أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - نعيم إيليا - دوَّامةُ النّهرِ الكبير 12















المزيد.....



دوَّامةُ النّهرِ الكبير 12


نعيم إيليا

الحوار المتمدن-العدد: 8066 - 2024 / 8 / 11 - 15:50
المحور: الادب والفن
    


2- حكاية آرام. الحكاية القاتلة

شعوري بأني حرّ، أثمل وجداني.
انتهت خدمتي الإلزامية في لواء المشاة. خدمتي امتدت، طالت حتى شارفت على أربعة أعوام، وحتى خلت أنها لن تنتهي. ولأن القولَ المعروف: نهايةُ كل شيء بدايةٌ لشيء آخر، يتضمن حقيقةً صادقة من الحقائق المطلقة المجرَّبة البديهية التي لا تتحقق في الكون بما هو كلٌّ فحسب، بل تتحقق أيضاً في حياة كل فرد منا؛ لأننا جزء من الكون أي من الكل. وما يكون في الكل وللكل، يكون بالضرورة في الجزء وللجزء.
على هذا؛ أي باعتبار هذه الحقيقة البديهية المجربة المطلقة، وأيضاً باعتبار أني فرد من الأفراد المنضوين تحت لواء الجماعة التي تشملها هذه الحقيقة؛ لا بد أن تبدأ في حياتي بانتهاء خدمتي الإلزامية مرحلةٌ جديدة.. طفرةٌ نوعية سريعة نحو مستقبل أرجو أن تخفق في ساحته راية النجاح. هكذا هو الأمر، هكذا كان، وهكذا ينبغي أن يكون على الدوام: بداية تحتّمها نهاية، أو نهاية تحتم أن تليها بداية.
ولا جديد تحت الشمس.
كان هذا الخاطرُ، أوّلَ ما جال في ذهني من الخواطر. كان أوّلَ ما اعتمل فيه، وأنا أسلّم عتادي العسكري للمساعد الأول أبي نضال علي دَيُّوب في خيمة شؤون الكتيبة المنصوبة، والأدق، المحفورة كسائر خيم كتيبتنا تحت الأرض. ولم يغفّلني شيءٌ عن أن أمدّ له يدي خلسة بحُلوان التسريح دون أن أنتظر منه كلمة شكر. الجنود المتطوعون في الجيش يدفعهم الفقر إلى التطوع، وهم يعيلون أسرهم كثيرة العدد براتب لا يكاد يمسك أرماقهم.
في جيبي كانت ترقد مائتان وخمسون ليرة مستدفئة به وفيه. أعطيته الخمسين وأبقيت لنفسي المائتين نفقة ليومين، على الأكثر، خطَّطت لأن أعيشهما عيشة سائح مبذّر في الشام قبل عروجي منها إلى حمص لقضاء عدة أيام قد تمتد إلى أسبوع أو اثنين لدى أخوالي في زيدل ومنها إلى حلب. أخوالي سيفرحون، كنت واثقاً من أنهم سيفرحون، ولا سيما خالتي فيوليت، بنبأ التسريح الذي سأحمله إليهم معي. خالتي فيوليت مشهورة في زيدل بصنع حلاوة الجبن، وهي لا تصنعها إلا في المناسبات السعيدة. ورغم أني لست من المغرمين بأكل حلاوة الجبن، فإني سأتناولها بلذة مثلما هي حالي عندما أتناول البقلاوة الحلبية. إن حلاوة الجبن مصنوعةً بيد خالتي فيوليت التي لا ريب في أنها ستصنعها لي بمناسبة التسريح، سيكون لها مذاق شهي طيب لن أستطيع، ولو حاولت، أن أدفعه بعيداً عن حاسة التذوق لدي، عن لساني. سوف ألتهمُ حلاوتها التهاماً، لا لإرضائها وبس، وإنما أيضاً لإرضاء شعور داخلي في نفسي يزعني عن جحود فضلها. يدُ خالتي المباركة الندية إذ تصنع لي جميلاً في يوم جميل من حياتي منعشٍ كالرذاذ في يوم حار، تستأهل أن أعبر لها عن امتناني بأسلوب كهذا.
في حمص سأمكث لدى أخوالي أسبوعين. سأستمتع بصحبة سَمَر ابنة خالتي فيوليت، سأستمتع (بسهرياتها) التي يجتمع فيها عند المساء صبايا وشبان من أصدقائها للتسامر واللهوِ الحلو البريء، مع أن سمر تزعجني أحياناً حين تذكّرني بحكايتي مع (لميا) بأسلوب لا يخلو من الغمز واللمز. وتزعجني، لكن بأقل مما سبق، حين تلح علي بوجوب أن أبحث ( لفظ البحث عن فتاة لدى سمر بدلاً من لفظ انتقاء فتاة تشاركني حياتي، له دلالة لا تخفى عمن يعرف ميول سمر المتشبّعة من أفكار الحركة النسوية الثورية العالمية المطالبة بالمساواة المطلقة بين الرجل والمرأة ) عن فتاة تمحو كل آثارها من خريطة قلبي المجعدة المخرومة بحثَ النصف المحتاج إلى نصفه الآخر. في إحدى المرات دفعها الفضول إلى أن تعرف إن كنت التقيت بها في الشام مصادفة أو بخطة بحث مني عنها مدروسة. نفيت نفياً قاطعاً أن أكون فكرت مجرد تفكير بالبحث عنها – وكنت صادقاً - لكنها لم يبد في عينيها أثر واحد من آثار التصديق، قالت والشك يترقرق فيهما: „ العم ادمون صيدلي. والصيادلة يعرفون جميع الأطباء في مدينتهم. وكذلك زوجة عمك المنغمسة في حبها الحياةَ الاجتماعية، فإنها لا بد أن تكون لها صلات واسعة وطيدة بنساء الأطباء والصيادلة.
سمر تخرجت من الجامعة، صارت مهندسة بحجم فكرة جميلة لفيلسوف من عصر التنوير. توظفت في شركة حكومية بإدارة عسكرية. وقد أشهد حفل زواجها، فهي منذ أشهر تتهيأ للزواج من خطيبها جريس الشامي طبيب أمراض العيون المتخرج من جامعة بخارست. خطيبها جريس بعد تخرجه من كلية الطب ورجوعه إلى حمص افتتح عيادة في بلدته (صَدَد) لم يخدم في الجيش؛ لأنه وحيد والديه. لكن سمر كرهت أن يقيم في صدد فتخسر وظيفتها في الشركة إذ تتبعه حيث يقيم زوجها بعد زواجها. فما زالت به تضغط عليه بذكائها، تحاصره بدهائها، حتى استسلم لمشيئتها. فنقل عيادته من بلدته صدد إلى حي الحميدية في حمص المدينة.
ومما لا شك فيه أنني سأستمتع بصحبة (طوني) ابن خالي عازار أيضاً، طوني يقاربني في السن يكبرني بعام واحد، أمسى ضابطاً صغيراً في الجمارك. حلمه مذ كان تلميذاً في المرحلة الإعدادية أن يصبح ضابطاً في الجمارك " ليقتل" الفقر الذي اضطهده طويلاً، وكاد يشوّه فطرته، ويسمم مجاري حياته الصافية. تحقق حلمه. وها هو اليوم كالنحلة يطوف جنائن رغباته وشهواته وقد دبت فيها الحياة فأخصبت فأزهرت بعد نجاحه في دفن الفقر الذي كان أقحطها في حوش الدار، دار خالي عازار الآيلة للسقوط، والتي قد وعد أمه أن يرممها قريباً. طوني من هواة الصيد. يصيد في البراري، وفي نهر العاصي، وفي البحر على شواطئ طرطوس. أما أنا فأمقت إلى حد الاشتباك مع الصائدين باللسان لا باليد، لست ممن يستخدم يده في الخصومات. أمقت الصيد حتى لو كان صيد حيوان من الوحوش الكاسرة التي تفترس الإنسان، أو كان جرذاً يرعب النساء. أندد به على مسمع من طوني، أفضحه كما يفضح العدل جريمة عار. ولهذا السبب لن يجرؤ طوني علىى أن يغريني برحلة صيد بري أو بحري أو نهري. لكن لطوني متعةً أخرى هي (الكاس والطاس) في الملاهي الليلية حيث ينتشر عبير فتنة الغانيات، حيث تسطع غوايتهن، ويتاح فيها للزبن الظامئين أن يعبّوا من ألفاظهن الصريحة وأغنياتهن الخليعة نشوةً تعبق بأرواحهم طويلاً. أنا أشرب الخمر لا أزهد فيها، ولا " أدنسها ". ألا رحمةُ الله عليك رحمة أوسعَ من الجنة التي كنت تؤمن بها حسبما وردت أوصافها في القرآن، وتصلي لربك للارتقاء إليها أيا صديقنا رفيقَ سلاحنا علوان الديري! ما كان أرخم صوتك! صوتك الرخيم كان ينزح الهموم والمتاعب والتوتر والمخاوف من قلوبنا. ما كان أعذبه وأنت تغني لنا وقت أن يضع جهدُ النهار عن أكتافنا أحماله في العُصُر الهادئة، بيتَ الشاعر:
"قد أشرب الخمر لكن لا أدنسها………. وأقرب الإثم لكن لست أرتكب"
وعندما تسترسل في غناء ما أبدع في إنشاده وغنائه فلتةُ زمانه ناظم الغزالي. إني لأعتذر إليك عما بدر مني نحوك.. أعتذر لك عن مناصرتي لراسم أبو شقرا في نقده لعقيدتك أكثر من مرة حينما كنتما تتجادلان فيها مجادلة العقلاء لا مجادلة السفهاء. ما كان في وسعي إلا أن أناصره في كل مرة. منطق راسم كان أسدَّ من منطقك، وحججه أكثرَ إقناعاً من حججك.
