وجهة نظر -أخوة ماركس- / بقلم سلافوي جيجيك - ت: من اليابانية أكد الجبوري

أكد الجبوري

الحوار المتمدن-العدد: 8071 - 2024 / 8 / 16 - 00:33
المحور: الادب والفن
    

اختيار وإعداد الغزالي الجبوري - ت: من اليابانية أكد الجبوري

مقال للفيلسوف السلوفيني سلافوي جيجيك ( 1949 -)، "وجهة نظر أخوة ماركس حول الانتخابات الأوربية".

النص؛
كانت المفاجأة في الانتخابات الأوروبية في يونيو/حزيران 2024 أن ما توقعناه جميعًا أن يحدث ــ التحرك نحو اليمين ــ حدث بالفعل. ولتفسير هذا، ربما نحتاج إلى أخوة ماركس الأكثر من ماركس ــ على حد تعبير النكتة الشهيرة التي أطلقها غروشو الذي يلعب دور محام يدافع عن أحمق: إن أوروبا تتحدث وتتصرف وكأنها تتحرك نحو اليمين المتطرف، ولكن هذا لا ينبغي أن يخدعنا، فأوروبا تتحرك حقًا نحو اليمين المتطرف.

فلماذا إذن نصر على أن أوروبا تتحرك حقًا نحو اليمين المتطرف؟ لسبب بسيط: على الرغم من أن وسائل الإعلام الكبرى لدينا تعترف شفهياً بهذا التحول نحو اليمين المتطرف، فإنها تقلل من أهميته كقاعدة عامة: "حسنًا، مارين لوبان أو جورجيا ميلوني أو البديل لألمانيا يغازلون أحيانًا الزخارف الفاشية، ولكن لا يوجد سبب للذعر لأنهم ما زالوا يحترمون القواعد الديمقراطية، وبمجرد وصولهم إلى السلطة، يشاركون في المؤسسات الأوروبية (تتعاون ميلوني بسلاسة مع إدارة بروكسل) ..." ومع ذلك، فإن الوظيفة الفعلية لهذا التدجين لليمين المتطرف الجديد أكثر إزعاجًا: فهو يعبر عن استعداد الأحزاب المحافظة التقليدية للتعاون مع اليمين المتطرف الجديد. وبالتالي يتم التخلي بصمت عن بديهية الديمقراطية الأوروبية بعد الحرب العالمية الثانية "لا تعاون مع الفاشيين الجدد!".

الرسالة التي حملتها الانتخابات الأوروبية الأخيرة واضحة: الانقسام الذي يخترق الفضاء السياسي في أغلب دول الاتحاد الأوروبي لم يعد الانقسام التقليدي بين اليمين المعتدل واليسار المعتدل، بل انقسام بين شكلين من أشكال الفاشية، الانقسام "الناعم" المتجسد في الفائز الحقيقي الكبير في الانتخابات الأوروبية، حزب الشعب الأوروبي (EPP) مع الأحزاب المسيحية الديمقراطية والليبرالية المحافظة والمحافظة، واليمين الفاشي الجديد "المتشدد" (لوبان، ميلوني، حزب البديل من أجل ألمانيا...). والسؤال النهائي هو: هل يكون حزب الشعب الأوروبي مستعدًا لسد هذه الفجوة والتعاون مع الرافضين للفاشيين الحقيقيين؟ الخيار مفتوح. بالنسبة لأورسولا فون دير لاين، كانت الانتخابات انتصارًا لحزب الشعب الأوروبي ضد المتطرفين، اليسار واليمين - ولكن أين ترى أي متطرف يساري يمكن مقارنته حتى عن بعد باليمين الفاشي الجديد؟ إن وجهة نظرها "المتوازنة" ترسل بالفعل إشارة مشؤومة...

ولكن أليس هناك استثناءان كبيران لهذا الانقسام، المملكة المتحدة والولايات المتحدة؟ نعم ولا - في كلتا الحالتين، فإن الوضع أكثر غموضًا. في المملكة المتحدة، يعد حزب العمال الذي يتزعمه ستارمر في الواقع حزبًا يمينيًا متواضعًا يواجه حزب المحافظين الأكثر غرابة. ربما يكون الاستثناء الحقيقي هو الولايات المتحدة حيث لا توجد قوة قوية مماثلة لحزب الشعب الأوروبي ولكن ببساطة المعارضة بين الشعبويين الجدد المقربين من الفاشية الجديدة والديمقراطيين الليبراليين - وهو وضع له مخاطره الخاصة، مما يدفع البلاد نحو حرب أهلية.

هناك تحذير آخر ضروري هنا: عندما نتحدث عن الفاشية اليوم، يجب ألا نقتصر على الغرب المتقدم. ما لا يمكن للمرء إلا أن يصفه بأنه شكل جديد من أشكال الفاشية آخذ في الارتفاع في معظم دول مجموعة البريكس. في تفسيره لما يحدث في الصين، يؤكد دومينيكو لوسوردو() (المعروف أيضًا بإعادة تأهيله لستالين) على الفرق بين القوة الاقتصادية والسياسية: أدخلت "إصلاحات" دينج شياو بينج الانقسام بين الاثنين. لقد أدرك دينج، الذي سار على خطى لينين (من فترة السياسة الاقتصادية الجديدة) وماو (من يانان قبل عام 1949)، أن عناصر الرأسمالية ضرورية للتطور السريع للقوى الإنتاجية، ولكنه أصر على أن السلطة السياسية لابد وأن تظل راسخة في أيدي العمال والمزارعين الذين يمثلهم الحزب الشيوعي.

