أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الشهداء والمضحين من اجل التحرر والاشتراكية - بشير صقر - العم شحاتة النشار.. نموذج مصرى مشرق للنضال السياسى والنقابى يطيل العمر والعنق ولا ينساه التاريخ















المزيد.....



العم شحاتة النشار.. نموذج مصرى مشرق للنضال السياسى والنقابى يطيل العمر والعنق ولا ينساه التاريخ


بشير صقر

الحوار المتمدن-العدد: 8067 - 2024 / 8 / 12 - 15:41
المحور: الشهداء والمضحين من اجل التحرر والاشتراكية
    


تنويه:

فى زيارة للصديق عمر مرسي أواخر عام 2023 أطلعنى على مخطوط عن الراحل العم شحاته النشار - صهر صديقنا المترجم د. احمد زكى – وسألنى بعد انتهائى منه : ما رأيك ..؟

فقلت له : إنه نموذج لم أصادف مثله من اليساريين القدامى.. نشأ فى ظروف بالغة القسوة وانتقل وهو طفل- مع أسرته- من موطنه الأصلى الراكد بإحدى قرى الدلتا إلى بؤرة الأحداث السياسية بالقاهرة. وفى مناخ زاخر بكل صنوف الانحراف زاحم أقرانه من الباعة الجائلين وأفلت من هذا المعترك ليلتقى بمن علمه مبادئ السياسة.. وكانت وصايا أبيه الدائمة والنموذج الذى شكله له بمثابة الدرع الذى صنع منه مناضلا سياسيا فريد الطراز. وللغرابة الشديدة أن صهره أحمد زكى لم يحدثنى عنه طيلة سنوات صداقتنا التى تقارب النصف قرن.

فعلق عمر قائلا : طالما هذا تقديرك.. فهل من الممكن أن تشاركنا فى تحويل هذا المخطوط إلى كتاب..؟ . قلت له كيف..؟ قال بأن تكتب مقدمة للكتاب تتناسب مع تقديرك له. فأجبته : يشرفنى أن أقوم بذلك.

وكانت سمات وخصال العم شحاتة التى أفصح عنها المخطوط إضافة لما استنبطته من رواياته هى باعثى للكتابة عنه فى المقدمة . مثل كونه شخصا عمليا.. قادراعلى فهم البشر وتصنيف قيمهم وخصالهم المتوارية فى ثنايا أحاديثهم من مجرد التعامل معهم، علاوة على كونه ليس من أصحاب الجمل الثورية ، وله ملكات متنوعة ومعرفة واسعة بمحيط أى دائرة يتواجد داخلها . وقد مكنته الشوارع التى جابها وتجول بها – برغم قسوتها وتوحشها فى كثيرمن الأحيان- من إضفاء جوانب إنسانية لا تخطئها العين على سلوكه مع العديد من المرتبطين به أو المحيطين بدوائر نشاطه أو عمله أو أقرانه أو جمهوره. كما زوده بخبرات ثرية ، يندر للكثيرين ممن تعرضوا لظروف مماثلة أن يُحَصّلوا ما حصّله منها ، أويتجنبون أو ينجون مما تجنبه أو نجا منه. فالشوارع علي الدوام - فى أى عصر ومكان- هى مفرمة الأطفال والبشرأيا كان نوع الحصيلة التى يجنيها روادها منها . وقد ساعده فى ذلك معايشته للكثير من الأسر والعائلات والأفراد الذين عانوا من غياب أرباب أسرهم لفترات ممتدة.. والتى نبهته بشأنه وشاركته في ترميمه زوجته.. رفيقة عمره ومشواره.

باختصار نحن أمام شخصية شديدة الخصوبة والثراء، متنوعة المهارات والملكات، جسورة مقدامة ومتواضعة .. شعبية المنشأ والمآل، إنسانية الجوهر، بسيطة لأبعد مدى..أخاذة وزكية و جميلة ؛ إيجابياته يُحْسَبُ معظمها له وسلبياته يُخصَمُ أقلها من حسابه .. لذا لزم التنويه.


نص مقدمة الكتاب :

مشوار.. شحاتة النشار
في السياسة والحياة
،،،،،،،

تمهيد :

توفيت أمه وهو في الثامنة من العمر ، فأدرك قيمة الأسرة ..وتعلم كيف يرعى إخوته ويحنو عليهم .. أثناء بحثه في الحياة ..عن ذاته وعن الحقيقة.

وشكل انتقال الوالد بأسرته فورالوفاة من قرية بوسط الدلتا إلي عاصمة البلاد نقلة نوعية في رأسه ؛ طالت القواعد التى تسيّر عقله وتصوغ مشاعره.

وكان الشارع منذ صباه أحد معلميه.. مع بعض من التقي بهم من الأصدقاء الأكبر سنا والأكثرإدراكا. وفيه عرف كيف يكسب قروشه القليلة ويلتقط زبائنه وينتقى أصدقاءه. ومن خلال زملاء المهنة رحل لمنطقة القنال للعمل بالكامب الإنجليزى لمزيد من الدخل.

البوصلة والمُوجّه :

وفي الشارع تعرف علي السياسة - من محيى الدين صادق – الذى كان عضوا بحزب الوفد ؛ ورغم كون الأخير شيخا أزهريا فقد انحاز للإشتراكية وللفقراء ، ولأنه كان معلما محنكا اوضح للفتى شحاتة النشار ماهية الفوارق الطبقية وكيف يقرأ الأحداث ويميز بين المواقف السياسية.. وعندما أفاده بأن الوصول للهيئة العليا للوفد يتطلب امتلاك مساحات كبيرة من الأرض الزراعية أو أموالا وعقارات ..أو شركات ومصانع .. كان ذلك ردا علي استفسار الفتى: وهل يمكن- لو دخلنا الوفد- أن نصل لتلك الهيئة. كما أنه علمه أن كل حزب يعبر عن طبقة ويسعى لتحقيق مصالحها ، وأن هناك أحزابا للفقراء بمثل ما أن هناك أحزابا للأغنياء ، ومن هنا عرف النشار تنظيم الحركة الديمقراطية للتحرر الوطنى ( ح .د. ت . و).. حيث بدأ مشواره.


الحَبْوْ والخطوات الأولى :

التقى النشار بالباعة الجائلين وكان واحدا منهم في أيامه الأولى وعرف معنى " رزق يوم بيوم " ؛ فساعدهم ودعمهم ونظمهم في نقابة ، وكافح معهم ومن أجلهم ، وطبع لهم المنشورات ووزعها معهم علي الجمهور..وهو ما عكس أصالته قبل تبلور كفاحيته. ترك المدرسة فى سنواته الأولى؛ ولما سأله أبوه : حتروح المدرسة..؟ أجاب بالنفى ، وعلى الفور شاهد دموع أبيه تتساقط.. فأدرك جيدا مغزاها.