ومع الكأس أطرب للموسيقى والغناء، وتهتز أعطافي لرقص الغانيات كما يهتز غصن مورق نحيل حين تلثمه شفة النسيم، لكني لا أباشر الغانيات مباشرة حقيقية على فراش اللذة المباحة، لا لأنني أبغض العِهر. العهرُ تأتيه غانية بإرادة حرة منها هوايةً أو تكسباً، لا يبغُض في قلبي. لا أحتقر مهنة العهر كما يحتقرها الآخرون بحجة أنها تهدم العفة، وتجلب الأمراض، وتستنزف الجيوب. لا أخشى عواقب مباشرة اللواتي يمارسنها. فأي ضرر لي من مباشرتهن، ما دمتُ قادراً على حماية نفسي من الأمراض الجنسية المتناقلة؟ وأي ضرر لها هي أيضاً من مباشرة الرجال، ما دامت قادرة مثلي على حماية نفسها من الأمراض الجنسية؟
خلدون فنصة واحد من هؤلاء الآخرين، يعارض موقفي من العهر، ومعي خالد صفية، يطرح علينا سؤالاً فظاً حين تضيق به الحجج وسُبُل الدفاع دفاعاً منطقياً عن موقفه هو من العهر: أيٌّ منكما يرضى لأخته أو لابنة عمه أو لابنة خاله أن تبيع جسدها في سوق الدعارة؟
فيجيب خالد عن سؤال الفظ بقليل من المبالاة واللفظ: "كل عامل يبيع قوته المتمثلة في جسده لصاحب عمله". وأجيب أنا ولكن بإسهاب محاولاً أن أقنعه بأن من يؤمن إيماناً صادقاً بحقوق الإنسان، لا يجوز له أن يستثني حقّ المرأة منها في بيع جسدها لمن تشاء. أنا بالطبع لا أحب لأختي - لو كان لي أخت – أو لابنة عمي أو لابنة خالي أن تمتهن إحداهن هذه المهنة؛ لأنها مهنة شاقة كثيرة المتاعب، ولأنها مرذولة منبوذة من مجتمعنا، إنها مهنة سيئة الصيت باختصار. غير أني لن أتبرّأ من أختي، لو أن أختي شاءت بمحض إرادتها أن تمتهنها للتكسب أو لغير التكسب.
الأخلاق في بيئتنا الاجتماعية تفرض أحكامها ومعاييرها السائدة على العهر، بالرغم من أن العهر بذاته ليس خلقاً منها، وهذا الفرض الرغيم أبعد ما يكون عن العدل والإنصاف. لو خيرتني الفضيلةُ، بمفهومها العتيق المتداول، بين العهر والنميمة أيهما الشر وأيهما الخير، لاخترت الخير في العهر، والشرّ في النميمة.
لكني كنت كلما جالست غانية، وهدر الجائع الذي بين فخذيَّ إلى صارخ فتنتها، تبدّت لي ( لميا ) في خيالي بثوب أسود مطرز بلهيب من الغضب، فتبوخ رغبتي المتأججة في الحال، كما تبوخ العاصفة الشديدة، وتهدأ هدوءاً بعد هياج، فتظنني الغانية عنيناً عاجزاً عن الجماع. لكنها لا تهزأ بي؛ لأنني أنفحها بأكثر مما تتوقعه من شاب في مثل حالي.
أنا لا أملّ المكث في حمص لدى أخوالي. فأما الشام فلا أطيق المكث فيها أكثر من ليلتين اثنتين. وجود عمي إدمون فيها مع ابنتيه كارلا وتغريد وابنيه بشّار ومتري – وهم جميعاً أصغر سناً مني بأعوام - لم يستطع أن يحبّب المدينة إلى قلبي.
ما كنت أنزل الشام، مدةَ خدمتي في الجيش، إلا لحاجة من حاجاتي الضرورية كالاستحمام مثلاً، بسبب كرهي لهذه المدينة، ولكرهي سبب. كان أمراً فوق طاقتي أن أقضي في هذه المدينة أكثر من ليلتين. لم يشفع لها عندي أنها واحدة من أقدم مدن العالم، وأنها كانت – ولعلها لم تزل _ حاضرة أسلافي الآراميين. وكنت إذا نزلتها لا أبيت في فندق ولا عند صديق. أبيت عند عمي إدمون في داره بحي باب توما، وهي دار ذات طابقين، قديمةٌ – لم يكن جددها بعد - تفوح منها نكهة التاريخ، واسعة، كثيرة الحجرات.
عمي كان سيغتاظ أشد الغيظ عليّ، لو كنت اخترت أن أبيت في غير داره. وأن أغيظ عَمَّاً لي يحدب عليَّ كما يحدب علي أبي، ويزوِّدني بما أحتاج إليه وقت الضيق، فأمرٌ فيه إساءة معنوية بليغة الجَرْح، لا تطاوعني نفسي على ارتكابها.
ويكاد يكون مستغنياً عن التلويح به – ومع ذلك فإني ملوّحٌ به كأني ما ليَ عنه من معدى - أنّ ما يجول في الخاطر، ويعتمل في النفس من ظلال هذا الجائل المرتعشة برقة حيناً والمصطخبة بعنف حيناً آخر؛ لا محالة أن يكون وراء حدوثه في النفس سببٌ، وإلا كان حدوثه بلا سبب.
فإن قيل: قد لا يخلو من أن يحدث ما يحدث في النفس بلا سبب محدد، فإنَّ هذا القيل عند التحرّي، لن يكون له في تركيبه المنطقي هذا، معنى يضاد أو يخالف القول بالحدوث عن سبب محدد؛ لأنَّ (اللاسبب) إن كان دفع إلى حدوثه في النفس، كان سبباً حقيقياً في حدوثه.
فلا حجة إذاً لمن يزعم أن حدوث أحداث بلا سبب، ينقض الرأي في حدوث الأشياء بأسباب ضرورية حتمية قاهرة، ما دام (اللاسبب) بذاته دافعاً، ولو شكلاً، للحدوث أو سبباً في الحدوث. إننا لا نفتأ نكرر القول في السبب والنتيجة، كما نكرره في غير هذه المقولة.. نجتره كالأنعام من جيل إلى جيل، من عصر إلى عصر بلا كلل ولا سأم. نجترُّه اجتراراً، نكرره تكريراً مستداماً بلا نهاية! كأنما هو في طبيعتنا - نحن البشرَ - أن نكرر، أن نجترَّ أفكارنا، آراءنا، أقوالنا، أمثالنا.. أن نعيدَ إنتاجها في كل عصر من غير أن نضيف إليها جديداً يعتد به.. جديداً يميزها عما كانت عليه فيما سبق من الأعصر. ولا يُغتر بما قد يحدث لها من تغير طفيف خلال مسيرة الزمن، فإن هذا التغير الطفيف، إن ينلها، لا ينلها بتغير حقيقي صريح ملحوظ. إنه، إن يقع عليها، يقع على صيغتها اللغوية، على شكلها اللفظي المخطوط بالحبر أو المنطوق به باللسان، الظاهرِ للعين وللأذن، ولا يقع على جوهرِها المدرَك بالذهن المغشّى بهذه الصيغة أو بهذا الشكل.
كذا، فكما نكرر ونعيد أفعالنا ووظائفنا البيولوجية من طعام، وشراب، ونكاح، ونوم، واستيقاظ الخ، نكرر أفكارنا وأقوالنا وأمثالنا. وفي الرد على المعترض على هذه الحقيقة يُلقى السؤال: فإن لم يكن الحالُ - حالُ المقولات - كذلك، فما التغير الذي يمكن أن يقال عليه إنه أصاب مقولة السبب والنتيجة، وغيرَها مما شاكلها من هذه المقولات، مذ تناولها الإنسان بالنظر والتحقيق، من بداية التاريخ حتى يومنا هذا؟ هل جرى لها تغيّرٌ يذكر؟ أين يتجلى هذا التغير المتوهَّم أنه قد جرى لها؟
ولعل جولان ما كان قد جال في خاطري، واعتمالَ ما كان اعتمل منه في نفسي أن يكون حدث بدافع رغبةٍ، كانت مطوية مكبوتة مستترة في أعماقي مدة خدمتي الطويلة ألا وهي الرغبةُ في الانتقام مصطبغاً بالتحدي. ليس ثمة، في تقديري، ما هو أصدق من هذا الاحتمال.
