|
وقفة مع دوغين -عقل بوتين-
محمد ناجي
(Muhammed Naji)
الحوار المتمدن-العدد: 8080 - 2024 / 8 / 25 - 18:21
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
ترجمة/ محمد ناجي
الإيديولوجي الروسي اللامع الكسندر دوغين ، هو أحد الشخصيات المفضلة في الجهود الرامية إلى فهم السياسة الخارجية الأخيرة لموسكو ، وهو الذي قال مؤخراً إن حلفاء روسيا الحقيقيين الوحيدين هم الدول المنبوذة إيران وكوريا الشمالية وبيلاروسيا . بلحية طويلة وصوت رنان وشخصية منفتحة ، يعد دوغين متحدثاً جذاباً ، يتناسب بسهولة مع الشكل النموذجي للفيلسوف الروسي . يمكن أن يكون أشياء مختلفة لجمهوره المتنوع - دوستويفسكي حديث ، أو تروتسكي يميني ، أو راهب أرثوذكسي ، أو راسبوتين ثانٍ ، أو تولستوي بديل .
ومع ذلك ، فإن دور دوغين في إلهام العدوانية الجديدة للكرملين ، والحرب الروسية الأوكرانية على وجه الخصوص ، معقد . وعلى النقيض من الطريقة التي يتم تصويره بها في كثير من الأحيان ، فإن دوغين ليس فيلسوفاً ذا حداثة فكرية ولا إيديولوجياً ذا صلة مباشرة بالكرملين . فهو يحب أن يتظاهر بأنه كلاهما ، ويتم الترويج له باعتباره مفكراً عميقاً له روابط بالكرملين من قبل أتباعه الروس وغير الروس . ومن الغريب أن بعض منتقديه يأخذون هذه الادعاءات على محمل الجد .
دوغين هو شخص متعدد اللغات ومثقف يستطيع التعبير عن نفسه بكفاءة بعدة لغات . وهو قارئ جيد للنظرية الاجتماعية والأدب الباطني والفلسفة المعيارية . تشمل نظرته السياسية مجموعة متنوعة من المقاربات التي تتراوح بين الحضارية لصموئيل هنتنغتون إلى الشيطانية لأليستر كراولي ، ومن النقابية اليسارية المتطرفة إلى التقليدية اليمينية المتطرفة ، ومن المبادئ الرجعية المتشددة إلى الأفكار غير المتوافقة بشكل صريح .
وقد أدت الجهود المبذولة لفهم خطابه إلى وصفه بالعديد من الأوصاف : المحافظ ، والماركسي ، والإمبريالي ، والأصولي ، والجيوسياسي ، وأكثر من ذلك . إن أغلب هذه التسميات ملائمة بطريقة أو بأخرى . ولكنها في حد ذاتها غير دقيقة . فعندما يصف دوغين ايديولوجيته الخاصة ، يخترع مفاهيم جديدة مثل "الأوراسية الجديدة" أو "النظرية السياسية الرابعة" المصممة لإثارة اهتمام القراء في روسيا وخارجها .
فضلاً عن ذلك ، فهو متحدث جذاب . ففي المؤتمرات والبرامج الحوارية والمقابلات ، يبدو واضحاً وبليغاً ومتجاوباً . وهو يعترف بصراحة بموقفه العدمي المتطرف . ويدعو دوغين علناً إلى ثورة عالمية مناهضة لليبرالية ، ويتنبأ باستمرار بنهاية النظام الدولي ، ويعلن بسهولة اشمئزازه التام من الغرب .
بالفعل في تسعينيات القرن العشرين ، قدم دوغين نفسه دون خجل على أنه فاشي . وأشاد مراراً وتكراراً بممثلي النازية الألمانية وحلفائها . ولكن مؤخراً ، امتنع دوغين عن التعبير علناً عن تعاطفه مع الفاشية الأوروبية التاريخية ، بل إنه يتظاهر الآن بأنه مناهض للفاشية ، بما يتماشى مع تبرير موسكو لغزوها لأوكرانيا بزعم أنها بحاجة إلى "اجتثاث النازية" .