لم ينس ذلك ؛ وعاد للتعلم لمدة عامين- لكن هذه المرة فى المدارس الليلية ، للتزود بالمعرفة التي صارت مغناطيسه الجذاب .
وكان أول كتاب قرأه هو" الاشتراكية والحرب " ومعناه أن الرأسمالية هى الحرب " (التى تبدأ بالمنافسة وتنتهى بالاقتتال) فأيقن أن الفقر والغنى ليسا قدرا إلهيا.. ولم يهبطا من السماء.. وإنما صناعة بشرية حيكت على مهل وبإتقان كما حدث فى الحرب العالمية عام 1914 وتكرر عام 1939 ، وأن من الممكن مواجهتهما ببناء الاشتراكية .

قوانين الحياة والجدل :

كما تعلّم أيضا أن التراكم هو أحد قوانين الحياة قبل أن يُصَنّف ضمن قوانين الجدل سواء في الثروة أو المعرفة أوالصحبة. وهدتْه قرون استشعاره ومعلمه محيى الدين الصادق لحزب يكافح من أجل الفقراء رغم إعجابه البالغ بحزب الوفد .. وانخراطه في كليهما - بالتوازى - لسنوات .

ورغم أنه لم يختطّ لنفسه مسارا ثقافيا خاصا - مثل عديد من قادة الفصائل المكافحة فى زمنه- إلا أنه صار " أسطى " - من طراز فريد فى حزبه - يملك كثيرا من نواصى الممارسة والخبرات العملية . وكانت مهاراته تلك هى وسيلته الأساسية في التثقيف والمعرفة والتمييز بين المواقف وفرز السياسات.. ولو تمكن من نفس القدر من الثقافة النظرية .. لصار أبرع رفاقه وفرس رهان الفقراء.

كذلك فلو استسلم لمغريات الشارع – حيث قضى أكثر من نصف عمره – لتبددت آثار أقدامه وضلّت طريقها وذهبت مع الريح ..لكن كوابحه الذاتية كانت ما تزال محتفظة بضميرها وحيويتها.

الزواج وحِرَفية الاختيار:

حتى عندما شرع في الزواج؛ لم يكن عمق العلاقة الوجدانية بين طرفيها يُكتَشفُ من أقاصيص الخطوبة وأحداث ما قبل القران.. بل كان التيقن منها بشكل عملى.. يتجلى إبان الأزمات السياسية وعمليات الهروب والمطاردة وتدبيراحتياجات ومطالب المعتقلين وزيارات السجون التى تتم فى فترات الهدوء النسبى بشكل دورى ، ومستوى التفاهم و الثقة المتصاعد بينهما بمرور الأيام.

وأيضا من حِمْية الاستجابة لحل مشكلات واحتياجات أسر رفاق القروانة التى تتفتق بهجة وشغفا بالزوج المناضل وحفاوة بزملائه .

خصوصا عند استرجاعنا لحديثهما الأخير – حديث الخطوبة - بين المناضل ورفيقة عمره والذى أبلغته فيه موافقتها على الزواج أيا كانت المخاطر والسجن والاعتقال والحصار وعمليات التضييق المتوقعة، فلم تكن موافقةَ عروسٍ تتعجل ارتداء الفستان الأبيض.. أو مولعةٍ ببيت خاص يكون عرينها أمام قريناتها وعزالها.

قارئة الفنجان وضابط يوليو52:

ويتألق حسّ النشار الطبقى والسياسى عندما يصادف أحدَ المسجونين السياسيين من سُمْر البشرة وهو يستعطف أحد رجال الشرطة من حراس العنابر ويقبّل قدمه للسماح له بدخول دورة المياه.. في تذلل مهين ..ويندهش من لجوء مسجون سياسى لأسلوب الخنوع هذا ..فيسأل زميل المسجون كمال يعقوب عن هويته .. ليجيبه يعقوب :" بأن ده.. الأراجوز بتاعنا.. واللمّة ما تحْلى إلا بذلك المسجون".

ثم يعود النشار ليتذكرذلك المسجون السياسي أنور السادات ؛ مرة عقب قراءته بيان قيام حركة23 يوليو 1952 للضباط الأحرار بالإذاعة المصرية ؛ ومرة أخرى بعد انقلاب 14، 15 مايو1971قائلا : " أنا شكيت وقلقت، وعرفت احنا رايحين علي فين". وبين الواقعتين يروى النشارعن معركة الوفد وإلغاء معاهدة 1936واشتعال المقاومة المسلحة في منطقة القنال حيث تقبع معسكرات الاحتلال البريطانى ، وعن الحركة الوطنية في مدينة القاهرة وكثير من محافظات مصر ، وحريق العاصمة الذى أضرمه القصر بالاتفاق مع المحتل لاتخاذه تكئة لإعلان الأحكام العرفية ومن ثم التصدى لتصاعد الحركة الوطنية السلمية والمسلحة ، وهكذا حتى يوم 11 يونيو1952 ذكرى العدوان البريطانى علي مدينة الإسكندرية عام 1881.


الأمل والسراب :

باختصار يشكل النشار صورة مختصرة لكن حية لأوضاع مصر في الشهور الستة الأولى من عام 1952 تبرز بوضوح درجة عالية من تفكك الدولة خصوصا بعد حريق العاصمة الذى ارتفق بتوزيع المنشورات- احتجاجا- في كل أرجائها وبعض الأقاليم . كما تعرض لموقف التنظيمات الشيوعية الكبرى في مصر [ حدتو ، الراية ( ح. ش) ، العمال والفلاحين] من حركة ضباط الجيش في 23 يوليو 1952مؤكدا تأييد حدتو للحركة باعتبار وجود أعضاء له فيها وخصوصا في مجلس القيادة (منهم يوسف صديق وخالد محيى الدين) ، وأن حدتو قام في الثامنة من صباح 23 يوليو1952 بتوزيع منشورات التأييد - المطبوعة مسبقا - في شوارع القاهرة بما يعنى معرفته المبكرة بتوقيت الانقلاب. واستمر ذلك التأييد معلنا حتى واقعة إضراب عمال كفر الدوار ومحاكمة العامليْن خميس والبقرى وإعدامهما..موضحا أن حدتو لم يقم بإدانة الحكم فكان ذلك من ناحية الدليل العملى علي موقف السلطة الجديدة من الطبقة العاملة وربما من الفقراء عموما ؛ ومن ناحية أخرى حالة التذبذب والتردد التى اكتنفت صفوف تنظيمه نحو النظام الجديد. كما تتالت الشواهد والبراهين علي ذلك الموقف باعتقال ضابطين شيوعيين (حمروش والمناسترلى ) من الضباط الأحرار .. فضلا عن مضايقات غير مبررة لخالد محيى الدين ولزوجة عضو مجلس القيادة يوسف صديق التى احتجزت بأحد أقسام الشرطة عدة ساعات.
بينما التنظيمان الآخران يعتبران السلطة الجديدة ديكتاتورية عسكرية ويتخذان منها موقفا مناوئا .