إن احتمال أن يكون الدافع إلى نشوء هذه الرغبة في نفسي، هو الانتقام المنصهر على وقيد التحدي، أصدقُ من احتمال أن يكون التعويضُ هو الدافع في نشوئها في نفسي
(فكرة التعويض هذه إنما خطرت لي في بادئ الأمر، لكني سرعان ما نفيتها وجاوزتها إلى الرغبة في الانتقام المنصهر بالتحدي) لأن التعويض يكون حيث تكون الخسارة. وأنا في الواقع لم أخسر شيئاً يستدعي التعويض بالمعنى الحقيقي المدلولِ عليه بكلمة التعويض. فسنوات خدمتي في الجيش التي سلّها الدهر من رُزنامة عمري ومزّقها ثم رمى بمزقها في سلة الأفعال الماضية، كانت مع ذلك مفيدة لي: أفادتني خبرةً بالحياة، أفادتني معرفةً بأحوال الناس على تنوّع بيئاتهم ومشاربهم ونزعاتهم ومستوياتهم الاجتماعية (والناس أخيافٌ يقول المثل) ومؤهلاتهم العقلية، أطلعتني على أشياء كانت مجهولة مني مستخفية عني، أتاحت لي فرصة أن أحدّق ثلاث مرات في بؤبؤ الموت الرهيب حتى سقط الخوف من الموت من قلبي كما تسقط الغشاوة عن عينٍ عالجها جراح بارع بنجاح، أكسبتني رجولة صلبة ولياقة بدنية عالية، رمَّمت ما انقاضَّ من نفسي بزلزال ذلك الاكتئاب العنيف المدمر، أفترت حدة لوعتي من حبي الأول حبِّ لميا وإن لم تطفئه، اقتلعت من صدري شوكة ندمي الواخز المحبط على كثير من الأخطاء التي ارتكبتها فيما مضى ولا سيما عزوفي عن تحصيل الشهادات الجامعية العليا في مجال تخصصي بتأثير الاكتئاب؛ واكتفائي منها بإجازة فقيرة في آداب اللغة الفرنسية، طاعناً آمال أبي وعمي وسمر ابنة خالتي طعناً شديد الإيلام، ومخيباً لآمال بعض أساتذتي فيّ.
كنت راغباً في الانتقام. راغباً في التحدي. بيد أني لم أكن راغباً في الانتقام من بشر آذاني، ولا راغباً في تحدي بشر بيني وبينه منافسة وتحاسد. كلا ! كنت راغباً في الانتقام من صرامة النظام، راغباً في تحدي كل شكل من أشكال هذا النظام الطاغي الباغي على حريتي الخاصة، على حريتي الشخصية، على حريتي الفردية، على حرية هذا الشاب الذي ستشويه الخبرةُ بنارها شيّاً حتى يتزن سمته، وتصقل ملكاته، وينضج عقله، والذي سيصير أنا، أنا جورج الحلبي سميَّ القديس جاورجيوس قاتل التنين.
ألا ما ألذَّ الانتقام ! ما ألذّ التحدي ! ما ألذهما معاً ! فإنهما معاً السبب النبيل في اتقاد رغبتي اللذيذة تلك. لست أملك إلى اليوم سبباً آخر سواهما يفسر لي اتقاد تلك الرغبة اللذيذة بين جوانحي، ولن أملك سواهما من الأسباب في القادم من أيامي، مهما أسعَ في تقرِّي الأسباب.
بالانتقام، بالتحدي، سأصنع بداية لحياة جديدة تنبض بالجمال، وتكتنز بأسمى مفردات الخير. سأصنع بدايةً لحياة كنت منذ رَدَحٍ أتحرق - ولكن في الخفاء - شوقاً إلى أن أحياها... أن أحياها خالية كلَّ الخلو من الضوابط، من الأوامر، من القيود، من الفرائض، من النواهي والزواجر التي قد عانيتُ قسوتَها، وأُطعمت مرارتها في أربع السنوات التي خلت.
أيُّ حياة هي حياتي، إن لم تخلُ منها؟ أي حياة هي حياتي مكبلةً بأغلالها؟
أحياة هي جديرة حقاً بأن تُعاش، إن لم تخلُ منها؟
إطلاقاً !
إذن فلأحيَ، وإذن فسأحيا. ولن أحيا كيفما اتفق. سأحيا حياة ملؤها المعنى.. سأحيا بوعي يقظ، بمشيئة ذاتية طليقة. سأحيا... أثمة ما هو أجمل وأكثر خصباً من أن يحيا الإنسان حراً بوعي يقظ لا ينسدل له هدبٌ على عين لا في الصباح ولا في المساء؟ أثمة ما هو أجمل وأكثر خصباً من أن يحيا الإنسان بمشيئة ذاتية سارحة طليقة في فسيح أمدائها، فسيحِ مراعيها، فسيحِ فضاءاتها الملونة بفاتح زرقة تخلد إلى وَطِيء مرقده الأبصار؟ أبداً، ولن أكترث البتة بحقيقة أنني أحيا داخل مجتمع يسوسه طغيان أهوج لا حكمة له، ولا حسن تدبير. فلي من الفطنة والحيلة ومن الدهاء البارع والمراوغة الثعلبية ما يقيني من ضرب رأسي بصخرته الصماء.
سأحيا، سأحاول أن أحيا بكل ما يتدفق في شراييني من طاقات روحية… بمشيئةٍ لا تخضع لمشيئة أخرى غير مشيئتي، بمشيئةٍ لا تذِلُّ لسلطة مشيئة خارجية عليا، ولو كانت مشيئة الله.
لا أخاف الله كما أخاف البشر. الله موصوف بالرحمة، وأكثر البشر لا يرحم، الله موصوف بالعقل، والعاقل لا يُخاف منه، وإنما يخاف من الأحمق الجاهل. سأتمرد على مشيئة الله جهراً، علانيةً دون خوف ولا ورع تمرُّدَ أبطال الأساطير، إن شاءت مشيئة الله أن تستلب مني حريتي. ما أعظم التمرد على مشيئة الله إن ظلمت! إنَّ المرء ليشرف حينئذ بالتمرد، ويصير عظيماً. ولا بد أن يبارك الله مَن يتمرد على ظلمه، إن كان الله عاقلاً حقاً.
بهذا مضيت أهجس داخل صدري، أهجس بمشيئة الله. وأنا أهجس بها أطلت عليّ من كوّةٍ في خيالي صورة صديقي راسم أبو شقرا وعلامات الاستهجان مما أهجس به تلطخ ملامحها. خيالي ما كان له أن يشطَّ عن الواقع وهو يتخيل راسماً بهذه الصورة الملطخة بالاستهجان، حال أن وقف علمُه على ما هجست به نفسي عن مشيئة الله. في خيالي المطابق للواقع ظهر راسمٌ وهو ينتفض معترضاً مجرى ما هجست به عن مشيئة الله، ساخراً بي سخرية لاذعة مرة بأسلوبه الناعم.
لا ينبغي في اعتقاد راسم أن تكون لله، سواء أكان الله فكرة من اختلاق الذهن، أو كان ذاتاً حية لها وجود واقعي فيما وراء الطبيعة، أو وجود داخل الطبيعة – مشيئةٌ؛ لأن المشيئة عنده مسيّرة بعلة. فأن يشاء الله أن يهلك قوماً كما فعل ذلك في توراة النبي موسى، فإنه لن يشاء أن يفعل ذلك إلا بعلة اقتضت أن يفعل ذلك؛ فتكون العلة بهذا هي التي قادته إلى أن يفعل.. تكون العلة هي التي سيّرته، دفعته، فرضت ذاتها على مشيئته (بعد أعوام سأقرأ كتاباً يؤرخ للفلسفة اليونانية القديمة، وسأجد هذا الرأي لدى واحد من حكمائها العظام) فصار الله عندئذ كالإنسان ضعيفاً تلهو به العلل والأسباب.
إن افتراض المشيئة لله يعاند المنطق الذي يقول بثقة مفرطة إنَّ الله فوق كل شيء. إذ كيف يكون الله فوق كل شيء، والعلل من فوقه، ومن خارج ذاته، أو من داخل ذاته، تحركه وتسيره حيثما تبغي وتشاء؟
تناقض قبيح !
كان راسم الذي أعرفه جيداً، سيحكم - ولا ريب - بهذا الحكم القاطع الباتر كالسيف على ما كانت هجست به نفسي عن مشيئة الله. وأنا ما كنت سأعارض حكمه عليه بهذا التناقض القبيح؛ لأن عقلي مثلُ عقله لا يسيغ التناقضَ بأي شكل من الأشكال صيغ هذا التناقض، وبأي لون من الألوان اصطبغ.
