعد تحمي العائلة عن مخاوفها، فقد تحطمت الأبواب وتسلل إليها الخوف السائل من الثقوب التي تكونت بفعل إطلاقات المتحاربين، أو بفعل أبواب تبدو للوهلة الأولى حصينة إلا أنها محطمة يمكن السيولة عبورها من دون أن يمتلك الأب القدرة على منعها وحماية عائلته، او في شكل باب تحول إلى مقبرة خشنة التعبير، كل هذا الحطام يعود إلى عائلة أرادت أن تحمي نفسها من الخوف الذي يصدره المتقاتلين، على الرغم من ان الحرب قد انتهت منذ زمن إلا ان العائلة لم تزل تعيش لحظة الخوف تلك في حطام ظل شاخصاً امام أفرادها، وخسارات لا تنتهي، سواء أكان ذلك بفقد الأبنة واختطافها او بهجوم التكنولوجيا واجتياحها للبيت /الحطام.
لم تختلف فرضيات الأداء في هذا العرض لان الظروف لم تكن مناسبة لإجراء تغييرات تنسجم مع مقترحات الشكل (الحطام)، لاسيما أن ظروف العرض ضمن المهرجان لم تكن منسجمة مع مفهومنا كفريق عمل للتجريب على مكان بديل، وهذا ما ثبت لدينا بضرورة ان تأخذ التجربة في المستقبل حقها من التمرين قبل التحول إلى مكان مختلف في منظومته البصرية أو في علاقته بالمتلقي التي هي علاقة مغايرة تماماً عن تلك التي تأسست في منتدى المسرح وأحدثت تأثيراً واضحاً وحضوراً مباشراً.
الفرضية الثالثة (خوف سائل) بيوت مسبّية:
كانت فكرة تقديم العرض في فضاء مغاير كما حصل في مسرح الرشيد، قد أفادتنا كفريق مسرحي على نحو كبير لكي نستمر في البحث والنبش عن تصورات تفيد في إنتاج فرضية مختلفة عن سابقاتها، وهو الأمر الذي باشرنا بالعمل عليه بعد أن وصلتنا دعوة لتقديم العرض في مهرجان المسرح الدولي في مدينة(سانت بطرسبرغ /روسيا)، وعلى الرغم من أهمية المشاركة إلا أننا كفريق مسرحي كنا نبحث عن فرصة لتقديم العرض بتصور جديد، لذلك بدأت رحلة الحفر الدراماتورجي التي شاركني فيها على نحو خاص السينوغراف(علي محمود السوداني) في تحليل العرض السابق، وفي مرحلة تأسس الشكل وأليات الاشتغال عليه كان السؤال الأبرز بيننا هل نبحث عن ديكور مسرحي ثابت يعبر عن حالة الحدث الذي وقع في زمن ما؟ ام أن الديكور يجب أن يتسم بالحركة الدالة على استمرارية حالة الخوف، وهل ثمة ضرورة لإعادة تشكيل الخوف بصورته الخشنة كما هو الحال في الفرضيات السابقة؟، من هنا إنفتحت أمامنا بوابات التفكير، فالعائلة أغلقت أبوابها في عزلة الفرضية الأولى، وتحطمت وانتهكت أبوابها لكنها ظلت شاخصة في الفرضية الثانية، لذلك أردنا أن تنزع الأبواب عن فضاء البيت/العائلة ليكون الانتهاك في هذه الفرضية أشبه بحالة السبي الذي تعرضت له نساء المدن المحتلة، وإن كان التعبير هنا في حالة مجازية فالمرأة في العائلة تتعرض للسبي على نحو يسبب لها فضيحة يكون بطلها غريب (يريد الصلاة) لتكتشف العائلة أنه محتل يطمع بالبيت/الوطن- والمرأة/الشرف، لذلك فإن تعرية البيت من أبوابه شكلت تصوراً جمالياً ومضموناً أزاح التصورات