لقد كان إنتاج دوغين ومراكز أبحاثه الفكرية المختلفة على مدى السنوات الخمس والثلاثين الماضية هائلاً . فقد نشروا عشرات الكتب بلغات مختلفة ، وكتبوا مئات المقالات ، وأدلوا بآلاف التصريحات في أشكال مختلفة عبر مجموعة واسعة من وسائل الإعلام الروسية وغير الروسية ، والأماكن العامة ، والشبكات الاجتماعية . إن الحجم الهائل لتصريحات دوغين جعلته مشهوراً على الرغم من عمقها المحدود ، وجودتها المشكوك فيها ، ومزاعمها الغريبة حول ، على سبيل المثال ، أن جهاز المخابرات السوفيتي السابق (الكي جي بي) كان عميلاً للأطلسيين المناهضين لروسيا .
يُنظر إلى دوغين الآن في جميع أنحاء العالم باعتباره أحد أبرز ممثلي الفكر السياسي الروسي المعاصر . وقد أدى انتشاره في كل مكان ، وخطابه العدائي ، ومهاراته الخطابية ، جعلت العديد من المراقبين يعتبرونه العقل المدبر وراء عودة الإمبريالية الروسية والتحول المعادي للغرب في موسكو ، الأمر الذي أكسبه لقب "الفيلسوف الأكثر خطورة" اعترافاً بتأثيره الملحوظ .
ومع ذلك فإن مقولات دوغين الفلسفية وأفكاره السياسية ليست أكثر من ترجمات روسية أو إعادة صياغة لخطابات فلسفية قديمة غير روسية معادية للعقلانية ومعادية للفردية . إن أي شخص على دراية بالجغرافيا السياسية الكلاسيكية ، والتقليدية المتكاملة ، والغيبيات الدولية ، والثورة المحافظة الألمانية ، وما بعد الحداثة الفرنسية ، واليمين الجديد الأوروبي ، فضلاً عن بعض المدارس الفكرية البديلة الأخرى ، سوف يشعر عندما يستمع إلى دوغين ، بتكرار الأوهام والخلط المستمر للوقائع بين الماضي والحاضر .
قد ينظر إليه القراء غير المطلعين على هذه المفاهيم أنه فيلسوف روسي أصيل . ولكن ما يعلنه باعتباره نظريته الأوراسية الجديدة أو النظرية الرابعة الخاصة به ، هو إلى حد كبير منقول عن المنظرين والفلاسفة الغربيين المثيرين للجدل والهامشيين ، الذين يكرههم كثيراً . ويبدو أن مصطلح "الأوراسية الجديدة" يشير إلى حركة فكرية روسية في الشتات بين الحربين العالميتين ذات سمعة طيبة في روسيا وهي الأوراسيون .
في واقع الأمر ، لا تشبه أفكار دوغين إلا ظاهرياً هذه الأفكار الروسية القديمة حول قارة ثالثة بين آسيا وأوروبا . وبدلاً من ذلك ، فإن "الأوراسية الجديدة" مستوحاة من المفكرين الألمان الفاشيين مثل كارل هوشوفر أو كارل شميت ، الذين وصفوا العداء الأبدي بين القوى القارية والبحرية .
في سياق الأوراسية الجديدة ، تقف روسيا كدولة أوراسية تقليدية قائمة على اليابسة مثل الإمبراطورية المغولية ، حيث تقوم بإخضاع الدول المجاورة ودمجها . وفي الوقت نفسه ، فإن دول الغرب عبارة عن دول بحرية أطلسية ليبرالية ، تعمل على توسيع نطاق نفوذها من خلال هيئات مثل حلف شمال الأطلسي . إن خليط دوغين من الأوهام العدمية والأحلام الفاشية والخطط الشمولية لا يحتوي على شيء جديد لأي شخص درس الفكر القومي المتطرف وغير الليبرالي المعادي للديمقراطية .
وهناك خداع مماثل إلى حد ما فيما يتعلق بالتأثير المتكرر المزعوم لدوغين على عملية صنع القرار السياسي في روسيا . من المؤكد أن بعض الأشخاص المحيطين بالرئيس فلاديمير بوتين ، مثل زملائه القدامى في الاستخبارات السوفييتية فيكتور تشيركيسوف وفلاديمير ياكونين ، أظهروا اهتماماً موثقاً بكتابات دوغين ، ولكن من السهل المبالغة في هذا التأثير .