فإذا كان عقلي لا يسيغ من كاتب أديب أن يخلق ذهنُه شخصيةً لرواية من رواياته فيصفَها بأنها تتمتع بقدرة جسدية متينة كحديد صلب، أو جلمود صخر، تمكّنه من حمل أكثر من تسعين كيلوغراماً بيسر دون عناء، وذلك في فصلها الأول. فإذا انتقل الكاتب إلى الفصل الثاني من روايته فاجأ القارئ برسم صورة مغايرة لبطل روايته من حيث إنه قادر على حمل ثقل بزنة تسعين كيلوغراماً.. فاجأه بتصوير بطله في موقف عجيب محيّر فيه يُطلب منه على وجه من وجوه المروءة – وما كان مضى على بطله من العمر إذ ظهر في الفصل الأول بتلك الصفة إلا ستةُ أشهر، ولا ظهر عليه خلال هذه المدة عجزٌ من مرض جسماني أو نفساني يبرّر ضعف قدرته - أن يحمل لامرأة عجوز مسكينة وحيدة على ظهره كيساً قمحاً دقيقاً وزنه خمسون كيلوغراماً ليضعه في بيت مونتها. لكن البطل لا يخطو خمس خطوات، والكيس على ظهره، حتى ينوء بحمله ويسقطَ على ركبتيه من شدة الجهد.
كيف لعقلي، وهو لا يسيغ هذا التناقض لدى أديب قد همد قلمه فجأة في تصوير بطله في فصل من روايته، أن يسيغ التناقض في تصوير الله حين يُصوَّر اللهُ بأنه لا تسيّره الأحداث أو العلل، ثم تضاف إلى صورته بنحوٍ فجّ غيرِ مستمرَأ هذه المشيئةُ التي تسيرها الأحداث والعلل؟!
لكني لم أنفق زمناً طويلاً فيما هجست به نفسي عن مشيئة الله. تملّصت من الهجس بليونة وعدت إلى ما هو أروى منه لغليلي – وفي ذاكرتي تنثال نُتَفٌ، أصداء، مقطّعات، مواقف من سيرة صديقتنا المتمردة الغاضبة على الأصفاد الاجتماعية الناقمة منها دنيا أحمد الناشد، وبين أضلعي قبس من روحها المتوقدة – عدت إلى حديث الحرية، إلى حريتي التي قد طال ظمئي إليها، عدت إلى حديث المشيئة.. مشيئتي أن أحيا حراً بلا قيود.
الحرية!
وما الحرية؟ ما هي إن لم تكنِ الوعي اليقظ، والمشيئة الذاتية الطليقة؟
وما المشيئة؟ ما هي إن لم تكن أن أشاء لنفسي ما أشاء لها أنا، لا ما تشاء لها مشيئة أخرى مفارقة لها؟ كأن أنام وقتما أشاء أن أنام في حجرة لا يشاركني النوم فيها أحد، كأن أرتدي من الأزياء ما يوافق ذوقي لا ما أرغم على ارتدائه من الأزياء. كأن آكل ما أشتهي لا أن أرغم على أكل ما لا أشتهي. كأن أقرأ ما أحب أن أقرأ، لا ما يحب لي الآخرون أن أقرأ. كأن أتريض حينما أرغب في التريض في ساعة أختارها أنا للتريض لا في ساعة يحددها لي الآخرون...
كنت أبتعد عن معسكر كتيبتي بخطى حثيثة جذلى، وحدي، منفرداً كنت أبتعد عنها، لا يرافقني من كتيبتي عنصر واحد منها؛ إذ كنت المتسرّح الوحيد منها، حتى صديقي راسم أبو شقرا لم يرافقني، وقد كان راغباً في مرافقتي حتى الطريق العام؛ لأنه في ذلك اليوم كان مكلَّفاً بواجب تدريب جنود الفصيلة الأولى الأغرار من السرية الثانية من كتيبتنا على السلاح الخفيف: فكِّه، وتركيبه، وصيانته.
كتيبتي كانت انسحبت من الخطوط الأمامية لتستريح، إلى أجل غير مسمى، من وَعَث المناوشات مع عدو لم نره إلا في الصحف ووسائل الإعلام الأخرى، مع عدو لم أقتنع إلى اليوم بجدوى محاربته.. عدوٍّ كنت أتساءل، وما فتئت أتساءل وأنا أقف بفكري وتاملاتي إزاءه: لماذا نحاربه؟ لأجل أي شيء؟ ماذا نجني من محاربته؟ أتساءل: أليست مصادقته ومسالمته، أجدى لنا وخيراً من معاداته ومحاربته؟
ومع أني لا أتفق مع عمي إدمون في كل شيء. فأنا – مثلاً - لا أوافقه الرأي في الحرب. الحرب عند عمي لا خير فيها على الإطلاق، ويمكن تجنبها فلا تحدث أبداً. إنها في خياله واعتقاده ورم سرطاني خبيث في جسد الإنسانية لا يعجز الجراحون عن استئصاله فيبرأ منه الجسد ( وهو رأي آرام أيضاً الذي سأصادقه بعد مرور حوالي عامين على تسريحي من الجيش في مدينة القامشلي التي ستكلّفني وزارة التربية بتدريس اللغة الفرنسية في مدارسها مباشرة عقب نجاحي في مسابقة انتقاء المدرسين ) لأني ما زلت معتقداً بخلاف عمي وآرام أن للحرب فوائدَ. أفلم يكن من نتائج حملة نابوليون على مصر العثور على حجر الرشيد مفتاح مغاليق اللغة الهيروغليفية؟ بلى، ومَن مِنَ المؤرخين العقلاء يستطيع أن ينكر الفوائد التي جنتها الحضارةُ الإنسانية من الحروب الصليبية؟ من منهم ينكر ما جنته الحضارة الإنسانية من غزو الأوربيين للقارة الأمريكية؟ أوَيستطيع جيولوجي أن يزعم أن البراكين لا فائدة منها؟ والحروب كالبراكين ضارة نافعة.
وما زلت معتقداً أيضاً بأنَّ الحرب فضلاً عن فوائدها لا يمكن تجنبها أو استئصالها من جسد الإنسانية فيبرأ جسدها؛ لا لأن الحرب - كما هي في المنطق - ضديد السلم وأنها ملازمة لضديدها ملازمةَ الشر للخير وحسب؛ بل لأنها في الواقع - والواقع قد يبعد قليلاً عن المنطق ولغته - تجسيدٌ أو تفعيل لغريزة فينا هي حبُّ التملك. فما دامت الحرب كذلك؛ أي تجسيداً وتلبيةً لنداء غريزة فينا، فكيف في الإمكان أن نستأصلها؟
إننا إن استطعنا أن نستأصل الغرائز، استطعنا استئصال غريزة حب التملك من شفرتنا الجينية؟ ولكن هل لنا من القدرة ما يمكّننا من أن نستأصل غريزةً أيَّ غريزة من شفرتنا الجينية؟
ربما… ربما يكون في قدرة العلماء المتخصصين بالهندسة الوراثية أن يفعلوا ذلك، أن يصنعوا إنساناً جديداً لا يحب التملك، مختلفاً عنا اختلاف الهوموسابين عن النياندرتال. غير أن البشر الذين هم نحن، ما دامت غريزة حب التملك فيهم، فسيظلون يحتربون فيما بينهم إلى أن يحين وقت انقراضهم فينقرضون كما انقرض النياندرتال وغيره من السلالات التي سبقتنا، ليفسحوا مجال الحياة لإنسان جديد معدَّلةٍ صفاتُه الوراثية ليس يعرف من الحرب شيئاً ولا حتى اسمها.
والحرب فضلاً عن ذلك هي لازم من لوازم النزعة الوطنية – القومية، وهي نزعة ليس لدينا دليل على أنها يمكن أن يخمد أوارها يوماً، اللهم إلا إذا تعرض البشر في كوكبنا، على ما يتخيل بعض علماء الفضاء ومؤلفو الروايات العلمية الخيالية، إلى هجوم من كائنات عاقلة تبغي إفناءهم وامتلاكَ كوكبهم، فهم حينئذ سيكونون مرغمين دفعاً للفناء عنهم على أن يتحدوا ويزيلوا الحدود التي تفصل بينهم فصلاً جغرافياً والتي توقد بينهم جزْلَ الخصومات والحروب.
عمي إدمون تضحكه فكرة الهجوم الخيالية هذه. يستخف بها، وله في ذلك حجة: إن كائنات عاقلة تصل إلى الأرض من المجرات البعيدة عنا بعداً مذهلاً، لن يكون في سعيها إلينا أو في برنامجها المعد أن تهلكنا. لن تهلكنا هذه الكائنات؛ لأنها تمتلك عقلاً متطوراً. والعقل المتطور من المحال – في نظر عمي - أن يقدم على إفناء كائنات حيّة من بشر وحيوان ونبات.