إن جذور هذا النهج تمتد عميقاً إلى الماضي: فمنذ أكثر من قرن من الزمان، كانت الصين تتبع ما يسمى بالنزعة الآسيوية الشاملة التي نشأت نحو نهاية القرن التاسع عشر كرد فعل ضد الهيمنة والاستغلال الإمبريالي الغربي. ومنذ البداية، كانت النزعة الآسيوية الشاملة مشروعاً معقداً للتحرر الاقتصادي والسياسي يقوم على رفض الفردية الليبرالية الغربية، وليس الرأسمالية بحد ذاتها. وقد جاءت هذه النزعة في أشكال عديدة، ولكن مكونها الرئيسي كان معاداة الإمبريالية (الغربية)، أي فكرة مفادها أن آسيا لا ينبغي لها أن تتبع الطريقة الغربية في التقدم لأنها قادرة على الاستيلاء على تقاليدها ما قبل الحديثة لتنظيم تحديثها الصناعي على نحو أكثر ديناميكية من ذلك الذي يتبناه الغرب.

وعلى هذا المنوال، يقترح فيرين مورثي() قراءة هيجلية للنزعة القومية الآسيوية. ففي حين رأى هيجل أن آسيا هي مجال نظام جوهري لا مساحة فيه للذاتية الحرة، يقترح منظرو آسيا الثوريون ثلاثية هيجلية جديدة: فالغرب يقدم فردية مجردة تنفي النظام الجوهري الآسيوي وتؤدي إلى التفكك الاجتماعي، بحيث لا يمكن إلا لإلغاء (أوفهيبونج) الذات الفردية الغربية في وكالة جماعية جديدة أن يؤدي إلى ظهور حرية جديدة. وبالتالي فإن الحل المحتمل لوضعنا الكارثي لا يكمن في الحريات الغربية بل في التطرف الإبداعي الآسيوي للذاتية الأوروبية. ولكن هل لم نحصل مع عسكرة اليابان وتوسعها الاستعماري على النموذج الأول لهذه الذاتية الجماعية الجذرية الجديدة؟ وهل لا تتناسب هذه الذاتية تماما مع الفاشية؟

ويشير مورثي نفسه إلى أن النزعة القومية الآسيوية كانت تتأرجح بين نسختيها الاشتراكية والفاشية (حيث لا يوجد في كثير من الأحيان انقسام واضح بين النسختين). لا ينبغي لنا أن ننسى أن "معاداة الإمبريالية" ليست بريئة كما قد تبدو: لقد استخدم كل من الفاشيين اليابانيين والألمان هذا الشعار بانتظام، وقدموا أنفسهم كمدافعين ضد الإمبريالية الأمريكية والبريطانية والفرنسية - حتى صن يات سين، بطل عموم آسيا التقدمية، أعرب أحيانًا عن تعاطفه مع الفاشية الأوروبية الناشئة، مفضلاً إياها على الليبرالية التي رفضها باعتبارها غير مناسبة للظروف الآسيوية.

هذا الاتجاه واضح حتى في الصين ما بعد دينج: طور أ. جيمس جريجور بالتفصيل أطروحة مفادها أن جمهورية الصين الشعبية اليوم يمكن تصنيفها على أفضل وجه على أنها "نوع من الفاشية المعاصرة".() اقتصاد رأسمالي تسيطر عليه وتنظمه دولة استبدادية قوية شرعية بشروط تقليد عرقي عظيم - هذه هي الفاشية التي يمكن التعرف عليها في الصين والهند وروسيا وتركيا ... فلا عجب أن أشاد شي جين بينج مؤخرًا بالحضارة الصينية لتاريخها الطويل والمستمر الذي يمتد إلى العصور القديمة، قائلاً إنها شكلت الأمة الصينية العظيمة؛ وأكد على ضرورة تحسين حماية الآثار الثقافية واستغلالها بشكل شامل والحفاظ على التراث الثقافي وتنميته.()

لا ينبغي لنا أن نعتبر هذا مجرد حقيقة سلبية: فهناك حجج قوية تدعم الادعاء بأن الصين تجنبت التفكك الفوضوي للاتحاد السوفييتي في أوائل التسعينيات لأن "التحرير" الاقتصادي الذي تبناه دينج لم يستسلم لإغراء التخلي عن سلطة الحزب الشيوعي والانتقال إلى الديمقراطية التعددية على النمط الغربي. لا عجب أن الحجة الأساسية لليساريين الذين يدعمون الصين اليوم هي أن رأس المال يحكم في أوروبا والولايات المتحدة بشكل مباشر، حيث تخدمه أجهزة الدولة في الغالب (حتى دعم أوكرانيا يتم لمضاعفة أرباح المجمع الصناعي العسكري)، بينما تخضع حركة رأس المال في الصين لسيطرة الدولة وتنظيمها ... (وبالمناسبة، لنفس السبب، يرفض جورجيو أغامبين الصين اليوم تمامًا لأنها، في نظره، تجمع بين أسوأ ما في العالمين: اقتصاد السوق الرأسمالي وقوة الدولة الاستبدادية).

