تين شنگالي

حسين علوان حسين
أديب و أستاذ جامعي
(Hussain Alwan Hussain)

الحوار المتمدن-العدد: 8080 - 2024 / 8 / 25 - 18:14
المحور: الادب والفن
    

"بعد مضي عشرين عاماً على زواج التاجر "الحاج محمد" من حبيبته وابنة عمه النجيبة "زكية"، لاحظ أن زوجته لم تعد تتودد له مثل سابق عهدها معه، بل راحت تقضي جُلَّ أوقات فراغها ليلاً ونهاراً في الصلاة والتسبيح وقراءة القرآن. عندها، فكَّر الحاج محمد بالتزوج من امرأة ثانية. ولأنه كان يحب ويجل رفيقة عمره الوفية وابنة عمّه العزيزة وأم أولاده الثلاثة، ولا يقبل لنفسه جرح مشاعرها قيد شعرة، فقد صارحها بالموضوع، مؤكداً لها أنه سيقلع حالاً حتى عن مجرد معاودة التفكير بالزواج عليها إن كانت تعتبر ذلك تجاوزاً على مقامها المُعتبر، وسبباً في تكدير خاطرها الأثير عنده.
وكم كانت دهشة الحاج محمد كبيرة وهو يرى ويسمع زوجته المسكينة تقول له بعظمة لسانها بأنها لا تمانع من زواجه عليها، شريطة أن يتعهد لها بتحمل المصاريف الباهظة لأدائها فريضة الحج في موسم الحج القادم، في ضوء كونه قد حجَّ دونها إلى البيت الحرام قبل ثلاثة أعوام. ورغم علم الحاج محمد علم اليقين بمدى جدية مخاطر ومتاعب ، بل وحتى مهالك، الرحلات الطويلة والمضنية لقوافل الدواب الناقلة لحجاج بيت الله الحرام، خصوصاً النساء المنفردات منهم، إلّا أنه وافق على شرط زوجته هذا، ووهبها مقدماً عشرة ليرات من الذهب لتدارك مصاريف السفر كافة.
بعدها، تم كل شيء بيُسر حسب الاتفاق؛ حيث تولت زوجته خطبة إبنة جارتها "بتول" ذات الأربعة عشر ربيعاً لزوجها، وتم العرس، فبات على الحاج محمد الوفاء بشرط تسيير زوجته الأولى لأداء فريضة الحج.
وقتها، كان متعهد قافلة الحج الوحيد العامل في قرية خرنابات هو الحاج "كريم الحايف"، الذي دأب في كل عام على تفويج وتسيير قافلة صغيرة واحدة فقط من حجّاج القرية والقرى المجاورة لها، لتلتحق بعد مسيرة أربع محطات بالقافلة الكبيرة لحجاج بغداد المحروسة بالعسكر والجنود. وقد استأجر الحاج كريم لزوجته جملاً ذلولاً بهودج واسع مغطى بشال مزركش فاخر تكفّل بحمل كل مؤونتها من الملبس والمأكل والمشرب، فيما كان بقية حجاج القافلة يسافرون على ظهور البغال والحمير. وبسبب مرضه المفاجئ، فقد أوكل الحاج كريم لمساعده وابنه الأرشد "منير" مهمة قيادة قافلة الحج لذلك العام في ضوء اتقانه لمراسم الحج ومقتضياته كافة.
تحركت قافلة حجّاج خرنابات لذلك العام وسط الأهازيج والأناشيد الدينية وقرع الدفوف وأشجان الوداع والأدعية بسلامة الوصول والعودة، والفوز بنعمة الحج المبروك، يقودها الحملدار منير كريم الحايف وهو يمتطي أتانه المتمرسة: "ماجدة".
وكم كان عَجَبُ الحاج محمد وهو يسمع الحادي ينبئ أهل القرية بعودة قافلة حجّاج خرنابات بسلام بعد مضي أقل من ثلاثة شهور فقط على مشايعة أهل القرية لها، وليست الشهور الستة المعتادة في قوافل الحج للأعوام السابقة.
بعد انتهاء احتفالات استقبال الحجّاج الجدد بالتهليل والزغاريد وقرع الدفوف وتكرار نشيد "التلبية"، سأل الحاج محمد زوجته الحاجّة زكية – بعد تهنئته لها على سلامة الوصول وحجّها المبروك – عن تفاصيل أدائها لمَناسك الحج: الوقوف بعرفة، وطواف الإفاضة، والإحرام، والسعي بين الصفا والمروة، والوقوف بمُزدلفة، والمبيت بمنى، وطواف الوداع، ورمي الجمرات، و طواف القدوم، والتّوجه إلى منى في اليوم الثامن من ذي الحجة، فشرحت له زوجته بالتفصيل الممل كيفية أدائها لكل واحد من تلك المناسك.
اقتنع الحاج محمد بوصف زوجته لأدائها مناسك الحج كاملة غير منقوصة، ولكن الشك بقي يراوده بصدد السرعة المذهلة لذهاب ومجيء القافلة، فتوجه إلى بيت الحملدار الجديد منير كريم الحايف ليستقصي منه جليّة الأمر.
- يا حاج محمد، يشهد الله عليَّ أنك عندي بمقام ومعزّة والدي أولاً. وثانياً، أنت رجل تقي نقي مؤمن بالله وبرسوله الأمين، وتعلم أفضل منّي بأن الله قادر على كل شيء قدير. ولقد مَنَّ رب العالمين على قافلتنا بالبركة والسعد والسلوى، فطوى الأرض من تحتنا طياً في حلّنا وترحالنا الميمون من محطة استراحة لأخرى. هذا هو كل الذي حصل، بّس! وأنت سيد العارفين بمعجزات الرحمن التي يهبها لمن يشاء من عباده الصالحين، والتي لا ينكرها مؤمن صالح مثلك. – برَّر له منير كريم الحايف سبب السرعة غير المعهودة في ذهاب وإياب قافلة حجّاجه.