صحيح أنه في الماضي ، كانت بعض تصريحات دوغين الأكثر تطرفاً تستبق خطاب اليوم من دعاة الكرملين . في عام 2014 ، دعا دوغين الروس بشكل مشين إلى "قتل ، قتل ، قتل" الأوكرانيين . وفي عام 2015 ، أكد أن "الحرب هي وطننا (روسيا) ، وعنصرنا ، وبيئتنا الطبيعية والأصلية ، والتي يجب علينا أن نتعلم فيها كيف نوجد بشكل فعال ومنتصر" . وقد بدت تصريحات أخرى قديمة لدوغين ، في ذلك الوقت ، شنيعة ، أما اليوم فهي تبدو أقل إثارة للدهشة .
ومع ذلك ، لا ينبغي المبالغة في تقدير التوافق المتزايد بين خطاب الفيلسوف وخطاب الكرملين ، وخاصة منذ عام 2022 . هذا التوافق اللفظي حقيقي ، لكنه ليس كافياً للادعاء بوجود علاقة سببية مباشرة بين أفكار دوغين والسياسات البوتينية . على مدى العقود الماضية ، أثبت دوغين أنه كان لديه استشراف أفضل من العديد من الباحثين الأكاديميين لما تتجه إليه روسيا ما بعد الاتحاد السوفيتي . لقد كان بالأحرى نبياً وليس محرضاً على هذه التوجهات .
ما ساهم به دوغين وأتباعه ، منذ تسعينيات القرن العشرين ، هو تسميم متزايد لوسائل الإعلام الروسية والخطاب الفكري أبيض - أسود ، ىوالأفكار التآمرية والمرضية . إن قصصهم عن العداء الغربي القديم تجاه روسيا ، والمعركة النهائية الحتمية بين القوى التقليدية البرية والقوى الليبرالية البحرية ، والتخريب المفترض للمجتمع الروسي من قبل قوى أجنبية شريرة ، وما إلى ذلك ، ساهمت بشكل غير مباشر في تطرف نظام بوتين وسياساته . وبذلك ، تلقى دوغين وأتباعه المساعدة من عشرات الكتاب والمعلقين الروس الرجعيين والفاشيين والعنصريين والقوميين المتطرفين .
لقد قاموا معاً بشيء مماثل لما فعلته ما يسمى بالثورة المحافظة في ألمانيا أثناء جمهورية فايمار بين الحربين العالميتين . وبدلاً من التأثير المباشر على الأحزاب والسياسيين والبيروقراطيين والدبلوماسيين ، خلق دوغين وأنصاره جواً يبدو فيه القمع الداخلي العنيف والعدوان الخارجي المسلح أمراً طبيعياً . عدد قليل فقط من صناع القرار الروس يرددون أفكار دوغين حرفياً وأقل من ذلك قرأوا كتبه . فضلاً عن ذلك ، ونظرا لمزاعم دوغين السابقة بشأن الفاشية ، فإن قلة من المسؤولين الروس قد يعترفون بأنهم معجبون به .
ومع ذلك ، استطاع اليمين المتطرف الروسي ككل أن يسهم إسهاماً حاسماً في التحول الروسي المعادي للغرب في عام 2007 ، والتوغل في أوكرانيا في عام 2014 ، والعدوان الواسع النطاق في عام 2022 . وقد عبّر دوغين وأمثاله من قارعي طبول اليمين بلا هوادة عن أفكار إمبريالية علنية وقومية متطرفة مناهضة للغرب لأكثر من ثلاثة عقود .
وعندما أعلن بوتن تحوله ضد الغرب ، وضم شبه جزيرة القرم ، وشن غزواً لأوكرانيا ، لم يكن الكثير من الروس بحاجة إلى تفسير للسبب ، لقد أعطاهم اليمين المتطرف في روسيا ، مع دوغين باعتباره البطريرك الفلسفي ، هذا التفسير بالفعل .