في نظر عمي: العقول الضعيفة الشريرة هي التي تقدم على اجتراح مثل هذا الجرم الفظيع الشنيع الذي لا يصح أن يُغتفر حتى في لغة مسيحنا يسوع. فأما عقولنا نحن البشر فعقول ضعيفة؛ ولهذا السبب فإنها لا تتورع عن إبادة كائنات تحيا على الأرض من حيوان ونبات، كما لا تتورع عن إبادة بشر إخوة لنا من وطن آخر، من ثقافة مختلفة، من عقيدة مختلفة، من لون مختلف،
العقل في منطق عمي هو مقياس كل خير وشر. فإذا سألته: ألم يكن هتلر أو خالد بن الوليد أو ألكسندر الكبير، أو جنكيزخان، أو نابوليون أو… عقلاء؟ أجاب: كانوا عقلاء في الشر.
وأنا ليس غرضي حين أؤكد حقيقة أن الحرب كالقدر الذي لا مهرب منه، كما هو شأن القدر في عرف أهل القدر، أن الحرب خيرٌ من السلم. الحق أني أحب السلم وأكره الحرب، وأخاف ويلاتها على البشر والحيوان والنبات. والحق أيضاً أني أتمنى أن يأتي يوم يسيطر فيه البشر على غريزة حب التملك سيطرة تامة كما يسيطر النساك على غرائزهم. والحق أيضاً أني أتمنى أن تزال كل الحدود بين الأمم، ليضحي كوكبنا وطناً واحداً لأمة واحدة. إن الأممية خير للبشر من القومية – الوطنية، لا يستريب في صحة هذه الحقيقة حكيمٌ واحد.
وإنما غرضي من ذلك التأسّفُ على أننا - نحن البشر الذين لم يجرِ بعد تعديل على صفاتنا الوراثية - محكومون بقدر أن تكون حياتنا نزاعاً متقلِّباً على الدوام بين حرب وسلم. هذا هو المعنى الذي أغرض إليه، ولا شيء آخر سواه.
بيد أني بالرغم من عدم اتفاقي الكلي مع عمي، لا أجد مبرراً لتخطئته إذ يقول:
" السلطة خلقت لنا عدواً من فكرها القميء كي تحتمي به من نقمة الشعب - وقديماً قد قالت بهذا الحكماءُ فلا جديد - وهي تُنفق في محاربته العبثية أموالاً طائلة لو كانت أُنفقت في التنمية والتنوير لا في الحرب والتجهيل؛ لكانت سوريانا غدت موطناً للرخاء والكرامة والاختراع والاستقرار. السوريون يهاجرون اليوم أفواجاً ( يكرر عمي مقولته العاكسة لمشكلة الهجرة. وتكراره لها قد يفسَّر بأنه تعبير لا عن شدة اهتمامه بمشكلة الهجرة فقط من حيث إنها مشكلة وطنية اجتماعية، بل يُفسَّر أيضاً بأنه تعبير عن توق منه إلى الهجرة مضمرٍ في أعماقه حيث اللاشعور باصطلاح علماء النفس. ولن أبعد عن الحق إلا قليلاً، إن أنا زعمت أن زوجة عمي لو كانت وافقته على أن يهاجر إلى باريس حلمِه، لهاجر إليها قبل كل هؤلاء الذين هاجروا ) لماذا يهاجر السوريون؟ - يتساءل عمي في كل مرة - أليس طلباً للرخاء والكرامة؟…“.
ولن أخطّئ عمي أيضاً إذا ما تنبّأ يوماً بانهيار سوريا عاجلاً أو آجلاً، لكن تنبّؤه لن يكون تعبيراً عن رغبة منه في حدوث الانهيار، كما هو التنبؤ في حقيقته في مثل هذه الأحوال والأمور. سيكون تنبؤه تعبيراً عن خوفه من حدوث الانهيار، هذا هو عمي. أعرفه جيداً كما أعرف راسم أبو شقر الذي سبق أن تنبأ بذلك على مسمع مني. صديقي راسم، لم يتنبأ به على مسمع مني إلا بعد أن وثق بي. راسم حَذِرٌ، شديد الحذر، إنه يشبهني في هذه الخصلة. لم يكن يجرؤ كما لم أكن أنا أجرؤ – ولا زلت وربما هو أيضاً – على التصريح بأفكاره المعارضة المخالفة للمألوف المسيطر على العقول أمام شخص لم يواثقه تمام المواثقة؛ خوفَ أن يشي به إلى جلاوزة السلطة الحاكمة. وما أكثر الواشين في وطني!
ولأن صديقي راسم أبو شقرا كان مولعاً بالسياسة - وأحسبه مولعاً بها إلى اليوم، إلى جانب ولعه بنقد الدين – لم يكن يدع مناسبة واحدة تفلت منه إلا أشبعها خوضاً في شجون السياسة ومهازلها عامة؛ وخوضاً في حال البلد ومصيره على الأخص.
كان مضى على انسحاب كتيبتنا عامٌ ونيّف. كتيبتنا عسكرت بعد الانسحاب في هذا المكان الممتد أمام بصري، والذي هو سهب منخفض أجلح إلا من بعض النباتات الشائكة المتناثرة هنا وهناك مثل شعيرات في رأس أصلعَ عاندت السقوط. إنه سهبٌ جاف بالرغم من أنه ينتصف المسافة بين الشام والسويداء (ويا للغرابة!) يثور في جنباته، وفي سمائه الغبار من أتفه وأضعف مَثار. يثور حتى من خفق نسيم الصَّبا جناحاً له مهيضاً، ويثور حتى في الأشتية الباردة الغائمة، في الأوقات التي تحبس السماء عن السهب قطرها طويلاً.
كان الطريق العامُّ المعبَّد بين الشام والسويداء، وأنا أبتعد عن معسكرنا خفيفاً كجناح فراشة، وجهتي. وكانت غايتي أن أستوقف سيارة أو حافلة تتلقّفني كاللقمة من هذا المكان لتحطني في الشام المدينة.
نشَزٌ على شيء من الارتفاع اعترض خط سيري الحثيث الخفيف البهيج. لم أحِد عن النشز، ربوته برشاقة جندي منتصر، بروح سرت في عطفها نشوة من خمرة في أسمى مراتب الجودة لو قلت فيها: عتَّقها الدهرُ بدنان بابلية، ما غلوت.
وقفت في ذروة النشز هنيهة، وجهي إلى المعسكر. وجعلت أتملّاه قبل أن أنحدر منه إلى الطريق العام. وأنا أتملاه، وعلى حين غرة، أبرق صوت هاتف في نفسي فملأ جوانبها كلها كما يملأ الأسماع دويُّ ريح، وكما يملأ الحجرة ضوء مصباح كهربائي حال أن يضغط المرء على زره:
"هذا آخر عهدك بالمعسكر، أوَ لا تدري؟ "
ولن أنسى أبداً كيف اجتاحني، لحظة أن أبرق الهاتف في نفسي آخذاً إياي على غرة، شعورٌ مترع بالتعجب، تخلَّل لثوان لوحةَ نفسي المكتظَّة بألوانٍ مشعشعة من الجذل والإشراق، كما يتخلَّل الضوء لوحةَ فنان محبَّرة بوشاءٍ من محاسن الطبيعة المستبشرة.
آخر عهدي بالمعسكر ؟!
أووو، يا إلهي، يا ضابط الكل! أحقاً إنه آخر عهدٍ لي به؟ أحقاً إنني لن تكون لي إليه عودة؟ أحقاً… ؟
لكني ما كدت في تلك اللحظة أصدق الهاتف. لم أكد أصدقه.
أصدقه؟!
كيف كان لي أن أصدقه؟ كيف كان لي أن أصدق أن الواجب الوطنيَّ المقدس الثقيل، لن يجبرني بعد اليوم على أن أعود إليه؟
الواجب ثقيل... ثقيل جداً، ولو كان مقدساً. إن الواجب عدوُّ الحرية، وأنا أعشق الحرية. الحرية معشوقتي، الحرية حبيبتي لميا، فليسقط الواجب عن كاهلي، ألا ما أثقله! ليسقط قد قضّ منكبي. وليدع لي أن أحيا كما أشتهي، ليدع لي أن أتمرغ بحواسي السغبى في جواء المتع المتفجرة من ينابيع الحرية التي هي أقدس في اعتقادي من الواجب المقدس.
قبل سويعة كنتُ جزءاً من هذا المعسكر، كنت لبنة في حائط من حيطانه، كنت قطرة في مسيله، خليةً في جسده كنتُ، جسيماً لا يُرى داخل ذرة من ذرّاته كنت، زِرَّاً في ردائه كنت، كنت خيطاً في نسيجه. والآن، ماذا أنا منه؟ ما أنا بالإضافة إليه؟ أأنا بعدُ منه؟
لستُ منه!