في مساء اليوم التالي – وكانت تلك أول ليلة له مع زوجته الاولى بعد عودتها من الحج – قدَّمت له زوجته زكية بعد العشاء طبق تين فاخر. وعندما سألها – وهو يتلذذ بقضمه – عن مصدره، أجابته بأنها قد اشترته من سوق للخضار كائن في مكة المكرمة.

في الصباح الباكر من اليوم التالي، دقَّ الحاج محمد – المتمنطق بسيفه الحاد - باب بيت منير كريم الحايف بكف قوي وقلب يغلي وصدر يفور.
ما أن خرج له منير كريم الحايف، حتى أمسك الحاج محمد بتلابيبه، وأسقطه أرضاً، وقعد على صدره، وراح يهدده واضعاً حد سيفه على لوزته بالقول:
- اسمع يا منير كريم الحايف، يا حقير، يا جايف؛ قسماً بالله العظيم، إن لم تقل لي حالاً أين ولّيت بقافلة الحج بعهدتك تلك، لأذبحنّك شرَّ ذبحة، فتذهب إلى مأواك المستحق في نار جهنم وبئس المصير! متى صار التين الشنگالي يُباع في أسواق مكة المكرمة، ها؟"

هنا، سكت عن الكلام الراوي للقصة - التي سبق أن رواها له جَدّه عن جًدَه - لنجله.
- ثم، ما الذي حصل، يا أبي؟
- وقتها، اعترف الجايف منير كريم الحايف للمرحوم جدّك الكبير بأنه كان قد تناول كعادته مساء اليوم السادس من السفر حمّصة من الترياق، ثم نام نومة المسطول على ظهر أتانه. وعندما استيقظ في ضحى اليوم التالي، وجد قافلته وقد دخلت مدينة عقرة الجميلة الغنّاء!
- عجيب! وكيف توجهت قافلة حجّاج مكة إلى الشمال بدل الجنوب؟
- الذي حصل هو أن الأتان "ماجدة" التي تقود قافلة الحجاج تلك كانت قد التقطت رائحة حبيبها الأثير دون غيره من عديد أحبائها من الحمير: الحمار الحساوي "خرنوب"، فراحت تتبع طريق انبعاث رائحته، حتى أدركته أخيراً في مدينة عقرة!
- ما على الحمير من عتب ولا حرج. ولكن كيف استطاع ذلك الجايف منير كريم الحايف إيهام حجّاجه بكون مدينة عقرة هي نفسها المدينة المكرمة؟ وماذا عن زيارة مسجد الرسول في المدينة المنورة؟
- أنت تعرف أن مدينة عقرة قائمة على امتداد سفح جبل يُطل على واديين فسيحين عامرين ببساتين الفاكهة: الوادي الشمالي الغربي والوادي الشرقي الذي فيه مقام الشيخ عبد العزيز الكيلاني؛ وفوق المقام يوجد المسجد ذو القبة البيضاء. الذي حصل هو أن ذلك الحقير المسطول منير كريم الحايف عندما استيقظ من رقدته الطويلة على ظهر أتانه، وجد نفسه فجأة في بطن الوادي الشمالي الغربي للمدينة، فتوجه بقافلة حجّاجه إلى ذلك المسجد وهو يعلن بانتصار للحجيج بأنه ذلك هو المسجد النبوي الشريف في المدينة المنورة. أمّا الجبل الذي يعلوه، فهو "جبل أُحُد"، على حد تغريره بهم.
- لوتي مال بدو، منير كريم الحايف الحقير هذا!
