ورطة ابن الشمس. قراءة سريعة لرواية رانيا مأمون.

مختار سعد شحاته

الحوار المتمدن-العدد: 8080 - 2024 / 8 / 25 - 00:50
المحور: الادب والفن
    

قراءة في رواية ابن الشمس للروائية السودانية: رانيا مأمون

يحيا الإنسان بالخبز والحب والجنس، ويموت بهم كذلك. هكذا يمكن أن نضع عنوانًا عريضًا لرواية "ابن الشمس"، التي يمنحنا واقعها الصادم مزيدًا من الفهم لفلسفة الحياة ذاتها وكيف يمكن أن تكون، بحلوها ومرها، بالقصص التي نرفضها أو التي ندعمها، وكأن الرواية تقول: هكذا تكون حياة الناس، بكل تعقيداتها، بكل الجوع والشبع، بكل الحب والخيانة، بكل الراحة والعذاب.

ورطة في رواية:
تورطنا رانيا مأمون بمهارة في هذا الواقع، وربما سننسى خلاله تفاصيل المكان لحظات بعيدة، إذ ستجري أرواحنا وراء الحكاية وأقدار أبطالها جريًا طبيعيًا يُشبه جريهم ذاتهم داخل العمل لاكتشاف الحياة واكتشاف العالم ومن قبله اكتشاف الذات الإنسانية التي لا تقل عجبًا ولا جنونًا عن الواقع الذي يعيشه "الشماسي" المشردون تحت لهيب الشمس وأمام ناظرها المحايد، حتى ولو تنسبوا لها رُغمًا، فصار الواحد منهم "ابن الشمس"، ستظل تلك الشمس في الشوارع بنفس قسوتها صيفًا ونهارًا، وبنفس خذلانها شتاءً وليلاً، تمامًا كالآباء والأمهات الذين خذلوا هؤلاء الأبطال لحظة التخلي عنهم للأبد عن عمد أو بسوء تصرف.
العجيب في ورطة مأمون مع ابن الشمس، أنها ورطة تقليدية، لكنها عبر التنقلات بين ضمائر الحكي من راوٍ عليم يمسك بزمام الأمور مثل "كرم" عامل مشرحة الجثث، أو عبر آخرين تشاركا الحكاية هما "جمال" و"إبراهومة"، تتحول تلك الورطة التقليدية إلى لون رمادي ينفذ إلى روح القاريء، يلونها برمادية أيام هؤلاء الثلاثة، رمادية الموت في ثلاجة حفظ الموتى، ورمادية مستقبل مراهقين في شوارع مدينة سودانية، رمادية يمكن أن تراها في أي مكان من العالم، في العالم الأول المتحضر وفي العالم الثالث صاحب الويلات. ورطة الإنسان في كل زمان ومكان. ورطة الأنانية والجشع، ورطة الفساد، ورطة العصبية والتهور، ورطة إنسان هذا العصر الذي لا يمكنه أن ينتبه ولو لمرة لجمال الحياة رغم قسوتها وصعوبتها، والذي لن يُدرك هذا الجمال إلا بعد فوات الأوان، وفي غمرة هذا سينسى أنه حيّ يتنفس تراب الحياة، وهذه الحياة رغم كل شيء ورغم وطأتها، تبقى أجمل من الموت الصامت الغامض المريب، حتى ولو جاء الموت سهلاً وجميلاً بل ومجانيًا في بعض الحالات.