وقد أشار إلى الكفاح المسلح ضد المحتل البريطانى فى منطقة القنال وكيف أن" حدتو " لم يشارك في ذلك الكفاح بأكثر من 30 متطوعا.

هذا وبعد إلغاء حركة الضباط الأحرار لدستور1923 في 17 يناير1953 - وهو ما تمت ترجمته عمليا بإلغاء وحل الأحزاب السياسية - تفاقمت الأوضاع داخل حدتو وتغيرت نظرة الأعضاء للنظام الجديد واعتبروه ديكتاتورية عسكرية ومن الوارد أن يكون علي علاقة بالإمبريالية الأمريكية.

وقد أفصح ذلك عن اعتراف ضمنى بأن ارتباط تنظيم حدتو بحركة الضباط الأحرارمن خلال مجموعة من أعضائه الضباط ليس معناه اتخاذ الحركة تلقائيا للمسار السياسى للتنظيم ولا تحقيق أهدافه .. ولا استخدام أساليبه وأدواته .

كما بدا ذلك أيضا كإقرار بأن (العدالة الاجتماعية لا يمكن تحقيقها أو تصويب اتجاهها بأساليب القمع والاستبداد والانتقاء). وعلي سبيل المثال ما جرى في كفر الدوار فى الشهر التالى ليوليو 52 من محاكمة كاريكاتورية تُوجَت بحكم بإعدام عامليْن قادا فى شركتهما اعتصاما سلميا مطلبيا سبق أن تكرر قبلها بأيام في شركات مجاورة وانتهى في هدوء وسلام.

أو ما جرى بعد 6 شهور أخرى- وانعكس علي كل التنظيمات الشيوعية بالإدانة والاستنكار والغضب و" الزمزأة " - في 17 يناير 1953 من إلغاءٍ لدستور الأمة الصادر في1923 وحلٍ لجميع الإحزاب مع استثناء حزب واحد يفضحُ تاريخُه عداءَه للحركة الوطنية وانحيازَه للقصر والاحتلال الأجنبى وهو جماعة الإخوان المسلمين ؛ لا لسبب إلا لارتباط حركة الضباط بجماعة الإخوان بحالة سلام حتى ذلك التاريخ ؛ ثم تطاير ذلك الاستثناء كمادة البنزين بمجرد اختلافهما في مسألة الإصلاح الزراعى وغيرها..
وانتهى الأمر بالصدام في أكتوبر 1954 في ميدان المنشية بالإسكندرية.

والحقيقة التى نستشفها من مناضلنا الهمام بشأن واقعة (الضابط الأسمر) المسجون السياسى عام 1949 الذى قبّل قدم أحد الشاويشية الحراس لكى يسمح له بدخول دورة المياه تنقسم لجزئين :

الأول: هو رد فعله التلقائى عام 1949إبان مشاهدته الواقعة علي الطبيعة بشأن حالة
الخنوع والتذلل التى اكتنفت الضابط المفترض أنه رجل سياسى.

والثانى: هو تعليقه في مناسبتين ( 23 يوليو 52 ، 15 مايو 1971) علي اكتشافه أن الضابط الأسمر هو واحد من قادة حركة الضباط الأحرار" شكّيت وقلقت" عام 1952، وأن هذا الضابط سينفرد بالحكم بعد قيامه بإزاحة رجال عبد الناصر عام 1971 " شكّيت.. وعرفت احنا رايحين علي فين " .

حيث لايتساوي كلا التعقيبين كرد فعل مع ما تم اكتشافه من فعل في واقعة السجن . رغم المسافات الزمنية التى تفصل بين الفعل ورده.. ونعتقد أن رد فعله في السجن بشأن قيام مسجون سياسي باستعطاف الحارس بخنوع كان منطقيا تماما ومساويا للفعل ، بينما نرى تعقيبيه أدنى كثيرا مما اكتشفه في المرتين التاليتين وربما يكون السبب هو موقف التنظيم (الذى ظل مؤيدا لتنظيم الضباط الأحرار لمدة 6 شهور علي الأقل ولم يقم بإدانة إعدام العامليْن في محاكمة الاستاد الرياضى بكفر الدوار؛ وبرغم إلغاء سلطة يوليو لدستور الأمة وحل الأحزاب مع استثناء جماعة الإخوان من ذلك .)

صراع غير متكافئ وخبرات غير مكتملة:

وتحدث النشار بشكل محدود عن عمليات التتبع والرقابة والمطاردة والخنق التى شملتهم سلطة يوليو بها؛ وفي المقابل هروب المناضلين من منازلهم واللجوء للأقارب والأصدقاء وأحيانا لبعض المقرات السرية عندما يكونون مطلوبين لدى الأجهزة الأمنية ؛ ولم يتحدث عن سياسة متبعة أو محددة للتنظيم بشأن توقي مثل هذه الأمور الطارئة . لكنه في حديثه عن أماكن الاحتجاز تطرق لبعض المقار المؤقتة مثل فيلا عين شمس؛ وسجن مصر؛ والسجن الحربي؛ ومقر الهايكستب.. وكذا المقار الدائمة والمستحدثة مثل سجن أوردي أبو زعبل ، والفيوم ، وبنى سويف ، وأسيوط ، والطور ، والواحات.

كما كان مُقلّا في الحديث عن كفاءة أعضاء الحزب على كشف الرقابة وكسرها أو تجنبها أو تدريب المناضلين على ذلك وعلي كيفية مواجهة التحقيقات. لكنه أشار مجرد إشارة إلي أنهم لم يكونوا بارعين فى الأمان .. وفي وقت لاحق وعقب خروجه من السجن ذكر أنه أصبح جيدا في مسألة الأمان . وأنهم كانوا يلتقون في مقاهى قريبة من العتبة التى كان له محل بها.

