أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - كاظم حسن سعيد - حي سليطة رواية كتاب كامل















المزيد.....



حي سليطة رواية كتاب كامل


كاظم حسن سعيد

الحوار المتمدن-العدد: 8074 - 2024 / 8 / 19 - 12:13
المحور: الادب والفن
    


حي سليطة
رواية








مقدمة


ليست ولادة قيصرية ولا علاقة جدلية ,ولد ونشا حي سليطة بقوة الازميل ,تشذيب عشوائي ,امتد لسنوات ,حتى لم يعد ساكنوه او اغلبهم يتذكرون جذورهم ,هل يمكن لاحد ان يرى بذورا مبعثرة في مكان فيتخيل الغابة .قليل من يتذكرون المراود والظهور المقوسة ,المناجل والثياب المرقعة ,المعاول والاوبئة ,الحصاد والمطحنة, لقد غادر اجدادهم الحقول من زمان بعيد , ودخل ابناؤهم معتقلات المصانع واتقنوا القتال في البزات الخاكية الضوئية ,اوانتشروا في المقاهي تقضمهم البطالة او امتهنوا البسطات او البقالة او حرفا اخرى ,ابعد ما تكون عن الناعوروالعناية بالعثوق ,,,,ربما ظهر جنين هذا الحي منذ وصول اول جرافة تشق شارع الفقيه وسط غابة النخيل, وانقرض الطنطل من المضادات,من الصعب ان تكتشف البصمات,تظافرت الطبيعة ونمو التجارة والهجرة الجماعية من ارياف المدن والمحافظات المجاورة ومشاريع الغزاة واستقام هذا الحي على سواق طمرت وقناطر بليت , وجذوع تفسخت , رحل عنه ساكنوه الاوائل الا بعض الاسر الراسخة واستوطنه غرباء ولا نتمكن من التاكد هل ان اسم الحي مر بتحولات كثيرة او ان امراة رغم بساطتها تمكنت من حفر اسمها واطلق على الحي.وهل كان مساحة واسعة وقسم لاحياء لها اسماء متنوعة : في مساحة محدودة ازدحمت اديان وطوائف , جهلة ومفكرو ن , ومقابر سيكية وانكليزية وللاطفال وانشئت سبع معامل ومرت سكك حديد وتجاورت البيوت الريفية والحضارية وانشئت تنظيمات سرية انطلق فنانون وادباء وتركت الحروب بصمتهاعلى الاجساد وناحت امهات على اطفالهن الغرقى في النهر الذي يسور الحي اوعلى من قضوا في حروب الجبال,مر الجلادون فصفقوا لهم والطيور المهاجرة فطاردوها ,وتليت الايات فجنوا منها طقوسها , ومر في الحى (قراء كف ,وخاطفات الصغار ,وهاربات من سكاكين الاهل ,ولجا اليه من هربوا من جهنم الثار ,), وانتظر الاهالي الفرج فتوالت الانقلابات وسمنت جثة الوعود وبقوا في قبضة الجوع والحرمان.وتضخمت في ارواحهم النكبات وازدحمت اعينهم بالدموع ,فسودوا في عاشوراء ,وكوت ظهورهم الزناجيل وشجت رؤوسهم القامات وحفروا باللطم الصدوروهانت عليهم المصائب,وتمكنت صائدات الرجال من اختراق قوة الجدران وقنصت الطرائد,مضت ثلاثة قرون منذ سكنه حكماء وربما امتهنوا الطب الفطري وليس استنباط الحكمة,حي قدره مجاعة الروح والبدن والحرائق ,فاعمارهم وبيوتهم فرهود وهم يتمسكون بالامل وتمرسوا بنعمة الصبر والبساطة.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ












شارع الفقيه

تنتصب تلك الاعمدة شبه الاسطوانية فى الجزرات الوسطية الصغيرة على ابعاد متساوية,اشجار قلعت من غاباتها وجردوها من اغصانها ونقلوها عبر البحار لتعين في وظيفة اخرى ــ حمل الاسلاك الكهربائية والمصابيح ــ ,صيفا تتهدل منها الاسلاك النحاسية التى تسندها …الان تثبتها قساوة الاسمنت بدل الجذور وخصوبة الارض , علقت فى قممها مصابيح باهتة تحميها مظلات صغيرة صدئة , كثيرا ما ترى سلمان ـاطول رجل في الحي ـ في بدلته الزرقاء يعتلي سلما خشبيا ويصلح سلكا معطوبا او يستبدل مصباحا, وقد امسك له السلم عامل يدخن التبغ الملفوف ,(سيشاهد بعد ثلاثين عاما كقصبة تجوب ازقة العشار , ساهما يغطس يده في جيوبه لعله يعثر على نقود ليتناول الكبة ,شبه بشري مهملا وخارج تغطية الحياة ) . تنتشر على الرصيفين مظلات حمراء تتوقف عندها باصات المصلحة الحكومية الحمراء ويمكن لهذه الحافلات ان تتوقف وسط المسافة بين مظلتين اذا نادى احد بصوت مرتفع على السائق : (اختياري ). ) .
قرب جسر شيد من الخرسانة على انقاض جسر خشبي
ينثني النهر ويمضى مسافة مائتي متر قبل ان يتوقف قبيل بوابة علقت في اعلى دعامته لوحة مذهبة حفر عليها باللغتين :العربية والانكليزية : (ماكنة السوس ) تتمكن الدوب من دخول هذا الفرع من النهر وتمتد خشبة قاسية منها الى الجرف …هنالك ترى عمالا اشداء تنوء ظهورهم من كتل السوس المكبوسة وقد مدوا ايديهم على الكتفين وامسكوها بكلاب وهم يعبرون بها على خشبة صلبة تهتز ليرموها الى قلب الدوبة العميق . فيتم نقلها الى بواخر تنتظرها في شط العرب ومنها الى بريطانيا .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ









نجمة
زقاق تحجر ترابه وخلا من المشاة وعبث الصغار والقطط والكلاب, في تلك الساعة من توقف الزمن الا قليلا , كان غازي ينتظرها ..يطل ويتوارى وهو رجل اعزب في الاربعين استاجر منزله هذا ويعيش في حياة غامضة , حفر الجدري اثاره على وجهه وان تكلم تجمع لعاب على زوايا شفتيه الغليضتين اللتين يطلق منهما كلاما يشبه التمتمة .وعلى بعد اربعة امتار من وصولها , فى عباءة بارقة ومشية منغمة, الى الباب, وقف غازي في دشداشته السكرية والتفت للجهتين كانت الدربونة ساكنة وخالية من المارة تماما .. …
استقرت على السرير ونظرت اليه مبتسمة وأمرته ( يله خلصنى ) ,لم تستغرق المعركة اكثر من عشر دقائق وتخطى الى الباب والتفت يمينا ويسارا وتوارى الى الداخل وغادرت.
شوهدت فتاتها التى تشبهها وربما فاقتها جمالا, في بوابة مشفى نسائى تصطاد الرجال ,وقد ورثت من امها قوة البياض واكتنازا في الارداف وانتصاب الصدر وتلك الابتسامة التى تشرق من فم قان صغير فى وجه لؤلؤي .
قطار ــ صغار
منذ الفجر يهيم الصغار في بساتين النخل الشمالية التى تنتهى بسكة حديد يمر عليها قطار صدئ يقذف الماء المبخر من احد جوانبه وهو محمل بعروق السوس الذي يتانثر بعض منه على شارع غير معبد طلي بالزفت …كنا منبهرين بحركة الفراكين قبل ان تتسرب عبر مخيلة الشعراء وتنطلق الاغنية :
(ولك يا ريل .. لا تصرخ ,,خذت ولفي واريدنة
جزاني يفر فراكينة ..وما مش حيل اردنه .
وحط اذني على السجة بلجي الصوت اسمعنة )
ويمر على نفس السكة قطار اخر متوجها الى حى نظران لينقل المسامير الى بغداد او يزود معمل المسامير بقطع الغيار…كنا صغارا ولم نعلم بوجود مثل هذا المعمل في لواء البصرة …. وقبيل ان يصل المفرق حيث تنتهى الفلكة يطلق صرخاته المفزعة منبها سواق المركبات ويسارع رجل في الستين بالخروج من محجره رافعا علما صغيرا احمر يلوح به ..لكن بعض السواق لا يبالون وطالما دهس القطار المركبات . خلف تلك السكة سياج مرتفع يحد دائرة واسعة تضخ الماء الى مصفى الشعيبة ..لم نكن نعرف هذا ..لكنا نسمع صوت صفارتها كل فجر تحث العمال على الاستيقاظ……الساعات نادرة ومعرفة الوقت ما تزال تعتمد على صياح الديكة والنجوم والظل وبك بن (هنا لندن والساعة …نحييكم واليكم نشرة الاخبار. ) ,قلة يملكون ساعة جيب مربوطة بسلسلة ..ولا يتمكن الجميع من شراء المذياع .
يعبث الصغار بالمتساقط من جذور السوس ويطاردون الفراشات يتسلقون النخيل لقلع الطلع والشيص او جني الرطب واصطياد صغار العصافير والفاخت من الاعشاش …ومع اول الضوء حيث تغرد البلابل فى اعلى السعفات يستهدفها الصبية بالمصاييد التى اتوا بقوسها من اشجار الخرنوب وقوسها من اطارات الدراجات او يستهدفون الطيور المهاجرة التى غادرت موطنها المثلج بحثا عن دفئنا .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ



ابو طبر

هنا قرب سياج الاسلاك التي تسور دائرة تابعة للمصفى .. سمعنا لاول مرة بمجرم محترف (ابو طبر)
-قيل ان اسمه حاتم كاظم-مجرم وسفاح عراقي ظهر في أواسط السبعينيات وهو من مدينة المسيب في محافظة بابل لكن جرائمه دارت في بغداد وكان ينفذ جرائمه بواسطه الطبر ,يخبئه في كم القميص أو الرداء وقيل تعرفت عليه خادمة من عائله يهوديه , قام بقتل العائله المؤلفه من زوج وزوجة وبنت صغيرة وهي البنت الوحيده حيث قتلهم وهم نائمون, وكانت الخادمه مستيقظه وعندما رأت الجريمه هربت إلى المطبخ وغطت نفسها ببطانية لكنه تمكن من ايجادها واصابها بالطبر, فلم تمت ,فتركها وخرج معتقدا انها ماتت , وعند اكتشاف الجريمه وجدوها رجال الشرطة تتنفس, فباشروا بمراقبته ومداهمة بيته واكتشف أحد الضباط بابا مخفيا في الطابق العلوي للبيت وعند دخوله إلى الغرفه وجدوا بعض المسروقات من ضحاياه بحوزته ومذياعا مكتوبا عليه اسم ابنة العائله اليهوديه وتم القبض عليه وعند التحقيق معه اكتشفوا ان زوجته كانت تساعده في اختيار الضحايا من العوائل الميسورة في بغداد, فتدعي انها تبحث عن عمل كخادمة وعندما تباشرعملها في تلك البيوت تصفها له ثم تترك العمل بعد فترة وجيزه فينفذ جرائمه.
وقد نسب البعض جرائم أبو طبر إلى المخابرات العراقية آنذاك، وأعتمدوا في هذا التفسير على ان بعض الجرائم طالت معارضين سياسيين. وهو يقتل بامرهم وفبركوا قصته بالكامل والقت القبض عليه! لاشغال الشارع العراقي وتحقيق انتصارات وهمية! … وقيل ان بعض شهود العيان قد راى السفاح أبو طبر يتجول في شوارع أوروبا ولا يعرف حتى الآن ما هي نهاية السفاح أبو طبر وحقيقته وهناك من فسر ان الجرائم كانت من تنفيذ فريق من المجرمين بدليل جريمة نفذت قريبا من القصر الجمهوري حيث كان الناس ينامون صيفا على السطوح .ولان ابو طبر يختار ضحاياه من مناطق وطوائف وطبقات اجتماعية مختلفة فقد اصيب جميع من في العاصمة.. بالذعر وكان يحشر قتلاه فى الحمام … وقد يتسلى بمراجيحهم بعد التنفيذ او يرتوي من قناني المشروبات من ثلاجاتهم, كانه في بيته . وقد سمعنا بان كل المصورين في العراق تم استدعاؤهم الى بغداد ودخلوا بعدساتهم لجميع البيوت لان امراة نجت منه ووصفته لرجال الشرطة ..الا ان بعض المقربين للنظام كتب بعد ان انشق :ان من دخلوا البيوت ليسوا المصورين وحسب وانما صحبهم رجال سجلوا معلومات عن كل عائلة وحفظت الملفات بسجلات خاصة ستكون مرجعا لدوائر الامن والمخابرات وقد عرض تلفزيون بغداد حلقة لرجل قيل انه ابو طبر ..:وكان يدلي باعترافاته بالفصحى … (وضربتها على فروة الراس واجهزتها ارضا ),وقيل انه واحد من مرافقي نائب الرئيس صدام حسين وقد مرت اكثر من ثلاثة عقود ولم يتمكن الباحثون من معرفة حقيقة سفاح تمكن من اشاعة الرعب في كل ارجاء بغداد .).
ذات يوم اتى مجهولون وقلبوا منقبين في دفاترنا المدرسية ومضوا.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ


نبات السوس

كان نبات السوس ينتشر على ضفاف الترع والسواقى والانهار الصغيرة في حي سليطة... لم يكن نبات السوس مجرد نبات شجري معمر ينمو في البساتين وقرب ضفاف الأنهار في محافظة البصرة، بل كان من مواردها الاقتصادية المهمة منذ أواخر القرن التاسع عشر وحتى منتصف القرن الماضي، وقد جذب هذا النبات شركات بريطانية وأميركية كانت تشتري جذوره وتكبسها وتصدرها على ظهر بواخر الى أوربا وأميركا لإستخدامها في صناعات غذائية ودوائية.
حسب قنصل روسيا في أن(هذا النبات كان ينمو بكثرة في جميع أنحاء جنوب العراق، ولم يكن يستغل بأي شكل الى أن قامت شركة (Zerlendi et Essayie) الأوربية المحلية المشتركة بتصدير جذور السوس في ثمانينات القرن التاسع عشر الى أميركا، فحققت أرباحاً طائلة),واضاف القنصل : (أن المنافسة أدت الى ارتفاع الأجور، لكن نوعية عرق السوس تردت بالتدريج لأن العمال بدؤوا بجلب الجذور الفاسدة التى لا تصلح الا للحطب , لانهم كانوا يتسلمون اجورهم سلفا لكن شركة أميركية كانت متخصصة بتجارة عرق السوس، والتي تم تأسيسها في البصرة عام 1904، تمكنت خلال أعوام قليلة من احتكار تجارة هذه المادة في عموم العراق بعد افتتاح فرعين لها في بغداد والموصل، إلا أن القوات البريطانية عند احتلالها الموصل حاولت تعطيل عمل هذه الشركة بدافع تمكين التجار البريطانيين من فرض هيمنتهم مرة ثانية على تجارة السوس الذي كان يدخل في صناعة أنواع من التبغ والجعة والأدوية والصابون، كما كان يستخدم كبديل عن السكر.
كان الفراعنة والرومان يستخدمون السوس في علاج آلام المعدة، كما استخدمه البابليون كعنصر مقوي للجسم.واهتم الأطباء المسلمون القدامى بنبات السوس واهميته ، فقال عنه إبن سينا :(إن عصارته تنفع في الجروح، وهو يلين قصبة الرئة وينقيها وينفع الرئة) ….فيما قال إبن البيطار : (ان عصارته تنفع لخشونة المرئ وقصبة الرئة) …..)
لم يكن الاهالى على علم بهذه الامور ولم يكن يعنيهم تنافس الشركات على عرق السوس وارباحهم وتصنيعه .
مايهمهم هو الاجور.
انها ماكنة السوس تقابل المطحنة والتي ستندثر امام زحف القوة المخابراتية حيث اقام لها النظام موقعا مهيبا غامضا واندثر النهر متحسرا على الدوب التى لن تعود وعروق السوس التى حزمت خلاياها وهاجرت , والمكابس الهيدروليكية….من هنا سيحمل العمال اكياس عروق السوس الفاسدة ليستخدموها للتدفئة ,وسيخزن منها ابو مقبل غرفة بأكملها .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ







ابو محجن

يتوجه الاطفال شرقا عابرين قنيطرة الجذوع وشجرة الخرنوب حتى يصلوا الى بستان ابو محجن ..يشاهدونه احيانا يحث ثوره الاسترالي على التزاوج من البقرات التي يقودها الاهالي اليه مقابل اجر , فيرى الصغارذلك الرمح الاحمر يهتز ويطلقون الضحكات ويتوغلون في بستانه الشاسع ويمرون على نبات الخس حيث يتكوم متيبس الغائط الاسود ويتسلقون انواعا من نخلات البرحى والخضراوى والزهدى والبريم , يقطفون الرطب او يقطعون الشيص وتلتقط اعينهم الازهار فى شتلات الباميا ولمعان الفلفل الحار الذى احمر بعد النضوج ومساحات من الجت وشجيرات الباذنجان واشجار البمبر والصفصاف والرمان والموز والاثل والريحان وربما تارجح الدلو من الصفيح بغصنه المتيبس بعدما نزلت عجيزته للارض ثقيلة بالاحجار المغلفة بقطع الجنفاص والخصاف .
يعلق ابو محجن المراود والمناجل والمناخل في جذوع النخيل وعلى الاغصان وترى المسحاة مغروسة فى مساحة النعناع ويثبت اكياس الحبوب المصنوعة من القماش و الجلل او الجنفاص في الجذوع الحية او اغصان الاشجار وكثيرا ما يرى وقد ثبت طرف دشداشتة الجوزية بحزامه الجلدى العريض وهو يلاحق الصغيرات صارخا بهن مهددا بعصاه داعيا عليهن بالاقتران بالرجل..(ا وريل ) ) .
وهو سعيد بامراته المتخشبة التى نبتاع منها قبيل الغروب طاسات الروب ونمضى بها الى بيوت الصرائف حيث تعد الامهات الرز بعناية على موقد سجر بعروق السوس او الكرب والسعف اليابس ,وتشم منه رائحة تثير الشهية على بعد عشرات الخطوات ,ويقمن برش الحوش بالماء وترطيب التراب منعا للغبار وكسبا للقليل من البرودة وينهمكن باعداد الكلل البيضاء التي تنتصب بقصبات على شكل صليب, لكن البرغوث والبعوض يتمكن من اختراقها تارك البقع الحمراء على البياض ولسعاته على الجلود ,وبعد ان تتخلى شمس تموز عن بعض سعيرها تتخلى الزوجات عن الكسل ويبدا موسم التبرج فيمر ماء الطوس على الاجساد الحنطية والشهباء في حمامات الصفيح والقصب الملبوخ بالطين,على بياض الرمان والوسائد البيضاء وتعمل بلا كلل الامشاط الخشبية في شعور كثفتها الحناء,وطين الخاوة, قبل ان تعتقل لمعانها الضفائر والاشرطة , وبمزاج النفوس الرضية والانوثة الخالصة يمر الديرم على الشفاه واللثات, والمسواك على الاسنان الناصعة ….وتزيل الانامل الدافئة الغبار عن لوحات ملونة طبعت على الكارتون المقوى لديكة فى صراع وملكات بريطانيات وعلماء حوزة ومناظر طبيعية علقت على الاخصاص وآيات المعوذات القرآنية.
في بستان ابو محجن تطالعنا القافزات من الضفادع بعيونها الواسعة من مخابئها الطينية اسفل الجروف فى السواقى الصغيرة حيث تمتد اصابع الصغار تتحدى شظايا الزجاج لتلتقط دودة الارض .

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ



ام اسحاك

في بستان ام اسحاك المتسلطة الحادة الطبع يعبث الاطفال بكارات السعف المنقعة فى قاع الترع المخضرة التى يحملها حالوب على الكتف,لمسافة كيلو متر عابرا بها الجسر ومجتازا المطحنة وماكنة السوس ودكان ابو هادى ومنزله المجاور له وعابرا محل بياع الثلج حميد ابو حديبة وقبيل وصوله الى معمل السينالكو ينثنى الى(بستان ) كاع ام سحاك ليرمى الكارات , ويتركها للمجهريات والطحالب وخضرة السواقى لتسلب صلابتها …لا يدنو الصغار من البقرات الاسترالية الزاخرة بالحليب التي تقصد البستان لترعى من مكان بعيد…الا ان الصبية يخشون من ام اسحاق الصعبة وهى لا تتردد من سحب طفل من حضن امه لتلوى اذنيه ان اساء او لمحته يقطف الرطب ,, الا انهم يهزجون ساخرين منها (ا م اسحاك تانيني ..خل اغسل ا مواعيني ) .
عصرا يقصد العاطلون والمتقاعدون وعمال ماكنة السوس والمطحنة بستان ابو محجن ويصلون الى تراب تحجر من وحول الكري و بين الحشائش الطويلة و نبات القصب يستقرون لصيد الاسماك بالشصوص يمدون القصبات التى تتهدل منها خيوط النايلون والتبدورات والصنارات المحملة بعجين يصلبونه بفوران الماء …وقد يبيع الصغار ما التقطوه من دودة ام اربعة واربعين التي جمعوها بعلب معجون الطماطة الصغيرة للكبار, فهو طعام تفضله اسماك الشانك التى تصل النهر في شهر تموز مع نضوج الرطب وقد يستخدم بعضهم التمر طعما لصيد اسماك الحمري .تقابل الصيادون مدرجات اسمنتية تنحدر الى النهر ,يقيم فيها الصابئة طقوسهم جوار حي الصابئة . . فيجري تعميد العرسان في يوم الأحد وبحضور ترميدة وكنزبرا، ويتم بثلاث دفعات في الماء مع قراءة من كتاب الفلستا وبلباس خاص، ثم يشربان من قنينة ملئت بماء أخذ من النهر يسمى ممبوهة ثم يطعمان البهثة ويدهن جبينيهما بدهن,ويتسلى الصبية من خلف النهر برمي الاحجار عليهم .بعد عقود حين نتن النهر اقاموا هذه الطقوس في معبدهم القريب من النهر.
و يجري الماء صافيا في ساعات المد مسودا من الاسماك الصغيرة حتى ان طفلا صرخ شاهقا ودمعت عيناه فى البلم عندما شاهد اباه يسحب الشبكة الثقيلة المزدحمة بالاسماك فخاطبه الرجل : (ابني هذا رزق.. لا تصرخ ولا تتعجب ,,صلي على محمد (ص ) ).ونمضى بمحاذاة معمل الكوكو كولا على الجرف يستقبل اقدامنا الحافية عشب اغرقه الماء وقد نصب البعض شباكهم ,قبل ان تفتك الملوحة فيه ويخضر لونه وتنتن رائحته وتفوح فيه انواع من القناني والاوساخ .
ونتقدم قليلا فيعترضنا الجسر تنتصب قربه على الضفة لوحة تحذير بيضاء رسمت وسطها جمجمة تعلوها علامة ×خط اسفلها بلون احمر (خطر ..تيار كهربائي ) لكن الطفولة لا تقرا الخطر فنعبث على سجادة من شظايا الزجاج ويعتلي قضبان الجسر صبية شبه عراة ويرمون بانفسهم الى النهر وفي مرة (من زرك )رمى طفل نفسه واستقر فى العمق فقد اخترق راسه قضيب حديد………. ستنوح الامهات هنا على اطفالهن الغرقى فى انتظار ان تطفو الجثث الصغيرة.هنا اقيم معمل الكوكا كولا وهنا ينتشرمتكسر الزجاج.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ


بيت اثري
على الضفة المقابلة من النهر يشخص بيت من الطابوق والصفيح تتقدمه شجرتان وافرتان :سدرة و شجرتا اثل , تنحدر منه مدرجات من الحجر حتى تغور في الموج ,بيت يشبه منزلا اثريا تهبط منه فتاة ناصعة البياض على بعد تستقطبك منها شفتان مكتنزتان والوسائد الشحمية تنقل الماء او تغسل الاثواب,دأب على مغازلتها شابان يلوحان او يصفران على الضفة المقابلة (من الشقاة ,لايتحركان الا ومعهما قامة ـاو خنجر معقوف .
ذات يوم زهقت من تحرشهما ولم تحتمل,واخبرت زوجها فعبر الجسر اليهما ( مزدحما بالشحوم ابيض يخفى داخل جثته جبنا وتميعا )…حاول ان يمثل الغضب وقوة الغيرة ورفع ياخته وكتفيه وهو يقترب منهما ,كانا ممدودين على العشب يسندان الجسدين بالاعكاس, ولانه يعرف شراستهما لم يصدق انها قالا له ببرود دون ان يرف جفن لهما (انت مخطئ وهي واهمة ) فاطرق وعاد لمنزله . سيتفاخر قرب زوجته ليلا وهو يقشر الثياب عن جمارها : ( لقد اخفتهما , ولولا ما اوصيت انت به لتركتهما يسبحان بالدم ), وتجيبه وهى في قبضة الخدر : ( لاحاجة لذلك حبيبي ,يكفى اخفتهما واهنتهما ولا نحب ان نطور المشكلة) .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ






سليطة

سليطة ام صبران , مثال للكرم ربما لا يصمد امام هذا الطبع حتى الجسد ولذا تردد (ام صبران يا الطيبة نفسها ـ تخلى العيش والتمن وتتكيرم ب ...ها )وتكمل بكلمة اباحية مسجعة ! .نقشت على رقبتها وايديها وحنكها نجوما واهلة .
تهاجم امها بالنعل وطفلتيها بالصفع والعصا والشتائم وزوجها بالمس والقدور قاذفة في اسماعهم قاموس الشتائم المتورم . طفلتها الصغرى زهرة سمراء نحيلة وطويلة كقصبة ,عيناها صغيرتان جادحتان, ارضعتها من ثدييها الضخمين,فشوهدت ترضع وساقاها يمتدان الى الارض او الحصران , وهناك علامات خلقية وسلوكية تقوي الاشاعة الشهيرة :بان زوجها عنين وان الطفلتين نغلتان , ومن ظهر آخر ...من عشيق.
يعود زوجها (ابو صابرين ) من عمله فى الموانئ ظهرا ويستانف عصرا نزح البالوعات فيرى مثبتا عصا غليضة على كتفية تتدلى منهما صفيحتان من التنك علقتا بحبلين بالعصا,يرشان الشارع بالفضلات وهو يمسك الطرفين بيديه تسمع صوته الابح كانه ياتى من مذياع مشوش , او يصدر من بطنه , وهو قصير القامة يرتدى بنطالا قصيرا.
سليطة اول الشهر حين يعود من العمل وقبل ان تطعمه تفرغ جيوبه وتفتشها وان علمت بانه اخفى درهما واحدا عنها تندلع معركة القدور والمجارف والمناخل والصفع على صلعته والتشهير بامه واخواته وربما يسيل الدم..
ذات يوم اشترى مذياعا خشبيا يتصل ببطارية كبيرة سوداء من ظهره وشغله وتسلطن على اغنية حضيرى ابو عزيز(عمي يا بياع الورد ) ,عادت سليطة ليلا من جولة فى مهمة ور
أته متكئا على الوسادة سافرا عن صلعته فى دشداشة رصاصية ممسكا قدح الشاى ,مسحورا بالصوت ,فهاجمته : (بن الكلب اشتريت راديو..واخفيت عنى النقود).. وصفعته على راسه وتناولت مكنسة فمجرفة وقدرا … ) ..شجب المقذوفات بيديه .. وتحمل رؤية الدم والاهانات خانعا, الا انه انهار تماما بعدما تناولت حجرا واسكتت مذياعه الخشبي,,وهنا انطلق العويل والهياج وصفع جبينه وراسه مرات بيديه ..ورفس الارض برجليه : (ربي اين امضى ,راح الراديو راح ),واجابته زوجته متشفية ملتذة : (بن العاهرة ,حتى تتعلم تضم عنى فلس ,يا قواد ) ...تشرب ابو صابرين بطبع عراقي فلا يتخلى عن الاستماع الى القرآن والاخبار والاغاني .
وعندما رهقت طفلتاها كانت سليطة تقف بالباب الخشبي الثقيل وتنادى (ياشباب من يرغب بامراة …هذه قحبة عندي ),وهي لا تعنى ذلك لكنه اسلوب للتجريح واغاضتهما
طفلتها الكبرى(صبران ), بعد عام قضته لدى الملا لم تحفظ آية وحين سئلت اجابت متبسمة وبلا مبالاة (قلبي ليس دفتر ) ,فمضى جوابها مثلا بين الجيران , تزوجت من زوج هامشي في بيت قبر شمال البصرة في احد الارياف المنسية , .اما الصغرى (زهرة ) فبعد زواجها من بن غازى بعشرين عاما لم تعرف قيمة اثمن قلادة ورثتها من امها واتمنتها عند جارتهم المؤمنة وعاشت حياتها في حرمان على هامش الحياة آلة بشرية مضطهدة ...
عشرة امتار يبعد بيت الفتاة (رندة )عن بيت سليطة ,هى آثار نهر مطمور لم يتبق منه الا مساحته المنخفضة المطمورة بالقمامة ,معتدلة القمامة ,رندة شهباء ثرية بالوسائد الشحمية تسبقها قهقهاتها ,ووجنات ناضجة وعينان ينسدل عليهما جفنان جاذبان ,,في ذلك المساء هبت رياح الفتنة ونشبت المزعجات ,انها بداية الطقس العائلي المتعكر ,يحدث دائما ان ينهش الوباء الاجتماعي فى حجر التوازن الاجتماعي ويصبح الاستقرار من الماضي, فقد هطل على بيت سليطة وابل من الحجر الترابي والعلب الصديئة وعتيق الادوات المنزلية ,استمرت المقذوفات لربع ساعة.آوت الصغيرتان والجدة الى الصريفة وتلقى الاب غطاء قدر على صلعته وتعالى الصياح والشتم واللعن والعويل والصراخ,وتناثرت سفرة الطعام بعد ان صدم احدهم لالة متسخة فانطفات وساد الظلام,ثم هدا الهجوم مخلفا الرعب والتساؤل والشعور بالاهانة,وتكررت هذه اللعبة لمدة شهرين .
وانقسم الناس بين ساخر ومتعاطف واعتاد البعض ان يتوقع كل مساء بداية الضجة.انها تعويض عن المسلسلات في زمن ندرة الشاشة البيضاء.ومهما يكن مقدار التبلد فلابد للانسان في الازمات ان تبرق في ذهنه كمية مناسبة من النباهة…خاطبت في احد الايام سليطة جارتهم (رندة ) : (يا بنتي كيف يحدث هذا ؟ عندما تكونين في بيتي لا نرمى بالزبل والاحجار ) فاجابتها :( والله العظيم لست انا,… انتم احبتي واهلى ..اهذا جزاء مودتي وتواصلي واعتزازي بكم ) .
وقررت سليطة ان يحلف الجميع واتت بقرآن لف في قطعة خضراء,ارتعد البعض من القسم مثل ام صلاح التي قالت <لا يحلف به صادقا او كاذبا , وحلف آخرون مكرهين , فقد ورثوا :(كتاب الله يشور ان حلفت به صادقا او كاذبا ) ,ومد البعض يمناه على القرآن بكل بساطة :الا ان رندة بعد ان اقسمت مضت ساخرة تحدث النسوة : (انا لا يؤثر بي القسم فقد اقسمت واخرجت ريحا ).بعد اسبوع من اليمين نشب الحريق.