لغة ابن الشمس والتجريب:
يمكن أن نعتبر نص مأمون ساحة تجريب لغوي واسعة، ما سمح للمؤلفة أن تمنح نفسها هذه الحرية، التي يقدرها أحد أبطال ابن الشمس، ويراها أعظم ما تمنحه الحياة كما جاء على لسان "جمال ابن الشمس"، هذه الحرية تتنقل بها رانيا مأمون عبر نصها وعبر الأبواب الثلاثة للعمل (التيه، الحب، الوهم)، ما بين مستويات مختلفة للغة يفرضها ضمير المتكلم، فتارة يكون الضمير ابن الراوي العليم، وتارة يكون ابن الغياب يحكي بلسان الغائبين، لتمر اللغة عبر مستويين لغويين واضحين قبل أن يتداخل ما بينهما مستوى ثالث للهجة السودانية في مدينتها "ودمدني". اعتمدت مأمون لغة غير قاموسية وغير جزلة، إلا أن العجيب أنها صنعت بهذا المستوى اللغوي بلاغة وجمالاً عبر تدافع الصور الجمالية البسيطة وقصر الجمل، بعيدًا عن صناعة البلاغة المعجمية القاموسية، ما جعل لغة هذه الرواية واحدة من أهم ملامح قراءتها. ستقرأ جملة بسيطة التركيب بعيدة عن حذلقة اللغة، غير أنها شديدة البلاغة بما حملته من حساسية ورهافة الآداء، وخذ لذلك مثلاً كيف وصف الرجل الصامت "كرم" جمال حبيبته وكيف كان حضورها كلما مرت على بيتهم أو دخلت حجرته.
لا يأتي جمال وحساسية لغة هذه الرواية من مشاهد الرومانسية فقط، بل يمكن أن تجدها حتى في الجمل الوصفية القصيرة للحظات الجوع التي تنهش هؤلاء الشماسي ومنهم "جمال" و"برهوم"، فتكتشف على الفور أن ثمة جمال حتى في هذه القسوة وهذه الحياة المرة، جمال نابع من روح أبناء الشمس هؤلاء رغم المصائر المعذبة والقاسية، نجحت لغة الرواية أن تنتصر للحياة على الموت نهاية الأمر، فجاءت بلاغة اللغة في قدر سهولتها وطواعيتها، وما يمكن أن يخلقه وصف الواقع من جمال رغم صلافته وقسوته، ورغم ما فيه من تناقضات حتى لو كانت تناقضات النفس البشرية التي نخاف مكاشفتها والتواجه معها، كما فعل جمال في مواجهته لذاته أمام جارة حبيبته ناهد، تلك الجارة التي تعلم معها أن الجنس مفردة خاصة لها جمالها حتى لو كرهناها حين تتحول إلى دلالة على الخيانة.

دعوة للقراءة لا التلصص:
يمكن أن أحرق الحكاية وأن أشير إلى تلك الروابط التي تجمع بين حارس ثلاجة الموتى "كرم" بشخصيته العجيبة التي تتخذ من الأذن معيارًا للحكم على الناس بل والاستماع إلى حكاياتهم المتخيلة في الحياة والموت، وكيف يمكن أن تضيع ملامح الحياة برمتها متى فقد الإنسان أذنه، في حالة فريدة من الانفصال عن العالم والواقع وخلق حيوات موازية لها بريقها وكل ما فيها من الخير والشر، تلك الروابط التي تنتهي بابن الشمس "جمال" ابن الشوارع في حضن قلب وروح "كرم"، لكن في ظني أنني لو أشرت ولو من بعيد عن تلك التفاصيل سأكون خائنًا للحكاية ولأبطالها، فهؤلاء الثلاثة ومن عاش معهم عبر أبواب الرواية الثلاثة وصفحاتها (271)، سيرفضون هكذا تلصص يمكن أن تقوم به مقالتي، وسيتم حرمانهم من الحق في القراءة وخلق تصورات أخرى واكتشاف جديدة لذواتهم وخبايا شخصياتهم، بل ومنحهم تأويلات جديدة، لا يهمهم بما تسمح به تلك التأويلات قدر ما يهمهم أنها تجعلهم من جديد في قلب الحياة وأحياء يرزقون لا موتى غلبهم الصمت والغموض.
بقى أن أشير وأن تستعد للجرى في حواري مدينة "ودمدني" السودانية مع أبطال رواية ابن الشمس، أن الرواية صادرة في العام 2013 عن دار العين بالقاهرة، وبدعم من مؤسسة الصندوق العربي للثقافة والفنون آفاق وكذلك المورد الثقافي، وبتصميم غلاف لإيمان شقاق، في قطع متوسط عبر 271 صفحة من الواقع الطازج البعيد عن فزلكات اللغة رغم التجريب الواضح فيها عبر المستويات اللغوية التي تبنتها الرواية خاصة في حواراتها بالدارجة السودانية للمدينة.

#مختار_سعد_شحاته (هاشتاغ)      

---

اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل	حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين

كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على:

الفيسبوك

التويتر

اليوتيوب

RSS

الانستغرام

لينكدإن

تيلكرام

بنترست

تمبلر

بلوكر

فليبورد

الموبايل

كيفية إشراك-إيصال مواضيعكم أو مواضيع تهمكم  إلى اكبر عدد ممكن من القراء والقارئات