وحدة شكلية تفتقر لركائز متينة:

وفي أعقاب حبسة 1954 كانت هناك محادثات بشأن الوحدة بين بعض التنظيمات الشيوعية حيث تمت واحدة منها عام 1955 بين حدتو وعدد من المنظمات الصغيرة أسفرت عن تنظيم " الموحّد " ، وفي عام 1956 أفرج عن المعتقلين بعد مؤتمر باندونج الذى – وعلى ما يبدو- كان لبعض أحداثه وما دار فيه تأثير علي قرار الإفراج المشار إليه. وكان من نتائج الإفراج تحسن الأجواء السياسية نسبيا:

•مما دفع حركة الضباط الأحرار – عن طريق صلاح سالم أحد قادتها- لدعوة
الشيوعيين فى مصر للتعاون مع شيوعيى السودان بشأن علاج المشكلات المعلقة بين الدولتين لكن ذلك المسعى لم يحقق النتائج المرجوة.

•أيضا تغير موقف" الموحد " من السلطة الحاكمة وصار الرأى: " أن لابد لنا
من دخول تنظيم السلطة السياسى " ( الاتحاد القومى) .

•كما أسفرت الحوارات- التى قام بها حدتو- عن التوحد مع تنظيم الراية ( ليصبحا معا ) " المتحد".

•ثم تجدد الحوار مرة أخرى - بين المتحد- و ( تنظيم العمال والفلاحين) وتم الاتفاق علي الوحدة تحت اسم " الحزب الشيوعى المصرى " و أبرمت في 1958.

بؤرة الخلاف .. أم لافتته..؟

لكن وبعد إبرام الوحدة بين مصر وسوريا عام ( 1958) بثلاثة أشهر اشتعل الصراع داخل الحزب الجديد مرة أخرى وأسفر عن اتجاهين أحدهما يمثله الموحّد أى حدتو، والآخر ضم (الراية .. والعمال والفلاحين) وكانت بؤرة الخلاف أو بمعنى أدق لافتته متمثلة في موضوعين الوحدة مع سوريا ؛ وثورة العراق.

•بشأن وحدة مصر وسوريا : كان الموحّد (حدتو) معها لكن ببعض التحفظات ، بينما عارضها الراية والعمال والفلاحين.

•بشأن ثورة العراق: فقد أيدها الراية والعمال والفلاحين، أما (الموحد) فاتخذ موقفا وسطيا ( لا تأييد مطلق ولا رفض مطلق ).


وقد أسفر الخلاف عن فصل أحمد الرفاعى وكمال عبد الحليم اللذيْن حاولا جرّ شحاتة النشار للخروج لكنه رفض.. ولأن تأثيره علي أعضاء النطاق الذى كان يقوده ( جنوب القاهرة ) كان قويا .. لم يستجب لدعوة الخروج مع المفصولين سوى عضو واحد فقط.

مبارزة بين سيف وبندقية :

وتناول النشار موجات متتالية من المطاردات الأمنية الاستثنائية لكل التنظيمات بدءا من نهايات أربعينات القرن العشرين وحتى منتصف الستينات عصفت بكثير من جهود وأرواح الرفاق وأوقفت تصاعد مدهم وتطورهم .. وتؤكد في البدء شيئا واحدا هو شمول الاستبداد كل اركان المجتمع.

وحيث أن ذلك بات معطى معروفا.. وجب البحث في تفاصيل ذلك (العصف بالحريات والأرواح والنشاط) عن الجانب المقابل وهو كيف كان الرفاق المنظمون يكافحون ذلك العسف البربرى وكيف استعدت التنظيمات الشيوعية - علي اختلاف أحجامها وأسمائها وتشخيصاتها لطبيعة النظام الحاكم الجديد - وخططها فى مقاومته..؟

لقد كانت إجراءات التوقيف والمطاردة والحصار والخنق فعالة ومؤثرة في عرقلة الكفاح الوطنى والاجتماعى؛ بل وصارت معطى واضحا ومعروفا للكافة ؛ وانتشرت أخبارها خارج حدود الوطن والإقليم - رغم أنها لم توقفه ؛ لذا بات من المنطقى الإمساك باستحكامات الدفاع المقابلة لنتعرف علي موازين القوى بين الفريقين ولا نكتفي بتشبيه الصراع الدائر بمباراة بين سيف وبندقية.

وهنا يروى النشار أنه فى هجمة 1954 تم توقيف اللجنة المركزية بكامل عددها وأعقبه بعد شهور توقيف بديلها أيضا ؛ ولم يبق خارج أسوار المعتقلات سوى كمال عبد الحليم .. لا لكفاءة منه ولكن لكونه اتخذ موقفا مغايرا لمواقف تنظيمه .

وامتد ذلك حتى هجمة 1959 حينما اعترض (عبد الحليم) علي إصدار منشور يدين الهجمة الأمنية علي التنظيمات الشيوعيةعام 59 وطالب (بوقف طباعته وتوزيعه) ؛ ولذا طالت سمعته السياسية والأمنية مآخذ شديدة من بعض رفاقه المقربين.. فتجنبوه.

عن الالتزام الحزبى.. والانصياع للمبدأ الأعلى :

الكفاح الحزبى الفعال يتحقق بفعل التزام الأعضاء بمبادئ الحزب وبروح التعليمات والمواقف الصادرة من القيادة العليا للحزب ؛ ويتبدد بتأثير الإخلال به.

تماما مثل كفّ اليد؛ إذا ما استجاب لروح التعليمات العصبية.. تحوّلت الأصابع لقبضة متماسكة أوجعت من يتلقاها وربما أوقعته أرضا ؛ بينما لوتجاهلت التعليماتِ أو تغافلت عنها .. لبقيت مجرد أصابع ممدودة.. كل إصبع منها في اتجاه .. وربما أصابت صاحبها إذا ما حاول تسديدها في هذه الحالة لخصمه أو عدوه.

والالتزام الحزبى يفترق عن الطاعة ، لأن الطاعة بطبيعتها عمياء - حتى من الناحية اللفظية فهى تأتى من التطويع - ولو فتحَتْ عينيها لأبصرتْ.. ولم تَعد طاعة . أما الالتزام فهوالاستجابة الواعية التى يساهم فيها العقل الواعى لتلك التعليمات ..هذا من ناحية. ومن ناحية أخرى فالالتزام الحزبى في التنظيمات الاشتراكية ليس قاصراعلي التعليمات والقرارات الحزبية بل يتضمن قبل ذلك.. المبادئ التى يُبنى عليها التنظيم مثل الالتزام ببديهيات العمل السرى مثلا ( كالفصل بين النشاط السرى والعلنى ، وبين المستويات الحزبية وبعضها وبين الأنطقة الجغرافية إلخ).

ومن ضمن تلك المبادئ مسلمات فكرية تسمى المبادئ العليا - الأشبه بالمبادئ فوق الدستورية عند كتابة مواد الدستور- مثل عدم التخلى عن العرين الحزبى بأى شكل – أى رفض حل الحزب - تحت أى شروط أو اعتبارات أو مسميات.. وهو نفس الفارق القائم بين التنظيمات الاشتراكية والجماعات الدينية .. حيث الالتزام ليس قرين الطاعة بل نقيضها، إذن فلو تحوّل الالتزام لطاعة لتحول الحزب لعصابة.. تتلقى الأوامر - أيا كانت - وتنفذها.