ــــــــــــــــــــــــــــــــ****ــــــــــــــــــــــــــــــ







الحريق

ستجرى ويجرون …ربما بدات كلسعة افعى ,في ظهيرة تموز .الحى يجهز عليه جحيم الشمس والتعب ,الناس في ركود ابو بسام يعزل عروق السوس الفاسدة … ابو احمد يراقب العمال يعبئون الاكياس في المطحنة (يمسد كرشه بيمناه متاففا من شرار الجمر في الشحم المتراكم ….ابو صلاح يوزع اقداح الشاي في مقهاه بام البروم….جمانة تجردت وتكورت في سريرها… مويجات الجزر تسحب اخر فلولها فاضحة جحور الكائنات في الجرف ,وهي تسوط الاغصان والطافيات .
الاحياء المسمرة الساكنة تهتز من المفاجآت لانها نادرة ..الرتابة لغة الحياة ,,السلوك نسخة مكررة ,,خمدت الجمرات في التنانير.. ام نزار تتلوى مصهورة ….. ينفخ في بوق خفي معلنا قيام الكارثة ….
ربما تبدأ بعود ثقاب ,سهوا او عمدا , او نضجت عبر زحف ناري استغرق دقائق …. والتحم الجحيمان مصهور الشمس ونار القصب ,
الحبال الليفية تتخلى عن قوة عقدها … خصاص القصب تتباعد عن بعضها ….تلتحم جثث الصرائف في ملحمة الرماد , الجرذان والذئاب والقطط والكلاب تتمكن من الافلات ,النيران تعتقل الوثائق الثبوتية والصور الشمسية ,تتخلى الصفائح عن عناوينها والوانها ,الدخان في كل مكان ,,,السابقون يخبرون الراكضين , لا تحتاج النيران ان نشبت الى كثير من التساؤلات الا سؤالا واحدا يتم قذفه قذفا ويجيء الجواب على عجل : (بيت سليطة وجيرانها) .
بالسطول والقدور والعصي واخرون بالمجارف والمعاول ,,البعض هرعوا بالصفائح والزبلان …برهان يتسلق الجدران القصبية المرشحة للالتهام ويبدا بتخليص البواري المثبتة بالحبال , لا يخشى زمجرة النيران المتوثبة , يقفز الى بيت اخر مع اخرين ينقلون الاثاث الى مسافة امتار :(ينقذون ويسلب اخرون ) ..
هناك راى برهان في بيت تحاصره النيران..مراهقة مجنونة شعثاء ترتدي ثوبا احمر ,ربطوها على شباك خشبي تعترضه قضبان , تتسع حدقاتها وتصرخ في وجوههم رجال الاطفاء يتسلون بلعبة الدومينو او يشخرون في الكراسي ,,بعض الشقاة يراودون صبيا في مقبرة الانكليز …
لا تصمد بيوت القصب امام النار صيفا اكثر من نصف ساعة
عباءات يسوطها الفضول خارج الابواب ,, مراهقات يخترقن الجدران بحجة الحريق ..فرصة للاستعراض…
سلحفاة الاطفاء اخر من وصل ,,,مدوا خراطيم المياه على الجمر والرماد..







رندة

في ذلك الفجر المر صحا الحي على حدث انتشر اسرع من فيضان غاضب : الجثة على القمامة قرب الماء الاسن, والدم يسيل منها .
بعد ذلك اشتغلت اشاعات حذرة (قريبها عاشرها )..وقالت موزة (عندما كنا نقول لها ان بطنك تنتفخ تضرب بكلتا يديها على بطنها وتقول ساخرة : (شحم ولحم ) وقالت اخرى (ابوها خنقها بالمخدة) ..ام ذارى كانت تسكن جوارهم وربما القول ما قالت حذام ,وادلت (رايتها بعينى مرارا تاخذ حجرا اوقبقا وترميه على بيت سليطة وتضرب الارض بقدميها وتهز جسدها فى نشوة هاتفة بصوت خفيض (اصبتهم …اصبتهم..)وهي تكبت ضحكتها الساخرة .
هجرقريبها منزله في شمال البصرة طلبا للرزق وسكن منزلها,كان اخوها عسكريا في اربيل وابوها يعود غروبا من العمل,وطال انفرادهما ونسجت الشهوة خيوطها ويمكنك ان تتخيل مراهقة ملتهبة وريفيا بطاقة ثور, وانتفخت بطنها, ولم يكن لرندة ام اوخالة تتمكن من سترها,فتركت الجنين ينمو في ظلمة بطنها واتقنت التمثيل ورغم الشك الذى تدفق من بعض المتفرسات الا انها اتقنت اللعبة,لا احد يدرى بدموعها في الليالى ورعبها وقد دخلت شهرها الخامس لا احد يدرك كم توسلت بقريبها وكم مرة خرت تقبل اقدامه ليتزوجها وتنال الستر, لا احد يدرك كم ذلت نفسها له ونفذت كل ما يريد,كانت تستيقظ في الليل مرعوبة من سكين اخيها تقترب من العنق,في مثل هذا الطقس النفسي المرعب ابتكرت لعبة المقذوفات ,ولماذا اختارت عائلة ام صبران لا احد يدرى ولا يمكن التفسير, فسليطة رغم ما عرفت به من حب التسلط والروح العدائية كانت تعتبرها مثل بناتها وتعتنى بها , واشفقت على رندة’وغالبا ما تصفها : (فقيرة يتيمة )
ربما ابتكرت رندة اساليب بدائية لاسقاط الجنين ,فردحت وحدها مئات المرات فى الصريفة او حملت اثقالا وحركت جسدها بقسوة,لكن الجنين ابى الا ان يقودها جثة نازفة على القمامة جوار بيت سليطة ,حيث لا يمكن اغلاق الافواه او قطع الالسن التى انطلقت بلا توقف . .
اتفق ابوها واخوها مع بن عمها ان ينفذا العملية ,وفقا لكلمة سر بينهما هى سماع الاطلاقات وساعة صفر حددت في اول الصباح , وحين ترجل من السيارة قريبها ليعبر الشارع من جهة ماكنة السوس الى معمل الوصي استهدفه بن عمها بطلاقات اصابت صدره وخر صريعا وبذات اللحظة اطلق اخوها النار عليها ,وكان بمساعدة ابيه قد ربطاها, وكمماها منذ اول الليل.وسحلا رندة الى مسافة عشرة امتار لتنقلها الشرطة بعد ساعات . بعد سنتين تشاجر في الحي اخو رندة مع احدهم لو زلمة لضبطت اختك ) فاجابه ): فعيّره الخصم
ـ اختي اصبع اعوج وقطعناه ومستعدون لقطع رأسك.








جذوع

يقع بيت ابو جذوع على اليمين على بعد خمسين مترا في الجهة اليمنى من شجرة الخرنوب التي تظلل معبرا من ثلاثة جذوع متلاصقة غطيت بالبواري والتراب المتصلب (قنطرة )…تفتح ابوابه جهة الشمال يتكون من غرف بنيت ولبخت بطين مالح ممزوج بالتبن احد اولاده يحفر عميقا في التراب ليخفي قطعة نقد يتسلمها من امه كمصرف جيب قبيل ذهابه الى المدرسة …(سيصبح مقاولا يوما ويزمجر على العمال والاسطوات بقسوة وسيقهرهم حتى لا تضيع دقيقة ) .
كان ابو جذوع يبلغ مترين طولا شديد السمرة (املح ) طويل الوجه عيناه نابضتان بالغضب لسبب وغير سبب فاذا تسلق بمروده النخلة ترى لها اهتزازا ويقطع الكرب مثل ما تقطع امراة اصابع الخيار يحجز طرف دشداشته (الملحة ) بحزامه العريض كاشفا عن سرواله الابيض له اقدام العدائين وهو لا يطيق لعب الصغار اذا صخبوا يجري وراءهم ملوحا بمنجله صارخا : (عساك برجل ) ,ربما يتصور ان اقتران الفتاة برجل عقوبة لها , وهي ثقافة مشاعة في بيئة الجنوب ,فتسمع النساء او الامهات ان اظهرت البواكر او المراهقات دلالا وتصنعا او انحرفت قدر شعرة عن سكة السلوك المتزن يقلن لها في غضب : (سيعلمك الرجل سيكسر انفك ) ..
محامد اخو جذوع انفه مثل كبة وخداه وتكرشه يخفيان انفه ورقبته , ضخم كثور يشاهد ذاهبا راجعا على جذع نحيف يقطع الساقية (قنطرة ) ,,,يصنع اللبنات الطينية او يقلب بعضها او يصفط ما جف منها ,,حتى هوت به القنطرة يوما وتم استدعاء اربعة رجال لينقذوا جثته التى غطست في وحل النهر.
في يوم ما سلط معوله اسفل جذع نخلة واتى ثلاثة شبان مع ابو جذوع ليسقطوها ... صمدت النخلة والرجال يهزون الجذع بلا فائدة حتى قال ابو جذوع مقهقها : (ويلكم فقط اعضاؤنا التناسلية تهتز ).
جذوع دائما يطلق السجع الاباحي يؤلفه او يرتجله : (حودة على البرودة ) (من صدره كضة لمن يطيح حظه ) (اترس القفة وتالي شطفة ) ,,الجميع يستلذ ويقهقه من هذا السجع
زوجته السمراء برميل اذا قطعت رأسها تحتاج من القماش لصنع ثوبها ما يكفي لكسوة ثلاثة نساء .مرة خاطبت زوجها ابو جذوع : (ليس عدالة ان تشتري لك راديو ونحن نفتقر للرز والطحين وطفلتك مريضة ) .. حدجها ابو جذوع بلا اكتراث وهو يملا ورق البافرة من كيس التتن المصنوع من القماش واجاب: (وهي عدالة ان يصنعك الله هكذا , لو فصل منك ثلاثة نساء وكلبا ).
زوجته تنقع الخوص <من قلب السعف ــالخيس ــ بالالوان السائلة الخضراء والقرمزية والحمراء وتصنع البلول والمهاف والزبلان وسفرات الطعام ولها مهارة نادرة في شوي اللحوم مقابل ثمن يصادف ان ينحر خروفا احد الاغنياء ويدعو اصحابه فتغسل اللحم جيدا وتقطعه ثم تغرسه في اشواك السعف المتيبس وتضع الرز المنقع في قدر كبير وتثبته في تنور سجر جيدا بالكرب والسعف وتنصب فيه قطع اللحم المشوكة وتغطي التنور تماما بقطعة صفيح وطين فينضج الرز من قطرات اللحوم .
تزورهم سليطة باستمرار تتسلى بالغيبة ونهش الناس ,تستمتع بتجريد المتحفظات عن كنز الشرف : (هذه قرصها زوجها الخباز ,تلك تنتقل بسيارات الاجرة دوما ,سلمى حصرها جارهم ,وسمعتها تصرخ وهو يضغط عليها ليلا قرب شجرة السدر في اخر السوق ,ام حمدي يقال في بطنها نغل ,شكرية لا يطيقها زوجها في الفراش لانها نتنة ) ,,يتواصل ذلك التجريح في بيت ابو جذوع كلما انفردت مع زوجته سليمة لكن سليمة تستغفر الله ,واحيانا تضحك من تشخيص سليطة للاخريات ومن تكرار كلماتها البذيئة (ام صبران يا آلطيبة نفسها …تخلي آلعيش والتمن وتتكيرم ب ….ها.).
يلتذ الجنوبيون بالمزاح والاهازيج والطرائف الفاحشة وكلمات الاباحة خاصة اذا انفردوا ,,قليل منهم يأنف من الاحاديث والاهازيج والامثال التي تخدش الحياء ,الاباحية في القول مصدر لذة للغالبية الساحقة.
تتوسط حوش ابو جذوع المكشوف بقايا جذع عملاق لشجرة برهامة ,,قناني الطرشي الزجاجية معلقة في الشبابيك ذات الخشب العريض والمغطاة بالاشواك التى تسيل منها القطرات صيفا ,وعلقت اكياس البذورالمعدة من الاسلاب في اعلى زاوية الديوانية الواسعة وتتناثر على الحيطان الطينية والاغصان والزوايا وبيوت الدجاج المشيد من الصفيح ,المناجل والطبر والكلابات والمساحي والسلال والبستوكات والخوابي و المراود ومساحات صغيرة زرعت بشتلات الكراث والفلفل والنعناع ,…سليطة تشتري من سليمة العلك المر والاعشاب الطبية والكحل والحصران ,ولانها تصبر على الدين ولا تبالي سددت ام صبران ام لم تسدد فقد توطدت بينهما الصداقة ,…. ام سليطة لا تكتفي بالحديث الاباحي بل تتعدى ذلك الى ضربها على اردافها وتقرصها في اماكن حساسة قائلة لها : (مرتاح ابو جذوع بهذا الشحم واللحم انت تنور ايام الجلة <التثلج > )..تجيبها (لا ام صبران لا افهم منه ليلا سوى الشخير ونهاره حراثة وتكريب وحصاد وشجار مع الصغيرات ) الا يكحل عينيك .ويكسر عظامك بيديه المعاول ) . بمرور الايام ادركت سليطة بان ابو جذوع بعد اربعة اطفال لا يعاشر زوجته ..ربما شبع منها او عاد مستلذا بالسرية او يبحث عن افخاذ اخرى اقل وزنا ) وادركت بانها البديل كان ابو جذوع لا يخجل في حضرتها من اطلاق الاهازيج والطرائف الفاضحة ويكرر :
(كثرله ملح ,,,بس لا ينجرح )
(بالليل كثرله روبة
زعلان جي ما كو طوبة )
(خواف,,,, غطيته بلحاف )
احيانا يطيل النظر في الوشم على رقبة سليطة المترفة او يغمز مستعيرا وهو يحدق في عجيزتها : (بغداد كبيرة جدا ) ,(شوف اشكبرها يمشي ويفرها ) )….
ولا تفوت زوجة ابو جذوع حركاته لكنها لا تغار وتعرف ان زوجها لم تترك له الفاقة والصدمات رغبة بأمراة وبعض العوائل الريفية لا يمكنها ان تستمر دون روح الفكاهة ولم تدرك سليمة بان شهوة تستعر بين زوجها وسليطة كلاهما اكمل استعداده للمعركة القادمة …. في ذلك اليوم سافرت سليمة الى النجف وكربلاء لزيارة المراقد المقدسة ,وخلا الجو للقبرة .
وفي ظهيرة يزهق الناسك من جحيمها ..خلت الازقة من الاقدام…طرقت سليطة …
لقد حفت وتزينت وفضح الديرم الفم الناضج والكحل قوة الشهوة رفعت بيمناها اثداء موشومة ثقيلة ناصعة البياض ممرة سبابة على اسفل الانف لاعقة شفتها بلسان مبلل ,,
لم يترك لها ابوجذوع ضلعا يجبر واشعل السعير في عروقها التي نبضت بعنف …نهشها بمخالبه ووشم باسنانه ,,وبقّع زبد الجسد :لم ينفعها التوسل ولا الانين ولم يردعه صراخها الذي تعالى ,,حتى تركها جثة هامدة على بقعة من التبن قرب بيت الدجاج ,زارعا في بطنها جنينا ستسميها ( صبران).















كردلان

معجم اهل الحي يعطى عدة تفسيرات لاصل المفردة لكن تفسيرا واحدا طغى وثبت بمرور الايام فقد انشأ البريطانيون مرسى هناك ومنه تنطلق سكك الحديد شرقا الى ايران ولان القرية تستقر على مساحات خضراء من العشب وتزدحم فيها النخيل وانواع اخرى من الاشجار المثمرة اسماها البريطانيون (كرين لاند ) {الارض الخضراء }وصفح اهلها هذين المفردتين ودمجوهما..فضلا عن الزراعة يمتهن شباب الحى العمل كحمالين في سفن البضائع,ويحتاج بعضهم سنوات عدة قبل ان يتوج رئيسا للعمال فيسمى (تنديل )فيقوم بتوزيع العربون (نقود تسلم قبل الشروع بالعمل .بلغ الستين ابو محمد ليترقى الى هذا المنصب ,خلالها .نزف من جروح وتضررت عظام وفقد بعض اسنانه عندما هوى من سطح السفينة وتقوس ظهره من الاحمال وطفت قدوره المسخمة اثر هجوم الامطار وسود رئتيه دخان الكرب والسوس والاغصان المتيبسة فى ليالي الزمهرير وربما انهار خص اوطارت احدى البواري ومنعه ايمانه الصافي من الزنا هل قصد يوما حى المعتصم او شارع الدوبة وعاشر الغانيات .ام اغتال شهوته في حمام الصفيح واذا ثبت الافتراض فهو غرائزيا ادنى مرتبة من السلحفاة تلك الصخرة الزاحفة تتمكن ذكورها من التزاوج.
هل يعيش الانسان فى انتظار البيانات الاولى للانقلابات لقد آوى بن اخته التى اصيبت بمرض نفسى بعدما هجروا كردلان وسكنوا بيت الصرائف جوار سليطة لقد شهد كل شجاراتها مع زوجها ومرحها وحزنها وتلك المغيبات التي يرش فيها بيتها بالحجر , وحلف بالقران مثل الجميع بانه بريء من اشعال الحريق .
ابو محمد رأى اخته ذات يوم عائدة من بيت جيرانهم وقد وضعت اصباغا صارخة على وجهها ,فاجهز عليها بخشبة وشج راسها وتركها غارقة بالدم.عندما كسب وظيفة ( التنديل )فكر جديا بالزواج وتقمص بعض صفات الاغنياء والتجار:مضى الى بريد العشار وادخر مالا كتب مقداره في دفتر صغير سجل فيه اسمه الرباعى ولقبه واعتاد ان يقلب فى دفتر التوفير,كلما اعد الشاى عصرا على جمر السوس او الكرب واستقرمقرفصا, متجردا من كوفيته والطاقية على حصير الخوص ,محشورا في دشداشة دارسينية ويكشف جيبه عن شعر صدر كثيف.
مضت ست انقلابات وهو ينتظر هذا اليوم,وفكر فى نفسه : (الدرهم الابيض لليوم الاسود ),لم استطع طيلة عمرى من تطبيقها تلك الحكمة الثمينة ,لا ,لم اهتم بالتطبيق لانى اساسا اعيش ليومى اصلي عشرات اذاحصلت على عربون يسد رمقى اسبوعيا ... )
بعد اليوم سيقصده العمال وسيقرا فرحتهم وهو يسلمهم النقود ,طالما كان قابضا .
كل ما يعرفه عن الحرص وفن التجارة هو ما يردده الجميع عن تجار اليهود في البصرة الذين يبيعون الشاى بسعر الشراء فيحتكرون الزبائن ويستفيدون من سعر العلب والاكياس الفارغة
تزود ابو محمد من الدين بآية الكرسي والمعوذات وسور قصار يتلوها في الصلاة وبعض الاحكام المتعلقة بالصيام وشيئا من مقتل ابى مخنف النى تروي ثورة الحسين وسبعة امثال شعبية يكررها ولعل اكثر مثل يردده (الما يدرى يكول كضبة عدس ),وخمس حكايا من الموروث الشعبى يحفظها وهى ما تسرب شعبيا من كتاب الاغانى ودولة النساء والجاحظ والف ليلة وليلة وجل ما يردده عن مكر النساء والمحظوظين الذين صاروا ملوكا وهم من الرعاع .,
يقصد ابو محمد مقهى ابو صلاح في قلب ام البروم :هناك عمال البواخرينتظرون,انهكهم الجوع وعلك اطفالهم العاقول : (طالما كان يقصدها منتظرا العربون )
ذات يوم عصرا تحسس بابهامه تجويف سنه المخلوع بعدما استقر على تخت مفروش بحصيرة من البردى وضع يده على الذراع الخشبي واطلق سعلتين مفتعلتين,القى نظرة شموخ على الزبائن,وتحول الى مكان قطعة الخشب المزالة في شباك الشناشيل المرتفع,وضغط بسبابة يسراه على صدغه وصاح :(ابو صلاح:جاى وماى ) واضاف :(حليه رحمة الله على والديك )
دشداشة بيضاء جديدة بلون الزبد و مسبحة من عقيق مقلد ,حياه عشرة من الزبائن باصوات متزامنة او متفرقة ويجيبهم رافعا راسه بشموخ :(الله بالخير).. مكث صامتا ولولا سمرته والغضون العميقة وعيونه المشبعة بحزن الليالي لابصره الاخرون مشرقا فقد تمسه ابتسامة غير واضحة وتختفى وتعاود ولاول مرة يرى روحه خفيفة ,ازيحت عنها لوريات من التعب والحسرات وانهالت عليه احلام لم يعهدها وراى الوانا لم يصادفها وراها مزدحمة الشفاه باللوز والتين وعاد يلتقط انحناءاتها وتقوساتها وهى تتزود بالماء من شط العرب , لو بقيت حية, لو دفتر التوفير معى فى تلك الايام وانتبه الى صدى حكايا ابو مرود التى لا تنتهى ــ:رجل فى الخمسين يمكن ان تحسبه قزما طليت بشرته بسمرة زرقاء شفته السفلى وشمت باثر طبرة,عينان محملقتان ,يمتهن تخنيث الذكور لم يتزوج , قنينة الخمر لا تفارق جيوبه يهزج دوما بشعاره الممل (ما جوز من شرب الخمر ما دام بالنخلة تمر )مقلصا اوهازا كتفية او دافعا رقبته بين كتفيه..
ـــ منذ ربع قرن هجر ابو مرود قرية يوسفان في ابي الخصيب وسكن في بيت شناشيل قرب دكانه ينتهى عمله فى الثامنة صباحا بعد ان يجهز مسه على اخر قطرة شوربة فيما يضرب به باستمرار على قدر المنيوم كبير صارخا بين لحظة واخرى وسط ساحة ام البروم فى الصباح الباكر :((عدس ...عدس ..)
مرة (يحدث ابو مرود ) ..) زهق احد من كذب (ابو سليمان )فكان يئن بقوة كلما اختلق كذبة وبعد مفاوضات ومداولات اتفقا : ( كل كذب فديتها عانتان ) .
ذات يوم قال سليمان :اخوان (كان يخن ويجحظ كلما هبط عليه شيطان التلفيق ),,مرة هبط علينا زمهرير (جلة ) ما تنحمل اذا برز وجه الادمى من باب الحوش يقطع البرد المثلج انفه ليلتها قفز من حائط بيتى قط اسود الى حائط سقف الجيران فتجمد وظل معلقا بين الارض والسماء ) ..فنهض له عندئذ رجل مهددا بيمناه {سليمان هم هاي بعانتين} ضحك المتجمهرون على تخوت الخشب ومضى ابو صلاح يرش الزقاق بالما ء من سطل المنيوم وهو يبصق مضغة السويكة . ...
صاح ابو محمد :شاى ابو صلاح (كم حله ) وتلمس دفتر التوفير فى جيب دشداشته الجانبي نش ذبابة عن انفه وقال خفيا { ايا ليت الشباب يعود يوما }واعطى العربون لثلاثة عمال قصدوه .

بعد حريق بيت سليطة والبيوت المجاورة (بيته كان قريبا جدا منه )عاد لجذوره وقريته كردلان استاجر بيتا بسيطا :غرفة طين وصريفة وسياج من الصفيح الصديء والقصب ارضية ترابية ..شجرة نبق وافرة وسط حوش يقع في نهاية زقاق ضيق تقطنه عائلتان.
هنالك بعد خمس سنوات سيضعف قلبه ويحتله الوهن ويتخلى عن اسلحته شيئا فشيئا ويخونه الصبر والمكابرة وتذوى يداه خشبتا الصاج التى صحبت الكلابات والمراود في البساتين اليافعة وبطون السفن المثقلة وتغادره صلابة الظهر الذى تحمل الاف الصناديق واكياس الرز.
فى ليلة ممطرة انهى صلاته تحت شجرة السدر ومضى الى غرفة الطين...يقولون : (المؤمن يشعر بنهايته)....في الساعة التاليه كاد ان يذرف دموعه على عمر ضاع , لا زواج لاوريث ....عثرات تلو عثرات ...وانتظار يسلمه لانتظار .... مثل الايام والانقلابات المتشابهه...وحيدا احس انه يغطس عميقا في هوة عميقه ...كان ضوء الفانوس خافتا تخترق زجاجته المكسورة شبه المهشمة نسمات ....وضجة العصافير على شجرة السدر بدات بالتلاشي اخر ما مر في خاطره((رحمة الله التي وسعت كل شيء))...وفجأة تذكر اية في صحوة ذاكرة صدئه:(( ويطوفون عليهم ولدان مخلدون اذا رايتهم حسبتهم لؤلؤا منثورا)) ..وردد جملا مبهمه (باخرة كبيرة )...(ملاً مرزوق ) ....( سليمه)..ساعتها كانت اخته تقلى له البيض فى اوان من قبل التاريخ فى ثوب ابيض تستعد لفارسها بتسريح بقايا خصلات مجعدة وبمشط خشبي ......كثيفا يلتف الليل على بساتين النخيل والسواقى المخباة ويطرد الضجيج من الدرابين المتربة تختفى القبرات تحت جذوع الفسائل ...تبدا الخفافيش رحلة القنص ....يندلع هجوم البعوض... اصوات بومة متقطع.... الضفادع تطلق اصوات الاغراء .....ومر بعدها في لحظات احتضار مختصرة وفارق الدنيا.
ستبقى اخته وحيدة تقتات من الصدقات وتحاور الاشباح وتحدث الجيران ويحتل ذاكرتها مشهد وحيد:{فتاة في بدلة زفاف بيضاء} ..تشكل المشهد في اوقات متغايرة واحتفالات مختلفة واعمار متعددة ومرايا لاتنتهي وامشاط خشب لو جمعت لملأت ثمانية ابلام ..دائما تصف نفسها مردده بصوت مرتفع(طاهره ..قماش ابيض ..زبيل لا يناله احد)...,,,تتعشى مع الجن وتعلك الزجاج وستختفي يوما بعد ان يشتد قصف المدافع والراجمات على كردلان ولايعرف شيءٌ عنها.








فحمة والصندوق

في ظلمة قاسية وبرد قارص ,صرخت سليطة (قوادون ,اولاد الزنا ) واعقبتها صائحات وصراخ صبية ورجال غاضبون ,كان مطرا من احذية عتيقة ونعل متخشبة ومقذوفات صغيرة ينهال عليهم من الافق الذى اختفت فيه النجوم .
بصعوبة حملوه الى مكان خفي , وكسروا اقفاله العشرين بجهد بليغ …طالما نسجت النساء اساطير واطلقن تنبؤات عن صندوق (فحمة ـ السيسم ) ,وهي امراة سوداء تخطت الخمسين ,تقطن عزباء وحدها….صندوق ثقيل من خشب الصندل , مزخرف باشكال تدعوك للظن بانه صنع في الهند ,وكثرت الظنون التي لا تحصى وكل واحدة ادلت بحدسها عن محتوياته :
ــاقراط وقلائد من ذهب الاحمر .
ـ يقال ان جدها عمل لدى الانكليز , وتسلل ذات يوم الى قلب الكمب ونهب اكوابا صغيرة من الذهب الخالص .
ــ تحف ومنسوجات ثمينة وليرات من العهد العثماني
بمرور الايام تاكد الاهالي بان فحمة ,التي لا تكاد تنال الرغيف ,تخبئ كنزا في صندوقها الاسود الثقيل , ولهذا نادرا ما تغادر بيتها.
وسمع بذلك اربعة من اللصوص وتحزموا بالخناجر المعقوفة وقال فرعون ملتفتا الى مصعب : (توكلنا على الله ) ولم تصادفهم حتى هرة واحدة ..ظلام مهيمن وبرد متفرعن , وعبروا الازقة الضيقة حفاة ,فيما كانت السواقي تتثلج وتعاونوا على حمل الصندوق فلما لم يجدوا فيه غير الاحذية وبعض القطع العتيقة البالية شرعوا بقذفها على البيوت ..وبقي صندوق فحمة حتى الصباح خلوا من الاحشاء والاسرار ,لقد اجهز هؤلاء اللصوص على منجم الاساطير التى لا تنتهي .