أندرياس أوملاند - أنباء موسكو محلل في مركز ستوكهولم للدراسات الأوروبية الشرقية (SCEEUS) في المعهد السويدي للشؤون الخارجية (UI) .
#محمد_ناجي (هاشتاغ)
Muhammed_Naji#
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
الكاتب-ة لايسمح
بالتعليق على هذا
الموضوع
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
الفاشية على قيد الحياة … في روسيا
-
الجنرال -الأكثر سوفيتية- الذي قاد عملية التوغل في كورسك !
-
حركة واحدة تكشف القصة بأكملها
-
مشاكل الشرق الأوسط أكبر بكثير من حرب غزة
-
مراوحة خارج سيرورة الزمن
-
14 تموز/يوليو تبرير وتمرير الخطايا برطانة الخطاب !
-
بوتين على نهج هتلر ومن سبقه !
-
مناهضون للحرب يخدعون المسؤولين الروس بترجمة الشعر النازي*
-
روسيا على طريق الفاشية
-
الكرملين : بوتين كان يشخر خلال مناظرة بايدن الكارثية
-
اتجاه جديد ؟ إرسال المهاجرين إلى بلدان ثالثة
-
لا تقعوا في فخ الشعبوية المزيفة ل -فريق ميلودي-
-
مقامرة ماكرون : كيف وصلت فرنسا إلى هذا الحال ؟
-
نهاية هتلر : دراسة في الخلل الوظيفي للرجل القوي
-
ذكرى سقوط موسوليني : قوة المقاومة وعواقب العجز الاستبدادي
-
الدكتاتور يغير مظهره في العصر الجديد
-
ثورة في السياسة الخارجية الأمريكية - استبدال الجشع والنزعة ا
...
-
القادة الاستبداديين يجبرون الديمقراطيات على التراجع
-
أعظم نجاح لترامب : عبادة شخصيته
-
الفاشية باقية … وتتمدد !
المزيد.....
-
-جزيرة النعيم- في اليمن.. كيف تنقذ سقطرى أشجار دم الأخوين ال
...
-
مدير مستشفى كمال عدوان لـCNN: نقل ما لا يقل عن 65 جثة للمستش
...
-
ضحايا الهجمات الإسرائيلية على قطاع غزة تتخطى حاجز الـ44 ألف
...
-
ميركل.. ترامب -معجب كل الإعجاب- بشخص بوتين وسألني عنه
-
حسابات عربية موثقة على منصة إكس تروج لبيع مقاطع تتضمن انتهاك
...
-
الجيش الإسرائيلي: اعتراض مسيرة أطلقت من لبنان في الجليل الغر
...
-
البنتاغون يقر بإمكانية تبادل الضربات النووية في حالة واحدة
-
الجيش الإسرائيلي يعلن مقتل أحد عسكرييه بمعارك جنوب لبنان
-
-أغلى موزة في العالم-.. ملياردير صيني يشتري العمل الفني الأك
...
-
ملكة و-زير رجال-!
المزيد.....
-
المجلد الثامن عشر - دراسات ومقالات - منشورة عام 2021
/ غازي الصوراني
-
المجلد السابع عشر - دراسات ومقالات- منشورة عام 2020
/ غازي الصوراني
-
المجلد السادس عشر " دراسات ومقالات" منشورة بين عامي 2015 و
...
/ غازي الصوراني
-
دراسات ومقالات في الفكر والسياسة والاقتصاد والمجتمع - المجلد
...
/ غازي الصوراني
-
تداخل الاجناس الأدبية في رواية قهوة سادة للكاتب السيد حافظ
/ غنية ولهي- - - سمية حملاوي
-
دراسة تحليلية نقدية لأزمة منظمة التحرير الفلسطينية
/ سعيد الوجاني
-
، كتاب مذكرات السيد حافظ بين عبقرية الإبداع وتهميش الواقع ال
...
/ ياسر جابر الجمَّال
-
الجماعة السياسية- في بناء أو تأسيس جماعة سياسية
/ خالد فارس
-
دفاعاً عن النظرية الماركسية - الجزء الثاني
/ فلاح أمين الرهيمي
-
.سياسة الأزمة : حوارات وتأملات في سياسات تونسية .
/ فريد العليبي .
المزيد.....
|