ونستدعى من تاريخ الحركة اليسارية في خمسينات القرن الماضى واقعة إيجابية هامة تبرز رفض العم شحاته لترك الحزب إثر دعوة اثنين من قادته له بذلك بعد فصلهما هما أحمد الرفاعى ؛ وكمال عبد الحليم.. بل وحثه لأعضاء النطاق الذى يقوده - جنوب القاهرة –بعدم الانصياع لتلك الدعوة والبقاء داخل الحزب و نجح فيه.. وكان محقا.

وواقعتين أخريين معاكستين تتمثل إحداهما في الصمت عن محاكمة وإعدام ( العاملين خميس والبقرى) ؛ والأخرى.. في غض البصرعن اتخاذ موقف عملى من إلغاء دستور 1923 وحل جميع الأحزاب عام 1953 واستثناء جماعة الإخوان المسلمين من ذلك.

لقد كان من الضرورى آنذاك إصدار قرار حزبى في الحالتين يدين محاكمة وإعدام عاملىْ كفر الدوار ، وإلغاء الدستور وتوابعه. وفي نفس الوقت أن تتحول" الزمزأة " التى تحدث عنها العم شحاتة - وعمت أرجاء الحزب وأعضاءه في تلك الفترة لمدة 6 أشهر - إلي رفض صريح ومطالبة القيادة الحزبية برد مناسب لذلك العدوان؛ والتراجع بالتالى عن تأييد حركة ضباط يوليو التى تنتزع من الشعب حرياته ومن الأحزاب أمضى أسلحتها وهو ما كان يحفظ لأعضاء التنظيم تماسكهم وقوتهم.. ويدعم ثقتهم في قيادتهم واستمراريتهم .

رهان ناجح لأسير أعزل .. في مغامرة محسوبة وجسارة استثنائية:

بعدها يستعيد النشار من ذاكرته الفوتوغرافية مشهدين لايمكن نسيانهما.. الأول :إبان رحلة قطار ترحيل الموقوفين لمعتقل الواحات وتوقفه بعد قنا في محطة اسمها المواصلة حيث يجرى استبدال القطار بآخر متجه للواحات يقطعها في حوال 16 ساعة
وحتى لايختلط المعتقلون بالمدنيين عند محطة الاستبدال يتوقف القطار قبلها بـ250 مترا ليقطعها المعتقلون سيراعلي أقدامهم. ونظرا لأنهم مقيدون في مجموعات تضم الواحدة (32 فردا) بالسلاسل وليسوا فرادى ولايوجد رصيف يصلهم بالأرض ، ولأن الحراس رفضوا فك قيودهم قبل النزول من القطار خوفا من هروبهم ؛ حيث استغرقت مماحكاتهم في ذلك الأمرعشر دقائق.. بعدها اضطر أربعة منهم للقفز بسلاسلهم من القطار إلي الأرض أوّلهم شحاتة النشار؛ بينما بقيتهم مازالت مقيدة في سلاسلها بالقطار. وفجأة تحرك القطار وبتزايد سرعته فإن الأربعة الذين قفزوا تعرضوا للسحل علي أطراف فلنكات الخط الحديدى وأصيبوا بالسحجات والكدمات والرضوض والتمزقات والجروح والكسور جراء احتكاكهم بالأرض والسلاسل والقضبان ولم ينقذهم سوى طلقة رصاص في الهواء مجهولة المصدر توقف بعدها القطار ليستقبل سيارات الاسعاف لنقل المصابين وإسعافهم.

ويفصحُ ذلك الحادث عما تشكله أرواح المعتقلين وسلامتهم من قيمة ووزن لدى السلطة الجديدة، وهوتعبير بليغ عما ينتظرهم من مصير في قادم الأيام إن لم يوقفوا كفاحهم . والثاني:هو إصرار شحاتة النشار على القيام بدور شاهد الإثبات الوحيد علي اغتيال الشهيد " شهدى عطية الشافعى" مع سبق الإصرار وليس بطريق الخطأ..رغم وجود عشرات المعتقلين في نفس المكان ساعة التنفيذ ؛ لكنهم "كانوا في طابور ذنب " وجوههم للحائط وظهورهم لموقع القتل.

وحيث كان الأربعة الذين تولوا عملية الاغتيال .. مابين مُصدِر للأمر ؛ ومنفذ له ؛ مع اثنين من المساعدين هم يونس مرعى الحارس المصاحب لرحلة القطار أعلاه وجندى آخر يدعى مرجان.

وحيث تطوع للإدلاء بشهادته أمام النيابة العامة ، كانت أقواله وتفسيراته لها وتبريراته مثارإعجاب المحقق الذى تفننن في ترتيب واختيار الأسئلة وتهيئة وإعداد مسرح الجريمة بكل التفاصيل الممكنة ليتيقن من صوابِ معرفة الشاهد بتفاصيل الواقعة وصدقِ أقوالِه .

كان شاهدُ الإثبات الوحيد قد استجمع كل طاقته وتركيزه واستنتاجاته وعصارة ذهنه في لحظتين..

الأولى: سماعه لمأمور المعتقل - مُصدِر الأوامر- حسن منير وهو يقول (الواد ده..إقلبوه علي ضهره ؛ واضربوه علي بطنه) وما أعقبه من سماعه لضربات متتالية.

والثانية: سماعه لارتطام شئ ثقيل بالأرض.. ثم لحوار بين المأمور وأحد مساعديه يقول فيه : إديله حقنة كورامين ؛ فيرد المساعد : إديته حقنتين .. ومفيش فايدة.

ولأن وجهَه كان نحو الحائط وظهرَه لمكان التنفيذ كانت أداته للتعرف علي أدوار رباعى التنفيذ هي آذانه التى سجلت كل حرف سمعه ومَنْ هو مَصدره ، وهو ما يسّر له تمييز صوت المأمورعن صوت من قام بالضرب ( عبد اللطيف رشدي )، وفرّق بين صوت يونس مرعى جندى الحراسة على قطار الترحيل عن صوت الجندى مرجان.. فحاسة السمع تشير إلي ملامح الشخص صاحب الصوت.

وللتأكيد .. خلط المحقق المتهمين الأربعة في مجموعة أخرى من الأشخاص ضمن طابور عرض .. ليتعرف عليهم الشاهد مرة أخرى من خلال أشكال وجوههم .

وقبل مغادرة الشاهد حجرة النيابة أخطرَ المحققَ .. أنه قد يتعرض للقتل مثل شهدى ولذا يُحمّل النيابة مسئولية حياته.