مرهان

في السابعة عشرة من عمرها,تمكنت مرهان من اكتشاف فوهة في الجدار قدر اظفر خنصرتكفيها لتشاهده بوضوح :شارب,مرتب على فم شهي,عيناه البنيتان تتالقان بالمعانى,احمد سلمان :شاب في العشرين, اعزب,بشرته بيضاء ,جسده يتحرك باتقان ,كثير الصمت ,متانق ,لم تسمع صوته يوما عاليا ولم تباغته منفعلا, طبعه سكون الانهار الصغيرة ,تحاوره في سريرها تحبر له الرسائل وتحرقها,(يا حياتي..ازهقتنى الوحشة,وتمكن منى البرد ,خذني لدفئ صدرك ):كيف اشعره بحبي ,وانا اذا صادفته اجفل واغلق الباب , لم استطع ان ابتسم له,خجلي سلطان,وهو يستحي,شاب تربى في عائلة,تصبّح بالتلاوة,ورمضانها دعاء الافتتاح, تشرب ذلك الدعاء عميقا في روحها (اللهم انى افتتح الثناء بحمد ك وانت مسدد للصواب بمنك وايقنت انك انت ارحم الراحمين فى موضع العفو والرحمة ).


سرقة

هكذا سمعت وكأن المصيبة في بيتها. ولم تبلغ الشمس الضحى حتى انتشرت القصة ولم يبق بيت لم يعرف:النسوة حكايتها وهن يستمتعن بالعلكة ,طقاتها تسلية في شفاه مزينة بالوشم, :الرجال قرروا الحذر وان ينطروا ليلا وفي ايديهم النصال و العصي
المراهقات اخبرن بعضهن فى طقس من الشفقة,ربما لان الشاب احمد سلمان كان جميلا وخلوقا وطالما تمنت كل واحدة ان تقترن به...وضعن خططا او تطلعن للتخطيط لذلك, لكن مرهان اغلقت باب غرفتها وذرفت دموع الياقوت, وحيدة توترت اصابعها وظلت تنتقل من ركن لاخر في الغرفة ممسكة ارنبة انفها او تنتف بلا وعى خصلاتها الذهبية {قبيل الفجر دخل رجلان ملثمان وقف احدهما شاهرا عصا غليضة على راس احمد وابيه فيما قصد الاخر صندوقا وبحث عن الذهب وحين صحا الشيخ وابنه احمد وجحظت عيناهما ولمعتا في ضوء الفانوس اسكتاهما بنبرة تهديد .(لا تتحركا والا هشمنا راسيكما ) واخافوا بقية العائلة و توسلت الام وذكرتهم بعقاب الله فاسكتاها وسرقا المدخرات وغادرا..
تذوقت مرهان ايام حداد لمدة شهر, كاْن حادثة بيت ام احمد وحدتها مع حبيبها :(ايدرك اني اتالم له اكثرمن اي انسان ,اتعلم امه بانى تمزقت حزنا لاجلهم اذن لاختارتنى واوصت ابنها ان يقترن بي ) وعمقت حزنها وكانها بهذا السلوك تريد ان تؤكد لاحمد وفاءها ومدى حبها له وفي المساء جاءت امها اليها بمنقلة فحم وتركتها : (مرهان انت بردانة تدفأي يا بنتي)وذهبت لتعد لها قورى النومى...واحتضنت مرهان الجمر وتناولت ورقا اسمر وسطرت (حبيبي احمد ان الدنيا سوداء والنوم جفا عيونى لان فاجعة حلت بكم وانا حزينة جدا يا حبيبي يا احب الناس ) وطوت الورقة باناقة مررتها على عطر بدائى وقبلتها ثم دستها في داخل الوسادة انها تدرك بان مثل هذه الرسائل لن تصل اليه ولكن تسطيرها له يثلج صدرها؛
بعد سنة من هذه الحادثة قصدت مرهان ذات يوم معهد المعلمات وعلمت ان زميلتها في المعهد (سارة )قد خطبت فتقدمت اليها وعانقتها بحرارة وتمنت لها السعادة وانزوت في ركن تحت شجرة ونظرت مليا الى بنصرها تحسرت ومرت بها الذكريات المرة , نزل كالصاعقة في كيانها النبا : (احمد سيتزوج واين امضى انا ) وغرقت الوسائد بالدموع ولاح سواد خفيف تحت جفنيها وبدا كان غضونا بسيطة تحبو الى جبينها اهملت امشاطها وهجرت الاستحمام الذى اعتادته كل صباح تركت العوسج حرا يتكاثر في روحها وطعم حنظلة في اللسان ( احمد , لا, لم يكن وفيا لقد هلكت انتظارا ) (يعلم لا تقولي لا يعلم , يقولون من احب انسانا باخلاص فان ذلك الانسان يحس به ,لكنه فضل تلك البدينة السمراء علي صحيح هى بنت عمه لكنى حبه الصادق )
انحشرت مرهان مع النسوة في ذلك اليوم تصفق معهن بلا روح وبلا احساس ,تردد بين المزغردات )عمامه وانطوه مرة ), (فوك المية نحط ميتين اتدلل خوية اتدلل ) ونظرت الى ام احمد في دشداشة حمراء شدت وسطها بقطعة قماش علقت بها قطع صفائح مد ورة صغيرة هازجة وهى تردح :(ردن سود يا شيباتى ) كانت الاهازيج والزغاريد نصالا انهكتها ذلك اليوم , وبعد الغروب اجهزوا عليها تماما وهم يهزجون فى ضجة تصفيق وزغاريد (يستاهل ربعة يزفونة ) ,وعلى اغنية فرقة الخشابة التي اتوا بها: (حركت الروح لمن فاركتهم ) اصيبت بشلل تام وانزوت فى سريرها ,فيماعرفت الدموع طريقها الى الوسائد المزهرة,فى الايام التالية فقدت شهيتها بالحياة وذهبت فى زيارة الى بيت عمتها فى الكزارة ,كرمان بعمرها,شابة يانعة, خمرية عيون يموج فيهما البن ولا تفارقها الابتسامة ولانها الوحيدة فقد امتدت طفولتها وكان ابوها يعود لها من محله فى سوق المغايز بالدمى والجمارونبق التفاح وتجولت معها عصرا على ضفاف شط العرب وبين الازقة التى تظللها زخارف الشناشيل وصحبتها الى سوق البنات وسوق الخضارة ومحلة البجارى ومررن فى سوق ضيقة مستمتعات بمشهد الكرزات الشهى طافحا من اكياس كبيرة او معروضا فى اوان من الالمنيوم او النحاس وغالبا ما يعلو بشكل هرمى ومررن على سوق الحبال المتنوعة ومحلات بيع ادوات الصيد وولجن سوق الهرج .كانت كرمان متحررة من اغلب الممنوعات التى تربت عليها مرهان والمناخ النفسي الذى فرضه طباع حي سليطة.فاذا مر شاب انيق او جذاب ضغطت كرمان على يد بنت خالتها واطلقت ضحكة شبه مسموعة وتزجرها مرهان (عيب يا بنت ). الا ان الشبان يسلطون الضوء على مرهان .





مناجاة مرهان

ولدت (مرهان ) قبل ان يعلن الزعيم عبد الكريم قاسم بيان الثورة الاول بثماني سنوات, شهباء,اقرب الى الطول..عينان خضراوان, وحنك مثلث, صدر منتصب,تسرح شعرها الكحلى مثل ذيل حصان ,والخصلات على جبينها قوس مقلوب,,,.....
الام الة منزلية دؤوبة ومعزولة,.....الاب معلم راكد....,يقتصد بالكلمات والعلاقات والطعام...
المنزل :ثلاث غرف من الطابوق غير الملبوخ,باب المنزل الخشبى المزخرف ثقيل جدا,صنعه الهنود,فى اعلاه حفر فيلان قزمان متقابلان..وثبت فى اعلاه حذاء عتيق ...على بعد مترين من يساره سدرة وافرة وفي اليمين نخلة برحي ,وقبيل ان يتراكض الليل ويحتل النبق الزيتوني ,تندلع جوقة العصافير و تبقع ذروقها العشب , ,هنالك حب(خابية ) ماء كبيرغرز اسفله شبه المدبب في قاعدة خشبية مستديرة تستند على ثلاث قوائم (المرفع ) علقت لوحة (اشرب وتذكر عطش الحسين )
انهت مرهان دراستها الجامعية وبلغت الثلاثين (اثناءها تزوج اخوها الوحيد حسنين الذى يصغرها بعامين ورحل بعيدا ,واقترنت اختها سيماء التى تصغرها باربع سنوات وسكنت فى محافظة جنوبية اخرى ) ,واستعد ابوها للتقاعد والنقاهة من تعب العظام ومرت سنوات منذ غادرت امها فترات الطمث فسمنت وازدحمت عجيزتها بالشحم واللحوم ,وبدا الروماتزم يثقل خطواتها, وآلام الظهر تئن منها في الليل, وتولعت بغطس اقدامها بالطست النحاسي المملوء بالماء الساخن )
مرهان في الثلاثين تناجي الرب اذا هدات ضجة الكادحين ,وحيدة تناجي اذا سكن الليل سوى من نباح الكلاب وصياح الديكة وصفارة آلحارس ...تغادر سريرها وتواجه وجها لا تكاد تعرفه اعتادت على رؤيته ,, فلم يكن التحول فاجعة مباغتة, تعمقت الغضون عبر سلسلة من الفواجع والجفاء والخيانات والمزعجات اليومية العابرة والصامدة واسوّد قليلا اسفل الجفنين,,,, نضارة شعرها صمدت امام غزو الشيخوخة عبر جهود مضنية بذلتها...مئات الامشاط الخشبية والبلاستيكية ,والحناء,والشامبو والصابون النادر ,الترويض الذي لا تكل منه لتلك الخصلات ...رغم هذا نشبت بعض الخصلات البيضاء وغزا ذيل الحصان ,تضغط بسبابتها اعلى وجنتها وتحدق كانها تحاول مسح اسوداد الجفنين ,تدعك شفتيها او تضغط على الجبين ..تخاطب نفسها : (هذا هو الغراب ,,هذه ا ول الخطوات لشيخوخة مبكرة لا تقاوم )....ثم تناجي : (الهي بعزتك وجلالك وارتفاعك في مكانك انقذ روحي قبل ان يصهرها الهرم ,انقذني يارب ,طالما صليت وحفظت جسدي من الانحراف,ولساني من الغيبة والبذاءات ,كم سبحت وكم صليت,ربي بجاه شهيد كربلاء ,طوع لي قلبا فاكون اما ,رقق قلوب الرجال) ,,,,,ثم تذرف دمعا ساخنا وتطفئ فانوسها وتنام .
وطالما سمعتها امها ,وقت السحر ,وقد استعد الحي ليومه المعتاد , (يا منقذ الغرقى ويا منجي الهلكى ...انت الذي سجد لك سواد الليل ونور النهار وضوء القمر ودوى الماء وحفيف الشجر ).....تقرا بتهدج وبشهقات ,بصوت حزين يثير الشفقة ويدعو للخشوع ..فتحدث الام نفسها ( الهي اشفق وارحم هذه الفتاة الطاهرة الهى فرج كربتها )ثم تقول :((نقية طاهرة مؤدبة كفوءة جمال وا خلاق ,كل هذا وقسمتها مربوطة ,يا الهي صبرا على حكمك وقضاك )
وربما تذرف بعض الدموع وتستعد للصلاة ساندة ظهرها بيمناها واضعة ساقيها في حالة احماء .
وعندما تسمع من الجامع القريب ,,(الله اكبر )تقول :(لا اكبر من الله شيء استغفر الله اعوذ بالله من شر الشيطان الرجيم)













متوسطة ام البنين

تخطت مرهان باب المدرسة المرتفع ,حيتها الفراشة العجوز {ام سارى} ,,واستقبلت عينيها ازهار الياسمين والجورى من اليسار ثلاثة امتار مزهرة معشبة من كل جهة تكتظ العصافير صاخبة فى اغصان شجرة السدر,,,, وقبل ان تخطو يمينا الى الادارة لحظت المراهقات يلتهمن من الطابق العلوى كل شىء فيها :الملابس ,,الشعر ,,العيون الحواجب ...الطالبات يتمكن بسرعة فائقة ان يحفظن ملامح الاخرين , ويستمتعن بالتصنيف والتعليق بعد ذلك .
وفيما بدا برنامج التعارف,,بعد رتابة التحايا والترحيب فى الادارة ,,الطالبات فى الطابق العلوى كن يتعرفن عليها عبر الاستماع لتعليقات بعضهن :ـــ شعرها طويل ذيل حصان فراشة بنفسجية تشد اعلاه....
ـــ حذاؤها الرصاصي منسجم مع تنورتها ولو ارتدت قميصا ابيض بدل القميص الرمادى .
وصرخت دلال :رصاصى وابيض ستكون عندئذ طالبة !!!
ــ صحيح ,, واللون الاحمر والوردي والرمانى يجذب انظار الرجال .
هتفت اسماء :يمكن تكون مخطوبة او تنتظر خطيبا انها تبدو انيقة .
ــ تغض طرفها ورقبتها الى الارض اظنها تتمتع بالخجل .
ويمكن (قالت سلمى ): عصبية فحركات اصابعها متشنجة .
علقت اسماء :لا يا اخوات ,يمكن تحس بالاحراج لا تستعجلن ,يوم او يومان وتنكشف الاوراق.









الحسينيتان

في الحي حسينيتان : شيخية واصولية,المجموعتان لا تقتنعان بمرجعية بعضهما الدينية وربما يسخرون من بعضهما همسا او في الجلسات الخاصة الا انهم في النهار اخوة مؤمنون ,وكل فئة علقت صورة مرجعها الدينى في اطار انيق وعلقته على الحائط .
ينتظر الناس الاذان في ليالي رمضان من مكبرات الصوت يطلقه الحاج (ناصر) في حسينية الشيخية او منزل الاصولى الحاج ( مجيد) الذي يستغرق وقتا اطول من الحاج علي في تلاوة القرآن ,قبل ان يطلق ما ينتظره الجميع : (الله اكبر) , ولهذا يتضايق البعض منه , وربما يسافر ويترك ابنه يشغل مسجلا يتلو بصوته . بعد الافطار,ينطلق صوت الحاج (ناصر),وهورجل مؤمن بسيط ,يمتهن كشف الفال, فيتلو كل ليلة دعاء الافتتاح, (اللهم انا نرغب اليك في دولة كريمة تعز بها الاسلام واهله وتذل بها النفاق واهله). بعدها يبدا مجلس العزاء اولا في حسينية الشيخية , الصغار يصغون بصمت,و
يتربعون قريبا من النعل والاحذية بهدوء .
في احدى الليالي مر بهم مرجعهم في زيارة تفقدية, وتامله( برهان )طويلا وافتتن من هيبته ووقاره وصمته ونعومة يديه وانبهر من نور يشع من وجهه,وتعمد الحوار اثنان يجلسان جواره بحماس واشتد بينهما الجدل , ربما للفت النظر والعالم يصغى, حتى تراهنا على كيلو باقلاوة يربحها من يؤيد رايه السيد المرجع وسألاه اخيرا , فايد راى احدهما بكلمة واحدة وعاد يصغى مطرقا مسبحا بمسبحة سوداء.
ابو شعلان ,صاحب حسينية الاصولية, طويل القامة ,اسمر يرى ايام عاشوراء مرتديا كوفية تتدلى على ظهره و دشداشة سوداء رفع مقدمتها وثبتها فى حزام جلدى وبان سرواله الابيض يحمل سطل الفافون مملوءا بالماء والثلج, وطاسة,متنقلا بين الدرابين ,صائحا بصوت مجلجل :(اشرب واذكر عطش الحسين (ع) ),(انا خادم الحسين ) .
في تلك الايام يتزامن رمضان مع تموز البصرة والشوارع تغلى حتى قال احدهم:
ـ (يمكنك ان تشوي الصبورة بوضعها تحت الشمس فقط ) وقد ينطوى حماس ابو شعلان وقوة صياحه على عصبية خفية وتوتر مزاجي وحب الظهور ورغم خدمته للامام الحسين (ع ) والحسينية فان الناس لا ترحم تشربت ارواحهم بغريزة الفضول ونسج الحكايا فتحدثوا همسا (بان بنت ابو شعلان الباكر تعمل ليلا في احد النوادي الحكومية بصفة نادل).
ابو شعلان سيج بالخص مساحة واسعة جوار منزله واستقلها لمجالس العزاء ,صيفا ,فى العصر يرش التراب وقد صف الجذوع بشكل مستطيل ,تتكئ عليها الوسائد وفرش الارضية بالبسط على البواري.
وفي الشتاء تكون المجالس في الديوانية.اثنان من الشيخية وثلاثة من الاصولية تخطوا الخط الاحمر واعتادوا على التواجد في كلتا الحسينيتين.
في احدى الليالي اندلع جدال حاد بين الفريقين وحاول ان يوضح الامر روزخون شاب وسيم معتم بعمامة بيضاء :(ان احد العلماء في البصرة ارسل الى مرجعه في النجف سؤالا مستفسرا عن مسالة ..)وقبل ان يكمل الشيخ كلامه تصدى له ابو سلمان الشيخى ــ وهو رجل فى الستين , امي ــ واعترض على راي العالم الاصولي , ووصفه بكلمات غير لائقة ,في سورة من الغضب والانفعال,دون ان يعي حقيقة المسالة ,لكن الجميع تمكنوا من تدارك الامر وتم وأد الصراع .
واوضح في اليوم التالي الروزخون ـ الذى جاء من الدرس في النجف ـ وفي غياب الحاج سلمان حقيقة الامر ,مضيفا (بانه صمت لان الحاج كان منفعلا) .
تختان وسجادة وقرآن كبير الحجم وبعض كتب الادعية , هذا كل ما فى غرفة الحاج ناصر التى تصلها النسوة عبر رواق طويل, وهو يرفض ان يعمل حرزا للعاشقات والمفرقات والاعمال التدميرية والخبيثة ,فقط ادعية للرزق والاطفال المرضى او الفتيات اللواتى اصابهن مس ,يستقبلك بوجه بشوش ,يصغي لك بعمق,ويقرا في سريرته شيئا ويفتح القرآن ثم يكتب عبر نظارته الطبية دعاء اوآيات على ورقة بيضاء, ويوصيك بلفها بقطعة قماش خضراء وتعليقها في الصدر .وفى مرة قصدته( ام برهان) ,وطلبت منه ان يقضي على نوبات الصرع المتكررة التى ابتلى بها ابنها الكبير,وخرجت منه بورقة ,وتوصية ,وسحت ابنها الصغير وعبرت معمل السينالكو وتوجهت غربا واجتازت شارع دينار ومقبرة الانكليز والسيك وفى بقعة مقفرة جلست قرب شوكة متيبسة وعقدت بها شريطا من قطعة قماش خضراء وتلت آية كما اوصاها ورشت عليها من الماء الذى سلمه لها الحاج ناصر,وعادت في انتظار ان تخضر فتزول نوبات الصرع عن ابنها .
لكن ابو ناصر لم يفلت من قبضة الاجهزة الامنية فقد استدعته بعد سنوات وزج في سرداب شبه مظلم تحت الارض لمدة شهور وافرج عنه,بعد ان وقع على تعهد بالكف عن مزاولة الاسترزاق من كشف الفال.











مرزوق

مرزوق في عقده الثاني عريض الجبهة مجعد الشعر من اصل زنجي قصير ممتليء لونه اقرب للسمرة ,اكتافه ودفتاه تذكرك بالملاكمين .خشن كثير المرح يملك طاقة شهوانية كالكلاب , جلس جوارالفتاة بهرة في ظهيرة صيف ساخطة في غرفة صغيرة , غرفة التمرين والضيوف ,كل محتوياتها تخت وسجادة مزخرفة وكرسيان من الخشب قديمان ,وآية الكرسي المعلقة على الحائط تقابل لوحة كتب عليها بخط الرقعة (الحسود لا يسود ) وصورة للزعيم عبد الكريم قاسم في بزته العسكرية وصورة اخرى لرجل دين كتب اسفلها (اية الله العظمى زعيم الحوزة العلمية السيد محسن الحكيم ).
وكانت بهرة فتاة بيضاء فى اول مراهقتها ضخمة قصيرة مشبعة الاردا ف يتدلى شعرها على جبينها كقوس ,انها جارة لصديقه صاحب المنزل.....
كلما ولجت ولمحها مرزوق يهتف منغما (يس يم هلة يمة هلة ) عارضا فحولته وشهوانيته ,محركا يمناه…
دخلت المراهقة الصغيرة علينا ,فى تلك الظهيرة لسبب وخرجت ,التهم مرزوق اردافها بنظراته وقال لبرهان : (امسكتها قبل ايام ..انها لا تشبع (منه) ..مردت ردفيها ,اشبعتها عضا وقرصا واملتها على رحلة مدرسية وقاومت فكفختها على قفاها فسلمت قفتها لي …طار الشرار من عينيها بنت الكلب الذي يصفعها بقوة تريحه رويتها بكاسة كاملة من ظهري ,المصيبة امها المعلمة دربتها جيدا ,,,كان يروى وعيونه الثعلبية تتالق وحركات جسمه ويديه تكشف الانفعال.
ولعله يكذب وما يرويه خيال .وربما صدقت حكايته فرغم ان الفتاة خجلى قليلا ويمكن ان توصف بالمؤدبة لكن (ياما حدر السواهي دواهى ) ولعله تحرش بها فعلا الا انه يبالغ فمرزوق معروف بطاقته الجنسية الدافقة وقوته الجسمية , …سلاحه الكبير يرفع دشداشته النيلية باستمرار من وسطه.. .
مرزوق كاسور ماهر فى فرقة حي سليطة الخشابة الناشئة …فى هذه الغرفة يجتمعون ظهر كل خميس يتمرنون على اداء الاغاني قبل بدأ الاعراس بست ساعات وهو اجتماع للتسلية اكثر منه تمرين ::
ثلاثة مع ثلاثة مع ثلاثين (
وحسنك بطل الغالي ثلاثين
حسبت جعودها مية وثلاثين
غير المختفي حدر الثياب).
هكذا يصدح صاحبنهم فهد ويتغير الايقاع مع بدء البسته : :
(هذا الحلو كاتلني يا يمة
فدوة اشكد احبة وارد اكلمه )
ويقف مرزوق رافعا كفه العريض الى الاعلى هازجا …. (الله انطاك وما قصر
جرباية وكنتور احمر) ...
ويضجون بالتصفيق .
مروحة السقف ثقيلة صدئة تصب عليهم جمر تموز ويقدم الشاي .. وتندلع القهقهات والطرائف الاباحية
لا احد من العائلة يتذمر ولا جار يحتج انها طقوس معتادة.


عرس في حي سليطة

عائلة متحفظة جدا قرب بيت الطين وفى فسحة بين النخيل اقيم العرس ..رش التراب جيدا منذ العصر ..الجو ربيع ... صفت الكراسى وعلقت البالونات الصغيرة الملونة والمصابيح وتزاحم المعقلون والافندية واطلقت الزغاريد لا وجود للخشابة ,لانهم لا يتسلطنون بلا عرق , واهل العريس يستحرمون الخمرة ,فتبرع احد المقربين من العريس بتلطيف الجو :(( سمورى اسمر, نحيل مائل للقصر ,شعر مجعد ,بدشداشة بيضاء )وتحرك جيئة وذهابا بين صفي الكراسى ,, اسمعو:قال سمورى:((مرة اصيب رجال بمرض فذهب الى الطبيب وهو متمنطق بحزام جلد احمر عريض مثبتا فيه خنجرا وطبرة وماسكا بيده (بوكس حديد ) نقش على يده عبارة (ابتعد عنى ايدى والقامة )استغرب لمظهره الدكتور واراد ان يسخر منه :(تمدد ) {امره الطبيب } ووضع السماعة على بطنه وقال له :(ابنى ..انت حامل وفي شهرك التاسع ) ...فجلس الرجل وهو يغلي محدقا في عين الطبيب,وغادر صامتا ..تساءل في نفسه :ــــ( الطبيب يقول حامل ...وسفة ابو خويلد حامل ...تالي عمر ..مع الاسف) ــــ وخطرت فى باله فكرة ..يمضى لطبيب اخر وساله الدكتور :(هل ذهبت لطبيب ثان وماذا قال ) فاخبره.....فحصه متسليا مبتهجا فى سريرته وقد استلطف الفكرة ابنى فعلا انت حامل... هذا علاج واذهب ان شعرت بوجع واقضي حاجتك )
وفى ضحى اليوم الثانى قصد مكانا معزولا ليقضى حاجته على حفرة صغيرة واخرج ريحا فرأى جرذا ضخما يجري مسرعا من بين قدميه فصرخ به :((ملعون مدعبل مثل ابوك )..انفجر المهنئون بالضحك وقال احدهم :{ولك ..هههه.. ولك سمورى وين لكيت ها لسالفة ) قال وهو يعدل وضع العقال .
ونادى (سالم قامة ) عليه في الضوء الخافت واشار له براسه ان ينحني ,,,وفيما انحنى سموري (وهو مبتهج )باغته دون ان يتحرك عن كرسيه بضربة راس في جبينه خر اثرها سموري مغشيا عليه فبادر اهل العريس والعقلاء بتهدئة الوضع وفض الحفل بسرعة دون زفاف .وحتى الاب الذي هيأ عصا غليضة لابنه العريس ,ان تاخر عن حسم المعركة او تردد عن اداء واجبه الوطني امام عروسته, قد تخلى عن عصاه مرددا فى ضميره (الحمد لله ...خلصت بسلامة ) )
بعد ساعتين سيعلن العريس النصر شاهرا منديلا مدمى مزهوا,, ويفتخر الاب واهله,, وستطمئن قلوب ذويها.ستصحبها النسوة بعد شهر لنقل الماء بالمصخنة وتبكر لسجر تنور الطين وستستعر الاسئلة بعد ثلاثة اشهر :((حبلت :اي :ليش ما حبلت :ولد لوبنية:رضيعة خطية :كلها نعمة :خية كون ولد اهو وحيد :ياخذ عليها احسن هاى بطن فارغة :ياخذ والغيرة تحبلها:اى خية لوما الغيرة ما حبلت الخنزيرة :يحبها اشلون يطلكها :ما شاء الله ترس بطن من اول ليلة :هم ماتجيبين عمة وهم منفوخة وتكعدين الظهر: (يبة خلها بذمتك وراح اخطبلك بنت المختار وهية زغيرة وحبابة وامها جابت سبع بطون )...:{يمة يحبني..بس امه توزه :هاي عجوز شر ما صار الكم اربع تشهر..(الله يفرجها يمة): خايفة يجبرونه و ياخذعلي ......يمة باجر اتعنة للكشاف ) .





سيرك


عشرات المرات تمر مركبة مزخرفة تعلن عن افتتاح السيرك في البصرة, تقطع شارع دينار ذهابا وايابا ,تعلو مقدمتها لوحة كبيرة ,رسمت عليها قردة وافيال وزرافات واسود بالوان صارخة ورسمت على بدنها حيوانات الغابة ,تمر على فلكة الحكيمية ومعمل السيناكو وماكنة السوس والمطاحن ومحل ابو هادى ودكان حسون ابو حديبة .,وكان سيركا عالميا قد حل في مدينة البصرة وخصصت له البلدية مساحة واسعة قرب منطقة الجمهورية,وقد جلبوا معهم قردة ومفترسات من نمور واسود وانواع نادرة من الحيوانات,وافيال مدربة واستعرض المهرجون والبهلوانيون مهاراتهم الادائية وانبهر اهالي البصرة بنساء شبه عاريات مع رجال يمشون على الحبال المرتفعة المشدودة ولاعبى الاراجيح وسحرة .واسود تعتلي الطاولات ومروضين يدخلون رؤوسهم فى افواه الاسود ,ولم يبق احد في البصرة لم يزر السيرك الا من حمل شعورالشاعر محمود البريكان:
(ساسقط في عيون الفيل سوف اتابع الشفقة
سانحاز
الى صف الاسود الكهلة الارقة ). وقالت رندة وهي تدحج بعكسها صديقتها وهي تتابع اعضاء القردة المستعدة: (انظري )وغطت فمها مبتسمة.....
قالت فتاة لزميلتها :(لا تقولى سركس,فقد تعنى كلمة فاحشة وقولى < سيرك > ).فيما تمكن اسد من قلع انف مراهق وضع قصبة فى مؤخرته..وقبض فيل بخرطومه على شاب ورفعه عاليا حتى تمكن مروضه من انقاذه ,وقدم الصغار والمراهقون بحذر المكسرات والسجائرللقردة , وتمكن الناس من الاقتراب الى زئير السود وهي اسيرة في اقفاصها ,واخبر الزائرون الاوائل من تاخروا او ترددوا في حي سليطة,فقصدته رندة وبرهان ونجمة وابو محجن ونجل ملا اشرف وبنات سليطة وام اسحاق وابو محمد والمئات .
وحدث ان بعض اللصوص تمكنوا في الليل من سرقة بعض الحمير البيضاء النادرة فصبغوها باللون الرصاصي وخطفوا بعض الخيول المروضة, وبردوا اسنانها بالمبارد للتمويه على اعمارها وبعد جهد وتفتيش تمكن رجال الشرطة من العثور عليها .

زواج

بعدما نقلتهم السلطة لبيوت مختصرة شيدت من الطابوق .. استقرت سليطة في بيت يواجه بيت بن غازي اخو الحوذي السكير الخول (طامر).. كانت امهما تعمل في بسطة عطارة على الارض ...وتعود ظهرا ..
النسوة عصرا يكنسن الزقاق الترابي ويفترشن العتبات .. ولا يكتم سر اكثر من ساعة .. (ساقول لك سرا ولا تذكريه ) <خية حدر نعالج> وهي جملة تعاهدية على الكتمان .. ستنقلها المستمعة بعد دقائق لاخرى مكررة الجملة (سرك في بير >.. هكذا لا يصمد سر .. الرجال واهمون .. بأطمئنان يسرون للزوجات التي تنتظر الفجر بلهفة لتبثها .. كل يوم يندلع شجار وتعلو العصي ويتناثر الطابوق والشتائم وتنفضح الاسرار الا انهم غالبا قبيل الغروب يتصالحون ويعودون لتجديد الاسرار .. كان طامر يعود بعربته التي يجرها حصان من الخضارة طافحة بما زاد او نتن من الفاكهة والمخضرات فيتقاسمها مع حصانه ..كان بخيلا الا انه حين يسحب النقود الورقية المرتبة بعناية تحس بنشوة في وجهه وسعادة .. اما اخوه طربوش فهو عتال ونشال وقد يعمل في اعمال البناء بأجر يومي . و له طاقة ثور..
وخطب طربوش بن غازي زهرة فقيل لامها سليطة انه شاب لا يصلح لها ,فاجابت (عامل نشيط وجسد قوي ) .. وهكذا تزوجها قبل ان تصاب سليطة بالعمى بسبع سنوات وعاش معهم في ذات المنزل ..وكانت زهرة خانعة له يستعبدها بلا رادع.