أنا الآن بعيد عنه، بعيد منه بعدي عن الإثم المودي بالكرامة. قد انقطع الذي كان بيني وبينه. انقطع.. انقطع بكل يسر وهَون. ولكنْ، هل كان مقدوراً عليه من قبلي أن أصدق في تلك اللحظة انقطاع ما بيني وبينه، كما أصدق بلا مراجعة وتفكير أن الطريق إلى الشام يبدأ من هذه النقطة حيث أقف منتظراً، وأن هذه النقطة لا بد أن تقطعها السيارة التي ستحملني فور أن تقلع منها؟
على أني ، وإن انقطع ما كان بيني وبين المعسكر، لست بقائل: انقطع إلى الأبد، أو انقطع إلى آخر العمر. لا، فمن يدري؟ لعلي أُستَدعى إليه يوماً فيمن يستدعى إليه من جنود الاحتياط، قد... فكرتُ. فإن تحقق هذا، فلن يكون من المحال أن تفرزني القيادة إلى هذا اللواء، إلى هذه الكتيبة، إلى هذه السرية، إلى هذه الفصيلة، إلى هذا السهب الجاف ذي الغبر، إلى هذه الفلاة الحارة الباردة بهوامها القارصة، وأفاعيها السامة، وعقاربها الصفراء ذوات الشَبا المنتصبة كالإبر والمتحفزة للّدغ، وبحشراتها الزاحفة إلى الآذان والأنوف والأفواه المفتوحة وقت النوم، وبقوارضها، وضباعها الجائعة... إلى هذه الفلاة التي قد استمد منها خيالُ الناس حكايات مرعبةً عن الجن والعفاريت... حكاياتٍ ممتعةً وإن كانت مرعبة.
ربما يأتي يوم أتزوج فيه مع أني قد أمسيت زاهداً في الزواج مذ أولتني لميا ظهرها ومضت حيث زيّن لها عقلُها ، لا قلبُها ، أن تمضي. وقد أنجب أطفالاً فأحكيها لهم ولكنْ بتصرفٍ بعد حذف محتوياتها المرعبة. ولن أهمل واجبي التربوي تجاههم. سأفهمهم بعد ذلك أن الجن والعفاريت كائناتٌ لا وجود لها في الواقع... كائناتٌ من صنع الوهم، من صنع خيال الإنسان الضعيف العاجز عن تفسير ظواهر عالمه ومضمراته بأدوات العقل المتمرس.
إن فرزي إلى هذه الكتيبة من لواء المشاة، إلى هذا المكان ذاته، حين أُستدعى فيمن يستدعى إليه من الاحتياطيين، أمرٌ من الأمور التي لا تستعصي على الاحتمال. إنه أمر محتمل جائز، إنه ليس أبعد من احتمال أن يُنقل جندي مريض أو جريح إلى عين المستشفى الذي نقل إليه في مرة سابقة، ومن احتمال أن يحتلَّ هذا المريض عينَ السرير الذي احتله فيه من قبل. هذا ليس محالاً، لقد اتفق أن وقع بحذافيره حرفاً بحرف لعلوان حمد الديري رفيقِنا في السلاح قبل استشهاده المحزن.
نعم، إن أمر انقطاع ما بيني وبين كتيبتي، انقطاعٌ، لكنه لن يكون أبداً كانقطاع الحبل السُّرّي الذي كان يربط الجنين بأمه قبل الولادة.
طرق سمعي هدير سيارة من بعيد، من كوع الطريق الذي من جهة مدينة السويداء. فكان علي أن أسرع كي لا أصل إلى السيارة بعد فوات الأوان. أسرعت فعالجت بصري المتسمّر بالمعسكر بشيء من العنف، اقتلعته كما يقتلع الفلاح من حقله نبتةً برية غريبة. وانحدرت عن النشز، وشرعت، وظهري إلى المعسكر ، في السير قدماً مودعاً إياه، مودعاً حياة لي سابقة محفوفة.
في قلبي كانت احتشدت قبل وبعد أن انحدرتُ من النشز معانيُّ الوداع والذكريات، واختلطت حتى لم أستطع أن أتبين منها معنى واحداً على حقيقته. إني - وإن كنت لم أختبر السجن بعدُ - أستطيع بفضل مطالعتي مؤلفات السجناء واعترافاتهم المثيرة للشفقة، أن أعقد مشابهة بين ما كان احتشد في قلبي آنئذ، وبين تلك المعاني الشعورية التي تحتشد في قلب السجين لحظة خروجه من ظلمة السجن إلى أضواء الحرية.
سألني السائق:
- إلى أين؟
أجبت:
- إلى الشام.
فصاح بي بلهجة آمرة جافة كالسهب، وهو يتهيّأ للإقلاع:
- اصعد.
الحافلة كانت صغيرة، لم تكن ملأى. في المقعد الأمامي جلس رجل متقدم في العمر، وقور، ذو لحية كثّة مسترسلة على صدره رمادية أميل إلى البياض، رأسُه تغطى بكوفية ناصعة البياض متدلية على كتفيه مثبتة فوق رأسه بعقال أسود. وقد أظنه كان مرتدياً (قمبازاً) مما كان شائعاً ارتداؤه في العصر التركي. في المقعد الذي يليه جلس رجلان بين الثلاثين والأربعين حسنا الشكل يرتدي كل منهما طقماً أنيقاً مع ربطة عنق، لهما هيئة الموظفين أو المشتغلين بالتعليم. الوقت كان أواخر أيام الخريف. سماكة قماش طقميهما تتناسب مع درجة حرارة الطقس المنخفضة قليلاً عن معدلاتها. في المقعد الأخير إلى جانب النافذة على يساري، جلست امرأة في حوالي الخمسين، وجهها المجعد العبوس المنقط بالوشم إلى النافذة لا يريم عنها، قدّرت أنها زوج الرجل المتقدم في العمر. وكانت ترتدي الزيَّ التقليدي لأهل الجبل، جبل العرب، جبلِ الريَّان.
عطف الرجل الذي جلست خلفه كتفه وعنقه نحوي، حاول أن ينظر إلي بعينيه لكن عينيه لم تستطيعا الوصول إلي من مقعده الذي أمامي، بصوت غلب هدير السيارة كلّمني الرجل:
- لا يقف في هذا المكان إلا العساكر، ولكن الأخ ليس عسكرياً، هل أنا مخطئ؟
- لست مخطئاً.
- إذن فأنت زائر لأخ أو قريب أو صديق.
- لا…
- لا؟! فما أنت في هذا المكان؟ ماذا يفعل رجل مدني هنا؟
استكرهت فضوله، استكرهت أن يحقق معي رجل غريب لا أعرفه، أجبت ببرود:
- كنت عسكرياً.
- تسرّحتَ؟
- هو ذاك
- مبروك !
وبارك لي الرجل الأنيق الآخر أيضاً، وكان قادراً من مقعده أمام المرأة أن يتفحص وجهي باستطلاع بعينيه الصغيرتين المبطنتين الذكيتين كأعين الصينيين. لكنَّ الرجلين لم يلبثا أن فقدا اهتمامهما بأمري، حال أن أشحت عنهما بوجهي إلى النافذة، ورحت أتأمل شاكلة الطريق من النافذة التي على يميني كالمرأة الخمسينية التي على النافذة الثانية عن يساري، محاولاً خلال تأملي أن أستعيد أفكاري ومشاعري التي هربت مني، ومحاولاً أن أستوضح حقيقة كل فكرة وشعور منها على حدة.
إلا أني سرعان ما ندّمني ضميري على خطأي، خطأي حين أشحت عن الرجلين ظناً مني أن الذي فيهما من الفضول يستهدف التدخل فيما لا يعنيهما من أمري. أعترف أني كثيراً ما كنت أخطئ في فهم بواعث السلوك لدى الآخرين تُجاهي، وأعترف بأن هذه العاهة القلبية ما برحت تصاحبني، لا تحب مفارقتي، حتى وافاني العام الذي سأبدأ أشتغل فيه بالتعليم، العامُ الذي ستتخذ العاهة فيه قرارها الأخير بمفارقتي فراقاً لا أحسب أن ستكون لها إليّ من بعده رجعة.
لم تمضِ سوى دقائق قليلةٍ على إشاحة وجهي عن الرجلين، حتى شرع الرجلان بصوت مرتفع مسموع فيما كان انقطع بينهما من حديث – بدا حدث انقطاع الحديث بينهما واضحاً لي من أول جملة فاهَ بها الرجل الجالس أمامي - فإذا أنا مطمئن في الحال إلى أنهما بريئان مما ظننته فيهما من الفضول المستكره الممجوج. تكشّف لي في الوقت أنهما لم يكونا يقصدان التدخل في ما لا يعنيهما من أمري، وإنما قد ساقهما فضول طبيعي تلقائي إلى التعرف بإنسان غريب، وهو فضول منزَّه قطعاً عن التدخل المذموم المعيب.