لقد قدّر النشار حسبته كالآتى : " حياتى .. مقابل أن نثبت للعالم - بربرية عدونا الطبقى في استباحة دم شهيدنا- حتى لو كان ذلك - بوسائل عدونا القانونية المتاحة لنا في معتقلاته ؛ وربما نثبتها وننجو".

وكان وصوله لذلك القرار وتلك المعادلة الدليلَ الأنصع علي ذكائه وجسارته .
لذا قام المحقق بتسجيل العبارة التالية بمحضر التحقيق: أنا أتحمل مسئولية بقائك هنا ووقع عليه .. وأفاده به.

وخرج شاهد الإثبات الوحيد من التحقيق في قضية اغتيال شهدى عطية منتصب القامة مرفوع الرأس رغم أنه أسيرٌ أعزل لا يملك إلا عزيمته وعقيدته وسط أعداء برابرة مسلحين.وقد قام كل من اسماعيل صبرى وصبحى صليب بإضافة أقوال أخري.

بعدها اختلف الوضع في المعتقل وتحسنت المعاملة وفُتِح الكانتين.. وتوقف هتاف الصباح : [ تحيا الجمهورية العربية المتحدة ، وعاش جمال عبد الناصر .)

ثم بدأ ترحيل مجموعة حدتو لسجن القناطر فى اليوم التالى.

المبدعون ..صناعُ الحياة :

هذا وتعرض النشار لتجربة المعتقلين بالواحات في إيجاد حياة حقيقية واجتماعية فريدة أساسها العمل والعمال والإنتاج .

بدأت التجربة من مراحيض المعتقل لكي تبرهن عمليا علي الحكمة الاشتراكية المعروفة " كيف نحوّل شيئا سيئا إلى شئ حسن " ، وبلغة الشارع ( كيف نصنع من الفسيخ شربات).

حيث نزحوا فضلات المراحيض بالجرادل؛ وخلطوها برمل الصحراء في مساحة ثلاثة أو أربعة أفدنة ( أى12/ 17 ألف متر مربع )؛ واستزرعوها بكل أنواع الخضر المتاحة.. وتحول بذلك محيط المعتقل من اللون الأصفر إلى الأخضر.. وارتسمت الابتسامة علي الوجوه وعلت النكات وصدحت القهقهات في الهواء ، خصوصا بعد أن احمرت الخدود بعد اصفرارها ، وامتلأت الأمعاء بعد خوائها والتوائها ، وبعد إنشاء مسرح والقيام بعروض فنية ، وترويج الكتب واسترجاع عادة القراءة ، وتولى عدد من الأطباء معالجة وإسعاف الحالات المرضية الطارئة أو النصح بنقلها للمستشفيات .. إلخ، وبناء مسجد للمعتقل أطلقوا عليه " مسجد حدتو".

فلسفة النشاط السياسى وغايته :

ولأن النشاط السياسى في كل أركان الأرض عمل جماعى ؛ شأنه شأن كثير من أنشطة المجتمع الإنسانى المختلفة.. الرياضية والفنية والإنتاجية وغيرها (مثل فريق الكرة ، والاوركسترا الموسيقى ، والفرقة المسرحية ، ومجموعة العمال في المصنع ، أو الفلاحين في الحقل، وأعضاء التنظيم السياسى. ) ، يلعب فيه الفرد دورا خاصا ..( ماديا أو إبداعيا أو معنويا ) ؛ ليشكل مع بقية الأدوار المتجاورة إنجازا نوعيا متفردا . ويبرز الشكل النهائى الرائع للجهود الإنسانية المتضافرة .

لذا تتوارى الأدوار الفردية مستحية وخجولة .. ولا تبدو بكامل بهائها وزادها ورونقها ولا تفصح عن مدلولها وغايتها إلا بعد اكتمالها، فتتجلّى أمام العيون نسيجا بديعا رائعا أو تشكيلا أو صورة خلابة تثير المشاعر ؛ أو نغما شجيا يُطرب الآذان ويُبهج الأفئدة ؛ أو ثمرة شهية المذاق تُضفى النضارة والتورّد على الوجوه. أو آلة أومصنوعة تدخر للإنسان جهده وطاقته وتوفر له وقته.
ومن جماع تلك الأدوار والأنشطة تتشكل الحياة ؛ وتتحقق الذوات؛ وتتعارف وتتقارب وتتآلف النفوس أو تندمج وتتوحد ..وتُعبّرعن غاية وفلسفة الوجود الإنسانى .

وكان مناضلنا الراحل يعيش تلك الحالة، ويمارس ذلك الدور، وفي وجدانه ومخيلته تلك الصورة ..دون تفاصيل كثيرة ؛ وبلا فلسفة أو ادعاء أو تنظير. فكان محطّ إعجاب رفاقه وموطن حب جيرانه وجمهوره .

خاتمة مؤلمة .. ونهاية مفتوحة:

حيث برز في معتقل الواحات اتجاهان..

أحدهما: يرى إمكانية التعاون مع السلطة الجديدة ، باعتبارها سلطة وطنية. وهذا الاتجاه كان يرى أن الحبسة لن تطول وسيتم الإفراج عن المعتقلين فى غضون عام. باختصار كان عندهم أمل في السلطة الموجودة. وصدرت عدة تقارير أحدها بعنوان (المجموعة الاشتراكية) وآخر بعنوان (وحدة العمل مع الحكومة) وهو ما كان يعني حل الحزب والاندماج في الحكومة.

أما الثانى : فيرى أن السلطة الراهنة سلطة ديكتاتورية وأن الاعتقال سيمتد لفترة طويلة ..وأن من الضرورى مقاومتها .

ونظرا لوصول هذه الأخبار لوزارة الداخلية فقد توجه حسن المصيلحى رئيس المباحث العامة إلى الشيوعيين في السجون والمعتقلات خصوصا أعضاء " ح .د. ت. و " أو (الحركة الديمقراطية للتحرر الوطنى ) وبدأ فى الحوار مع كل منهم علي انفراد بشأن التخلي عن الحزب والتعاون مع الحكومة ودخول تنظيم السلطة السياسى (الاتحاد القومى) مع مطالبته بكتابة استنكار للشيوعية. وقد تكرر ذلك مع عديد من المعتقلين أكثر من مرة.

وحين اطمأن لمعرفة ردود الفعل وأحصاها ؛ أدى المصيلحى التمام لقادته للإفراج عن المعتقلين بتهمة النشاط الشيوعى؛ علي أن يتم استكمال حصارهم في صفوف الاتحاد القومى حتى يكفوا تماما عن النشاط السياسى وليس فقط عن الشيوعية.