ماكرون يخدعون ابن غازي

(طربوش غازي ) قوي الملامح,متصلب الوجه ,اسمر ,قوي البنية نشال ماهر ,في السبعينيات كان بعض الكويتيين يقصدون البصرة ايام الخميس للتبضع والتسلية او لزيارة اقربائهم ,,مترعين بالصحة ,متكرشين ,جيوبهم مثقلة بالنقود ,دشاديش ناصعة البياض ,كوفية حمراء وعقال ..ترحب بهم بيوت البغاء وصالات الملاهي والبقالون في الخضارة حيث يترصدهم طربوش عندما كان يعمل حمالا , كان يقرب جلته الخوصية من جيوبهم ويرفعها بخفة فيصيد اقلامهم الحبر ـــــ الباركر ــــ .
سال طربوش مرة صاحبه
ـــ (اذا فقدت نعلك وانت وسط الزحام ..المغايز مثلا ماذا تفعل ؟) فاجابه (اتوقف ولا امشي ).
ـــ انا امشي ان فقدت النعال حافيا ..اتصور نفسي اعمل... ).
طربوش يتناول الطعام بنهم وينقل ما استطاع منه بدشداشته الوسخة من مأدبة العزاء او الافراح يملؤها بالرز والمرق واللحم ويمضي فرحا لا احد ينتقده او يعترضه , وستعاقبه غازات البطن بعد ساعات .
مرة اشبع زوجته (زهرة ) ضربا ودفعها في صباح بارد لتشتري لهم فطورا سيجهز عليه مع بائعة هوى قضى ليلته معها في بيته ,تاركا اطفاله من جوع وبرد يدمعون ورائحة (الخمر ) العرق هيمنت على المنزل ,وطربوش لا يكتفي بهذا لانه يستولي وندماؤه حتى على الطعام الذي تتصدق به بعض العوائل لزوجته النحيلة.
في ضحى ذات يوم ومن سطح واطئ بلا رواق صرخت به: (طربوش ) اريد درهما لاذهب بطفلك الى الطبيب ,يكاد يموت من الحرارة ) …الطفل لا يكف عن البكاء وهي تنحني علية باكية اوتتنقل به من زاوية لاخرى والحت بالطلب فاجابها مزمجرا وهو يكرع العرق الحنظل : ( اسمعي : ساصعد به الى السطح وارميه على راسه ولا اخسر عليه درهما ,اغربى عن وجهي ).
سيفنى طربوش في احدى مستشفيات البصرة بعد مرض عضال لم يتحمل قلب الثور استهتار صاحبه به .هكذا اصيب بشلل نصفي وتوقف لسانه , وابتليت به زوجته الصابرة المنحورة في الحياة ولازمته هناك بكل صبر واجتهاد.
وبعد عودته من المشفى بشهرين قالت لجارتها :(لا يموت طربوش , وربما ستنفذ النقود التي ادخرناها ليوم وفاته, لدفنه ,قبل ان يودع) …. قالت جملتها بكل بساطة محدقة بعينيها الصغيرتين الجادحتين , كانها تحاول ان تتاكد من وضوح المعنى , مجارية جارتها بابتسامة رتيبة . لقد صبرت عقودا على ظلمه ولا مبالاته وتجويعه ورائحة خمره وخيانته لها في بيتها.
انها تقر بالموت وربما ستفتقده وتبكي رغم ان وجوده وموته سواء ,ما يشغلها نفاذ النقود على العلاج وقد ادخرتها لتكاليف دفنه وماتمه .
في يوم ما , في سوق الجمعة , تربع طربوش مبكرا ليبيع اربع دجاجات,واتاه رجلان وقوران بزي عربي وساوماه بهدوء على السعر واخيرا اتفقا ..قالا له : (ناولنا الدجاج ) .. واضافا:(سنعود بالخردة اليك وهذا التلفاز امانة لديك ) , فوافق وانتظر بن غازي طويلا لكنهما لم يعودا واقتربت الظهيرة وهو يغلى حنقا وقد نفذ صبره واخذ يحك فروة راسه من الملل , وحرك التلفاز احسه ثقيلا ,قال في نفسه : (هي فرصة وهم تاخروا كثيرا ) .
وعاد غانما فرحا بالفوز ,مرددا في ضميره (ههه تلفاز مقابل دجاجات..ههه رزق )…وصل منزله ,استقبله حماره ,نسي ان يشتري له الشعير وازاحه عن طريقه ودخل الكوخ , خلع سترته واوصل التلفاز بالكهرباء ,لم يشتغل ,(لا ان… ولا ون ) ,وبعد عدة محاولات فاشلة ادرك ان التلفاز معطل ,لقد افرغوا احشاءه وحشر فيه الماكرون قطعة حديد ثقيلة ,ومضوا غانمين.











عبد السلام عارف في البصرة

في 11 نيسان 1966 تجول الرئيس عبد السلام عارف في موكب رسمى في شوارع البصرة , في سيارة شفروليت مكشوفة , الجموع تردد الاهازيج وتؤدى الدبكات الشعبية ويهتفون (احنه جنودك يا سلام ) وخطب الرئيس باهالى البصرة :
( يا اهل البصرة يامن زرعتم نومى البصرة ..ارحب بكم وارجو ان تقدموا لي بعد خطابي هذا نومى البصرة )..واضاف واصفا البصرة :
(طاسة ا بطن طاسة ,وبالبحر ركاصة )مصحفا الاصل <غطا سة >.لم نكن نعرف عنه شيئا سوى انه رئيس وعلينا ان نحييه ونصفق له . واخرجونا من المدارس الى شارع الفقيه في منطقة الطويسة ومر في سيارته المكشوفة واقفا يلوح للحشود فى موكب مهيب يصحبه محافظ البصرة (الحياني ).
سنكبر حتما وندرك بان هذا الرئيس هو من قضى على رفيقه الرئيس عبد الكريم قاسم .
فى زيارته وضع حجر الاساس لمعمل الاسمدة الكيمياوية ومعمل الورق وتفقد الميناء والمعقل وافتتح مصنع الاسمنت,في يوم 13 ابريل هبطت الطائرات الثلاث في ملعب الادارة المحلية لمركز قضاء القرنة قبيل الساعة الواحدة ظهرا وكانت جاهزة لاعادة الرئيس والمسؤولين الى البصرة الا ان الرئيس تاخر , كان يطلق كلماته الشهيرة :(عونج يامن بيتج على الشط وكبال بيتج يسبح البط ومنين ما ملت غرفتى ) استجابة لطلب قائمقام القرنة واقيم مهرجان خطابي القى فيه الرئيس عبد السلام كلمة ارتجالية :(اننا لم نكن نريد لانفسنا مكاسب معينة حينما ثرنا) ….وتاخر الوقت واقلعت طائرة الرئيس عبد السلام بقيادة الملازم اول طيا ر خالد محمد نوري…وبعد دقائق من اقلاعها على ارتفاع متوسط دخلت في مطبات وجيوب هوائية ورافقها غبار وزاد الظلام الامر سوءا وهوت الطائرة واصدمت بالارض واحترقت ,في منطقة النشوة.
(صعد لحم نزل فحم من قدرة الله ) هذا ما هزج به الاهالي مع اهازيج مماثلة ترسخ السخرية وتؤرخ الحدث ..



سينالكو

عبر لوحات زجاجية نستمتع بقنانى السينالكو المتحركة على شريط آلى فى معمل السينالكو يبهجنا سائلها الاصفر والبرتقالي وقد تذوقنا نكهتها الطيبة .

عام 1902 قام العالم الألماني فريدرك ادوارد بيلز باختراع محلول بيلز , وتم اختيار اسم سينالكو المشتق من المصطلح اللاتيني (sine alcohole) والذي يعني " خال من الكحول". وتعد شركة سينالكو من أقدم شركات المشروبات الغازية في أوروبا...
تمكنت شركة سينالكو من تحقيق أكبر نقلة نوعية في عام 1950 وعام 1951 منذ نشأة الشركة. تم إنطلاق شركة سينالكو في أفريقيا والشرق الأوسط وجنوب أمريكا... في عام 1954 بنت سينالكو في البصرة أول مصنع خارج بلد المنشأ.
احد العمال الذين يراقبون رتل القنانى ويفرز المتسخ منها فقد يوما احدى عينيه اذ انفجرت قنينة على وجهه.
تواجه المعمل فلكة شبه مستديرة تنتهى الى المفرق الذى دهس القطار فى مساحته عشرات السيارات,وحيث يبرز العلم الاحمر كلما صوتت الفراكين .
يسور الفلكة شبة الدائرية قضبان رمحية تليها شجيرات الياس حيث يخبئ الندماء ليلا قنانى الخمر ويتذوقون,وهى ماوى لعبث الصغار وملتقى للدارسين والسياسيين ومتنفس للاهالى ايام الرياح الشرقية الخانقة .
يحرس هذه الفلكة الحديقة قزم في الستين , يستفزه الصغارليلا, صائحين باعلى اصواتهم : (صموول ) ,
فيطاردهم بعصاه ماسكا كوفيته بيمناه فتشاغله زمرة اخرى …(صمول ) …(صمووووول)






سوق الحي

سوق بسيط اراد احد ان يمزح فرمى منديلا ابيض مزهرا .وهم الكثيرون ان يلتقطوه وخجلوا حتى انحنت عليه عجوز متوقعة درهما وفتحت العقدة فلم تجد الا قطعة غائط متيبسة.
يغص السوق صيفا بسمك الصبور حتى ان الصبية والمراهقين صيروا منه نعلا وتمشوا به ,سيشح بعد عقود ويتحسر من نجا من محرقة الحروب ويقول (نعمة وازلناها ),في تلك الايام حين تقدم للضيف وجبة صبور فانت بخيل وكان الصيادون في الفاو صيفا يصطادون لوريات من هذا السمك يوميا ويتم نقله لمناطق ملحية قريبة فيودع فيها مطمورا بالملح , ويستخرج في الشتاء.
العوائل تجففه مملحا بالحبوب العتيقة وعلب الصفيح (التنك ) ويثقبونها من الاسفل منعا للتفسخ وقد يملحون ويعلقونه للشتاء سينفع في مرق (المسموطة ).
يتجول في السوق فالح منصور اصيب بمس جنون ..يقضى يومه قاطعا الزقاق الرئيس ذهابا وايابا مرددا (يا خوية , يا خوية ) لا يؤذيه الناس ولا يعبث به الصغار, وقيل عن اسباب خبله : اصيب في جلولاء , اثر انفجار صاروخ جواره في حرب الشمال او انه ضحية حب خائب وقيل ان جنونه ظهر بعد مقتل الزعيم عبد الكريم قاسم الذي يحبه بجنون لكنه بعدما لقي الرئيس عبد السلام نحبه فى حادث طائرة بمنطقة النشوة كان يردد :(صعد لحم نزل فحم من قدرة الله ) و (تلاثة طارن فد سوة اثنين ردن للوا والثالثة قائدنا بيها اشتوى )ويكرر (يا خوية ).في تلك المرحلة يندر من يلمح او يهزج او يطلق جملا في السياسة من المجانين الا ان ظاهرة المجانين السياسيين ستظهر بعد عقود.
واتى من جهة السوق بائع النفط .. برميل طويل ينتهي بكاك يمتد على عربة يجرها حصان .. يملأ صاحبها علب الصفيح ويوصلها للبيوت ..واختلجت رغبة مرح في ضمير ام صلاح وهي حالة نادرة فأجابت (انتظر القسمة ) حين سألها بائع النفط (هل انت متزوجة ؟).. فاشتعل فرحا وهو يوصل النفط لمنزلها ونشطت فيه حيوية غير معهودة .. الا ان جارتها تداركت الامر وخاطبته (انها تمزح , فأم صلاح لها زوج واربعة اطفال).. فمضى مطرقا يعلك الصدمة ..وكانت المودة ان يرتدي الشاب المتصيد قميصا ابيض ويضع عملة ورقية حمراء تبين من جيبه , لعلها اشارة الى امتلاك مال ..ومرت في السوق متزوجة جميلة , عيناها عسليتان واسعتان . فشاكسها احدهم مشيرا الى جيبه .. فهبطت لتناول النعل واكل منه ثلاثا على رأسه مع خمسين شتمة بلا انقطاع ..لكن سليطة تفرط بالشراء لانه بالدين .. مرة تحرش احد بفتاة وبعد لحظات وصل بن عمها محمود شاهرا سكينة اعلى رؤوس الناس التي كانت تهدئه .. سيتحول الى رجل لا يهتم وبلا ارادة بعد سنوات ,تاركا بنت عمه تعيش حسب مشيئتها في غلاف من الاشاعات .









ابو صلاح

يعود ابو صلاح من عمله الى حى سليطة من ام البروم بعد ان يحشر في كارتون من الورق المقوى انواع السجائر المحلية ــــ الجمهورى ..الغازى ..المزبن ..اللوكس والشخاط واوراق تتن اللف البافرا والرشيد ــ ويحشر نقوده فى كيس القماش,لم تكن الشوارع مضاءة وقرب احد الجسور استوقفه لص وساله عن الوقت فرفع يده ماسكا بخنجر معقوف ونظرالى موقع الساعة فى اليد مجيبا (نسيتها بام البروم )فلما راى اللص لمعان النصل مضى بلا مشكلة,
ابو صلاح اسمر اقرب للقصر عينان واسعتان محدقتان بتمعن .. اعتاد ان يرتدي الدشداشة والكوفية على طاقية الرأس البيضاء ,عمل فى مهن عدة وفلاحا فى البساتين وعتالا في البواخر وعاملا في الطين وفى الشركات الاجنبية والمقاهى, حتى حجرته الحياة امام المحن وقاوم مذبحة الفاقة ,وعندما دعته السلطة للالتحاق بالخدمة العسكرية حزم متاعه وتوجه برا بلا جواز واصبح في ايران ليعود بعد شهرين مصفر الجيوب الا من مواصيل للصغار,سيطور هذه المقدرة على اجتياز الحدود وياتى بغريب ذات يوم (ربما سياسي مطارد ) ليهربه الى ايران ويروى (هنالك نهر صغير نجتازه من جنوب البصرة الى ايران فاذا عبرنا وصادفنا احد من الشرطة الدورية نقول له:
(انا ايرانيون) او نذكر له اسم المختار الذي حفظناها و اسم مواطن ايراني نعرفه فيتركنا بسلام .
فى الايام الغابرة (يروي لاحفاده ):: قاد قريبته الى منطقة الساعي ومرا على عباءات تجمعن ليلا ليتزودن في الماء من حنفية سبيل ولكل مصخنة امامها فتحرش بهما اثنان من الاشقياء فكتم غيضه واوصل الفتاة للبيت وعاد اليهما ملثما فاجهز بعصاه الغليضة, التي تنتهي بكرة حديد , على فروة راس احدهما وضرب بها الاخر على جبينه واسقطهما ارضا وتركهما سابحين بالدم واختفى فيما زغردت النسوة فى طقس من التشجيع والشماته واللعن والتشفى.
كثيرا ما يضرب المثل لاحفاده (تحزم للواوى بحزام السبع ) ,الا ان الاولاد لم يراعيا حكمته بسب طبع التسامح ورثاه من امهما.وكان فى مقهاه بام البروم عندما احترق منزله من نار نشبت في بيت سليطة.
عثوق

بالحاح طالبته الحاجة ام زوجته بتسديد الدين مضى شهران منذ قرضته مبلغا بسيطا ,دائما يقول لها (ساسدد ..الله كريم ) , لا يخسر غير هذه الكلمة التي لازمته طيلة حياته ..يكررها على مسامع زوجته ان طلبت شيئا ولاولاده ودائنيه ,تتسرب فى مروياته من الموروث الشعبي ..الله كريم ,يطلقها لمن اصابتهم النكبات ,احيانا يسرح فكره ويصحو على المحيط فيقول (الله كريم )
نفذ صبر ام زوجته :
ــ الجميع يعلمون لا اكرم من الله شيء,وتضيف ـ في لهجة تهديد ـ )متى تعيد النقود ابو صلاح ) .
قال لها (غدا ان شاء الله )
ولما حجب الليل بستان الحاج راشد تسلل اليه وقطع بعض العثوق وخبأها في منزله وباعها فجرا على اصحاب الزوارق الذين ينتظرون الفلاحين فجرا لشراء الرطب على ضفة النهر وتمكن من التسديد .



مقهى ابو صلاح

المقاهي الشعبية في ام البروم ملاذ آمن للسياسيين والمهربين والمتشردين والمشعوذين والسحرة والدراويش ومحطة للقاصدين البصرة من المحافظات الجنوبية , هربا من ثار او بحثا عن فتاة هاربة من اهلها, انها واحة للعاطلين ,ومستقرا للعائدين من العمل اولئك الذين بعدت منازلهم عن مركز المدينة ,مزيج ممن خانتهم الحياة وتخلى عنهم الاحبة . وربما تجد فيها الهنود والبلوش والاكراد ...
مقهى ابو مازن لها زبائنها الدائمون ومدمنو الحشيشة .
زبون الاسود نحيل طويل القامة قوي الجسد مقتصد بالكلمات وهو عتال معدود يقصده من اراد ان يفرغ البيوت والفنادق والمخازن من محتوياتها ….يفرغ شهوته بذكر وقت الحاجة وله طاقة ثور وهو يدمن لعبة الدومينا , وشرب العرق , في ايام البطالة قد يبتاع ظهرا قرص رغيف ساخن تذوب عليه قطعة الزبد بعد ازالة غلاف من النايلون , في انتظار عمارة او منزل يفرغ منه او ينقل اليه الاثاث , عندما تمتلئ جيوبه يتناول ماعون باجة من عربة ابو شمخي القريب من المقهى والمقابل لمحل شاهين الاحدب الذي يبيع الفحم وطالما يردد البعض في نفسه اذا راه : (يا من اضاع الذهب على فحام ) .ابلى العمر فى محجر السخام منحنيا لعزل قطع الفحم عن بعضها.
زمار ( القصاب ) يتباهى بمديته المعلقة ابدا في الحزام ومبرد المدى ,حيث تسمح السلطة للقصابين بحملها.مرة وهو يمسك قدح الشاي قال انا لااشمئز من لحمى ,ومد يده من جيب دشداشته الى اسفل ,وظل ينحنى وينزلها وبعد محاولات سحبها من جيبه وهى تقبض على سلاحه واغطسه بالقدح وافلته ورشف الشاي .
في احد الاعياد دخل زمام مقهى ابو صلاح في دشداشة ناصعة البياض ولاول مرة يرى نظيفا وانيقا,وخسر ساعتها بلعبة الدومينا فانقلبت الدنيا في راسه واخذ يلعن ويشتم وتطاير الزبد من فمه : (غشاشون ) الا ان الرابحين استمتعوا بشرب الشاي الذى ربحوه وهم يتندرون عليه ويقهقهون ,لقد غلبوا ثعلب اللعبة في يوم عيد .
زمار…مولع باقتناء الحصى والبحث عن النادر منها وبالحجر الكريم فتراه في ظهيرة اب او اجواء ايلول يستقر قرب اكوام الحصى في قلب ساحة ام البروم, باحثا عن اشكال غريبة والوان نادرة منها, مقتنعا بانها ستجلب له ثروة او ان بعضها يقيه من الحسد او يجلب الرزق .
ذات ضحى صحب زمار صغيرين والتقط لهما انواعا غريبة من الحصى ثم التقط من جيبه الايمن حجرا مزججا ظهرت فيه خمسة وجوه فلما اثار فيهما الفضول وحرك الخيال قال لاحدهما: (امسك به وحينها سحب اليد الصغيرة الناعمة ومررها بقوة المنكنة الى عمود حديد بين فخذيه ما جعلهما يلوذان بالفرار.
(حجى جهنم )…يستغرب من يسمع بهذا الاسم , لكن الصغار لم يبحثوا عن سبب التسمية ولم يستغربوا وتداولوه اسما مالوفا وحسب , يستقر على التخت الخشبي المغطى بحصيرة,منتصب الظهر , يحملق في الراديو ساعة الاخبار تحسه يصغي بعمق الا انه لا يفقه شيئا من الانباء..( من يراه يقول خبير سياسة) .. هكذا يعلق ابو صلاح كلما راه محملقا فى المذياع الخشبي المتصل ببطارية خارجية من الخلف ويضيئ في مقدمته مصباح احمر صغير .حلبوص ذو العين الكريمة يبيع القنانى الزجاجية الفارغة فى عربة يدوية ,سمع من الراديو مذيعا يعلن : (هنا بغداد )فقال (فقط هذه الكلمة صحيحة )….انه يختزل بجملة بسيط عفوية عابرة حقيقة عقود من الاعلام المفرغ . حجى جهنم فى الستين من عمره ,ابيض البشرة مكتنز الجسم تتقدمه بطن ازدحمت يضع كوفية على راسه وعقالا .ادمن شرب العرق القوى (الزحلة )فان تمكنت منه الخمرة سقطت الكوفية والعقال وبانت صلعته فيضع ندماؤه قطع الثلج في دبره وهم يقهقهون يحدث ذلك في ساعات خاصة في مقهى ابو صلاح.
شنت السلطات العراقية في السبعينات حملة ضد شيوع موضة التنورات القصيرة الضيقة القصيرة جدا (المني جوب) وراحت تطارد الفتيات في الشوارع تعتقلهن آنا او تصبغ ارجلهن بالبوية , بامر من وزير الداخلية صالح مهدي عماش, ونشر عالم دين بصري ارجوزة في كراس تدين هذا الزي:
(اثوابها فوق الركب ــ كمن تريد تعبرن شط العرب ) .
كان الجواهري في براغ وسمع بالحملة واستاء منها فكتب لصديقه عماش :
نبئتُ انك توسع
الازياء عتاً واعتسافا
تقفو خطى المتأنقات
كسالك الأثر اقتيافا
وتقيس «بالأفتار» أردية
بحجة ان تنافى
ماذا تنافي؟ بل وماذا؟
ثم من خلق ينافى؟
اترى العفاف مقاس أقمشة؟
ظلمت اذن عفافا
هو في الضمائر لا تخاط
ولا تقص، ولا تكافى
من لم يخف عقبى الضمير
فمن سواه لن يخافا
ويجيبه عماش :
راشيل» تضربنا رصاصأ
دمدماً غدراً بيافا
و«الموشي» يغترف الدماء
القانيات بها اغترافا
وشبابنا يتخنثون «خنافساً»
هوجاً عجافا
انا نريد مآثراً
لا قصر اردية كفافا
نبغي من النسوان تربية
البراعم والعفافا
سلها، ايعجبها المخنفس
ان يزف لها زفافا؟.
ام تعشق الاسد الهصور
الكفء والبطل العافى
فى عصر صيف غسل ابو صلاح الباحة التى تتقدم المقهى وصف التخوت في الزقاق,ورنت الملاعق وهب نسيم شمالي منعش تحت ظلال الشناشيل وفيما كانت الخفافيش راكدة في انتظار الظلام ,زبون في ركنه ,تومان اراح الفيفرة من انفه واتكا في شبه نعاس على التخت تفوح منه رائحة الخمر وحركاته البهلوانية في سبات , الحاج جهنم استفاق توا من السكرة , ونفض البعض على الطاولة صايات الدومنا, فجاة مرت فتاة فارعة شقراء, رشيقة تخطو بخطى عسكرية واثقة , وافرجت عن عباءتها اللامعة فكشف المنجوب افخاذا بيضاء ناضجة وسيقانا مغرية, فاشتعل الصفير فابتسمت ..فاستعر الزبائن في المقهى والناس في زقاق (المكوى) , وسارعت الدراجات الهوائية للحاق بها وكان اسماعيل يحمل بيد صينية الطعام والاخرى يقود بها الدراجة الهوائية وتسارع للحاق بها .
في مقهى ابو صلاح تداولوا اساطير الحشاشة,اثنان يغطسان الرجلين في النهر ويظلان هكذا مخدرين حتى الساعة نفسها من اليوم التالي ,خاطب احدهما صاحبه . (كم جلسنا وما عاد الجزر ),وعن اخرين لم يعبرا خشية الغرق خيط ماء يجري, فقد تصوراه نهرا.
ابو صلاح بالطباشير يسجل الدين على الحائط ,كل اربعة خطوط يعترضها خامس , لكن الماكر زعنوف يطلب شايا ويشرب نصفه ويصيح (ابو صلاح ..مر )فيضيف له السكر فيشرب ويصيح :حلو …فيضيف له الشاي….. وبهذا الاسلوب يشرب قدحين بسعر قدح .
(عودة ),,,يبتاع جوز الهند من الكويت, ويبيعه متنقلا فى عربة خشبية عريضة فى ازقة البجاري وشارع خيون والمطاعم وشارع الكويت , عودة يشرب اربع جكات ماء مقابل قدح شاي واحد.
يتقدمه كرش ثقيل, يودع في ركن من المقهى اكياس الجوز . ولهذا تشبعت عائلة ابو صلاح من تناول جوز الهند .
ابو صلاح يظهر غير مبال بقرديات وثعلبيات بعض الزبائن لكنه مثل شاشة مراقبة يلتقط كل حركة وله ساعة صفر يجهز فيها على المعوج من السلوكيات ويقومها ويضع حدا للتمادي .
سيقرا كل مغيب الشيخ احمد وهو غير معتم (ويطوفون عليهم ولدان مخلدون اذا رايتهم حسبتهم لؤلؤا منثورا )فيثيرمخيلة الطفل برهان نجل ابو صلاح ,وهو يمسك بقرآن كبير الحجم ,اصفرت اوراقه وازيلت عنه قطعة القماش الخضراء.
السيد راضى يحكي اغرب القصص ممسكا بكتاب الف ليلة وليلة على المتحملقين العاطلين في المقهى يرتدى عباءة سوداء ويعتم بكوفية سوداء ظهرت اسنانه اللبنية وقد تجاوز المائة قوى البنية طويل القامة عيناه نابضتان رغم الشيخوخة وتذكر الاشاعات انه الوحيد الذى نجا من اربعة حكمهم نورى السعيد بالاعدام من السحرة.
سيد راضى لغز لا احد تمكن من فك رموزه لا شيئ عن سيرته ولا يسالونه عن حياته لقوة هيبته .
وفى ليلة شتائية تنحت الوجوه ان اسفرت وتثلج ماء الخابية والسواقى طلب سيد راضى من ابو صلاح البريمز والمقلاة بعد منتصف الليل فوضع الطاوة على النار وافرغ فيها مادة وقطعة معدنية او حجرية فسال الذهب فصبه فى قالب يمثل مصباحا.. (يقال : انه كان يملك الاسم الاعظم )
بعد يومين من غيابه عاد من الكويت وتحدثت الاشاعات بانه باعه هناك .
فى جهة المقهى اليمنى يستقر(جار الله),جوار باب الملهى الخلفي صامتا ساهما , فى العقد الثالث ,ابيض البشرة طويل القامة ابدا في دشداشة بيضاء نظيفة لم يكن يرتدى لباسا داخليا ويرى قضيبه احيانا يلامس الارض ان جلس القرفصاء, اعتاد الناس على صمته وسكونه واناقته وادركوا ان فيه مسا لكنه غير مؤذ ,يمرون عليه ويرمقونه بنظرة عجلى .ظهرا من بيت الشناشيل التى تقابل المقهى تقدم له عائلة (ام رامى) وجبة طعام.انهم ثلاثة اخوة معارضين للنظام,بعد اشهر من اعلان الانقلاب 1968 اختفى جار الله للابد مخلفا اشاعات:(سياسى …..لا مخبر سري …. لا مجنون مسكين ….اين اختفى……).