السابقة من أجل الانتقال إلى إنتاج فرضية العرض الثالثة (بيوت مسبية)، ومن اجل أن لا يكون الالتباس حاضراً في بنية هذا التصور، اخترنا ان يكون انهيار الباب الأخير هو لحظة البدء بتحول البيت إلى صورة مجازية للسبي، فللبيوت أبواب تحفظ ساكنيها، فكيف إذا أنتزعت هذه الأبواب وتحولت إلى قطعة حطام يسعى الأب إلى أن يصد بها الخوف عن العائلة، لتتحول قطعة الحطام تلك إلى بطل جديد يضاف إلى أبطال العرض من الممثلين، فطريقة تعامل أفراد العائلة معها كان للتأكد على أهميتها في تشكيل حالات العزلة التي تأسس عليها العرض في فرضيته الأولى، ولكنها هنا تختزل المساحة (فضاء العرض) لتكون العائلة ساكنة خلف حطام الباب تترقب المخيف القادم إليها من بوابات لم تعد قادرة على حفظ أمانها.
وبعد ان تشكل لدينا فضاء العرض بفرضيته بدأنا السينوغراف وانا التحضير مع الفريق الذي كان يترقب بشغف لحظة البدء بالتعرف على المقترح الدراماتورجي الجديد الذي تغيرت معه منظومة الأداء على نحو جوهري، إذ قام السينوغراف ببناء شكل تقريبي للديكور الذي يفترض أن يكون حاضراً في العرض، وفي البروفة الأولى بدأ الممثلون يتحسسون علاقاتهم مع الفضاء الجديد، وبدأ الممثل (يحيى إبراهيم) يتحسس علاقته بالمفردة الجديدة (حطام الباب) في فضاء العرض من جهة، مع منظومته الادائية من جهة أخرى، فهي علاقة جديدة عليه في منظومة الأداء؛ بدأت التساؤلات تنطلق من الممثلين كل بحسب منظومته الادائية، وبدأت البروفة تأخذ أحساس العرض البكر الجديد، ذلك أن حساسية الممثل بدأت بالقلق وعندما يقلق الممثل في البروفة فإن الأداء سيتطور، كنت متوجساً بعض الشيء من ان لا يتقبل الممثلين المغامرة الجديدة، لكنهم كانوا يضفون الحماس على البروفة يوماً بعد آخر على الرغم من حرارة الطقس في فضاء العرض.
بدأت العلاقات الادائية تتطور بين الممثلين والفضاء والبطل الجديد (حطام الباب) وبدأت معها إبتكارات التمثيل وخلق التكوينات ومعالجة المشاهد وكأنها لحظات من بروفات جديدة، فالأفكار تدفع بالممثل إلى الاقتراح وتدفعني إلى تطوير العلاقات، وصولاً إلى أن جميع الممثلين خرجوا بعرض جديد على مستوى الأداء، ولم يقتصر التغيير الادائي على العائلة التي تعيش حالة خوف مزمن، بل صار لزاماً علينا خلق معادل ادائي للمخيف(الغريب) عن طريق تغيير شكل الممثل، وحركته في الفضاء المجاور الذي يزيد من شعور العائلة بالخوف، فضلا عن ذلك فإن تحول الشكل في فضاء العرض فرض علينا إعادة تصميم الصورة التي تتكشف في مشاهد(الداتاشو) التي أخذت معنى أكثر عمقاً ووضوحاً مما كانت عليه في الفرضيات السابقة، وعلى المستوى السمعي فقد شكلت مقطوعات الموسيقار العراقي (امين مقداد) حضوراً فاعلاً في مواضع مهمة من العرض، وبذلك إكتملت فرضيات التصور الدراماتورجي لخوفنا السائل على خشبة مسرح البولشوي في سانت بطرسبرغ/ روسيا.