لكن الأمر برمته ليس في يد المصيلحى والدولة ، فهناك المئات من الأعضاء والكوادر غير راضين عن الغرق فى مستنقع السلطة والاتحاد القومى والتخلي عن عرينهم ، وهم علي استعداد لمعاودة الكرّة واستئناف النشاط شرط أن يجرى سد الثغرات وترميم الجسور وتقويم أوجه القصور. ولايمكن الاعتماد علي أن القادة أو معظمهم قرروا المغادرة والتخلى..فهم بحسابات الإحصاء أقلية أمام أغلبية ينبئها حسّها بأن قرارالتخلى عن الحزب المستقل ليس صائبا ولا أحد يملكه ولا كل القيادة حتى بإجماعها.

فقرار تأسيس الحزب قاطرة تسيرفي اتجاه واحد لا أحد يملك الرجوع عنه ولا إعادته للخلف لأنه لم يعد ملك مؤسسيه بل صار ميراث شعب بأكمله.

والحق الوحيد الذى يملكه هؤلاء هو مغادرة التنظيم دون الحديث عن المصير الذى ينتظره.

خاتمة:

النشاط السياسي والنقابى حق للمواطنين جميعا في كل مجتمعات الأرض وخصوصا فى المجتمعات التى أقر ووقع ممثلوها السياسيون على مواثيق وعهود حقوق الإنسان الصادرة عن منظمة الأمم المتحدة ومنها الإعلان العالمى لحقوق الإنسان الصادر عام 1948.

•وفي ذلك الزمن الذى جرت فيه أحداث هذا الكفاح وشارك فيه العم شحاته النشار: لم تكن الدولة المصرية قد وقّعت بعد على ذلك الإعلان مما جعل المواجهة بالغة الوحشية.. ودون حدود للتوقّف وبلا كروت صفراء.

•لكن مؤتمر باندونج لدول عدم الانحياز الذى عقد في إندونيسيا عام 1955 وحضرته مصر هو مَنْ أثار تجاوزات السلطات المصرية مع التنظيمات الاشتراكية فى المعتقلات.

•من جانب آخر فإن الفكر الاشتراكى العلمي الذى وصل مصر إبان الثورة
الاشتراكية في روسيا عام 1917 كان عن طريق مترجمين فابيين لا يملكون ناصية الأفكار الاشتراكية الراديكالية.. مما أدى لخطأ تشخيص السلطة الجديدة.


•كما كان يفتقربشدة إلي أدبيات التنظيم وهو ما انعكس واضحا علي تشكيل التنظيمات فى مصر؛ خصوصا ما يتعلق منها بتحصين التنظيمات السرية من التواجد في مرمى نيران الأنظمة الحاكمة ..بل ويتوجب أن تتخذ أشكالا مموهة وكذا مصادر تمويل آمنة ليتسنى للتنظيمات إيجاد مقار سرية تقى أعضاءها شر الضربات الأمنية وتوفر لهم مصادر دائمة للإعاشة.. وخصوصا للأسر التى
فقدت عائلها نهائيا أو بشكل مؤقت.


• ومن هنا لا نستغرب تعرّضَ تلك التنظيمات لتوقيف كامل لجنتها المركزية وبديلتها في بحر شهور معدودة، ولا ننزعج من قول الرفيق شحاتة عن ضعف التقاليد والاستحكامات الأمنية لدى أعضاء تنظيم حدتو، ولا حديثه عن عقد الاجتماعات السرية علي مقاهى أحياء يستأجر بعض المجتمعين فيها مقرات أعمالهم وتجارتهم.. أو يكونون من الشخصيات مألوفة الوجوه في تلك المناطق.

•كذلك ولأن المناضلين يجب أن يتحلوا بالأخلاق الاشتراكية ويتمسكوا بالقيم الإنسانية النبيلة في علاقاتهم ببعضهم وبالجمهور فلا يجب أيضا- وفى نفس الوقت- أن يخلطوا العلاقات الشخصية بالمواقف السياسية بمعنى أن يتم التفريق بين تحبيذ الرفاق لبعضهم في علاقاتهم الاجتماعية والشخصية وبين الموافقة علي آرائهم السياسية المعيبة مثل تأييد حل التنظيم الذى ينتمون إليه ، أو الدخول في تنظيم السلطة السياسى( الاتحاد القومى) أو المشاركة في الحكم مع سلطة تم تشخيصها بأنها" ديكتاتورية وربما تكون على صلة بالإمبريالية الأمريكية ".. وتقتل المناضلين من حزبهم (مثل فريد حداد وشهدى عطية الشافعى.) وتستبعدهم من مسئوليات الحكم.. (مثل يوسف صديق وخالد محيي الدين. اعضاء مجلس قيادة حركة ضباط يوليو 52 )


•ولأن العمل السياسى يقوم على أسس علمية.. ودراسة دقيقة للمجتمع وليس علي اجتهادات شخصية وجب على المناضلين السعى لامتلاك أسس تلك العلوم والتغلغل في ثنايا مجتعها لاكتساب الخبرة ودراسة تفاصيله ودقائقه.

•ولأن العلوم تتطور وتتفرع لزم متابعة الجديد فيها بشكل دائم لكى لا يسبقهم عدوهم إليها وتصبح يده هى العليا.. فضلا عن أهمية تحصيل جملة الخبرات العملية في بناء التنظيمات السرية والتزود بقواعد العمل السرى والاستحكامات الأمنية المطلوبة.


•لقد كان نشاط الاشتراكيين المصريين في أربعينات وخمسينات القرن الماضى نضالا زاخرا بالتفانى والإخلاص وعشق الوطن لكوكبة من صناع الحياة لكن دفّته الموجهة كانت تفتقرلامتلاك أركان العلم الاشتراكى.. وكثير من أدبيات العمل التنظيمى.. كما تفتقد التطابق بين التقديرات السياسية والمواقف العملية .. فى ظل ميزان مختل للقوى السياسية والاجتماعية .. ومبارزة غير متكافئة بين سيف وبندقية.

•لذلك فلا غرابة في أن يتضمن الحديث الدائر فى صفوف أبناء ذلك الجيل
المناضل مطلبا مُلحّا في مثل هذه الدراسات بتخصيص فصل مستقل عن تأثير
النضال السياسى على الأوضاع الإجتماعية والاقتصادية لأسر المناضلين .