صيهود والدراجة

وضعه امامه على الدراجة الهوائية وتنقل به من شارع الى شارع , الطفل مبتهج والرجل مشتعلا يقود من زقاق ضيق لزقاق محاولا ان يهتدى الى وسيلة مثلى , وصل جسر العشار وتقدم بمحاذاة النهر. عبر تمثال اسد بابل ,لم يستسلم لرياح تصده ولثقل الولد البدين وترجل امام مرسى العبارة (الطبكة ) , حدج الطفل محاولا ان يبتسم ونحرت العبارة امواج الشاطئ وتقدم غربا وهو يجتاز الشارع الرئيس لحي التنومة .
شاهد الطفل ذلك البر الشاسع …طيور ترابية صغيرة وسوداء وبقعا من الرشاد البري ..طالما ارتدت عيونه عن جدران قصبية او اسمنتية او مشيدة من الطابوق او الخشب ,ولاول مرة يرى القبرات والنباتات البرية وتلك الاتربة الراكدة والرمال التي تلتصق بزرقة السماء لابد ان يكون ذلك الموقع هو البر المترامي شرق التنومة حتى حدود ايران ويمتد شمالا مجتازا قرية كردلان , في الزمن الذي تلا انحسار الفيضان وتراجع وباء الهيضة (الكوليرا )
في البدء تحرك في وجدان الطفل الفضول لكنه بعدما ابصر صيهود يثبت دراجته بقدمه اليسرى ويصرخ به بلهجة آمرة وحادة :(انزل )
مد اليه عينين مندهشتين :
ـــــ اين تاخذني
ــــ ليس لاي مكان ….اريد ان اقتلك هنا
ــــ (اين مضى به قال لى ساخذه في نزهة قصيرة على الدراجة ),,,تساءل ابو صلاح في سره ودفعه القلق الى السؤال عنه في الازقة القريبة ثم بدا يبحث عنه في الشوارع الابعد .
(صيهود ) طويل القامة املس متشرد في خديه حمرة ,يعمل في لوندري قريبا من المقهى وهو من رواد مقهى ابو صلاح الدائمين .
قبل ذلك …كان صيهود ممدودا على ظهره في دشداشة بيضاء على حصيرة التخت السماوي , يفرج شفتيه ويطبقهما .ومن منطقة الحوض يحرك شيء الدشداشة فترتفع وتنخفض عدة مرات فتناولا قصبة قصيرة ومرراها على ذلك الشيء تبادلا النظرات , محاولين ان يخفيا ضحكة تكاد تنفجر ,فالسنام بلغ قمة ارتفاعه ,ينبسط ويهوي وعندما استيقظ وادرك ما يجري صاح بهما وهو يغالب نعاسا : (ادب سزية ).واعاد صيهود صلاح الى مكان قريب من المقهى واختفى للأبد ..كثيرة هي الاسرار التي لا يمكن الكشف عنها .. ما الذي دفعه لخطف الطفل ومحاولة اغتياله ... ولماذا تراجع ؟
ابو امجد كان حلاقا لا يمكنه ان يعيش بلا خمرة في فمه .. كم تعذب برهان وهو يحلق .. يتذكر المقص الذي يكاد يقلع شعره ..وهو يشبه الكثير من الضائعين الذي يعيشون على هامش الحياة ... مثل جاره المضمد .. الذي كلما استلم نقدا مقابل زرقة ابرة ,هرع لاقرب محل ليعود بقنينة عرق صغيرة
في الزق المجاور نجارون خرسان مهرة ..وتلك العائلة السوداء في بيت خانق انتجت اكثر من عشرين طفلا , عشرة منهم متقاربون بالاعمار والاحجام, الفئة الاصغر شبه عراة يملأون الزقاق غائطا وصياحا ومرحا , يشبهون مجموعة من صغار القردة ,كيف تفرز الام صغارها المتشابهين , احدا عن الاخر ذلك سر الامهات .


الخطبة الاولى لحي سليطة

حذار :اصغوا اليّ جيدا انا حي سليطة الاقرب لمركز اللواء وانا المتارجح بين المدينة والريف والمحتفظ ببقايا الثورات والشاهد على خرائط التعذيب والامال الكاذبة وزرق ابر التخدير...طلابي في المتوسطة تتفوق علما على الشهادات الجامعية القادمة انا لا اصدق ان يسيل دم على ترابي لاجل هويات وطائفيات ونهب لا ينقطع ... ارجوكم لا تخربوا انهاري فضفادعي اعتادت التجانس باصواتها الجاذبة وقططي في ليالي البرد المجرح تستصرخ وتنهش الاظافر ببعضها .. ارجوكم لا تزيلوا شجرة الخرنوب جوار القنطرة الجذعية ولا تحرقوا سدرتي فهي المأوى الاشد امنا للطيور ومصدر الظل حيث الاسماك تعبث في نهير يحتضن عروقي . انا حي سليطة الشهم الطيب البسيط .. ادري ان مؤامرة تحاك بالغرف الكالحة لتقطيعي ثم ازالتي لكني لا امووت سابقى كاثار سومر مخلدا وان في ضمائر الاوفياء .. سمحت لهم بشرب الخمور على الارصفة ودكات الدكاكين وظلال الخصاص.. وتركت شعور الصبايا سارحة تراقص النسيم .. ورغم المنع المر كان ابنائي يشجون رؤوسهم بالقامات صباح يوم عاشوراء ..احتفظت رغم اختصار مساحتي بعدد من المصانع وحمل الحرس القومي بنادقهم على اضلعي وازقتي المتربة .. احفر جيدا سترى جذور النباتات والشعارات الواعدة ...احتفظت بطقوس الصابئة والارمن والمسيح ومختلف الطوائف ومر بي اليهود كنتم تصفونهم (اصحاب اليد المغلولة ).. اذا كل جيوشكم عجزت عن ايقاع الهزيمة بهم .. دحرتكم فقلتم (نكسة ) هههههههه ولا ادري ربما الاصح اصلا راء بدل النون .. ها انني ملئت بالتجسس والاشباح واصبحت حتى صرتي تحت المراقبة ...وكانت النسوة بلا حجاب لكن النقاء قائم والان الف حجاب وهن هن .... مع الاسف انهارت قيم رسخها اجدادي .. الجار... الصديق ... التسامح ...لم تكن المهاويل رائجة في زوايا بيوتي الطين والقصب والطابوق ...ولم تصدح الاهازيج الثأرية والفخرية وكانت العقل ثابتة على الرؤوس لا تحركها الرياح .
(( انا نسل عمار وياسر , انا مثلما قال الوصي لعمر عامر ... اذا قتلتني للجنان وانت للنيران صائر , واذا قتلتك مثل ذاك اجاب عمر وهو حائر .... اكلاهما لك يا علي هناك في دنيا البشائر ).. لم اعرف شاعرها فقلت انشد احدهم تلك كانت مناسبات دينية تجري بلا اهتزاز وحتى عندما استولى البعث وضجت الشوارع ب ( من قاسيون اطل يا وطني ).. تواصلت الاحتفالات الدينية ...عدد الاصابع الاغنياء عندي كل اولادي فقر وفاقة حتى اشتغلت المواني والسايلو فاصبح لبعضهم رواتب وامل .تحملت مدرعات الغزاة وصواريخ قاذفاتهم ... انا الجسد المثخن بالشعارات التي تنسف بعضها بعضها في بودقة التسفيه انا سيد الدليل حيث ما مال اميل .. اعني انكم لن تهتدوا لانفسكم بعد عواصف الخراب وتخزين الاسلحة والحقد ....ابنائي بارود احقاد وكره وعنف .. الموت سيماهي فهل تحولت مقبرة انا انا الحي الفستقي الوديع كطير مهاجر والمبرق لحظة الصحو انا الانهار النقية والصباحات الوديعة الانقى والعشق الاشد عمقا من محيط .. احتفظ احفادي بالقران في جيوبهم والقلوب ورددوا الادعية وهم يدمعون ويرتعدون (( اللهم انا ... نشكو اليك كثرة عدونا وقلة عددنا وشدة الفتن بنا وتظاهر الزمان علينا )).

ملا اشرف والمقيمة

فى احد ازقة الحي الضيقة خطت مقيمة كويتية ودلفت لاحدى الدرابين وطرقت منزل الملا اشرف , لم يكن روزخونا ولا يمت للايمان بصلة, لكن اهالي الحي اعتادوا على تسميته الملا.. كان قارئ كف مجرب وحلال مشاكل وله قدرة على استحضار الجن .
ملا اشرف رجل املح , سمرة عميقة ,فى الاربعين وسخ الجسم والمظهر تطور رمد فى عينيه الى ما يشبه العمى يقوده نجله في ليالي الخميس ويعود به متعثرا تبين قنينة العرق الحنظل من جيب دشداشته البرج معدلا من وضع كوفيته بيمناه بين فترة واخرى …كان يبعث جاره برهان في صغره ليشترى له الحمص واللوز المتفسخ فيطحنها ويعمل منها علاجا للخائبات من :مطلقات وصغيرات عاشقات ,وراغبات بقطع النسل عن الازواج الاعداء او منع الذرية منذ ليلة العرس,وفاقدات المصوغات ,ولمن رغبن باذلال بعولهن ولجذب الصيد للفاسقات وفى حمصه علاج للحصبة ووباء الكوليرا واستقطاب الرزق وتحديد هوية القاتل والسارق وابعاد الشر,وطرد الجان .
ملا اشرف وام جوزى
ــــــــــــــــــــــ
ويرسل الملا جاره الصغير برهان الى بيت ام جوزى , المواجه لبيت ميمة حيث السدة الطينية الثخينة المرتفعة ليشتري له العلاج من حمص متفسخ وغيره ,وقد شقت ام جوزى مستطيلا في الخص تغلقه بقطعة صدئة من الصفيح كتب عليها بخط بدائي (تكان ام جوزي ).وعلى منضدة من خشب ثقيل نثرت الانجانات والطاولات المثقوبة او المسخمة والوانا من العلب الصدئة وقوارى الفرفورى المصدعة وقدور من قبل التاريخ والزبلان وملاتها بانواع من الحلوى التمرية المكورة والمصنوعة من الطحين والدبس والكركري باشكال من الماعز و الزرافات وخراف وبطوط وديكة هائجات وصينية ملئت بعسلية ام العسل وقدر اللبلبي.وبالباصورك المملح والحمص والجوز المتفسخ وشخاط بثلاث نجوم وترى قنانى السينالكو وعلك المر وانواعا متربة من البهارات.
استقبل الملا اشرف المقيمة الكويتية في بيته الذى يشبه التابوت,شيد من اللبن والصفيح والقصب , وحيتها زوجته البدينة التى لا يعرف وجهها من ظهرها,تسيح منها الشحوم والقذارة وتشبه بطريقا مكبرا .تكاد تميل فى مشيتها يمينا وشمالا حاشرة بدنها بعباءة متسخة وعيون شبه مطفاة.
عرضت المقيمة الكويتية مشكلتها وقالت :ان زوجها يجفوها من ستة اشهر ,ولا يعاشرها.كان يصغي مطرقا,وتناول ورقة سمراء وقلم قوبيا وكتب :
(بسمه تعالى…
>1111 555 واحد 1111111 ياحدام قرب بنت سليمة بنت شكرية من سليمان بن زهرة ). وكتب الحرز في ثلاثة اوراق وضع في الاولى 3 حبات فلفل اسمر وفى الثانية 3فصوص ملح رشيدي واوصاها ان تحرق كل ورقة في الصبح والظهر والمغرب ,وعمل لها طلسما اخر لفه بقطعة قماش خضراء,:(دسيها في وسادته ),واعطاها قنينة صغيرة ملئت بماء اخضر: (ليلة الخميس القادمة اسكبيها في اناء وصبي منه على جسمك )...
بعد شهرين عادت المقيمة اليه محملة بالهدايا وعبارات الشكر والامتنان.
مرة طلب الملا اشرف من امراة عاقر ان تبات في بيته فلا بد ان يعزم الجن عليها وهذا ما حدث , بعد شهور اخضرت بطنها ,وعرف الناس انها حامل ,لا احد يدري ما جرى وكيف يتمكن الملا ان يزرع الجنين فى البطون المتيبسة ,فذلك سر لا يفقهه الا الراسخون بالعلم ,وربما يتطلب قرونا من البحث او معجزة ينالها بعض المبصرين .





استاذ جوري

استاذ جوري اسمر قصير ممتلئ الجسم عمره خمسة وثلاثون يرتدي بنطلونا وسترة ويضع رباط عنق غالبا احمر تواصل في عمله عشرة اعوام بقاطين وعشرة احذية واربعة اربطة وتسعة اقلام جاف وسبعة اقلام قوبيا وثلاثة اقلام حبر وعشرين قنينة حبر,,,اكثر ما يستخدم من اجزاء يديه سبابة وابهاما ,يضغط بهما انبوب قلم الحبر ويقرص امراته ويعاقب بهما اذان طلابه اذا كسلوا او عبثوا ,,استاذ جوري يلقبه الطلاب : (ابو حدبه ) ,ليس احدب , الا ان دفتيه تعلوان قليلا وتقتربان من بعضهما ,, وفي ظهره قليل من الانحناء والبعض يسمونه (ابو خنة ) ,لانه يتكلم من انفه احيانا (او هكذا يسمونه ) ورغم بساطة مظهره فهو يعتني بالاناقة , ولا يترك عصاه الا في الشارع ترافقه ابدا في المدرسة والبيت ,
دخل الصف فجفل الطلاب ,حدجهم جميعا بعيون مدربة حك انفه وقال : (يا اولادى الصفحة 21 ) ,سمع خفق اوراق الكتب , بان الخوف على وجه عباس الكسول وقلب يديه فقط وعندما افرزه استاذ جوري سقط من يده قلم الرصاص فخطا جوري حتى وقف على راسه الوسخ المجعد واثار مخاط في انفه , :
(اين قراءتك ؟ ) ـ
ـــ (ضاعت استاذ ) … اجاب متلعثما فلعبت على ظهره العصا
ـــاجلس يا جرذ البالوعات
وعاد الى السبورة وكتب بخط الرقعة وحروف كبيرة ,(الطفل والنهر )
ـــاقرا سالم ,,
(ايها النهر لا تسر وانتظرني لاتبعك )
عندما لفظ حرف العين بالضمة صحح جوري له بفتح العين ,,كرر سالم (لاتبعك )
ـــ اكمل
ـــ انا اخبرت والدى انني ذاهب معك
فانتظرنى لاتبعك )
ــ اكمل محمود
(انا اعددت زورقي هو يا نهر من ورق )
شرد ذهن سلمان ـ طفل يتيم تشبعه زوجة ابيه الامية ضربا وتكرهه على العمل المنزلى وتمنعه من اللعب والمرح وا لصياح بالمكنسة والصفع والاهانات : (ابن الكلبة اعمل ,,اسكت ,,جوع الربوع وكلب اليموع ..انقل صفيحة القمامة...)
رصده الاستاذ جوري :
ــ(اكمل سلمان
قراءته جيدة الا انه انشغل بالطفل الصغير والنهر والالوان الزاهية والزورق الورقي في الكتاب ,وكان يفكر لحظتها بصناعة مثل ذلك الزورق عندما يعود ) وقرا من ابيات اخرى غافلا عن التسلسل…
ـــ اسكت اين كنت ؟ واقترب منه ومسح على راسه برفق وحنان :
ـــ ابنى سلمان عينك في ورقتك وذهنك مع من يقرأ...
بعدها رفع راسه مخاطبا الطلاب العقال الصامتين
ـــ اولادي الجميع يتابع لا اريد طالبا ينشغل بشيء اخر ..ثم قال
ـ فانتظرنى
(فانتظرنى لاننى لست اخشى من الغرق
فجرى النهر مسرعا ــ ومضى ثم لم يعد
صرخ الطفل بعدما ــ ابصر النهر يبتعد
ـاكمل وادي
انتظرني لاتبعك انتظرني لاتبعك
قالها بصوت مرتفع وحماس علق الاستاذ جوري : (احسنت يا وادي )
حاور الاستاذ جوري طلابه في موضوع المحفوظة وحرك خيالهم وسألهم :
من يفسر هذا البيت .. (فجرى النهر مسرعا ومضى ثم لم يعد ,,اين ذهب النهر كيف انتقل ولم يعد ,هل يمكن ان ينتقل النهر من منطقة البرغوثية الى منطقة الفيصلية ,كيف ذلك ,,اطلق كلمة الفيصلية فاسماء المناطق لا تستبدل بسهولة على الالسن فقط في سجلات الدولة واليافطات والاوراق الثبوتية بعد ثورة تموز 1958 تغير اسمها فليس معقولا ان يذبحوا ملكا ويتركوا اسمه على حي سكني ,تعود الجيل الجديد على تسميتها <الجمهورية >
ـاستاذ ,,استاذ ,,كان احد الطلاب المرحين يصيح رافعا يده اليمنى
ـــ (النهر ينتقل اذا جاء الفيضان وانتشرت الكوليرا )
ـــ ممتاز ,,الغباء موهبة ,,ولك طاسة وين طشت وين وشرح لهم (لم يعد ) :
اولادي : النهر مثل البشر ,هم يموتون,,,البشر اذا مات وضعوه في تابوت ونقلو ه ليدفن الى مقبرة الحسن البصري في الزبير او مقبرة النجف ,والنهر اذا انقطع عنه الماء يموت يتحول الى حفرة طويلة ويمكن ياتي يوم يطمرون هذه الحفرة ويبنون او يزرعون مكانها او يتحول الى ساحة قدم ,
ودق الجرس .
فيما بعد تاكد بان كتاب القراءة الخلدونية من وضع ساطع بن محمد هلال الحصري، ولد في صنعاء باليمن أصدر (حوليات الثقافة العربية) في ستة مجلّدات وأصدر كتبه التي تردُّ على دعاة الإقليمية والنعرات الطائفية وتدافع عن القومية العربية وأتسعت مؤلفاته التي تتناول الدعوة إلى فكرة القومية العربية إلى أكثر من عشرين مؤلفاً وقد خطها الخطاط هاشم محمد الخطاط و قيل رسمت صورها الرسامة الالمانية ترودي تليمان. والاشهر رسمها شوكت الرسام وسيواصل الاستاذ جوري يعلم طلابه تلك المواضيع الشيقة: (دار ...دور
إزار امي ازرق....

قدري قاد بقرنا .........
الى متى يبقى البعير على التل)
ـــــــــــــــــــــــ
ستمر خمسون سنة على هذه اللحظة (النهر وصرخات الجرس )ويجتاز احد طلابه المحكمة القديمة (ستقطنها عوائل لا يملكون بيوتا بعد سقوط النظام , تتحول الى حي سكني صغيروتتحول الشبابيك حبالا للغسيل ) …ويعبر الجسر على بعد امتار منه سيقرا لوحة (الوقف الشيعي ) ويدلف في زقاق ضيق متعرج تزدحم فيه محال صغيرة تختنق بالسلع التى تسيح الى ذلك الطريق الضيق المعبد مر في منطقة تعج بالجوامع وبائعي الكباب واللحوم والخبز اليابس ومصلحي الدراجات النارية وفرق العزف التي تستاجر للاعراس ….استقر في مقهى بخاري…كثافة الدخان .. الناركيلة .. المدخنين .. بخار الافواه ولا اثر في هذا الحي لبائعات الهوى ‼ لقد تعرضن للذبح والتهجير كن اذا ضبطن (يفتحن ) للضابط ويغادرن المركز بعد ساعات
الان وضعن في القائمة الحمراء وفي طريقهن الى الانقراض , لقد غزتهن الحملات الايمانية التى اكتشفها مؤخرا وطبقها نظام البعث باحكام ورغم ان الاحكام الشرعية تنص على الجلد فقد ارسل النظام عصاباته الاقوى تدريبا والاقسى قلبا وتم قطع رؤوس عدد منهن ووضعها في قدور تحت شمس الضحى وامام دهشة الناظرين.
كان هذا الحي سوقا تجارية لعرض بضاعتهن والاسترزاق تمتلك كل واحدة منهن قاموسا متورما للشتائم والكلام الاباحي وقاموسا اوسع منه لكلمات المحبة والغزل والوفاء ,خليط من الغجريات والهاربات من سكاكين الاهل قدمن من شتى المحافظات ومن انقطعت شجرة عائلاتهن .. تاقلمن في هذا المحيط السخى وحجرن الافئدة ونسفن الذاكرة ,... الان عليهن بعد طوفان الغزو ان يبحثن عن ماوى جديد اكثر امنا.

لهذا شاهد مالك المنزل وعامله وهما يحملان الاصباغ لطلاء السياج الخارجي قفلا على الباب الداخلي وصوت تلفاز وعلامات غامضة على وجود بشر في الداخل ,,فتساءلا :ان كانت العائلة المؤجرة في الداخل ــ كما يظهر ــ فلماذا ومن اغلق عليهن بقفل كبير وقرر العامل ان يجتاز السياج وتسلق الى السطح فرأى بابا مفتوحا فدخل وصادفه سلم خرسانى فخطا نازلا بحذر وهو يسعل منبها او يصيح : (يا الله ..هل احد هنا ) ويسعل … لا احد ,..وقبل ان تمس رجلاه بلاط الحوش سمع همسا فتوقف ثم وضح المشهد ..:شابة ورجل في حالة اشتباك …تاوهات وصيحات لذة تتعالى ….فعاد الى السطح ثانية واجتاز السياج .
في مثل هذه المخابئ وجدت بائعات الهوى كهوفهن الامينة .






حي المعتصم

تناول ساهررشقة من الشاي وقرا وجوه الجالسين في المقهى. قميصه الاصفرلونته الاصباغ بقع منها على طرف حاجبه الثخين وانفه نحيل طويل مصفر اسنان سودها النيكوتين ....فر خفاش من مخبا تحت قاعدة شرفة شناشيل قال نوري:( دخلت يوما في احد بيوت المعتصم وقاطعه رحمن : (ابو صلاح شاي كم حله )....بصق ابو صلاح مضغطة السويكة...طقطق بصحون الشاي الفرفوري التى استقرت فيها نجمة بابلية خضراء ومضى يدفئها في ماء السماور الساخن . ... (المهم ) قال نوري الصباغ واضاف (فاستقبلتني قوادة,استهلكتها الدعارة وحاصرتها الكتائب الاولى للشيخوخة ,فهي كتلة اصباغ وغضون ونظرات مركزة ناقمة تقمصت الابتسامة وقالت ورنين الذهب يستقطب من صدرها ومعصميها :(( بدينار وهي مغطاة للنصف وبثلاثة دنانيروهي مغطاة تماما ),, اعطيتها دينارا وادخلتني الى غرفة قذرة...حائط مصبوغ بالسماوى.وسرير مغطى بقماش احمر ولوحة معلقة كتب عليها:(( الحسود لا يسود) ..مروحة تقاوم الكهولة ..وخابية ماء على صفيحة دهن ....واشارت اليها ...كانت ممدودة على بطنها .مغطاة بعباءة سوداء ..وارشدتنى القوادة بان اكشف عما اسفل الوسط فقط واعاشرها من عجيزتها فقط, وحدجتنى بنظرة تحذير وتهديد....
وتقربت القوادة لتحرس الحدود وازحت بعض العباءة وبرزت امامى قفة بيضاء مشحمة ..,تعبت عليها صاحبتها الصامتة تماما ,,افرغت سمي على عجل ..وخرجت لا ادري اضاجعت ذكرا ام انثى ههههه..)..ضحك الزبائن وعلق ابو محمد؛ (زواج مسخم لو تخلصت منها بصابونة وحمام اشرف لك )
صدح صوت فى المذياع :((هذا منو دك الباب ..يمكن اجونه الاحباب ) فى نفس الوقت الذى صاح باعلى صوته العامل اسماعيل وسط المطعم بلباقة وبلا انقطاع {اثنين قوزى اربعة يابسة وتمن صار خمسة يابسة نفر كباب واحد لبن )مط الباء طويلا واضاف ماطا صوته وهو يوزع الصحون على الموائد: (داريه ).)
امضى سنوات اسماعيل (فى العشرين.. نحيل ..طويل اشهب ) فى هذا المطعم مذ كان محلا صغيرا ..عدد محدود من الكراسى والمناضد العتيقة ولم يكن يقصده كبار الضباط ورجال الامن ولم يثبت صاحبه نفسه كانسان تقي ..تمتد خيوطه الى اخطر الدوائر الامنية. وقيل ان راقصة مصرية استدعته لبيتها جوار المطعم فكون منها بعض الثروة وتوسع.















ليدي ستيك

حزام من الجلد عريض يشد به وسطه على دشداشة رصاصية ثقبتها سجائر (البغداد ) او سجائر اللف , يدفع عربة بيضاء تشبه الصندوق لها ثلاث عجلات كتب عليها (محبوبة اسمان) ,وهو يصيح ضحى, وفي وقت الظهيرة بين الازقة الضيقة التى عرجت درابينها اتربة متحجرة : (ليدى ستيك ) …بعد سنوات يعرف الاطفال ان الكلمة ربما من اصل انكليزى تعنى (عصا السيدة ), يخرج زبد من زوايا فمه,…. يلحقه او يتجمع حوله الاطفال , يتسلم النقود المعدنية منهم ويعطيهم مثلجات بلون الحليب او المشمش , تنتصب على عصا صغيرة من سعف النخيل , يمر على العوائل القانعة او الراكدة .
الا ان اطفالا ومراهقين ينصتون او يسترقون السمع من خلال القصب فى الثامنة مساء ,فيرون اسمان يلقى بجثته المتورمة على جسد زوجته الاشهب النحيل وهي تئن من تحت عجلات شهوته , وكلاهما عار تماما على سرير من الجريد مغطى بفراش قطنى مبقع من البرغوث والبعوض وبول صغيرهما ..يستضيئان بلالة كسرت زجاجتها وتسخمت وظهر منها ذيل دخان اسود لا ينقطع.
لا يمرعلى بيت اسمان اقارب وزوجته محظورة من المخالطة الا دقائق تقضيها في التسوق ولا يعرف لهذه العائلة سر . انها عائلة فى الاسر ,ستختفى او تنقرض ولا يدرك الناس بان اسمان يقفل صدره على سر خطير.
فقد تشاجر يوما مع رجل في احدى قرى الكحلاء فى العمارة ,فترك ارضه التى يعمل فيها فلاحا وهجر ريفه وسكن هذا الحي بعد ان طعن اسمان ذلك الرجل في خاصرته وارداه قتيلا ,وحينما حاول متثعلب النيل من زوجته فطرق الباب مفتعلا عذرا امسكه اسمان من يده بقوة وخالط عينيه غضب وقال له .(نلتقي في في الشارع ,ادور فيه اربعا وعشرين ساعة ,فلا تات هنا ).
ولم يكررذلك المتثعلب مثل تلك المحاولة ولجم رغبته.
يلتذ اسمان عندما يكون فى منزله بالتدخين وشرب الشاى المهيل واللعب مع طفله الوحيد والثريد والبصل , وفى الليل ينسف كل توتره وغضبه المكبوت بين فخذيها وينام , ويستمع الى المذياع للاغانى الريفية , لذلك النوع من الذي يثير الحزن ,ويخفف عن الروح مكبوتاتها الصاخبة وحزنها المتراكم , وهو لا يعلم بان المناشير ضد السلطة توضع ليلا قرب سياج بيته الخص القصبي .
برهان لا يعى هذه التفاصيل ولا يعنيه من بيت اسمان الا النبق الزيتونى , وفي طريقه الى المدرسة يرمى بعض الحجر على شجرة السدر التى تتفرع اغصانها خارج البيت , يلتقط ما يكفي ويمضى ان كان الدوام عصرا.










معمل الطحين
ــــــــــــــــــ
باياد مهرة ومواد انشائية عالية الجودة شيد معمل الطحين في العهد الملكي واسموه (معمل الوصي ) , مرت عليه الانقلابات وقسوة الطبيعة وتعاقبت الاجيال شهد الفيضانات وشحة المياه والقحط والازدهار ,الهيضة ,والحروب,وصمد شاهقا حتى بعدما اجهزوا على رفيقته المقابلة ماكنة السوس ,يدفعة مياهه عبر انبوب واسع يمتد من اسفل الاسفلت حتى مجرى النهر حيث يتجمع الصبية والمراهقون لاصطياد السمك الذى يتجمهر على حبوب الحنطة وهنا تتشابك الشصوص ويحذر الاطفال من اشواك دودة الزعيم ..لا تهزمهم شمس تموز ولا يبلغهم التعب لكن السلحفاة ان تورطت بصناراتهم لا تفلت فتهوى عليه النعل والعصى والجريد والقصب الفارسي فتدمى وتخنقهم بريح نتنة دون ان يتمكنوا من اخراج راسها من الجسد الحجرى,شارع من الاسفلت يفصل المطحنة عن الشط تتناثر علية الحنطة فتزدحم العصافير والفاخت والطيور .
وياتى (ازهر) انيقا من الحى المواجه , رشيقا ابيض البشرة كحيلا ويخطو بصمت وحذر وينبطح بهدوء ويسدد فترف الاجنحة ويتطاير الدم فيتقدم بمدية صغيرة ويقطع راس الطريدة الا ان ابن غازى في مساحة مخضرة اخرى يمتد على ظهره فى انتظار السرب ويوتر مصيادته فتهوى الاجنحة فيقفز ويفصل راسها.
(ازهر) وريث الاسر الميسورة ورث منها الاناقة والهدوء والكبرياء .ياتي عصرا ويركن سيارته الكحلية قرب الجسر ويسرق النظر الى بيت المدير المجاور لبوابة معمل الطحين.منشغلا بلمس يمناه باليسرى اولامسا فروة الراس يرمى بصره الى الموج ويرتد الى بيت المدير ,قد تمر ساعة حتى ينفرج الباب فتظهر لبنى بنت مدير المطحنة ..تغلق الباب وراءها برفق وتخطو ممسكة اخاها الصغير بيدها .فتضطرب السعفات وتكف الاسماك عن الحركة يئن الجسر وتضطرب الامواج ... تهوي الشباك من يد الصياد.. يندهش الصيادون الصغار وينسون صناراتهم ...يستعد الاسفلت لاستقبال الاقدام وتسارع النسمات لتداعب الحرير الذهبى من خصلاته المتناثرة. وتتقدم لبنى مزهوة واثقة , تمر على ازهر ,تلامس بالسبابة ارنبة الانف ,خافضة راسها متنجنبة النظر الى ازهر وهى تسحب الصغير متوجهة الى السوق العصرى .