ومع ذلك، هناك أمران يعقدان هذه الصورة. أولاً، بأي معنى دقيق يمثل الحزب الشيوعي الصيني مصالح الطبقة العاملة والفقراء؟ ثانيًا، كيف تتناسب الظاهرة التي أطلق عليها يانيس فاروفاكيس "الإقطاع التقني" (القوة الاقتصادية والسياسية غير العادية للشركات الكبرى وأصحابها) مع الفاشية الجديدة؟ لقد كان المحاور الجاد الوحيد للحزب الشيوعي الصيني في الغرب لفترة طويلة هو العاصمة الإقطاعية الجديدة - عندما التقى شي جين بينج بيل جيتس في بكين في 16 يونيو 2023، وصفه بأنه "صديق قديم" وقال إنه يأمل أن يتمكنا من التعاون بطريقة تعود بالنفع على كل من الصين والولايات المتحدة.

ومع ذلك، هناك اتجاه سياسي آخر يساعد الفاشية الجديدة حقًا: أكثر بكثير من مارين لوبان، الفائز الحقيقي في الانتخابات الأوروبية هو فيدياس بانايوتو، وهو يوتيوبر قبرصي بدأ في 8 أكتوبر 2022 مهمة احتضان إيلون ماسك بعد احتضان 99 من المشاهير الآخرين. أثناء انتظاره خارج مقر تويتر لظهور ماسك كل يوم تقريبًا، شجع متابعيه على "إرسال رسائل غير مرغوب فيها" إلى والدة إيلون، ماي ماسك، بطلبه الذي وصفته بأنه "خبيث". في 21 يناير 2023، التقى إيلون ماسك ببانايوتو واحتضنها في مبنى المقر. بعد سلسلة من الأفعال الغريبة المماثلة، أعلن بانايوتو في أبريل 2024 ترشحه للبرلمان الأوروبي، على منصة مناهضة للحزبية، واحتل المركز الثالث بنسبة 19.4٪ من الأصوات الشعبية، وحصل على مقعد في البرلمان الأوروبي.()ظهر مرشحون مماثلون أيضًا في فرنسا والمملكة المتحدة وسلوفينيا؛ لقد برروا ترشيحهم بالحجة "اليسارية" القائلة بأن البرلمانات في الاتحاد الأوروبي أصبحت بالفعل مجرد نظارات فارغة من المهرجين، والشيء الوحيد الذي يجب فعله هو إخراج هذه الكوميديا السخيفة التي نسميها السياسة الديمقراطية، وتقديمها علانية. إن الانخراط في هذه اللعبة أمر خطير للغاية لأن مثل هذا الانسحاب إلى التهريج يشل الجهود التحررية ويترك المجال مفتوحًا للفاشية الجديدة.

ولهذا السبب فإن ما نحتاج إليه بشدة اليوم هو الأفعال. مع كل مسافاتي تجاه سياسة إيمانويل ماكرون، أعتقد أن رد فعله على فوز اليمين يقترب من الفعل الأصيل. بعد أقل من ساعة من إعلان النتائج، أعلن ماكرون حل الجمعية الوطنية وتحديد موعد للانتخابات التشريعية الجديدة. كان هذا الإعلان بمثابة صدمة للجميع تقريبا ــ حتى ماكرون نفسه "لم يستطع أن يتنبأ بقراره، وأصر حتى الشهر الماضي على أن انتخابات الاتحاد الأوروبي لها عواقب سياسية على أوروبا فقط، وليس فرنسا”.() وكانت خطوة ماكرون محفوفة بالمخاطر، لكنها تستحق المخاطرة: فإذا فازت لوبان وقررت من سيكون رئيس وزراء فرنسا القادم، فسوف يظل ماكرون رئيسا ويحتفظ بالقدرة على حشد أغلبية جديدة ضد الحكومة في نهاية المطاف. واليوم، لابد من خوض المعركة ضد الفاشية الجديدة بكل قوة وبأسرع وقت ممكن.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
Copyright © akka2024
المكان والتاريخ: طوكيـو ـ 8/16/24
ـ الغرض: التواصل والتنمية الثقافية
ـ العينة المستهدفة: القارئ بالعربية (المترجمة).

#أكد_الجبوري (هاشتاغ)      

---

اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين	حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل

كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على:

الفيسبوك

التويتر

اليوتيوب

RSS

الانستغرام

لينكدإن

تيلكرام

بنترست

تمبلر

بلوكر

فليبورد

الموبايل

كيفية إشراك-إيصال مواضيعكم أو مواضيع تهمكم  إلى اكبر عدد ممكن من القراء والقارئات