- أحسنت! وبسبب حسن نوايا حجّاجه وفرط بساطتهم وفطارتهم، فقد انطلت حيلته الحقيرة تلك عليهم. وبعد انتهاء حجّاجه من أداء مراسم زيارة ذلك المسجد والصلاة فيه والمبيت يومين هناك، أبلغ ذلك الحقير حجّاجه بوجوب تحرك القافلة من جديد كما لو كانت تنتقل الى مكة من المدينة. هنا التف بها منير حول جبال عقرة حتى دخلها ثانية من الوادي الشرقي الذي يوجد فيه ضريح "السيد مجذوب" المغطى بالقماش الأسود، والذي أوهم الحقير منير كريم الحايف حجّاجه بأنه هو مسجد الكعبة ذي الحجر الأسود. وبعد اتمام حجّاجه كل مناسك الحج التي لقّنهم بها منير هناك طوال عشرة أيام، وطوافهم حول ذلك الضريح على أساس أنه الكعبة، فقد ساق ذلك الجايف الحجّاج في آخر يوم إلى شلال السيبة، وقال لهم: هذا هو ماء زمزم! ومن السوق الكائنة إلى جانب ذلك الشلال، اشترت المرحومة جدّتك الكبيرة لزوجها التين الشنگالي الذي كشف للمرحوم جدّك الكبير حقيقة ذلك المقلب.
- وما الذي حصل لذاك الحقير منير كريم الحايف بعدئذ؟
- بعد اعتراف ذاك الزنيم بفعلته النكراء تلك، شعر جدّك الكبير كما لو أن برميلاً من الماء المثلّج قد اندلق فجأة على قلبه، فسكنت غضبته، واستغفر الله، ثم ترك ذاك الحقير لحاله دون أن ينجّس نفسه بسفك دمه. ولكنه حرص أشد الحرص على كتمان سر تلك الفضيحة الرهيبة كتماناً تامّاً عن زوجته كي لا يُفسد عليها فرحتها العميقة بالحج، وذلك عملاً بالحكمة: إذا ابتليتم فاستتروا. كما حرص بعدها بسنتين على اصطحاب المرحومة جدّتك الكبيرة معه الى الحج الأصولي لبيت الله الحرام! أما الحقير منير كريم الحايف، فقد طرده أبوه بعدئذٍ من قرية خرنابات شر طردة لتحرّشه بزوجة أبيه الثانية، التي شجَّت له رأسه بقبقابها حال مفاجأته لها من الخلف بعصره لعجيزتها، فهاجر الى اسطنبول في زمن السلطان "عبد العزيز الأول"، حيث اشتغل في دار للبغاء هناك، بعد أن أبدل اسمه إلى "عبد الحسين سلمان" لإخفاء شخصيته الحقيقية.
- سبحان الله: مُستقبَل التُنـگـة المثقوبة قحف !
- أرجوك، يا وَلَدي، إياك إياك أن تحكي هذه القصة لأي أحد البتة، وذلك منعاً من انتشارها، لطفاً.
- تؤمر، أبي العزيز! ولكن لماذا؟
- كل ما أخشاه هو أن يسمع بها البارزاني والطالباني، فتندلع بينهما الحروب من جديد - لتطحن أمثالنا من وِلْدِ الخايبة - لا لشيء إلا لضمان احتكار أحدهما دون الآخر لقب: "خادم الحرمين الشريفين" في عقرة !

#حسين_علوان_حسين (هاشتاغ)       Hussain_Alwan_Hussain#          

---

اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين	حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل

كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على:

الفيسبوك

التويتر

اليوتيوب

RSS

الانستغرام

لينكدإن

تيلكرام

بنترست

تمبلر

بلوكر

فليبورد

الموبايل

كيفية إشراك-إيصال مواضيعكم أو مواضيع تهمكم  إلى اكبر عدد ممكن من القراء والقارئات