عفاف
توقفت عباءة ناضجة فى الجهة الغربية من المطحنة عينان سوداوان وتقوسات تثير الشهية لم تكن (عفاف )فتاة لعوبا ,انها من الهواة تتذوق دفئ الشبان ,حسب مزاجها ,وتقيم معهم علاقات انيقة ,صحبها احمد بن الحارس الى كوخه القصبي , بعد تبادل جمل مقتضة وابتسامات مصممة ....كان موهوبا باكتشاف مفاتيح النساء.
برهان ,قبل ذلك ابتعد, عنهما ولما طال الحديث بينهما تركهما قاصدا المدرسة فى القشلة .
يحدثه احمد في الليل بما جرى : (اخذتها للبيت بعد غيابك بقليل لم تانف او تستغرب من الفقر تناولت معى الطعام البسيط وشربت من الجك الذى تعرف قصته ـ قال ذلك وابتسما ـ (في ليلة مثلجة ,تثاقل اخوه الاصغر فبال بذلك الجك لكنهم لم يحيلوا الجك على التقاعد )…استجابت لاصابعى وتاوهت وقبل ان يشتعل التنور بيننا, تناولت عباءتها وقدمت عذرها وغادرت مبتسمة والتفتت قائلة <حتما سنلتقى >,تعود ام احمد بعد ان تبيع مخضراتها من نعناع وفجل وكراث ..فلا تجد الوقت للطبخ فتقلى لهم الطماطم ويقضمونه قبل ان تنضج فيقول احمد لبرهان ,مبتسما ,كاشفا عن سن مكسورة (الحاجة لا تنضجها حفاظا على فيتامين سي).يصدق بذلك برهان متصورا انه عثر على حكمة غذائية حتى تسخر منه امه ويدرك بعد سنة حقيقة الام .
ابو احمد الرجل البدين اتى بهم من الناصرية الى البصرة طلبا للرزق فلما عمل حارسا في المطحنة قرر ان يستاجر هذا الكوخ المجاور, يضم صريفتين ومساحة واسعة متربة تكفى لتربية الدجاج وموطن للضفادع والقطط والجرذان, ابو احمد يتناول طعامه (غالبا طماطم غير ناضجة وملح وفلفل حار وبصل ورغيف )بتذوق يذكرك باسلوب اكل الملوك .ويصيح على امراته في الغروب احيانا بصوته الهاديء القوى (حاجة اين الابريق) فيلتفت احمد مبتسما لصديقه ملوحا بيده (اسمع هذا سر الليل ) ,فى الليالى الممطرة او ليالي الزمهرير يكون البرد رماحا على الناس يسال احمد صديقه برهان (حتما تحتاج للدفء , ويمسك الشخاطة وهو يبتسم ويشعل حبال الجنفاص التى تراكمت قرب خص الصريفة :
ـ سيشتعل القصب .
ـ لا تخف ادرس ولا تفكر بالحريق .
لكن برهان لا يستقر فاصابع النار تنتقل من كوة حبال لاخرى.. ولا يحدث مكروه ,سيعتاد على هذه التدفئة البدائية . فى ليالى الزمهرير على مقربة من كوخ اسمان ـ ليدى ستيك ـ .
وفيما اقترب برهان من البريد المركزى وسط ام البروم لمح عفاف متجهة الى البريد فحيته وصافحته ولاول مرة في حياته يصافح فتاة وتمشى الى دائرة البريد ودخلاها وغادرا,وصادفهما عسكريان تحرش بها احدهم : (انت مكشوف الهوية) فاجابته واثقة :
ــ نذل وبن زنا وساقطة..الهوية المفضوحة لخالتك وامك , والتفت لبرهان قائلة:
ـ ها صحيح برهان .
واستغرب برهان من ثقتها بنفسها وقوة جرأتها وقال في نفسه : (وانا رجل واخجل )وقرر ان يقضى على خجله باي ثمن .وقريبا من موقف السيارات استاذنت مبتسمة فقال
ـ (ومتى التقيك)
فاجابت (بعد ساعتين قرب موقف باصات المصلحة) . واختفت .وبقى يصارع نفسه (لا.. لا انتظرها ربما لا تاتي فاشعر بالاحباط).
كان لاحمد مثل اخوته الثلاثة روح الفكاهة .. والتقى يوما برهان فمثل روح الحزين .. وسبق الخبر بمقدمات رتيبة :
ـــ انت تدري ان البقاء لله , ونحن جميعا على هذا الطريق ...وان الموت حق .
فحدجه برهان بنظرات استفسار .. فاكمل مادا يده للمصافحة
ـــ البقاء في حياتك .. لقد توفيت جدتك
فتبادلا النظرات .. ثم ضحكا باقتضاب .








اعدام مغتصبين

برهان حدثه احمدعن ثلاثة رجال اعدموا شنقا في ساحة عامة في الناصرية(
اتوا بهم متجمهرين وقد قيدوا ايديهم وعصبوا اعينهم وهم يرتجفون فزعا ويصرخون (يا علي انقذنا ) ,(يا علي اقلع هذه المشانق كما قلعت باب خيبر ) ,(دخيلك يا علي ),,,صو تهم اعلى من العويل والزئير واشد من الزمجرة , وكانوا قد اغتصبوا طفلا فى التاسعة وداروا بهم في عجلة مكشوفة فى شوارع المدينة وسط لعنات الناس واستهجانهم والشماتة والبصاق.


فتنة
وحدثه احمد عن (فتنة ) ,شابة رشيقة شعرها برونزى كثيف وعيناها خالصة السواد ونظرتها من الزوايا.لا تحتاج الالتفات كثيرا,وان استدار اعلى جسمها يثير خصرها شهية الجائع انعم الله عليها بفم صغيرووشم وشامة في زاوية الفم اليمنى , مطلقة فى الثلاثين اطلعت سعدى على دفتر مذ كراتها فكشفت سطوره عن عاهرة نادرة .انها مجنونة بصيد الرجال المؤمنين او التقاة , وكلما اغرت احدا منهم سجلت ذكرياته معه في دفترها حتى بلغ ثلاثين صفحة :
الورقة الاولى :
الروزخون (الزائر محسن ) فى الاربعين يقرا كل ليلة خميس فى بيت ابو خزعل :مساحة مسيجة بخص قصب خلف دارهم ترش ارضيتها الترابية بالماء عصرا صفت فيها جذوع النخيل متلاصقة الاطراف بشكل مستطيل عرضه خمسة امتار وطوله عشرون واسندت عليها المخدات الاسفنجية المحشورة بقماش بني يتكئ عليها المعزون ,تشربت ارواحهم بفاجعة الطف وذهبت نذورهم الى ابى الفضل العباس (ع) بطل العلقمي وكفيل زينب وجنح خيالهم الى سنابك الخيل وهى تدوس على جسد الامام الحسين (ع )وتسودت دشداشاتهم ايام عاشوراء ونذروا ماشيتهم وديوكهم لنحرها فى السابع والعاشرمن محرم ,واعتادت عيونهم على الدموع وظهورهم تجلدها الزناجيل وهاماتهم تشققها السيوف وصدورهم يدميها اللطم وسبي بنات رسول الله (ص ) يهون عليهم عليهم كل مصيبة . اخر العصر يكنس ابو فالح بالسعف تلك المساحة ثم يرشها بالماء ,,بعد العشاء يتوافد الحسينيون :عمال في موانئ البصرة ,حمالون اصحاب البسطات العاطلون عمال البواخر باعة ,متقاعون صغار , شيوخ شبان ,صفت النوايا وتالفت القلوب يرتدون الدشاديش والكوفيات والعقال ويمسكون بمسبحاتهم السوداء والجوزية ويضعون في محابسهم الاحجار الكريمة ,,,,يرى الناس ابو فالح ايام عاشوراء اذ تتوارى الجدران والشوارع والابواب خلف اللون الاسود وتزدحم اليافطات ( يا ساقي عطاشى كربلاء ) ,(يا حسين ادركني ) (ابد والله ما ننسى حسيناه ) (الحسين سفينة النجاة )…
في تلك الايام المشبعة بالحزن والدموع الجميع يهتف : (يا ليتنا كنا معكم فنفوز فوزا عظيما ) )…..
الجميع يتمنى ان يتراجع التاريخ فيذود عن امامه ويفتك بالكفرة الفجرة : بالشمر وهو ينحر راسس الامام من القفا , بحرملة وهو يذبح رضيعا برمحه في تلك البقعة المقدسة (الطف ) .بيزيد وهو يردد شامتا : (يا غراب البين ما شئت فقل ـــــ انما تندب امرا قد فعل. لعبت هاشم بالملك فلا ـــ خبر جاء ولا وحي نزل ) وسيتلقى صرخة العقيلة زينب (ع ) في مجلسه المكتظ في الشام :<يا بن الطلقاء>
الزائر محسن في ليلة السابع من عاشوراء مقتل الامام ابي الفضل العباس ,ذروة ايام عاشوراء والناس يستعدون لنحر المواشي وذبح الدجاج والجاموس والبقر والجما ل وتوزيع الطعام على الناس ,سييطعمون القربة ويتثبت العطش ,سيقطعون يديه ,سيهوى الكفيل ,,, نهر من الدموع تجرى هذه الليلة ………
الروزخون محسن استهل حديثه بتفسير الاية (والزانية والزاني اقطعوا ايديهما ) :قال : (لماذا ,اخى المؤمن ..فكرك معي ارجوك ..لماذا قدم الشارع جل وعلا الزانية على الزانى…)
تصغي فتنة بخبث وحقد لهذا الحديث..تتذكر صفعات زوجها الحقير, وكيف يجرها نازفة من شعرها, ووقع عصاه على ساجردك من آخرتك واخرب بيتك ) )
في اليوم التالي قصدت منزل ملا محسن طرقت باب منزله التراثي ,حاملة صبي جارتهم المتمارض استقبلها مرحبا : (ادخلي يا بنتي ),,, لحظت بياض وجهه وعلامة السجود في جبهته وبداية الثلج في لحيته السوداء ,(اريدك ان تصنع تعويذة لهذا الصغير وتقرا عليه المعوذات ,منذ البارحة وهو يصرخ بلا انقطاع)
واخذه في حضنه وقرا عليه (من شر ما خلق ومن شر غاسق اذا وقب ) ومسح على جبينه ,كان يغض الطرف اثناء ذلك اما فتنة فقد وصلته محملة بمكر واغراء الانثى وقوة التصميم يسندها شيطان لا يقهر وتكلفت كلمات لتستقطبه وحركات مصممة لاغرائه وقد تزينت بما تستطيع ….قال سعدي : (ذلك هو الصيد العاشر من رجال الدين وقد نجحت بعد زيارات متكررة من اغوائه فافترق عن جسدها مثخنا بالاثم واللهاث والعرق .
(الورقة الثانية )
ابو جوهر ضخم الجثة ثخين الصوت هادئ دائم الصمت لا تمر على دارهم الا وتسمعه يتلو القرآن ولسبب ما كثيرا ما يسمع عنه سورة يوسف والنساء ,في وجهه اثر لجدري عابر لم يقضم كل وجهه المدور المحمل باثار نعمة وركود نفسي ,يشاهد في طريقه الى الحسينية حاملا مصحفا ملفوفا بقطعة قماش خضراء .وهو يتحنحن اويستغفر شاغلا اصابعه بمسبحة صلاة سوداء ,اكتافه ودفتاه مثقلتان باللحم , ذلك مع طول تقصره ضخامته ,,عيناه واسعتان تغضان من حياء وتعويد وهويقصد الحسينية وطالما طرق وهو في طريقه على الطريق الترابي منزل صديقه المقرب ابو محاسن عامل البواخر القصي الشديد السمرة القوي البنية في الستين من عمره …
غالبا يتحاوران ويتجادلان في التفسير والمسائل الشرعية ويظهر ان ابو جوهر اطلع على بعض الكتيبات الدينية البسيطة لكن ابو محاسن الامي كان يجادله ليثبت مقدرته على الادراك رغم ان جل معلوماته قد استقاها من الموروث الذي يشاع في المقاهي وجلسات العاطلين كلما تحلقوا حول الموقد قرب اواني الشاي او فترات الاستراحة اثناء العمل في جحيم البواخر صيفا وبعضها حفظه من قراء المنابر.
فتنة تلقي التحية على ابو جوهر كلما صادفها و تبالغ في الترحيب, فيرد عليها بادب ويحيد عنها ,يحترمها كجارة وامراة قست عليها الايام وتمكن منها الشيطان وحبب لها الهوى وهي اخت في الدين وابو جوهر لا ينبش شؤون الاخرين وليس لديه فضول ليرى اسبابهم ويانف من الغيبة (ويل لكل همزة لمزة )
وحين قررت ان تنسج له الشراك ترددت كثيرا فهي تسكن على بعد ثلاثة امتار عن منزله واية حركة منها ربما تثير فيه الريب .
اخيرا وجدت ثغرة في جدران قلعته :ابو جوهريهتم كثيرا بان يوصف بالمؤمن وصاحب المروءة والاستقامة ,وبان ما يشغله هو الامر بالمعرف والنهي عن المنكر فوجدت العذر اخيرا لتنال منه (لا تخون الاعذار امراة اذا مكرت ) والتقت به مرات حتى تمكنت منه :
:<عيونكم تعلن الاستهجان من رؤيتي , احاديثكم وجدت لاستصغاري ومن وطأني سيروي انتصاراته لسنين .انا حجة نسائكم كلما مللتم او جفوتم والله ساستعمر بيوتكم بالفتنة وستسلب فخذاي دينكم ساتسلى بلهاث الرجال المستغفرين وعرقهم على صدري سانتصر واذلكم وان في الظلام .
وجاء في مذكراتها : (ابو جوهر صيدي الحادي عشر من رجال الدين والمؤمنين الذين تمكنت منهم وكشفت عن زيف ايمانهم .,,,كم تلذذت وهو يسند ساقى على كتفه ويدفع ….تحملت كرشه وتلذذت بالعرق يتساقط من شاربه
في 25 ـ 7 ـ1966 :( فتنة عواد قنبر )





ادم
(الجحيم هم الاخرون) . ثم قرا بعد صفحات (الحرية هي الرعب ) … (لقد شغلت برهان رواية سارتر عن كل محفز, عزلته عن العالم الخارجي تماما. قرا فيها عن امآ ل تذبح ومحن تصهر النفوس. قلق بركاني . الخوف ينبت في كل شئ, والحرية في اجازة عابرة لاسابيع قبل ان تندلع الحرب العالمية الثانية وتحل الكارثة.
الناس في طريقهم الى( الحزن العميق) و( الطيور السوداء) تقترب… انه يقرا عن تلك الهزات البشرية بعد اكثر من ثلاثة عقود من اندلاعها… تحطمت مدن وأعيدت. وتحللت اجيال ونقهت ثم اشرقت . انهارت ارواح وترممت. او انبثقت من جديد ….زاهية متالقة هي المدن الاوربية الان بعد يباب.
وفجاة شعر بحركة فتاة تتفتح توا. رشيقة شهباء.ترتدى ثوبا عقيقا يشد خصرها الضامر ,,حشرت نفسها في مساحة مختنقة بين حائط من الطابوق غير ملبوخ وسرير عريض يشغل ثلث الغرفة ,علقت لوحة (نساء في الحمام ) ولوحة خطت عليها اية الكرسي وكلمات خرمت من خشب (محمد<ص > , رسول الله ) ,ورآها تعدل زينتها ,,تضع احمر الشفاه تنظره وتحيد عنه وعاد لكتابه …
تقدمت …انها الان تفحص نفسها على بعد متر منه في مرآة مجرحة , وقرا نصا يمثل مشهد رجل وامراة يلتصقان ,فالتفت اليها ,ثوبها يكاد يمس الارض وخصرها دقيق , فامسك من طرف الثوب المزهر المارونى وسحبه الى الارض ,لم يصدر منها رد فعل فسحبه ثانية فلم تحتج فنهض ,….. انه وراءها الان تماما فامسك بيديه خصرها ,,سرت باصابعه هزة فمد رقبته وقبلها,….
عاد يقرا …وسمعها تقول :
ـــ انت لا تجيد التقبيل
فترك الكتاب على البساط القطني الاحمر واستقام لها والتحم معها في قبلة طويلة حتى انامها على البساط وتمدد فوقها تماما مستندا على عكسيه , وسيطر على الهياج وكبح شهوته وتركها وعاد يقرا فى الرواية …. بعدها رفع نظره فصدمته لوحة زيتية طبعت على لوحة ورقية تمثل آدم وحواء متقابلين يستران عورتهما باغصان ويقفان في حديقة ناضجة .
منذ صغره صادف هذه اللوحة على الحائط ..الاهل يصفونهاــ آدم وحواء ـ لم ينا قش امر اللوحة حتى سن الرشد,ولم يكن ميالا
للفتاة السهلة فتجاوزها منشغلا بالكتاب .

××××××××××××










ام البروم

1 ـ سكارى مفسرون
ــــــــــــــــــــــــــــ
لا يمكن ان تدور بهما الارض ان لم تمتلئ جيوب الشحاذ الذي يقف على الجسر على بعد عشرين مترا منهما ,اشعث الشعر شديد السمرة,لحية بيضاء, بترت ساقه اثر انفجار قنبلة ايام الحرب,عندما كان يركن عربته الخشبية التي ينقل بها سلع المتبضعين من الخضارة قرب صانعي التوابيت , هو الان يستند على عكاز ويتكئ على قضبان الجسر , ونادى عليه اثنان يفترشان العشب في حديقة مثلثة على الضفة يستظلان بنصب برونزي: (هل امتلات جيوبك ؟ ),فيحرك يسراه محتجا ويجيب : (المارة لا يهتدون لجيوبهم ,والشرطة لا تتركنا نسترزق )..في تلك الايام كان رجال الشرطة يشنون حملات على الشحاذين وقد اعتقلوا بعضهم مرات عدة .
التفت مرزوق الى صاحبه والخمرة تلوك جمجمته : (نكون ابطال ,,زلم خشنة اذا تمكنا من الحصوووول ع على ربع عرق ).
عند اقتراب الظهيرة اختفوا ثلاثتهم وحل بعض السكون في الشوارع الصاخبة واستعدت الشمس لنهش الاشياء , على الجرف اطعم رجل صنارته عجينا صلبا وتصاعد المد يصارع الصخور التى بدات تختفي تباعا حسب ارتفاعها ومرت اغصان جرداء وكرب وقصب هجر اهواره ,واوراق عشاق متهرئة وانتعشت طيور اكلة الاسماك تهوى بمناقيرها بسرعة الطلقات من الافق ,وانت اطارات السيارات من جمر الاسفلت وانزوت بائعات الهوى فى محلات دعارة , كتب عليها اسماء شركات تجارية وذيلت بعبارة : ( ذ. م .م ) ,وتسلق من الشارع الى الجرف رجل زنجي في جسد رياضي ,يبتسم بملامح جذابة, الا ان المرح غادره .وظهر رجلا هادئا متزنا القى التحية ومد عصاه الطويلة واصطاد سمكة : (ها , سالتذ بها الليلة بعد طاسة العرق ), واقفا كان يصطاد وظهر في نبرته انه احتسى كمية من الكحول واستمع اليهما الرجل الصياد (برهان )مستغربا,فقد عادا يجلسان بالمكان نفسه الذي يرتفع عن مستوى الماء لمترين . (همت به ..وهم بها), نطق بذلك مرزوق بصوت صداته ومطته وجزاته الخمرة فقال برهان في نفسه : (هكذا تفعل الخمرة , العرق يحول الفاسق الى روزخون يفسر الايات ).
كان مرزوق زبونا للمعتقلات وقد حكم عليه اخر مرة في السبعينيات فسجن فى ابو غريب لثلاث سنوات وكثيرا ما شوهد يضرب جسده بالموسى او يضرب عن الطعام ويعلن ذلك فى لافتة ويخيط فمه الا انه يستسلم فى النهاية بعدان يرسموا على جسده صورا سريالية من ضرب العصى والصوندات والرفس واللكمات ويسحبونه في الممر الرئيس في ممر السجن من اول الليل حتى طلوع الفجر وهم يسكبون عليه الماء والملح وياتون به الى قاعة السجناء ويصحونهم مبكرا ويكرهونه على وضع حذاء لطخ بالخرؤ في فمه فيردد (انا مخنث وعاهرة,وبن كذا ….) فيتركونه متخليا عن الاضراب .
مرزوق مثال للقذارة والخبث والنحول والوجه المتوتر ,الجرذى ,والخمار المدمن .
قال صاحبه بصوت مسحوح : (الكلب ..كنت اااررضعه للصبح..اشترى له الباجة والكببااااب,اضعه بحجرى,ادفئه فى الششتتااء, والان يهرب مني بن السسااقطة .. و.وي.. ينام جوه غيري).
وعاد مرزوق يفسر : (اننها هممت ب به و..هو هم بها,فاجابه صاحبه: (يوسف لا يفعلها حتى لو كانت ذكر..)..زهق برهان منهما وقال في نفسه : (خمرة وتفسير ), والتفت الى الرجل الاسود جواره الذى انهمك بتخليص سلحفاة من صنارته وقال : (استمع لصاحبيك فى الاعلى انهما يحتسيان الخمر ويفسران القرآن )اصغى الرجل الاسود اليهما وزمجر وجهه,قلص شفتيه وحرك حاجبيه وحملق فطفر متسلقا نحوهما وهو يردد (القوادون ,اولاد الزنا )..وسمعه يصيح من الاعلى:
(كلاب ,سفلة ,انتم تشربون العرق تفسرون لماذا ؟ ... اعول وعوى عليهم : (بالكالة على رؤوسكم ,انا جاسم عالية وخطف منهم قنينة العرق الابيض ورفعها (ااانة جاسم جس... هاى خاوة تحركوا ..جروا مخانيث)ورماهم بعلبة اصباغ فارتطمت بالنصب البرونزى ونزل الى الجرف غانما زجاجتهم الصغيرة وكرع قليلا منها وقطع خيط الصنارة,فالسلحفاة اصرت ان لا تظهر راسها وخاطبها (قحبة بلعته وارتاحت ).


2 ـ رضا الحرامي
جرف من الصخر كانه منحوت على نهر العشار ,يهبط برهان من حائط يعلو لثلاثة امتار حاملا عدة صيد متكاملة , يضع كيس الجنفاص في الماء ليحتوي السمك ولكي يوصله حيا او طازجا لمنزله , ويستغرق في نشوة صوفية وهو يتابع قطعة التبدورة الطافية او يستمتع بما يحمله المد من اغصان وقنان وطافيات ..فى الضفة الاخرى اقيمت وسادة كونكريتية تعلومترا عن مستوى الماء ,تسند جدار الجسر ,على هذه الوسادة الصلدة اقام رضا الحرامى منزله تحت الجسر :فراش قذر,من الاسفنج وقدر طعام مسود من الفانون وطاوة مسخمة وماعون فرفورى مشقق ,صرة اسلاب وعدة صيد .
في النهار يقضى ساعاته مع صبي اشقر, يغطسان معا ويتجاذبان , او يطبخ ,يصطاد او يشخر ممدودا, يلفع وجهه الاحمر بكوفية بيضاء , ومع اقتراب الظلام يضيع في الازقة المتاهة في شوارع العشار : البجارى,المغايز’المطاعم ,خيون ,شارع الكويت, ويسرق.
على الجسر اعتاد ان يتواجد رجل تتقدمه منضدة ترتفع حتى منتصفه.حشرت اوراق صغيرة ملفوفة بين مساطر خشبية رصفت بخطوط متوازية ,يمرر الرجل عليها ارنبا فيلتقط ورقة مطوية يتناولها منه ويقدمها للزبون مقابل نقد من عملة معدنية , علق فى واجهة المنضدة اعلان وضع فى لوح زجاجى مذيل بتوقيع محافظ البصرة يوصى بعدم التعرض للرجل وارنبه وفيها(انه وسيلة رزق , ولا يجوز منعه او التعرض له ) ,
ـــــــــــــــ
3 ـ ساحر
شاهد يرهان يوما فى شارع المطاعم قريبا من مطعم الخيام مشعوذا تمرس بخفة اليد يصيح (هنا الساحر ..هنا الساحر )..فيتجمهر الناس ويطلب منهم دراهم فينفخ على قطعة قماش بيضاء ويشعلها بعود ثقاب ويحرك شفتيه يتلو في سره ,ينفث السحر فتختفى النار منها وتعود بعد ان ينكتها ناصعة …….(قيل انه يسكب مادة عازلة عن النار على قطعة القماش فتمنع احتراقها ).






4ـ اعدام بالبصرة
ــــــــــــــــــــــــ
صحت مدينة البصرة في الصباح الباكر على مشهد الاعدام ,كانوا معلقين بالحبال..الناس في البصرة لم تالف مشهدا كهذا...جثث تتدلى من الحبال ,في ساحة ام البروم ,افواج الناس في تزاحم :كهولا اطفالا رجالا نساء شبانا ومراهقات,عبر الشارع مقابل الحديقة المسيجة حيث المشانق ,هناك سياج خفيض تسنده دعامات تعلوها مستطيلات كونكريتية يجلس عليها البعض ويراقب المشهد, ولم يتمكن برهان من الاستقرار عليها حتى تنازلت امراة لاخرى عن المكان فاستغل حوارهما و استقر عليها, لا متر يخلو من بشر , امواج بشرية تعقبها امواج وهتاف يتداخل في هتاف (الموت لاسرائيل) , (عاشت فلسطين حرة عربية ).
صدرت أحكام الإعدام على أربعة عشر متهماً واعدموا شنقا في السجن المركزي في بغداد في ليلة السادس والعشرين من كانون الثاني وعلقت جثث احد عشر من المتهمين في صباح اليوم في ساحة التحرير في بغداد وثلاثة في ساحة البروم في البصرة.
الاتهام الأول يتلخص في أن تاجر أدوات منزلية من البصرة كان يترأس شبكة تجسس إسرائيلية ويرسل الشباب اليهودي عبر الحدود إلى عبادان لكي يتدربوا، على أيدي عملاء إسرائيليين على استعمال الأسلحة الرشاشة والقنابل اليدوية والمتفجرات بغرض القيام بعمليات تخريبية, الاتهام الثاني هو أن الجواسيس اليهود قد فجروا جسر قرب تمثال أسد بابل في وسط البصرة, التهمة الثالثة تتعلق باستلام شبكة التجسس أموالا طائلة من إسرائيل عن طريق ايران إلى العراق من خلال وساطة شركة نقل بحرية يمتلكها باكستاني (محمد عبد الحسين جيتا) في البصرة, التهمة الرابعة فهي تتعلق بان رئيس شبكة التجسس ناجي زلخة كان يرسل رسائل مهمة إلى إسرائيل باستعماله جهازا لاسلكيا كان قد وضع في كنيسة السبتيين في البصرة بمساعدة البرت حبيب توماس مسيحي من البصرة وجاسوس يهودي
فيما كان احد اعضاء مجلس قيادة الثورة يخطب في المتجمهرين ببغداد
(. أنتِ يا إسرائيل اللقيطة، انتم أيها الأمبرياليون الأمريكان، وانتم أيها الصهاينة، اسمعوني. سوف نكتشف كل ألاعيبكم القذرة. سوف نعاقب عملاءكم. سوف نعدم كل جواسيسكم، حتى لو كان هناك الآلاف منهم. هذه هي مجرد بداية. الساحات العظيمة والخالدة للعراق سوف تُملأ بجثث الخونة والجواسيس. فقط انتظروا).
كان برهان مذهولا ومستمتعا بالمشهد ,لم يكن قد تجاوز الثانية عشرة من عمره,كان عقله مبكرا على مثل هذا الحدث لكن لحظة الاعدام ستعلق بذهنه وسينضجها الثوريون في كيانه ويبحث عنها في بطون الكتب والصحف والمجلات ونشرة الاخبار , وبعد خمس سنوات يزور صديقا له سجينا في سجن البصرة ويمر على غرفة الاعدام فيعلق في كيانه الحبل المتدلي والصمت والرعب والغبار وهو يشاهد غرفة الاعدام من خلال ثقب..


