من الثقب الأسود إلى التمكين المتبادل

ندى أسامة ملكاني

الحوار المتمدن-العدد: 8086 - 2024 / 8 / 31 - 22:12
المحور: مواضيع وابحاث سياسية
    

بالرغم من أنه أحيانا كثيرا نجد تنويعات متعددة في تاريخ الفكر السياسي والتحليل للظاهرة السياسية إلا أن جميع التفسيرات تتفق على اعتبار أن الدولة تمتلك السلطة العليا في المجتمع. فمن المدينة الفاضلة إلى اللوفياثان نجد أن الدولة صاحبة السلطان بغض النظر عن كيفية تحليلها.
حتى أواخر الخمسينيات ساد اتجاه يتحدث عن الدولنة وهو يعد امتدادا للمنظور الفلسفي السياسي التقليدي الذي يرى بأولوية دراسة الدولة وأنها مصدر كل السلطات الأخرى في المجتمع. أي أن الدولة بموجب هذا المنظور محور ومحرك العملية السياسية برمتها. إلا أنه في نهاية الخمسينات برزت الحاجة إلى تحليل دور الفواعل الاجتماعية الأخرى في الدولة والتأكيد على أن الدولة ليست أو لا يجب أن تكون وحدة التحليل الوحيدة وإن كانت أساسية وجوهرية. ونشأ في الثمانينيات من القرن العشرين اتجاه جديد مثله جول مجدال وأهم كتبه (الدولة في المجتمع)، ويتحدث مجدال عن أهمية تحليل العلاقة بين الدولة والمجتمع والتعرف إلى الكيفية التي استطاعت بها الدولة أن تؤسس لسلطة سياسية قوية. فضلا عن ذلك رأى أن دراسة ديناميات العلاقة بين الدولة والفواعل الاجتماعية يشير إلى أن قوة الدولة تتوقف على مدى قدرتها على إدارة التنويعات والتقسيمات الاجتماعية. وقد حلل مجدال قوة الدولة من خلال مفهوم الضبط الاجتماعي ورأى أن الدولة تسعى لفرض هيمنتها على المجتمع من خلال هذه الإدارة وبالتالي تتعزز سيطرتها عليه.
لم يعن المجتمع القوي في التجربة الغربية الحديثة عبر مسار تطور فكرة الديمقراطية دولة ضعيفة، كما لم تكن الدولة القوية هي مؤشر لتغول المجتمع. اتسمت العلاقة بين المجتمع والدولة بالتوازن. بمعنى آخر، مثل الحكم فيها علاقة تفاعل سوية بين المجتمع والدولة. كما أن الذي منع تغول السلطة الحديثة هو قوة وتماسك المجتمع. بل عنى المجتمع القوي دولة قوية والدولة القوية مجتمعا قويا. فالمؤسسات القوية كانت انعكاسا لقوى المجتمع الذي تجاوز في سعيه لبناء الدولة الوطنية البنى العضوية أي أن الدولة كانت تتويجا لجهود المجتمع في تنظيم مقدراته وتوجيهها نحو مبادئ وقيم الديمقراطية.
في المقابل، إن المجتمع التي تعبر بناه عن الانتماءات الأولية كالقبيلة والعشيرة والطائفة هو مجتمع غير قادر على أن يكون محركا لبناء دولة حديثة تعكس مؤسساتها حالة توازن صحية بين المجتمع والدولة. في التجربة العربية، أثبت مسار المتغيرات الحاصلة منذ عام 2011 أن القضية ليست مسألة تغيير أنظمة سياسية بل تجاوز الولاءات الأولية وبناء دولة حديثة قوية تجسد حالة توازن مع المجتمع دون تغول أحدهما على الآخر، لأن حالة التغول تحمل معها سفك الدماء والإلغاء والإقصاء.
نلاحظ أن عملية الضبط الاجتماعي شهدت خللا فصعود البنى التقليدية عمقت التشرذم الاجتماعي وخلقت حالة من التخبط مما أدى إلى إضعاف أكبر في مؤسسات الدولة بالمعنى الفيبري أي احتكار الدولة وحدها حق استعمال العنف المنظم، فصعدت قوى أخرى حملت سلاحا في وجه الدولة وفي وجه مكونات مجتمعية أخرى مختلفة عنها.
من جهة الدولة عاجزة عن كسب ثقة وتأييد المجتمع، والمجتمع من جهة أخرى في حالة انعدام ثقته بالدولة ولاسيما مع تراجع مؤشرات العدالة باستمرار، واستشراء الفساد في المؤسسات، وصورية الديمقراطية في الخطابات السياسية. وكنتيجة لذلك استطاعت الدولة أن تكتسح بعنصر سلطتها السياسية مفاصل المجتمع وتحدث شللا فيه، وعندما نهض المجتمع كان في مواجهة الدولة كان نهوضه مرهونا بصعود البنى العضوية التي حملت معها الفوضى وتعثر السعي لبناء دولة تعبر عن مصالح المجتمع القوي المتماسك.
"الثقب الأسود" هذا ما ذهب إلى الإشارة إليه تقرير التنمية الإنسانية العربية لعام 2004، في الإشارة إلى إشكالية مركزية الدولة العربية الحديثة وصعوبة تمكنها من بناء علاقة متوازنة مع ما يحيط بها من هيئات ومؤسسات. حيث يسترشد التقرير بالظاهرة الفلكية المعروفة لنجوم منطفئة تتكور على نفسها وتتحول الى حقل جاذبية جبار لا يستطيع حتى الضوء أن يفلت من إساره. فالدولة العربية الحديثة تقترب من هذا النموذج، حيث يشكل الجهاز التنفيذي "ثقباً أسود" يحول المجال الاجتماعي المحيط به الى ساحة لا يتحرك فيها شيء ولا يفلت من إسارها شيء. وعلى غرار الثقب الفلكي الأسود، فإن هذا الجهاز بدوره يتكور على نفسه ويضيق حتى يصبح في حجم رأس الإبرة.
استنادا لمقولة الثقب الأسود تصبح الدولة بجهازها التنفيذي هي ثقل الفعل وتبتلع الفضاء الاجتماعي وتجرده من إمكانية التأثير أي تهميشه. فالذي حدث أنه في عام 2011 لم يستطع الفضاء الاجتماعي أن يتخلص من قوة جذب جبارة لقوة وطول وتعقد ظاهرة الجذب تاريخيا وبنيويا.
والبديل للثقب الأسود هو التمكين المتبادل أي بناء علاقة بين الدولة والمجتمع تقوم على التعاون والتشارك وليس بالضرورة على الصراع، ويضمن هذا المفهوم التغلب على منظور تغول وهيمنة الدولة. فإذا كانت الدولة يجب أن تحتكر وحدها حق الاستخدام الشرعي للقوة فإن تعاونها مع بقية المكونات الاجتماعية في مجالات الإصلاح والتنمية يضمن بناء عقد اجتماعي جديد يجدد الثقة المتبادلة بينهما بل يبنيها.

#ندى_أسامة_ملكاني (هاشتاغ)      

---

اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل	حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين

كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على:

الفيسبوك

التويتر

اليوتيوب

RSS

الانستغرام

لينكدإن

تيلكرام

بنترست

تمبلر

بلوكر

فليبورد

الموبايل

كيفية إشراك-إيصال مواضيعكم أو مواضيع تهمكم  إلى اكبر عدد ممكن من القراء والقارئات