#صميم_حسب_الله (هاشتاغ)       Samem_Hassaballa#          



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- التجريب لم يـــكن اخـــــــتيارا..!
- العرض المسرحي ( GPS) تقانة الإخراج في مسرح الممثل
- مسرحية(خلاف) المهيمن السردي في فرضيات المخرج المؤلف
- -حرب العشر دقائق- التباس المضامين في الازمنة
- فرانكفونية الخطاب في مسرحية (YES GODOT)
- مسرح الكارثة .. أو ما بعدها؟
- مسرحية -حنين حار-: ذاكرة حاضرة ومستقبل ملتبس ؟
- نبوءة الدم.. وخرافة اليقين في مسرحية (مكبث)
- مسرحية (فُلانة): الهيمنة الذكورية في منتدى المسرح
- تقاسيم -جواد الاسدي- في منتدى المسرح ( قراءة من داخل التجربة ...
- ثنائية (الوعي – العزلة) في تجربة المخرج المسرحي فاضل خليل
- الخطاب المعرفي في المسرح إنتاج أم إستهلاك؟
- مسرحية ( رائحة حرب) الهيمنة التقنية وجماليات الإطاحة بالرؤية ...
- -سينما- الفضاء الميت !
- -وقت ضايع- في رحلة البحث عن المدهش البصري!
- حوار مع المخرج المسرحي : د.جواد الأسدي البروفة مع الممثلات ا ...
- -حلم الغفيلة - لم ينضج بعد !
- مسرحية - سرداب- الزمن ذاكرة المستقبل
- مسرحية -يا رب- : المقدس بين سلطة الدين وسلطة العقل !
- مسرحية -مكاشفات- : تمثلات السلطة بين دراماتورجيا النص .. وسي ...


المزيد.....




- استقبل حالا تردد قناة بوكس موفيز الجديد 2024 واستمتع بأفضل أ ...
- انهار على المسرح.. وفاة مغني الراب الأمريكي فاتمان سكوب
- لمحبي أفلام الكرتون..ضبط تردد قناة mbc3 الفضائية لمتابعة أرو ...
- نزلها الآن وشاهد أحدث الأفلام الحصرية “تردد قناة روتانا سينم ...
- وزير التعليم المصري يطمئن أساتذة اللغة الفرنسية
- “ابنك هيزقطط من الفرحة لما تنزلهاله” .. تردد قناة بطوط 2024 ...
- استقبلها الآن تردد قناة نتورك بالعربية CN وخلي ولادك يستمتعو ...
- نزلها الآن وشاهد أحدث الأفلام الحصرية “تردد قناة روتانا سينم ...
- “ابنك هيزقطط من الفرحة لما تنزلهاله” .. تردد قناة بطوط 2024 ...
- استقبلها الآن تردد قناة نتورك بالعربية CN وخلي ولادك يستمتعو ...


المزيد.....

- البنية الدراميــة في مســرح الطفل مسرحية الأميرة حب الرمان ... / زوليخة بساعد - هاجر عبدي
- التحليل السردي في رواية " شط الإسكندرية يا شط الهوى / نسرين بوشناقة - آمنة خناش
- تعال معي نطور فن الكره رواية كاملة / كاظم حسن سعيد
- خصوصية الكتابة الروائية لدى السيد حافظ مسافرون بلا هوي ... / أمينة بوسيف - سعاد بن حميدة
- آليات التجريب في رواية "لو لم أعشقها" عند السيد حافظ / الربيع سعدون - حسان بن الصيد
- رنين المعول رؤى نقدية لافاق متنوعة ج1 كتاب كامل / كاظم حسن سعيد
- القناع في مسرحيتي الإعصار وكلكامش لطلال حسن -مقاربة في المكو ... / طلال حسن عبد الرحمن
- في شعاب المصهرات شعر كتاب كامل / كاظم حسن سعيد
- (مجوهرات روحية ) قصائد كتاب كامل / كاظم حسن سعيد
- كتاب نظرة للامام مذكرات ج1 / كاظم حسن سعيد


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - صميم حسب الله - فرضيات الاشتغال الدراماتورجي في العرض المسرحي (خوف سائل)