حي الكبة
ـــــــــــــــــــــــ
زقاق الكبة يصب في شارع تجاري ..المقهى في الركن مفتوحة على هذا الشارع والزقا ق ,,كوفية حمراء ,وجهه مدور,مترع بالعافية,,رقبة اثخنتها الموائد الغنية,,طويل ممتلئ الجثة سترة ودشداشة ودكلة ومسبحة : شكل مهيب ,,<شواي> القواد,,يستقر على تخت يلتصق بالحائط ..يراقب زبائن قهوته والسابلة وحركة الازدحام وفود تعقبها وفود:عمال عاطلون , موظفون ,نشالة ,باعة متجولون ..هاربون من الخدمة العسكرية ..شرطة نائمون ... ادباء مغمورون ..زبائن الريسز الدائمون ..محشورات بالعباءات.. شحاذون ..سافرات,, حاملو لوحات اعلانات السينما ,,تجار مهرة ,,,خرسان,,سياسيون يجرون بحذر,,,طلبة..مراهقات يتهجين المعاشرة ويدرسن سلوك الرجال ,,صياح الباعة والعصافير والببغاوات,,بائعو الصحف المحدودة المتنقلون دافعو العربات ..:حركة الازدحام امواج من تعقبها امواج,,لا تتقاطع ولا تنتهى :شواى لا يعنيه و هو يراقب الموج البشرى الا جيوب زبائنه يطلبون همسا اوبصوت خافت او بعدما يرتشفون الشاي ويضعون الملعقة على قمة الاستكانة فياتيك الجايجى ويقول لك :(هل اخترت ؟ )
هنالك صف من نساء يجلسن امام صوانى القيمر وطاسات الروب , بيض البشرات عيون خضر او زرقاء واسعة لا تعرف الانكسار...ياخذك من يدك اويصحبك فتراها امامك في بيت من الطابوق قريب اعد لقتل الشهوات,,.
فى الساعة الثانية. انهى نوري الصباغ ماعون الباجة وتوجه الى مقهى شواى لاول مرة يختار (جوهرة )لم يرها من قبل ,,راى صينية القيمر على الحصير,في غرفة بالطابق الثاني ,,,اجتاز السلالم الحجرية المثلمة واستدار معها الى اليسار ...بنطلونه والقميص وحذاؤه الباتا كلها مبقعة من الاصباغ ...الجو يستعر ....ويود الانسان ان يتخلى عن كل ملابسه ...النساء يرغبن ان يخلعن اى شيء حتى جلودهن,,,الغرفة مصهر بشرى,,,المروحة العتيقىة تسح ريشاتها مثل ثور كهل .
اسمي جوهرة ــــ قالت واضعة راحتها بين فخذيها معتدلة القامة لم تبلغ العشرين تناولت(الشربة ) وهى واقفة فراى جريان الماء فى رقبتها الناصعة ,,,وجه تحتله عيون ورموش وخدان من التفاح الاحمر ان ضغطت باصبع خدها يتجمع مصهور الرمان ولا يزول لساعات ...وقبل الالتفات قالت بغنج :(قوة وعنف هل تفهم )...
ــــ(ساجعلك تعلنين التوبة )
وتناول من الزاوية عثقا متيبسا ازيلت منه الثمرة ,وانامها على بطنها وادمى ظهرها وزخرفه ,وهي تتلوى وتلتذ وتتاوه وتطلب المزيد وطحن عظامها ...ونهض عنها وتقدم للماء وارتوى ونظر ملتذا الى لوحات غريبة خلفها العثق في ظهرها وراى في الغرفة قطع قماش قذرة فى مواقع خفية ونملا يسعى وفئرانا تتسابق وعلى الجدران علقت صوراباحية والتفت اليها وربت على ظهرها ,,:(جوهرة )بذلت جهدا لتفتح عينيها وتفلت ابتسامة مقنعة :(حبيبي ) .. ..:{سامضي وساشتاقك }
ــ مو تتاخر...
ودخل المقهى فاشار اليه (شواي )
ـــ عمي انت تاخرت ونمشيها ,,,مرة ثانية لو تاخرت تدفع مضاعف ...قالها وهو يسدد نظرات تهديد حاسمة.
ـــ ا اخر مرة حجي ووضع راحته على صدره وهو ينحنى :واضاف (ممنون )
ـــ عمى احنة ورانة شغل خلص حاجتك وروح
ــــــــــــــــــــــــــــ

مارون فى حى سليطة
كشاف فال
فى اواخر الخمسينات من القرن العشرين مر في حي سليطة قارئ كف عجمي يصيح اثناء مروره على الابواب ( كشاف ..فوال ..كشاف )واستدعته الزايرة ام جاسم وكشف لها الغيب بعد ان شكت له جفاء زوجها بالفراش ومعاملته الخشنة لها , فطلب منها ديكا اسود ومنحها ورقة صغيرة قد كتب فيها بقلم قوبيا بعد ان بلل راسه بلعاب اوصاها تخيط عليها قطعة قماش خضراء وان تدسها فى الوسادة (كان يلتذ برواج خدعه وضحكه سرا على عقول الخائبات ) .
مر شهران لم يلمسها ابو جاسم وما خفت خشونته,رغم اهتمامها بزينتها واخذت تردد : (
حطيت كحلة ما فاد
حطيت حمرة ما فاد
عرس علي شداد )
وتندب حظها.
واستدعت صبيا ذات يوم وكشفت له ورقة الكشاف :
ـ يمة كلي ا شمكتوب بيها .
فقرا الصبي :
ـ (اخذنا ربيتج وديجج
اكريني..اكر ما يني...) ردد الصبي كلمات الفوال المسجعة الاباحية ؟


مسعود الاحمدي
مثل ملاكم من وزن الذبابة , مسعود الاحمدي , مجعد الشعر مفتول العضلات شديد السمرة , شقي , عيناه لامعتان يقظتان تقرءان الاشياء من كل الجهات دون التفات, نظرات ذئبية .وليس هناك مساحة معلومة بين رضاه وغضبه , يرى ماسكا بعصاه الغليضة وخنجره المعقوف في الحزام , يهابه الجميع ويتملقونه,بلغ الاتقان في لعبة (المجيلسي ) وهي تلاعب وحركات خاطفة بالعصا , والاحمدى يتمكن من الاجهاز على اكثر من سبعة رجال ان برز لهم اوهاجمهم بعصاه .
يكرر ابو صلاح قصة مسعود الاحمدى ومآثره في بواخر الحمولة التي ستعبر قناة شط العرب الى البحرين حيث عمل عتالا وفى مقاهي الخرسان والبنائين ……يروى حكايا مسعود في مجالس العزاء ولزبائنه الذين اعتادوا على شراء سجائره (اللوكس والجمهوري ..),وكم سردها في قرى الاهواز بعد ان حل ضيفا لدى اقاربه هربا من اداء الخدمة العسكرية,والى جنود الثكنات التي لم يدخلها طيلة حياته , ويكررها في بارات الخمور الرخيصة ورواد الملاهي وفي الحقول الجنوبية جوارنبات النعناع .
(كان الاحمدي مهيبا اتعب حتى رجال الشرطة وهم يهابون سطوته ,وفي احد الايام تم القبض علية وقادوه من قرية كردلان الى احد مراكز العشار فمكث اياما ,وصاح عصرا على حرس من الشرطي وطلب منه ان يطلق سراحه على ان يعود للزنزانة بعد ساعات فتردد الحرس فاقسم له الاحمدى ان يعود وهى كلمة شرف فاطلقه ليلا , فمضى وسرق احد التجار وعاد بعد ساعات للزنزانة,وفي الصباح احتارت الشرطة واتهموا الاحمدى, فقد لمحه التاجر اثناء التنفيذ , فقال لهم (هم انه …مو مكتف عدكم وتتهموني ),
.
بيوت الانكليز
ـــــــــــــــــــــــــ
الشارع معبد نظيف قريبا من نهايته وقبيل موقع خط السكك تقع بيوت الانكليز, لا احد يشاكسهم او يتجاوز عليهم ,و لم نكن نختلط بهم ولا نعرف شيئا عنهم الا انهم اطفال مذهبون في غاية الاناقة يقودون دراجاتهم على الاسفلت مبتهجين وقبيل الجسر مقابل معمل الكوكا كولا تقبع بيوت اخرى لهم مشيدة من الطابوق:اسيجة واطئة وشجيرات مخضرة خلفها وربما تشاهد جزءا من الحديقة.التف برهان بمعطفه ومشى فى ليلة شديدة البرودة ...لا احد في الازقة والسكون يعم كل شيء..وعندما وصل الى بيوت الانكليز تمنى ان يصادف امراة منهم فتشير اليه .. كانت الرغبة تهز جسده بعنف...لكنهن لا يظهرن الا نادرا وربما لم يلمح واحدة منهن من خلف سياج او شارع .تقدم جنوبا واجتاز الجسر كانت الحياة معطلة تماما ..سكون وظلام مهيمن :(ترى اية فتاة او امراة سيصادف في هذا الظلام والبرد ..)تقدم حالما بفراش ارجواني واضاءة خفيضة الاحمرار ووسائد شحمية وفم لا يقاوم وربما ارتدت الاصفر المشع او الارجوان الشهي ....وابصر في احد الازقة الواسعة تجمهرا لعائلة ميسورة قرب باب البيت الاسود العريض باثواب زاهية فغالب خجله وحدجهن بنظرة شهوانية مسلطا نظرات تستكشف تحت ضياء واهن..واجتازهن فقهقهن وسمع احداهن تقول :(يتصيد في البرد والظلام لعله يجد خائبة مثله ) فاحس بالخجل وغمره شعور بالاهانة ..وفكر (لو انه تحول الى فزاعة بشرية للفتيات) ,, وتخيل نفسه مقنع الوجه يباغتهن في الظلمة مستمتعا بفزعهن ..
وصل الان مسافة تبعد نحو كيلوين عن منزله فراى جثة مدرسته الابتدائية وبابها الجانبي العالى الذى ينتهي من الاعلى بصف من رؤوس رماح متذكرا تلك اللحظات التى غرزت برجليه وهو يحاول الهرب من الدوام ..الطقس والرغبة الجامحة منعا تدفق الذكريات فعاد ادراجه مشتعلا بالرغبة والخيبة والجسد المتثلج.لم ينم طيلة الليل وبعد المنتصف في الصريفة الاخرى شمله دفىء الموقد ورائحة السوس المتجمر فخلد جسده الى السكون بعد ان سحق فتاته بالاستمناء.وقرر ان يستقطب جارته المراهقة النزقة ضحى الغد مهما كانت النتائج. في الصباح خمدت ارادته وهو يبصرها تمر تحمل الرغيف من المخبز ..ولم يستطع حتى ان يبتسم لها, لقد تمكن منه الخجل الذي سيضيع منه كل فرصة ونشوة وخلوة ممكنة .لكنه اتخذ قراره اخيرا وتدفقت في كيانه قوة الارادة وانغرز تصميم لا يقهر في اعماقه..
الخجل
...انه العدو الاول بعد الفاقة اذن ,انه وحش الخجل ذلك الموروث الوراثي البشع....في السابعة مساء اتخذ قراره الاصعب ,سيقوم بالخطوة الاولى المؤجلة لسنوات ,كان البرد طاغيا واضواء الشارع الباهته تكشف ما تتمكن منه من الشواخص والاشياء التي تحاول الظلمة ان تخفيها ,قليل من المركبات يمر.توقف الباص الاحمر(مصلحة نقل الركاب ) وصعد ..القى نظرة على الركاب ,انهم اقل من اصابع اليد ,اغلب الكراسي الخشبية فارغة وحده كان واقفا ذلك الجابي (محصل التذاكر ) ببزته الرصاصية وجيوبه الواسعه ,وبنظرة خاطفة ابصر مراهقة حنطية تجلس وحدها فتقدم واستقر قلقا جوارها,واحس بقطرات على جبينه لكنه صمد وبعد لحظات التفت اليها مبتسما وسالها <اين تمضين )؟
ـ الى العشار
ـ وماذا تفعلين بهذا الليل
ـ امي تبيع الخضار في السوق,وتاخرت فقصدت اتفقدها .
كانت الفتاة تجيبه بعفوية ,او لعله لم يلحظ خجلها وهو في ذلك الجو من الارتباك..والقى نظرة خاطفة على صدرها وراى الرمان ناضجا تحت ثوبها السماوي ,وهي متلفعة بعباءتها وخمن انها ـ ربما ـ غادرت طفولتها منذ عام .وتبادلا بعض الجمل وتوقف الباص ونزلا في ساحة ام البروم فصحبها وهو لا يصدق نفسه ودخلا في زقاق ضيق ,بدات بعض المحال تغلق ابوابها, وصلا الى شارع رئيس واسع ,التفت اليها
ــ الا تاتين معي فنتجول على ضفة شط العرب
ـ لا استطيع لاني قلقة ,اخوتي وحدهم ولا بد ان اطمئن على امي فاعود معها الى محلة الجمهورية.اجابت بهدوء بلا اي احتجاج على دعوته او ارتباك .فودعها وقصد الضفة ,ومر على معبد اليهود وسوق الحبال وراى بعض محال بيع الطبول قد اغلقت والقى نظرة على رجل مسن يدخل الكيزان الى داخل المحل ولم تذكره الطبول المرصوفة بعناية بالاغاني وليالي الخشابة في البساتين القصية ,كان منتشيا بالنجاح .لقد نجح وتمكن من التجوال مع فتاة والحوار معها :ربما كانت المهمة اسهل مما تخيل .ااااااااه قد نجح.
وعبر الجسر وتخطى نصب (اسد بابل ), انه يقف الان قرب مرسى العبارة (الطبكة ).وراى العامل يلقى بالحبال التي تربطها ,مرددا حواره مع مراهقته من لحظات , عائما في محيط من الخيال .وتاكد ان الخجل لا يمكن ازاحته باسلوب القاء الخطب امام حجر .وهو ليس بنقطة كما يقال ,انه محاولات وارادة وسلسلة من الاضطراب والمغامرات انه الغور في اعمق نقطة في الروح لمعرفة اسباب شللها .

اغتصاب
ـــــــــــــــــــ
زوجها قصير القامة ابيض البشرة ضخم الجثة ... ام كريم بيضاء نحيلة عينان صغيرتان.. حتى ان النسوة يفكرن بحالها ليلا .. وكيف تحتمل ذلك البغل وقذارته ..وهي اذاعة متنقلة تجوب وتتنقل صبحا من بيت الى بيت وهي تبث كل مستحدث من الحكايا والاحداث في الحي . ولا تكتفي ببعض الحلوى او الكرزات المقدمة لها في الاعياد بل تفرغ ما لم تتمكن من تناوله في حجر شيلتها السوداء المثقبة.وهي تعتز بخرائط الوشم على جسدها و بالحجل الفضي في ساقيها..ولعل ذلك ما يجعل مشيتها منغمة رغم ان ظهرها ينحني قليلا.
قصدوا الحي طلبا للرزق من شمال البصرة وتناسوا المسحاة والمنجل .(سهام )بنتها الوحيدة والكبرى’مشعة البياض عينان عسليتان وشعر طويل كثيف ذهبي, وحين تعثر بالراء في لهجتها تمغنط الناظر الى فم قان صغير ولسان محمر يلعق شفتيها لحظة الكلام.سيقول اهل زوجها,في لحظة زعل مع اهلها واختلاف : (نحن جعلناها خرابا (خربناها) ان شئتم فخذوها )..جملة علقت في ذاكرة برهان ..سيتذكرها ويرددها لسنوات.قطنوا على بعد امتار من بيت ابو محمد,في الجهة الشرقية على بعد عشرات من بيت سليطة ,وكانت الريح شتاء تتمكن من التلاعب ببواري صريفتهم انهم في نهاية دربونة تسكنها عائلة وتتصدرها نخلة باسقة , تهتم عصرا برش التراب بالماء .كان كريم هو المولود الثاني لهم بعد سهام ,في العاشرة من عمره..صبي ’سمين على قصر ابيض وخامل ولم يسجل في مدرسة .
في ظهيرة ساخنة ,في ذلك الدكان القروي وبين اكياس الجت والعلف .. قرب بستان ام اسحاك, قريبا من سوق الحي , اجبره حامد على الاستسلام ,كلاهما وصل البصرة من شمالها من حي واحد ,ربما قاوم كريم او استرخى للحلويات او النقود ,لا احد يدري :عاد لاهله مبللا بالدم باكيا من لوعة الاغتصاب, انتشرت الحادثة عصرا كالبرق في حي سليطة .الا ان القضية سويت بابسط السبل .. ذهب معقلون لمعقلين وتمت التسوية بهدوء .

عملية برهان
ــــــــــــــــــــ

قرر اخيرا , متحديا خوف امه عليه وعلى اخيه,وتوجه الى مستوصف شعبي وسط المدينة,وقرا (طبيب الاذن والحنجرة ) ودخل في الزحام ,المراجعون يدخلون بالعشرات دفعة واحدة الى الطبيب فتقدم منه وقال له :
ـ عندما اتناول طعاما يسيل ماء من خلف اذني.
تعجب الطبيب وقال له (كيف يخرج ماء يا بني ).
ـ ساخرج واتناول طعاما واريك
ـ اذهب الان وتناول
وغادر برهان العيادة واشترى نبقا وتناوله فجرى الماء من خلف اذنه فدخل الى الطبيب مسرعا فاقتربت نظارات الدكتور الى المجرى الذى وصل الان الى رقبته وقال :
ـ ابني الان لديك مدرسة تعال في العطلة لي .
رقد لمدة شهر في المستشفي ايام العطلة المدرسية ,لم يكن يعاني من اي الم ,يظهر ان مشكلته مظهرية فقط.كانوا يزرقونه ابرة كل يوم , وفي العصر وليالي الصيف المقمرة كان يستمتع بالتجوال في حدائق المشفى , سجادات من العشب باشكال دائرية او مثلثات, واسيجة واطئة من قضبان , الوان من الورود, وقد علقت طويلا في ذاكرته صورة عامل الخدمات حمدان :كان يستبدل الشراشف البيضاء بمهارة مرتديا صدرية بيضاء ,رجل اقرب للزرقة طويل القامة حاد النظرات في حالة تجهم وسكوت متواصلة , لكنه كان مكلفا بمهمة يراها برهان صعبة وتثير الاشمئزاز :في حمامات المشفى كان يزيل الشعر من خلفيات المرضى الذين ستجرى لهم عملية بواسير.ماسكا بماكنة بدائية عشقت بموسى ,كانت المستشفى تقابل على بعد امتار سجن البصرة المركزي ولاجل ذلك ضرب المثل (وجهه مستشفى وظهره السجن ).يتذكر برهان مطلع طفولته تلك العربات الانيقة المهودجة يجرها حصان تقل الناس من سوق البصرة الكبير على بعد كيلوين الى المشفى .
لقد راى هناك ازمة الانسان امام المرض .
في الجهة الشرقية اخر المشفى حشر المعزولون ممن اصيب بالكوليرا (الهيضة ),او ابتلوا بالسل .
مرة حدثه امجد وهو من ريف شمال البصرة (اتمنى يقطع اصبعي,فقد مضى علي شهران راقدا ولم ابلغ الشفاء .وذات مرة خاطب الطبيب متشنجا :
ـــ دكتور ارجوك تقطع اصبعي وتخلصني .
ـ ابني لا يجوز ذلك وان شاء الله سنعالجه .
قلة من الناس كان يقصد طبيبا في عيادته ,تلك مهمة الميسورين ,وقد توفر في المشفى مختصون مشهود لهم,بعضهم يملك مستشفى خاصا به , عدد كبير منهم حصل على شهادته من الجامعات البريطانية والاوربية .
دخل الاخصائي ذات صباح وفيما باشر بفحص مرضاه , وقد اغلق باب الردهة ,هجم مجموعة من القرويين على الباب وتدافعوا محاولين اقتحامه فرفع الطبيب المختص سماعة التلفون وتكلم مع جهة مسؤولة بعصبية:
ـــ اخي رغم تعبنا وما بذلناه وانت تعلم الاعمار بيد الله ها هم يهاجموننا .
بعد لحظات وصلت قوة امنية وفرقتهم .وعندما جاور الطبيب برهان خاطبه
ـ دكتور جئت لمعالجة ماء يجري خلف اذني , شهر مضى على دخولي , وقد توقف فلماذا لا اغادر فاجابه الدكتور بغضب :
انتم العراقيين تخشون من جرح بسيط, لا بد من اجراء عملية بسيطة لك .
هناك على سريره حصل على صحف , قرا فيها ذات يوم قصة و قصيدة عمر ابو ريشه في جبال الهملايا اثر خلافه مع حبيبته :
(قالتْ مللتُكَ . إذهبْ . لستُ نادِمةً على فِراقِكَ .. إن الحبَّ ليس لنا سقيتُكَ المرَّ من كأسي . شفيتُ بها حقدي عليك .. ومالي عن شقاكَ غنى ! لن أشتهي بعد هذا اليوم أمنيةً لقد حملتُ إليها النعش والكفنا ... قالتْ .. وقالتْ .. ولم أهمسْ بمسمعها ما ثار من غُصصي الحرى وما سَكنا تركْتُ حجرتها .. والدفءَ منسرحاً والعطرَ منسكباً .. والعمر مُرتهنا وسرتُ في وحشتي .. والليل ملتحفٌ بالزمهرير . وما في الأفق ومضُ سنا ولم أكد أجتلي دربي على حدسِ وأستلينُ عليه المركبَ الخشِنا .. حتى .. سمعتُ .. ورائي رجعَ زفرتها حتى لمستُ حيالي قدَّها اللدنا نسيتُ مابي ... هزتني فجاءتُها وفجَّرَتْ من حناني كلَّ ما كَمُنا وصِحتُ .. يا فتنتي ! ما تفعلين هنا ؟؟ البردُ يؤذيك عودي ... لن أعود أنا !).
وقرا في احد الصحف قصيدة للميعة عباس عمارة :
(
تدخنين ؟
لا...
اتشربين؟؟
لا..
أترقصين؟؟
لا..
ما أنت ؟ جمع لا !!!

أنا التي تراني... كل هموم الشرق أرداني

فما الذي يشد رجليك الى مكاني

يا سيدي الخبير ...بالنسوان

إن عطائي اليوم شيئ ثان

حلق..فأن طأطأت..لا تراني)
سيردد برهان هاتين القصيدتين مرارا وتشاء الصدف وينطلق مهرجان المربد في البصرة ويلتقي لميعة ويستمع اليها تقرا القصيدة ذاتها ويستمع في المهرجان لعمر ابو ريشة وهو ينشد قصيدته التي قراها هنا .
ـــــــــــ
يرقد جوار برهان رجل في الاربعين يرتدي دشداشة بيضاء قد دهسته مع عربته سيارة اجرة ,وجاء ضابط الشرطة ليدون اقواله :
اى كيف دهستك
كنت( بالعربانة) ..فالتفت الضابط للكاتب وقال له سجل :
(وكنت اقود عربتي التي كان يجرها حصان). دونت جميع اقواله ومضوا ,, وبقي برهان مفكرا كيف تمكن الضابط ان يعبر وان يترجم تلك اللهجة الدارجة الى كتابة بالفصحى ..... وظل يردد في نفسه (كنت اقود العربة التي كان يجرها حصان )....وقرر ان يطور اسلوبه بالكتابة ويتمرس حتى يصل مرتبة الضابط بالتعبير .اتوا به بعد الغروب مصابا كانت الرصاصة قد استقرت داخل بطنه والدم يجري منه بغزارة وهو يصيح (اريد ماء ..اريد ماء )
وكان ضابط التحقيق يساله (ابنى من صوب اليك من اصابك )ويجيب (اريد ماء ) تشنج الضابط وقد تعب (ابني ستضيع حقك من اصابك ) ..(اريد ماء )....حتى ياس الضابط وتركه يلاقي حتفه .المستشفيات اماكن تعصر الروح الا ان القرويين واهالي الاهوار يحولونها صباح الجمعة ـ يوم المواجهة المفتوحة ـ الى نزهة .
ياتون متجمهرين فيملؤون ارضية المشفى بقشور البطيخ والمخضرات والرز ومخلفات الاطفال ويشتعل الصخب والقهقهات وتتراكم الاوساخ .نزهة نادرة .وتشاهد زرقة الوشم وزخرفته على اجساد النساء..والخلاخيل الفضية والمحابس ذات الشذر المزرق والبنية , ومسبحات الصلاة السوداء والنيلية .. والخزامات معلقات بالانوف والكلابات المذهبة لتثبيت الشيلات السود والشامات المصنوعة بالوشم ولطخ الفم الحمراء وقوة الديرم على الشفاه والعطر الريفي البدائي, بعضهن يعتمن بعمامة سوداء وبعضهن تشد وسطها بحزام من الحبال, جاهزات للمرح والشجار,ملابس فضفاضة بالوان صارخة يغلب عليها الاحمر والرمانى والاصفر والازرق..بشرات حنطية وبيضاء وسمراوات ,كفاءة باطلاق وارتجال الاهازيج لاية مناسبة , وتسمع لهجات غريبة وطرائف لا تفقهها لكنهم يدمعون ضحكا منها. وربما اتوا لمريضهم بطعام منع منه فقتلوه به.الرجال منهم بكوفيات بيضاء اوعملوا منها عمامة..سمر تفوح الخشونة والشراسة والمرح منهم..قصدوا من الاهوار او ارياف البصرة الشمالية . اجريت بعد شهر العملية الجراحية لبرهان وانقطع الماء من خلف اذنه وغادر المشفى .



اول صيد لبرهان

سيتناول اداة الصيد (الشص والبلد ) ويقصد عصر صيف وحيدا الى بستان ابو محجن سيستقر تحت جذع نخلة ضخمة شاهقة في منعطف نهر وقبيل ان يبدا الغروب بنشر مذهباته في الافق رمى البلد فغطس في منتصف النهركان في الثالثة عشر من عمره وتحسس حركة غريبة في خيط النايلون وشيئا ما من طين النهر يسحب يده وسحب الخيط فتعرقل وسحب اقوى واقوى ..كانت سمكة بنية كبيرة قد علقت بصنارته ..انها اول سمكة ستقوده للالتصاق بالصيد لاخر العمر ..سمكة نفثت سحر لذة صيدها في روحه للابد.وعاد الى منزله منتشيا متعثرا بالحفر والاشواك وشتلات الباذنجان فقد اعلن اول الليل عن غزوته ..وسكنت الاجنحة .



محل ابو هادي
ــــــــــــــــــــــ
يقع محل ابو هادي على بعدمائتي متر عن ماكنة السوس والمطحنة , يفتح على شارع الفقيه حيث تعودت مجموعة من الكلاب من امام محله ان تلاحق بالنباح العجلات القليل طيلة اليوم ,وهو رجل بغدادي اسمر قصير القامة جبهة محدبة يضع لاطية مزخرفة على راسه يجذبك فكاه وهو يلوك بجهد شيئا ,غالبا لا يغلق محله في الظهيرة يبيع انواع السجائر والازرار والجوز المفرد واللوز والشخاط والالبان ,الناس تقتنى منه (روب منشف )وهو يضعه امامه بانجانة كبيرة واذ تقترب منه يلطخ انفك به بالملعقة, ولا يستثني احدا من التلطيخ و لو كان وزيرا,الجميع يستلطفون منه هذه الحركة ويحاولون الحذر الا انه يمتكن من المباغتة والتلطيخ.كان يخرج الريح باعلى صوت ويرفع اليك راسه وبلهجة بغدادية (ليش دا تضرط..عييب )
في اخر سنواته تزوج امراة بغدادية متخشبة طويلة القامة واتت بابنها سمير ليعيش معهم فامسك ادارة الدكان.هنا جرب برهان اول مفعول للخمرة,توثقت بينهم العلاقة ,واخذ سمير يقدم له بيك من العرق المر ممزوجا بالببسي فى كاس زجاج ابيض فيجرعه دفعة واحدة مع قليل من الحمص اوحبات عباد الشمس.















قاسيون

هنا وسط الدكان سيستقر عباس (بعثي قديم ) يقرا الجريدة,ربما ما يزال ممتعضا من الشعارين الشهيرين <المايصفك عفلقى .. ــ عاش الزعيم الزود العانة فلس > ,يحتفظ ببندقية فى بيته المجاور لبيت برهان وكلما استدعوه رفاقه يصلهم متحمسا <هل نقوم بانقلاب > وكان برهان يسمعه يحدثه زوجته <هذه المرة ان لم ننجح فنحن فانون >. لقد صدمهم عبد السلام عارف,انقلب عليهم وملا بهم السجون, واجهز على الحرس القومي , انه وانهم زاخرون بالمرارة... الشارع ساكن ,الزلزال يجمع كوارثه,لكن عباس يستقر عصرا في ركن من محل ابو هادي يتابع المجريات في السطور ويصغي لنبض الناس :التذمر والاحتجاج .
لكنهم سيتمكنون من تنفيذ الانقلاب وستصدح دلال شمالي على مدار الساعة بنغم مدو يصدر من مكبرات الصوت في كل مكان بالبصرة …(من قاسيون اطل يا وطني …).
علب فارغة مريبة وازار نحاسية زجت في شقوق الجدران والخصاص وبين الاغصان , في المخادع ,اسلاك مجهرية بدؤوا بتوصيلها من شاشة تحكم عملاقة سرية للبيوت ,الوان من الحشرات المبرمجة خفية الالوان اطلقوها في الازقة المكتضة وباصات نقل الركاب.. لاقطات الصوت وضعت في اكباد الكلاب السائبة : (برهان ) وقليل من نظرائه تحسسوا رائحة وباء ينذر بكارثة مقبلة ,(خمس دقائق ):سيحتاج الناس عقدا ليدركوا معناها وليدركوا بان الدقيقة قد تعادل شهرا او سنة في السجن ,ربما سيدركون ذلك بوضوح عندما يتم انشاء اول جسر عائم على شط العرب انتظروه لقرون,وتجتازه الدبابات.
وهناك في (الكهف السري )اصدر ابو سلمى ـ الذي له وجه متوحش افغاني ـاوامره فجاب رجاله مكبات القمامة وفتشوا الدفاتر المدرسية المهملة بحثا عن كلمات قد تقود لمخابىء سرية.. او منظمات ممنوعة .
وتاهبوا لهبوب الرياح ونصبوا كمائن للاوراق ودسو ا مسجلات صغيرة في ملاعق الشاي واكباد الحيوانات الاليفة
وقريبا من غرفة ـابو سلمى ـ كان بوهان ابو شكري يهندس الناس حسب الاعمار فبدا بتسجيل الرضع في سجل ضخم خاص كتب عليه (براعم المقاتلين),ثم توالت السجلات حسب الفئات العمرية.وقبل ان ينضم برهان لرفاق معارضين تم كشفه لكنه لم يتوقع سوءا :وافق على دعوة رمضان (انت ولد طيب ومثقف ..والاهم من عائلة اصيلة فادعوك للانضمام الينا)وهكذا طرق عصر يوم بابا يقع نهاية دربونة مغلقة في حي سليطة واستقر على اريكة من الخشب وشارك باول اجتماع ........هل سحرته لوحة المنجل والمطرقة ؟التى علقت في جدار الغرفة ام ان صاحبه احمد قد ضخم دماغة بصور البطولة من خلال شعر متمرد وحكايا ومواقف الثائرين,او ان مناداة جده بعد ثلاثة او اربعة ايام من البيان الاول لانقلاب تموز 1968 :
ـــــ(ابو صلاح:طلعوا بعثية .....وصار النة ايام مصدكين هي ثورة).........قد غيرت مجرى حياته وستلقيه في مواجهة العاصفة؟!!او ربما طيبة فيه وروح العطاء والاستعداد للتضحية ,طبع تجذر فيه....من هنا سيتم تسجيل خطواته وكلماته وستحاصره الاسلاك الخفية والازرار النحاسية والمجهريات : ستمر ثلاثةاعوام وياتيه شاب انيق بجسم رياضي وينادى عليه ويخبره :
ـ< اخي نريدك لاستفسار ان تاتي لدائرتنا (خمسة دقائق).>..سيمضي وهناك سيعلم بانها تعني خمسة اعوام وسيرى بوضوح بان تحت المدينة الهادئة وحياة الناس التى بدات بالتوسع والتغير توجد حياة دموية اخرى:وان الشعارات الملونة الوديعة ما هي الا اقنعة تخفي وراءها غابة من ذئاب..لكنهم الان يعملون بخطى واثقة ولا يمكنهم حرق المراحل ...لا بد من اغراء القطيع وترويضه قبل الانقضاض عليه......الان ينشغلون بتطوير الذئبية بروية ....من المبكر ان تخمن ...وان تتوقع...... وسيخدع الجميع.ويواجهون
احواض التيزاب بعد فوات الاوان .
قرب جسر بعرض مترين يقاطع نهر العشارالتقى ابو صلاح قريبه ابو اسعد تحت ظل خزان ماء اصفر عملاق مرتفع جدا وهناك استمع لنصيحة لا تقبل: (ابو صلاح ابنك يمضي في طريق خطرة فامنعه)....
ـــ (انه مثقف ولا اخاف عليه )
كانت الآلة العسكرية تتضخم...والقضية الفلسطينية تتصدر الموقف...ولاي سبب مناسب او غير مناسب تندلع التظاهرات..وتتضخم زمجرة التصفيق.كان مخططا ان يشمل الغزو كل شيء..حتى العناكب والسلاحف والقواقع عليها ان تتزيا باللون الخاكي...كانت الجبال في استراحة المقاتل ..وكانت المدافع قد تم اخفاؤها شرقا بين البساتين,موجهة صوب ايران ...تفاجا بوجودها برهان وهو يدنو من المراهقة يصيد العصافير والقبرات ويلتقط في البر رشاد البرشرق كردلان.
لم يكن برهان قد تجاوز الثالثة عشر من عمره وفيما كان يتجول في ساحة ام البروم راى شيخا ضريرا نحيلا يستدل بعصاه ,يمسك عددا من الكتب بيمناه ,فيما يرفع باليسرى مجلدا الى الاعلى ويصيح وسط ا لزحام (هذا هو كتاب المفكر الاسلامي محمد باقر الصدر ـ فلسفتنا ـ ),ولم يكن برهان قد اطلع الا على كتيبات بسيطة من كتب حسينية و اشعار بسيطة مثل ديوان صغير لابي نؤاس وقصص مختصرة من الف ليلة وليلة .فلما راى الشيخ الضرير رافعا الكتاب ومناديا .علم ان امامه مراحل عدة من القراءة ليدرك العالم.
بعد اربع او خمس سنوات تمكن من اقتناءكتاب (فلسفتنا ),لقد اذهلته المعلومات,وكاى قارئ غير متمرس يدخل حقلا معرفيا اكبر من حجمه ,وفي تلك المساحة الحساسة او الخط الذي يفصل بين المراهقة وسن الرشد,راى نفسه في محيط معرفي يعوم فيه بصعوبة بالغة...من الان عليه ان يبحث عن عشرات الفلاسفة وعلماء الاجتماع والنفس ويشق طريقه الوعر دون يد مساعدة الى علم المنطق وفلسفة العلوم .
الباصات الخشبية تنقل الناس من الاحياء الى مركز المدينة انها عطلة نصف السنة طالما تمكن من برهان حياؤه وكرمه ودفع الاجر عن صديق وعاد مشيا من المكتبة العامة التى يقصدها كل يوم تحت سعير تموز البصرة قاطعا عدة كيلوات:في احد الايام قرا في التواليت سطرا : (عاش حزب البعث الاشتراكي) وكتب اخر تحته بخط انيق <سواء عاش او سقط فانت كتبته هنا >