كان الرجلان شاعرين من شعراء العامية، من هؤلاء الذين يزودون المغنين والملحنين بالكلمات. وقد حمدت المصادفة على أنها هيّأت لي أن أجالس شاعرين من هذا الضرب في أول سفرة لي بعد التسريح.
إنه فأل حسن!
ولسوف أتوقع لهذه السفرة بما حملت وبما دار فيها من جدال أن يستقر صداها في الموضع الذي اعتادت ذكرياتي المحبة للبقاء أن تستقر فيه من دماغي. ليس في كل يوم أصادف شعراء من هذا الضرب، ولا في كل يوم تسمع أذني أحاديث ترتقي فوق أحاديث الحياة اليومية البليدة الجارية.
صديقي خالد صفية الإدلبي شاعر أيضاً لكنه لا يكتب أشعاره باللغة الدارجة العامية، أشعاره رديئة في الجملة ولا تروق لنا. خالد يكتبها بالفصحى مثل غيره من الشعراء ممن خالطتهم حين كنت طالباً في جامعة حلب.
مال سمعي إلى الرجل الذي يجلس أمامي، وهو يخاطب الآخر ذا العينين الصغيرتين الذكيتين:
- اعذرني يا أخي! أنت تعلم أن لقصائدك في ذائقتي المدربة طعماً سائغاً، لكنّ قصيدتك الأخيرة لم تسغ لي. أرجوك لا تسئِ الظن بي، إنني لا أنتقص من شاعريتك الفذة، معاذ الله أن أفعل ذلك! لكني لا أحسب كما تحسب أنت أن قصيدتك هذه إذا لحنها صاحبنا وغنتها مطربتنا، فستنال إعجاب الناس واستحسانهم. إن قصيدتك هذه فقيرة فقراً (مأساوياً) إلى التلميحات الذكية الفكهة، إلى قيم الجمال الفني والمعنوي القادرة على استمالة أذواق الناس، واللعب بعواطفهم لعباً ماتعاً. قصيدتك يا أخي، ليست في مستوى قصائدك التي نعرفها. هذا حكمي الأخير عليها باختصار.
فسأل الآخر ذو العينين الضيقتين الذكيتين الجالس أمام المرأة الخمسينية من غير أن يتمكن من إخفاء امتعاضه مما بلغ أذنيه من كلام صاحبه في قصيدته رغم ابتسامته الطيبة المتسامحة المفروشة على شفتيه الرقيقتين بسخاء:
- ما الذي نفَّر ذوقك منها؟
- كلُّ شيء فيها قد نفّر ذوقي منها – قالها بحماسة لن تنفشّ نفسُه منها حتى آخر الحديث بينهما - نفَّره منها أنها ليست قصيدة حب غنائية جيدة كما ينبغي أن تكون. إنها أنشودة يا عزيزي، إنها ليست أكثر من أنشودة، وأيّ أنشودة هي؟ أنشودة ساذجة مما تهدهد بها الأمهات أطفالهن الرضّع. وإني لأقولها بأسف، بأسف شديد: كيف هان على شاعريتك الأصيلة السمحة أن تنسج رقعة لفظية مهلهلة كهذه الرقعة. كيف يا عزيزي ؟!
ورأيتُ في الأثناء يدَ الرجل من شطره الأيمن تدخل بانفعال في جيب سترته فتخرج منه ورقة مطوية – سوف أطلب منه بعدئذ أن يسمح لي بنسخها - فلما نشرها، أخذ يقرأ ما فيها بإنشاد رديء، ربما كان تعمد أن يكون رديئاً، قد أظن ذلك:
„ ديما بحبي ولهانِه
كلّ العالم عرفانِه
لما شافتني جوعان
معدوم وجيبي طفران
نطّت من عَ الديوانِه
وقَصْدِتْ ناحْ الدكّانِه
دكانة جارنا السمَّان
عمو بو شوقي سليمان
ولما سرقتلي لرغيف
ومن السحّارة رمّانِه
خبَّر الشرطة عنها
جارنا بو شوقي السمّان
ما مَرْ عَ الشكوى ساعة
إلا وأجوا أخدوها
أجوا أخدوها الشرطة
جرّوها متل البطة
من جنحا اللي ذل وهان
وحطّوها بالزنزانة
صْراصير وبَق وفيران
وهيدي هيي لحكاية
حكاية ديما الحبتني
الكدعه ديما العشقانِه
أحلى بْنيَّات الجيران

فما كاد ينهي إنشاده، حتى عاد يطعن بالقصيدة بتعطش:
- فما هذا يا أخي؟! سرقة، شرطة، زنزانة، صراصير، بق، فيران، رغيف، سحارة، رمان في قصيدة حب غنائية؟ أي حب هو هذا الذي يدفع فتاة إلى أن تسرق طعاماً لحبيبها الجائع العديم؟! أهي تضحية؟ هه، يا لها من تضحية! فتاة تضحي بسمعتها، تسرق كي تطعم حبيبها الجائع؟ ههههه… عهدنا بالحبيب أن يضحي معبراً بالتضحية عن رجولته وعزة نفسه وشهامته. لَكْ يا عمي، حتى الصعلوك المنبوذ يضحي ليرتفع في عين حبيبته، ولا يدع حبيبته تضحي بسمعتها من أجله، فتنحطَّ لديها كرامته، وينشقَّ ثوبُ رجولته.
ردّ صاحب القصيدة، وابتسامته الطيبة رغم امتعاضه الذي لم يستطع أن يحجبه عن بصري، لم تبرح شفتيه:
- نحن في عصر المساواة بين الجنسين أم تراك نسيت. إنك حين تستهجن من شاعر معاصر أن يتغنَّى بالتضحية تأتي من الحبيبة لا من الحبيب، تغمز على المرأة. المرأة اليوم ليست كامرأة الأمس. المرأة ليست جارية بعد، ليست حرمة بالمعنى المتعارف عليه؛ أي معتمدة في كل شيء وشأنٍ من شؤونها على زوجها أو معيلها، أوَتظن (ديما) ليلى العامرية؟ أو بثينةَ جميلٍ العذري القضاعي؟ أو عَزّةَ الشاعر ِكثيّر الخزاعي؟ ديما يا عزيزي، فتاة من جبل الريان تحب حباً صادقاً. نعم، هي فقيرة لا تملك أن تلبي حاجة حبيبها بمال، وليس لديها طعام تطعمه، على الأقل في الوقت الذي جاءها فيه حبيبها، لكنها ابنة الجبل تصرخ النخوة والشهامة في كل ثنية من ثناياها، فهل تقعد فتاة فيها مثل ما فيها من نخوة وشهامة أهل الجبل عن أن تسعف جوعه بلقمة؟ لا يجوز أن يحدث لها هذا، لا.. ستطرق ابنة الجبل باب المستحيل، ستفعل حتى المستقبح فعلُه ولا تدعه يخور من الجوع أمام سمعها وبصرها. وبعد، اسمح لي بالقول: إنك إذا شئت الرمزية من حكايتها هذه، فلن تعجز عن أن تستنبط منها رموزاً ، إيحاءات، دلالات اجتماعية، نفسية.. تستطيع أن تستنبط رموزاً من السجن ، من الجوع والفقر، من السرقة، من وجود الشرطة فيها، وتستطيع أن تفسرها بأدوات من علم النفس شأن الناقدين المتأثرين بعلم النفس والمطبقين بنجاح مكتشفاته على النصوص الأدبية وشخوصها.
- عفواً! أنا لا أحب أن أكون واحداً من هؤلاء النقاد. هؤلاء النقاد يفسدون النصوص الأدبية، يحيلونها عن حقيقتها بإخراجهم إياها عن مسارها. إنهم حين يُشربونها من آرائهم ونظرياتهم وتفسيراتهم ما لم تشرب، يخلقون نصوصاً جديدة مختلفة بعيدة عن النصوص الأصلية التي كانوا يعالجونها بفنهم. إنهم في هذا لا يختلفون عن المتدينين الذين يفسرون آيات كتابهم المقدس تفسيراً بعيداً عن حقيقة هذه الآيات ومقاصدها، فيخلقون بتفسيراتهم هذه ديناً جديداً مختلفاً عن دينهم الأصلي من حيث يدرون، ولا يدرون.
- حسن يا عزيزي، دع القول في التفسير والرمزية، فماذا تقول في قضية المرأة بالطرح الذي طرحته كلماتي؟
- أنت على حق فيما قلته عن المرأة. لن أحاججك في هذا، ومع ذلك أرى أنك حين تصوّر التضحيةَ من الحبيبة المتصفة بالنخوة والشهامة، بمثل هذا الأسلوب الرخيص، بهذا الأسلوب المبتذل – واعذرني - لن يحظى تصويرك لها بالقبول لا من ناقد حِرّيف، ولا من بائع يانصيب أو (بويجي) أمّي يجهل القراءة والكتابة، مع احترامي لبائع اليانصيب والبويجي. وإنما تمثّلت بهما لأنهما ليسا من الذين لهم إلمام بالشعر.