•لأن ذلك يعنى أن هذا الجيل المناضل الذى عانى من المطاردة والتوقيف والتعذيب ؛ والحصار والخنق وقطع الأرزاق؛ والفصل من العمل ومن الدراسة ومن التشويه والتنكيل لم ( يُفنى) عمرَه ويبذل عرَقه بمفرده ؛ بل إن جيلا كاملا آخر من أبنائه وبناته تكبدوا ثمنا أفدح متمثلا في الحرمان من آبائهم ومن رعايتهم واهتمامهم ؛ ومن خوف ممتد من مصير غير معلوم الأفق والملامح.. نتيجة غياب الآباء خلف أسوار المعتقلات لسنوات واسألوا بقايا الأسر التى دمرها غيابُ عائلها أو فقدُه بسبب سجنه أو فصله من عمله أو اغتياله.

•وللحقيقة فإن آثار ذلك القهر والتجبّرعلي جيل الأبناء أشدُ وأقسى منه علي جيل الآباء ..علي الأقل لأن الأبناء لم يختاروا ذلك.. فقط عوقبوا دون جريرة.


•ومع ذلك ؛ ومع الاعتراف بأن مردود كفاح هذه الحزمة من التنظيمات اليسارية لم يتناسب مع حجم الجهود المبذولة والدماء المسفوحة والمعاناة المرّة في ميدان الصراع ، لا لشئ إلا لأن ذلك الصراع لم يكن متكافئا بأى معيار، وفيه افتقد أحد طرفيه عددا من أدواته وأسلحته الفعالة.. بينما الطرف الآخرالذى- اتسم بسلوك وحشى- امتلك كل الأسلحة وأتيحت له كلُ الخيارات.

•لكن ؛ ورغم تسليم البعض من هؤلاء المكافحين بمنطق الطرف الأقوى والرضوخ له.. فقد كان البعض الآخر- ممن لم يملكوا سلاح ( أو صلاحية ) اتخاذ القرار ولم يوافقوا علي التسليم والرضوخ - نماذج رائعة للتفانى والرفض والمقاومة ؛ وخرجوا من المعركة منتصبى القامة ورؤوسهم عالية رغم أن كثيرا من المعارك التى خاضوها كانت علي أرض العدو.. وداخل ثكناته.


لقد كان الراحل الهمام في كل لحظاته.. في الكفاح، والزواج ، فى العمل، ورعاية الأبناء وصحبة الرفاق ..يسير ممشوقا كالغصن.. وكان: منتصب القامة يمشى، مرفوع الهامة يمشى، في كفّه قصفةُ زيتون ، وعلي كتفه نعشُه..
له العرفان والتقدير ، ولرفاقه وأبنائه الاعتزاز برفيقهم وأبيهم .. والافتخار بالذكرى.. فتلك هى الحالة الوحيدة التى يزهو فيها الإنسان بنسبه.

الثلاثاء 12 سبتمبر 2023



#بشير_صقر (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- أفكار عن التنظيم
- الاستخدام الرجعي لحق التنظيم .. فى بلدان العالم الثالث
- سطور من تقارير فلاحية منذ الثورة
- ذكرى يوم الفلاح المصرى- 30 إبريل
- تفجر جديد للنزاع القضائى بين فلاحى (كمشيش وميت شهالة) .. وور ...
- النهضة الصناعية الغربية تفتح الطريق واسعا ليوم القيامة
- خواطر من أيام الثورة .. من الدفاتر القديمة
- وأخيرا.. تقرير خبير قضائى ينصف فلاحى الإصلاح الزراعى بالبحير ...
- الدولة تختطف مؤتمر الكاتدرائية للتضامن مع الانتفاضة (9) .. م ...
- الدعوم وإلام ترمز ومن تسلمها وعلي من جرى توزيعها من الفلسطين ...
- لجنة رعاية جرحي انتفاضة عام2000 المعالجين في مصر(7) تجاوزت ح ...
- عن الاستجابات الجماهيرية لدعم الأشقاء في فلسطين(6) النساء دا ...
- تنويعات من الدعم السياسى والفنى والرياضى المصرى والعربى والد ...
- القافلة السادسة ( المجمعة ) لدعم الشعب الفلسطينى .. تتحدث عن ...
- تأسيس اللجنة الشعبية للتضامن مع الانتفاضة الفلسطينية عام 200 ...
- الإرهاصات الأولى لدعم الشعب الفلسطينى فى ريف مصرومدنها الإقل ...
- رسالة للجنة مناصرة الشعب الفلسطينى/ مصر
- مشاهد لا تُنسي من ذاكرة اللجنة الشعبية لدعم انتفاضة الأقصى ع ...
- متى وكيف تم تنفيذ قانون الإصلاح الزراعي فى مصر..؟!
- بلاغ للنائب العام بمصر بشأن اراضى الإصلاح الزراعي بمحافظة ال ...


المزيد.....




- أعضاء يساريون في مجلس الشيوخ الأمريكي يفشلون في وقف صفقة بيع ...
- شولتس أم بيستوريوس ـ من سيكون مرشح -الاشتراكي- للمستشارية؟
- الأكراد يواصلون التظاهر في ألمانيا للمطالبة بالإفراج عن أوجل ...
- العدد 580 من جريدة النهج الديمقراطي
- الجبهة المغربية ضد قانوني الإضراب والتقاعد تُعلِن استعدادها ...
- روسيا تعيد دفن رفات أكثر من 700 ضحية قتلوا في معسكر اعتقال ن ...
- بيان المكتب السياسي لحزب النهج الديمقراطي العمالي
- بلاغ صحفي حول الاجتماع الدوري للمكتب السياسي لحزب التقدم وال ...
- لحظة القبض على مواطن ألماني متورط بتفجير محطة غاز في كالينين ...
- الأمن الروسي يعتقل مواطنا ألمانيا قام بتفجير محطة لتوزيع الغ ...


المزيد.....

- سلام عادل- سيرة مناضل - الجزء الاول / ثمينة ناجي يوسف & نزار خالد
- سلام عادل -سیرة مناضل- / ثمینة یوسف
- سلام عادل- سيرة مناضل / ثمينة ناجي يوسف
- قناديل مندائية / فائز الحيدر
- قناديل شيوعية عراقية / الجزءالثاني / خالد حسين سلطان
- الحرب الأهلية الإسبانية والمصير الغامض للمتطوعين الفلسطينيين ... / نعيم ناصر
- حياة شرارة الثائرة الصامتة / خالد حسين سلطان
- ملف صور الشهداء الجزء الاول 250 صورة لشهداء الحركة اليساري ... / خالد حسين سلطان
- قناديل شيوعية عراقية / الجزء الاول / خالد حسين سلطان
- نظرات حول مفهوم مابعد الامبريالية - هارى ماكدوف / سعيد العليمى


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - الشهداء والمضحين من اجل التحرر والاشتراكية - بشير صقر - العم شحاتة النشار.. نموذج مصرى مشرق للنضال السياسى والنقابى يطيل العمر والعنق ولا ينساه التاريخ