منشور سري

يشد من وسطه وزرة تزدحم برسوم مربعات نيلية ,يرنن اقداح الشاي الستة التى يمسكها بيد واحدة ودس السويكة بين الشفة السفلى واللثة ونادى ابو صلاح على نجله الصغير برهان فلحقه الى دكان فارغ ومعهم رجل لا يعرفه وقال له ابوه (اسمع برهان ستقرا لنا هذه الورقة وان ذكرت ذلك لاحد ستاخذنا الشرطة ونكون بالسجن وانزل الباب من الاعلى الى الاسفل وترك فجوة قريب الارض ليدخل الضياء فتناول برهان الورقة وقرا (بسم الله الرحمن الرحيم ايها الشعب العظيم
ايها الغيارى والاحرار
يا ابناء الشعب العراقي العظيم
بعد الاتكال على الله وهمة الغيارى
سنقوم بثورة هذه الايام وننتظر من الشعب ان يساندنا للقضاء على الزمرة الفاسدة التي عبثت في البلاد ونشرت الفساد وارهقت الطبقة العاملة وتخلت عن قيم العروبة وانحرفت عن الشريعة الاسلامية نحن سنعيد للعراق الحبيب قوته وعزته ونعاهدكم ان نرفع من مستواكم الاقتصادي وان تنعموا بالحرية والازدهار ومن الله التوفيق )…لمح برهان وجه ابيه يشرق من الفرح وارتسمت على وجه الرجل الاخر ابتسامة واضحة .الا انه لم يفقه شيئا من المنشور السري .
ذات صباح صاح على نجله الوحيد ابو صلاح (سجاد طلعوا بعثية,صدكنا اكو ثورة ما سوينه شي ,الكواوييد هم ردو )انهما في بيت واحد ولا يفصلهم الا تنور توسط البيتين صريفة للاب وصريفتان تجاورانها لابو صلاح وعلى اليسار صوباطان متلاصقان ومفتوحان جهة الغرب يواجهان الصرائف الثلاث,
صوت دلال شمالي يصدح في كل مكان( من قاسيون ) ,وسرعان ما انتشرت ازرار نحاسية تندس بين الطابوق والجذوع والخصاص في الطوف وبين الظلال ..وتعملقت بيوت عنكبوتية وامتدت في كل خلية .
جدة برهان ـ
وسط الخضارة كانت تفترش الارض تواجه المتسوقين وظهرها الى محل النجارين الذين يصنعون التوابيت منشغلين عن صخب الناس وصراعهم وعن القبح والجمال الذي يجري ,بسطتها من البخور والعلك المر والكركم والعطور البدائية ...(طلقني )قالت لزوجها بلهجة حاسمة فلم يسمح لها كبرياؤها ان تتعايش مع ضرة تصفها ب <المعيدية >..هكذا انفصلا ولان الشرف من اولوياتها ولها بنات بالغات .. فقد اهتدت لهذه المهنة (بسطةعطارة بسية ) تعود مشيا قاطعة اكثر من 5 كيلوات لبيتها في حي سليطة تحت جمر تموز دون ان تطلب طاسة ماء من احد البيوت..انفة وحذرا , .. تقول (الناس تعير على قطرة الماء )..في تلك الايام كان برهان في الاول المتوسط..وقد بدا محاولاته الاولى لتفهم اوزان الشعريحمل كتاب العروض معه ويمر بها كلما قصد مدرسته التي لا تبعد عن بسطة جدته كثيرا .كانت الباصات الخشبية تصطف عبر النهر قريبا من الجسر.. طالما استقلها ليصل حي سليطة او يتجاوزها فيعود مشيا حسب الطقس والنقود ,هناك راى برهان الكنائس الشاهقة المهيبة وزخرفة الجوامع الساحرة وتلك الخطوط باللون المزرق لايات من القران ..وبيوت الشناشيل التي غادرها مالكوها وقطنها اخرون..وراى صناع الاسرة والمناجل والمساحي والمعاول والشكائم وصناع المجوهرات وهم ينفخون باسطوانات تشع منها النيران,وبائعي سلال الخيزران واسواق اللحوم والمخضرات الوافدة من ابي الخصيب , النشالين المهرة والتقوسات الانثوية تفضحها العباءات مع هبوب الرياح,جريان لا يتوقف من الاجساد المرهقة,جمال نساء المعدان يتربعن او يقرفصن امام صواني الروب والزبد والقيمر ,عيون ملونة وبشرات شهباء وبيضاء ,وفم صغير كحبة كرم ياقوت ,يبتسمن للقادمين ويوزعن شعلة الابتسام ,رشاقة ورضا ارواح,دجنت الانوثة وحجمت فيهن مساحة الاحلام ,عالم صاخب تاقلمن معه , بعيدا عن المردي والمشحوف وغابات القصب ,








مدرسة الامية
ــــــــــــــــــــــــ
السواقي النتنة تتجمد يمر الصغار عليها ,يبقرونها بالحجر في طريقهم الى المدرسة الابتدائية,علقت بالذهن باسم مدرسة الامية ,طالب يفوق الطلاب عمرا بسنوات ياتي ملطخا بالطين والجص ويخاطب المعلمة : (حجية ) يضحك الطلاب فتؤنبه لكنه يكرر العبارة كل يوم ويعتذر مبتسما.
مرشدة الصف الانيقة اخرجتهم تحت اشعة شمس شتاء اولادا وبنات,وجلست معهم,كان وجهها ابيض مشرقا , ربما توهج اكثر باشعة الشمس , وعيناها السوداوان خلف العوينات دافئتان اليفتان تقطران بالمحنة والسكون يساندهما صوت هادئ خفيض,انثى لا يظهر انها مرت في حياتها برجات او تقلبات ,استقرار في الكيان ورضا بنعم الله ,ربما اتت من عائلة مستقرة ,تربية بصرية تفوح بالاصالة والطيبة والسكون .
تناولت دفاتر الرسم من الطلاب واخذت تقص صورا من كتاب او مجلة وتلصقها : رسوم لصغار يلعبون او يبتسمون او يستحمون في انهار او يتقافزون في الحدائق :الوان هادئة زاهية تنسجم مع ثيابها المزين بالورد الرماني ,وحمرة الفم الصغير الجاذبة , ربما تلك اللحظات سترغبه بالرسم فيما بعد.كانت تقول لام برهان (ابنك الاوقح والاذكى ) .
المدرسة بيت صغير مكشوف,عدد قليل من الغرف المتجاورة مشيدة من الطابوق وكان الطلاب يتسلقون الشبابيك الواطئة وهم يمرحون,ذات يوم استدعته احدى المعلمات من الصف الاول الى الصف الثاني ,فراى طالبات صغيرات ازدحمت وجوههن بالدموع وسالته عن جدول الضرب فاجابها فاعطته المسطرة وامرته ان يضربهن على باطن الكف ,كان الجو مثلجا ودمعهن غزيرا على الخدود فابى ان يضربهن حتى استدعت زميله فاجهز عليهن بالمسطرة واحمرت الايادى الصغيرة لم يعد برهان يتذكر هل كانت مدرسة ابتدائية او امية :كان بابها ينفتح على زقاق ضيق متعرج ,وربما راى دوام العصر فيها ياتون اليها شبان بملابس العمل :فلاحون موحلون وعمال الطين (الانشائيات ):لم يعد يتذكر ونسي كيف انتقل منها الى مدرسة ابتدائية تبعد كيلوين عن منزله..








ابو شاهين
ـــــــــــــــــــــــــــــ
ابو شاهين اصيب بالعمى قبل ان يفنى بعشرين سنة.يقطن مع فتاته شديدة السمرة والقصيرة والمتسخة ابدا ...لسانها الطويل وقاموس شتائمها جاهزان لاي شجار,وهو ضخم الجسم واثار طعنة اسفل عينه اليمنى ,يغطي راسه بسدارة سوداء وسخة . حجرتان من الطوب ورثهما ,في بيت يقع في الحي المجاور لسليطة ,يفرش منشفة جسم امامه ويتربع قرب احد الجوامع,لكن مسلم وصديقه متهيئان فيتزودان من نقود الاستجداء ويمضيان الى دور الغجر غرب البصرة,حيث تفتك فتياتهم بعذرية الرجال هنالك في البر المديد موطن اشجار الاثل في خيم اعدت للعيش والدعارة .ابو شاهين لا يتناول الا قليلا من الرز والروب او سندويجة بسيطة او رغيفا وطماطم مقلاة ... ورغم زاده المتقشف فان كرشه يتضخم وجثته تتعاظم .قد يغري صبيا فيسكن شهوته او يسترجع البهي من الماضي فيشعر بالفخر يوم كان فتى يعود باجازة من ربايا الشمال في وهج حرب العصابات. فيرتدي بنطالا ازرق ويتلفع بسترة جوزية حاشرا سكينة الشجار في الحزام داسا قنينة العرق في الجيب مزهوا يعود ليلا من ساحة ام البروم يمتص من مر زجاجته تنعشه قطرات المطر او رياح باردة ,شهد الشجارات بالسكاكين لشقاة قرب مقبرة الانكليز وتشبع من رؤية بوابة ماكنة السوق ودائرة التجنيد المجاورة للحي ولعب القمار في مقبرة السيك وشهد حفلات الخشابة في قرى شط العرب وابي الخصيب, وبعد ان سرحوه عمل في ماكنة السوس وصاحب زوج نجمة ودخل الى بيته وجرب هناك اول غزواته .ف لقد تغيب يوما من العمل والتقى نجمة قرب محل ابو هادي ,ولما ابتعدت عن المحل ستين خطوة في يوم مطيراستاجر تكسي ومر عليها واخذها الى بيت صاحبه قرب جسر العبيد في البستان الذي يحده نهر الخورة ,ترجلا وولجا بيتا من الطابوق,كان قد احضر قنينتين من البيرة ونصف قالب ثلج وكرزات وفاكهة وليمون فيما تزود هو بنصف قنينة عرق .ازال سترته ورمت عباءتها اجلسها بحجره وانغمر لسان بلسان .
بلغت ابنته سن الرشد فلعبت القمار مع الرجال في بيتها,ان غلبوها استرجعت النقود منهم بالتعري .في العشرين من عمرها دهستها سيارة اجرة وبقي ابو شاهين لا يعلم سره احد , شحاذ يفترش الارض قرب جامع ,لا يتلو الايات ولا يتمسكن.وحين بلغ السادسة والخمسين وجدوه ميتا ...مخلفا صفيحتين من الذهب .كيف تمكن رجال الشرطة من تسليمها الى الدولة .اهو الخوف من القانون او الدين ؟؟كان الناس يضربون مثلا برجل الشرطة (صدرك صدر شرطي )لانه يطلب ويتقبل اى نوع من السجائر ,انهم يعيشون في فاقة لكن رهبة اتت من قوة القانون .






فرحة الزهرة
ــــــــــــــــــــــ
اعتاد بعض اهالي الحي ان يكون لهم طقس احتفالي..في الربيع ....تجمهر صبية يرقصون ويصفقون يتوسطهم الشاب علي حسن في العشرين من عمره,نحيل حنطي البشري وقد تقنع بقناع احمر وامسك بيده بوقا كبيرا ينفخ فيه منغما (يا عمير ازعر يا صبيان )والاطفال يرددون بعده الاهزوجة.. تجمهروا في باحة تقابل المطحنة ..ومر بهم معلم وخاطب علي حسن بادب وامتعاض : <يا اخي انه خليفة ولا يجوز لك ان تسخر منه هكذا.. فرجاء كف عن هذه الحركات) فخجل الشاب ونكس بوقه وانسحب فيما تفرق الصبية بلا صخب او احتجاج,سيتذكر برهان هذه الحادثة بعدعدة عقود حين يشتعل الصراع الطائفي فتهدم دور العبادة والمراقد ويصبح القتل على الهوية ظاهرة في البلد ,حين لا شغل للناس الا تكفير بعضهم البعض او الشتم والسبب ,حين تحشى الرؤوس بمشاعر الحقد والكراهية وتتساقط الانفس قتلا او حرقا او تفجيرا <فتتمسك كل فئة بصاحبها وينتصب السيف وتسيل الدماء >...
تمليك
ـــــــــــــــــــــ
لم ينتقل الجميع من اهالي حي سليطة, لقد منحت السلطة بيوتا في حي ـــ الثوار ـــ الى المواطنين المستاجرين فقط , ممن سكنوا بيوت القصب او منازل آيلة للسقوط.
في احد ايام تموز تصبب العرق من الاجساد المتراصة, لقد كان مشهدا تاريخيا يوم استلم هؤلاء الناس سندات الطابو فى ساحة مكشوفة.
كان احد المسؤولين ينادي بالاسماء واحدا تلو الاخرويسلمه مستند تمليك, انه حلم انتظروه منذ قرون , لم يمر في خيالهم ان يملكوا منازل ,تجمهر لنساء وصغار وشيوخ فى مهرجان لا يتكرر ,التصقت الاجساد بالاجساد والعباءات بالكوفيات وتصارع في الارواح تحقق الحلم والخوف من انقراضه, وفى هذا الجوالمشتعل التصقت من ظهر امراة في الثلاثين بجسد مراهق والموج البشري يلصقها من ظهر عليه, فتحسست فخذاه اردافها ومر اللهيب, لكنها رغم تركيزها على المنادى واوراق المستندات ,شعرت فالتفتت للمراهق وهي غرقى بالعرق وطافحة بالغضب وحذرته :
(اصبر …اخواني ستؤدبك )فابتعد عنها بهدوء .
وقد انتقل من كل حي في البصرة مجموعة سميت الازقة باسمها ممن سكنوا بيوت القصب والعشوائيات:
شيد الحي بالعمل الشعبي (السخرة ):فكان بيوتا مكشوفة من الطابوق بلا شبابيك من غرفتين متقابلتين .اسيجة من الامام واطئة وازقة ضيقة تتوازى وتمتد تفصلها شوارع رئيسة ,يمتد كل زقاق لمائة متر.
اربعة ازقة فقط خصصت لاهالي حي سليطة .. وصادف ان بيت سليطة لصيق لمنزل برهان ..وان عائلة طربوش في البيت المقابل لها..
ـــــــــــــــــــــ


الوحش
ـــــــــــــــــــ
تقدم الوحش ,البيت,,البيت ,,,البيت……..البيت ليس ماوى عن المطروليس سترا للحريم ليس حجرا اوصفيحا طابوقا اوقصبا ليس ذلك التوقيع اسفل مستند التمليك انه الذاكرة الزاخرة بالعثرات والنكبات رقصة الزفاف ,اول لحظات العشق (اذ تلوذ به بعد اول لقاء او اكتشاف لسحر الانثى) تجوب الفيافى والسهوب وتعود اليه… يقدم لك الغرباء جنات وتحن اليه كوخا كان او خيمة ,تقتني له اقوى الاقفال التي تتهاوى امام براعة اللصوص,يتحول زنزانة ان سلبت منه احبة لكنك تتمسك به ,يرميك جار بالحصى ولا يمكنك ان تغادره,
كل خلية في كيان المنزل تتشرب منك : الثوانى مخلدة, المرايا, الدمع , البيت مخزن الذكريات هو الروح ان فارقته انصهرت وانفصلت عنك لكن الوحش لا يرحم لا يقرا فزع الناس وبركان غضبهم وهكذا وصلت ذات صباح الجرافات الى حي سليطة ولم يكن جسد الحي المواجه لشارع الفقيه قويا بما يكفي ليقاوم فتساقط مثل قطع الدومينو امام جبروت المزمجرات ودفنت رسائل رندة(في الخامسة عشرة ارسلتها لحبيبها الاول الصامت(زمار )واختفت اقداح الشاي المزينة بصورة عبد الكريم قاسم وضاعت للابد عانات امراة حالوب فلم تعد لها قيمة وقد لفت بورقة مصفرة كتب عليها (عاش الزعيم الزود العانة فلس ),لم يعد وجود لمنشار حمد ابو حدبة الصدئة ,وترك حالوب البنود التي كان يحزم بها كارات السعف وسيحن يوما لبستان ام اسحاق سيعمل فراشا في مدرسة وتستريح اكتافه من عبء السعف واقدامة من التجوال وسيظل يبكى تلك الايام ينوء من الكارات صامتا يمر على جسر الرباط والمطحنة والسوس وسيتذكر ناحبا كيف يترك كارته فى السواقى المخضرة ويزيل اسفل دشداشته الجوزية امام الصغار بعفوية ويقضى حاجته يشطف من ماء الشاخة ويمضى وستختفي زوجته ا لقصيرة البيضاء الناعمة وهى تحجب ابتسامتها بطرف شيلة سوداء مراقبة تزاوج الكلاب تسح به الانثى من موقع لاخر لم تنثن من حجر الصغار وزعيقهم حتى غطس بها في النهر وتمكن من الفرار… الراحلون يتناسون الكثير وهم يحزمون اشياءهم ..تخونهم الذاكرة او تنسيهم المصيبة .واشتبك الطابوق والصفيح وجذوع السقوف وفرت الكائنات الصغيرة وما ان حلت الظهيرة حتى تحولت البيوت تلالا عبثية ووصفة للفوضى لم يكن ابو هادي حيا ليشهد المجزرة ,عاشرفي احدى الليالي امراته قبل سنة وخانته قواه ونسي ان هرقليته غادرته من زمان وبعد ساعتين من تلك المعركة مع الافخاذ المتخشبة احس بالحجر يقبض على قلبه وقاوم يائسا وحاول ان يجمع كل قوته ويصرخ بخفوت (ام خالد ) ,كانت تنحنى عليه بحنان ــ ابو بيتها ـ وملات صدره بالدموع ولم تكتشف انه فارق الحياة الا بعد ان عاد ابنها الوحيد ثملا في ساعة متاخرة من تحت اجساد الشقاة في مقبرة الانكليزوقال (يووم …. مات ابو هادى )
ستختفي عربة السعف في عربة الحاج (ابومرهون ) وحصانه ولم يعد يقوده من حضيرة قرب حجرته سيحن للروث والسوط والشكيمة وذيله الجميل سيختفي صوته يصيح في الطرقات (سعف سععف ) يا لقسوة الجرافات اى كيانات جرفت واية ذكريات غنية اجهزت عليها,اين شردت منقلة ام (روضان )النحاسية ,السماور البرونزي القوارى النحاس والفرفوري والنحاس,يتجمعن بعد الافطار في رمضان ولوز وحب ابيض مملح من ابو هادي ,تزورهم ام اسحاق وزوجة ابو سجاد التي فطرت وخاطبت ام صلاح (صيام مقبول ) وقد خشن يديها الكرب والمنجل ارواح امنت بالرسل وتشبعت بثورة الطف وبكت حتى احمرت العيون للعقيلة زينب وتمزقت من لوحة علقت في جدارالغرفة كتب اسفلها (مالي اراك ودمع عينك جامد ــ اوما سمعت بمحنة السجاد ) وهو مقيد اليدين في سلسلة في موكب السبايا,يحدى بهم فى الفيافي الى الشام ..الركام الحجري والتراب التلول لا يعطي سرا والحادلة لا تبالي بمنقلة ام روضان ولا برسائل رندة.








((الخطبة الاخيرة لحي سليطة ))
لن اتعبكم بعد الان , لقد تهاويت في اخر معركة مثخنا , لا تدفنوا جثتي وذروني كرماد في الافق في فجر نقي ..لا اريد ان يرى قبري السيئون فقد يشمتون , دعوني ذرات لا تتمكن الطبيعة من تشكيل جزيئاتي ثانية ,, ذرات تحوم فوق سماءكم ولن تغادركم ... ساشمت واسخر وانا اشاهدكم بعدي شذرا مذر ..ستتحدى نساؤكم الجدران الخرسانية وتعمل ما تشتهي .. وسيستهزيء طفلكم من شيخكم وجاهلكم من عالمكم ويخشى اب ان ينصح نجله ويرتعد المعلم من اشد طلابه جبنا ..انا حي سليطة الابدي (فان هم ذهبت اخلاقهم ذهبوا )... ستصبح دور السينمات ذكرى وسيختفي كاري الهنود وستنقرض المهن فاقفاص الطيور من السعف تتحول من الحديد .. ربما ستبقى لفترة سمبوسة ابو عباس لكنها ستفقد نصف نكهتها ... الا تتذكرون تلك النكهة التي تنشط المعدة وتفجر الشهية وتجعلك مستعدا لتعلم تشريح الارانب في المدارس التي توزع الحليب للصغار صباحا . وحين ستكبل النساء ويحجرن في البيوت ويحاصر بعضهن اللااهتمام والاهمال وتغلق البيوت تماما بالشمع الاحمر سيغازلن بعض الاقرباء واصدقاء ازواجهن حيث لا حرج من دخولهم بلا طرق ربما ...اما بناتي المتزوجات فعند الاهمال يخيطن او يرقعن الجوارب او يقمن ولائم الدموع والعيون المطفأة ...وحين تفتك البطالة بشباني ينشغلون بلعبة الدومينو او الثرثرة على تخوت المقاهي ..سيأتيك جيل ان تحركت غريزته اغتصب وان فقر نهب وان انفعل قتل ...








نظرة شاملة

اسند برهان قدمه على الرصيف وهو على دراجته الهوائية قرب مدرسة اوراس الابتدائية وتذكر سياجها وشجيرات حديقتها وذلك الباب الشاهق الذي ينتهي بصف رماح .. وتذكر كيف كانوا يجتازونه ليهربوا متحدين الخطر .. فرحين لانهم عبروا .. تذكر الباعة يتربعون رجالا وعجائز امام بسطاتهم او عرباتهم قرب سياج المدرسة .. المساطر الخشبية تهوى على راحات الصغار الترفة في الشتاء .. اصوات المعلمين الصائحة وهم يشرحون ..رؤية القوارير مثقلة بسوائل ملونة في المختبر .. اللوحات الملونة التي كانوا يرسمونها في المرسم ..وقال في حسرة وهو يتخطاها (وارجعيني الى اسوار مدرستي ..)..وعبر الاف الذكريات وركن دراجتة على مكان مرتفع يشرف على حي سليطة ..ونشر نظراته هناك .. وادرك لحظتها بان الحي قد نسخت معالمه ولم يتبق منه الا فيضان الذكريات وشذرات من معالمه القديمة .. .. ورنت في عروقه اصوات سليطة حين تثور من طفلتيها (ياشباب من يرغب بامراة).. وتذكر الحريق الذي بدا كلسعة افعى في ظهيرة تموز, وافنى عشرات البيوت ..ورأى جثة رندة على القمامة قرب الماء الاسن,وبرقت نجمة فى عباءة بارقة ومشية منغمة, ينتظرها غازي .. تذكر لحظات الصيد والمنشورات السرية ودكان ابو هادي .. وماكنة السوس والفلكة ومقبرة الانكليز .. تذكر مرهان التي اصيبت بشلل تام وانزوت فى سريرها لحظة زفاف حبيبها .وابلت العمر وحيدة بلا زواج .. نائحة على عمر صادرته الاقدار.لم يشفع لها جمال ولا عفة ولا صبر طويل .
كل طابوقة اقيمت بدلا من ظل نخلة وكل غرفة استقبال عصرية مكان خصاص او ساقية نتة ... الازقة الثعبانية استبدلت بالشوارع المعبدة.. لم يعد هناك من اثر لسكة القطار ..وحده معمل الطحين والنهر بقيا صامدين ...وحدها الذكريات تنحر في اعماقه وكاد يشهق ...
ومرت باعماقه مجزرة الجرافات التي اجهزت على ربع مساحة الحي .. وتذكر المجزرة الاخرى التي حدثت بعد سنة .. ولا يدري كيف علم الاهالي بان بستان ام اسحاك وابو محجن مباحة للنهب .. فتراكضوا بالمعاول يقلعون رؤوس النخيل ــ بعدما تحطمت السدة الطينية المرتفعة ـ ثم يقشرونها لنيل الجمار الا ان النخلات الشاهقة كانت تتهاوى ثم تنحر .. وكان شاب وهو يهوى بمعوله على جذع قد اصاب رجله بجرح بليغ...ومرت بذاكرته سندات التمليك وتفرقت البيوت الى احياء اخرى ..لكنه كان غائبا وقت اجهزت وحوش لا ترحم على ما تبقى وتم مسخ الحي تماما حتى لا يكاد ان يهتدي لمعالمه .فاعولت اعماقه.



#كاظم_حسن_سعيد (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- شاشة الارواح كتاب كامل
- وفاة عبوسي الذي خلده مسلسل تحت موسى الحلاق
- تسجيل لحكايا برقية ج2 الخباز والمراة البدينة
- ديوان (البصيلة الزجاجية) كتاب كامل
- البيدوفيليا مرض الاثارة الجنسية بالاطفال
- مجوهرات روحية قصائد كتاب كامل
- في شعاب المصهرات شعر كتاب كامل
- قصة رئيس ورئيسي ومبارك ومبروك
- (مجوهرات روحية ) قصائد كتاب كامل
- كتاب نظرة للامام مذكرات ج1
- تسجيل لحكايا برقية ج1
- زواج المسيار والمتعة وقانون الاحوال الشخصية في العراق .
- (ديوان الابواب) وزيارة اثر ديوان شعر
- البصرة: رحلة استكشاف ج1 كتاب كامل
- المراة لا ترث ارضا او عقارا والمادة 57
- راية للامام الحسين بقيمة 93 مليون
- نوافذ على كتب جاذبة كتاب كامل
- بائع الجنائز مجموعة قصصية
- مشاريع الرجل الضرير مجموعة قصصية
- الزواج من المتزوجة


المزيد.....




- بوابة الوظائف الحكومية.. نتيجة وظيفة معلم مساعد لمادة اللغة ...
- الفيلم الهندي -حياة الماعز- يثير جدلا على مواقع التواصل بسبب ...
- رداً على إغلاق مراكز إسلامية في ألمانيا.. إيران تغلق آخر معه ...
- فيديو للفنان المصري محمد فؤاد في مشاجرة حادة بأحد المستشفيات ...
- نقابة الأطباء المصريين تعلق على فيديو مشاجرة الفنان محمد فؤا ...
- -دعونا نعطي الناس ما يريدون-.. الكشف عن البوستر الرسمي لفيلم ...
- تنسيق المرحلة الثانية 2024 …. والكليات والمعاهد المتاحة لطل ...
- أجمل المسلسلات والأفلام العربي على تردد قناة mbc مصر 1 الجدي ...
- -حياة الماعز- فيلم هندي يغضب سعوديين بسبب الكفيل
- اختفاء حساب باسم يوسف على منصة إكس والكوميدي المصري يعلق


المزيد.....

- رنين المعول رؤى نقدية لافاق متنوعة ج1 كتاب كامل / كاظم حسن سعيد
- القناع في مسرحيتي الإعصار وكلكامش لطلال حسن -مقاربة في المكو ... / طلال حسن عبد الرحمن
- في شعاب المصهرات شعر كتاب كامل / كاظم حسن سعيد
- (مجوهرات روحية ) قصائد كتاب كامل / كاظم حسن سعيد
- كتاب نظرة للامام مذكرات ج1 / كاظم حسن سعيد
- البصرة: رحلة استكشاف ج1 كتاب كامل / كاظم حسن سعيد
- صليب باخوس العاشق / ياسر يونس
- الكل يصفق للسلطان / ياسر يونس
- ليالي شهرزاد / ياسر يونس
- ترجمة مختارات من ديوان أزهار الشر للشاعر الفرنسي بودلير / ياسر يونس


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - الادب والفن - كاظم حسن سعيد - حي سليطة رواية كتاب كامل