- حسن، تظن أن مثل هذا الأسلوب لن يحظى بالقبول، من أين لك أنه لن يحظى به؟
- أترى الابتذال في القول مما يحظى لدى الناس بالرضى والقبول؟ هل فسدت أذواق الناس إلى هذه الدرجة؟! أعاشقة تسرق رمانة ورغيفَ خبز لحبيبها الجائع المملق الضعيف من دكان سمّان فتدخل السجن حيث الصراصير والبق والفئران، تطرب حكايتها أفئدةَ السامعين؟
ردّ صاحب القصيدة:
- الابتذال مكروه. ولكنْ أيُّ شيء هو الابتذال في (طقطوقة) قد نظمتُها لمغنية صاعدة؟ في طقطوقةٍ لن تغنيها المغنية في مهرجان التراث الموسيقي الرصين، بل في مطعم من مطاعم دمشق أو بيروت؟ هل أذكرك بطقطوقة بشار بن برد، إن حق لنا أن نسميها طقطوقة؟
- ربابةُ ربّةُ البيت؟
- نعم، ألا تذكرها؟
- أذكرها.
- هل بلغك أنّ ناقداً من النقاد في عصر بشار وفي العصور اللاحقة، رماها بحجر الابتذال؟ هل بلغك أن طقطوقته أتاها على مر العصور قدح من أحد؟
- أتاها.
- أتاها؟! ممن؟
- من أبناء عصره. فقد لامه بعضهم ممن ملك الخبرة على هذا الإسفاف في النظم، وأتاها مني أنا أيضاً.
- آسف! خانتني الذاكرة. نعم، لقد لام الشاعرَ لائمون من عصره. بس ما الذي أتاها منك؟
- أتاها أنها طقطوقة - على فكرة أحسنت حين نعتَّها بأنها طقطوقة – لا تكاد تختلف عن طقطوقتك في المسكينة (ديما) من حيث الرداءة والابتذال. ربابة ربة البيت وتصب الخل في الزيت ولها عشر دجاجات وديك حسن الصوت، فأي شيء هو هذا إن لم يكن الابتذال في أوضح صوره؟
- لكن ربابة امرأة من عامة الناس من بسطائهم، حكايتها مشهورة في كتب الأدب. أحب الشاعر أن يداعبها - كذا بلفظ من نظر منهم في حكايتها - بنظمٍ لا يرتفع فوق مستواها. ربابة ليست ملكة ولا أميرة من الأمراء ليقول لها شعراً في مرتبة شامخة من الجودة والإتقان، والنقاد والدارسون يجمعون على هذا الرأي…
عاجله صاحبه بحركة انفعالية نفّذتها يده اليمنى تدعوه إلى السكوت، كما يحدث غالباً في الحوارات المحتدمة، فسكت الشاعر بوداعة وأدب:
- هنا حطّنا الجمّال. لكأنك تستملح أن يهبط الشاعر بأدبه إلى مستوى المرأة البسيطة بدلاً من أن يرفع بأدبه المرأة إلى مستواه؛ أعني أن يرقّي ذوقها. عهدي بك أنك تستقبح شعر شعراء ما يدعى بالواقعية الاشتراكية هؤلاء الذين يهبطون بأدبهم إلى هذا الَحدَر العميق الوعر بحجة مشاكلة الواقع؛ وبحجة أنهم لا يستعلون على أذواق وعلم وثقافة العامة. فما عدا مما بدا؟ تنكر على أدباء الواقعية الاشتراكية هذا الابتذال المودي إلى الانحطاط وخراب الذوق الأدبي الراقي، ثم تمتدح صنيع بشار في ربابة، وهو مثال حي لهذا الانحطاط! ؟
رد شاعر القصيدة:
- نعم، أنا أنكر على شعراء الواقعية الاجتماعية الابتذال والإسفاف والانحدار، هذا حق. ولكنَّ…
قاطعه صاحبه ناقد القصيدة ثانية:
- لحظة. لحظة من فضلك! اتركني أتم القول في ربابة بشار بسؤال مني إليك: أليس مما يدهش أن يُقوِي بشار في طقطوقته؟ أشاعر من الطبقة الأولى ولا يجد سبيلاً إلى التخلص من هذا العيب المنصوص عليه في كتب العروضيين!؟
- الإقواء جائز، وإن كان في نظر العروضيين عيباً. الوزن والقافية قد يتحكمان تحكماً طاغياً مستبداً بلسان ألمع الشعراء نجماً. ولكن، ما غرضك من الإشارة إلى إقواء بشار فيها؟
- أوَلا يكفي هذا العيب وحده لأن ترجم طقطوقته بحجر ذم صلد ؟
- قلنا لك: الإقواء جائز.
- وإن كان جائزاً، لو كنت أنا ما أقويت.
- فما كنت ستحل محلّ (الصوت) من لفظٍ لو كنت أنت هو.
- (الصّّيْتَ) ليشاكل: „ البيت، والزيت " مشاكلة تامة في الحركات والسكنات، فتستقيم بهذا قافية البيت، فلا عوار. اقرأ معي: "لها عشرُ دجاجاتٍ، وديكٌ حسنُ الصَّيتِ“. وقل لي: أليس هذا خيراً من (حسن الصوت)؟
- وما الصَّيْتُ من فضلك؟
أطلق الرجل المنتقد ضحكة حملت الشيخ الوقور من مقعده على أن يتكلف نصف التفاتة نحوه بعنقه المغطى بكوفيته البيضاء.
فعاد صاحب القصيدة إليه يسأله:
- ما الصَّيْتُ من فضلك؟
ولم يلبث أن زاد على سؤاله، إذ صاحبه لم يزل مغرباً في الضحك، قائلاً:
- الضحك ليس جواباً.
هدّأ صاحبُه سورة ضحكه، ثم أجاب بلهجة المعترف:
- لا معنى للفظ الصَّيْت. هو لفظ من وضعي، من ابتكاري، إنه لفظ من اختلاقي.
- إذاً، فلا معنى له.
- كان سيصير له معنى، لو أن بشار بن برد وضعه في الموضع الذي وقع فيه لفظ الصوت.
- لم أفهم…
- تفهم حين تعلم – وأنت تعلم - أن الناس كانوا سيسألون بشار بن برد عن (الصَّيْتِ) كما سألتَ، فينبري لغوي من عصره أو نحويّ أو راوية يستأجره أو لا يستأجره إذ يكون من أنصاره، ليجيب عنه، قائلاً: إن الصَّيتَ لغةٌ في الصوت، ثم يضع بيتاً مختلَقاً شاهداً على ذلك ينسبه إلى شاعر قديم، فتسير الكلمة بلفظها بين الناس مختالة بمعناها القشيب الجديد فيتقبلها الناس بلا عناد، وتغنم اللغة العربية لفظاً جديداً كانت مفتقرة إليه. وقد لا نعدم صانع معجم يزعم أنها كانت في لغة عاد أو ثمود فأحياها بشار. أو يزعم أن رجلاً - وليكن السيرافي أو المبرّد على سبيل المثال - قد قال إنها من لغة الجن وأجازها لبشار.
في المعاجم العربية القديمة – وأنت أدرى بها مني - يتحكم اللغويون والنحاة باللغة العربية ويتصرفون بها، يضبطون مفرداتها، يجيزون منها ما يحبون أن يجيزوا، ويمنعون منها ما يحبون أن يمنعوا، وكأنهم هم صانعو اللغة لا الشعب.
- حسن يا عزيزي، لك لغتك ولي لغتي، من حقك أن تتكلم بلغتك. أحترم حقك، لكني لا أحترم رأيك في طقطوقتي. رأيك مع الأسف لا يستند إلى مقاييس فنية مضبوطة، أضف إلى ذلك أنه – وهو الأهم - لا يحتكم إلى أذواق الناس.
وفجأة التفت إلي شاعر القصيدة بعينيه الذكيتين وبابتسامته الطيبة وقال:
- فلنسأل الأخ هنا، وقد سمع كلمات الطقطوقة – وأشار إليّ إشارة خاطفة بذراعه اليسرى - ماذا يقول الأخ فيها؟
- أنا؟!
- أجل.
سرني أن يشركني صاحب القصيدة في النقاش الذي كنت أصغي إليه بشغف. قلت متكلفاً التواضع:
- لست مؤهلاً لإبداء رأي مفيد فيها. علمي بالشعر العربي لا يتجاوز ما علمته عنه وأنا على مقاعد المدرسة.
قال ناقد القصيدة:
- شاب في مثل هيئتك، قد أحسب أنه متخرج من الجامعة. هل أخطئ في شأنك هذه المرة أيضاً كما أخطأت في المرة السابقة حين ظننتك زائراً؟
- لا، أنا خريج كلية الآداب قسم اللغة الفرنسية.
- فأنت إذاً عليم بقضايا الشعر.
- الشعر الفرنسي.
- في هذا الزمن لم يعد ثمة بون شاسع بين الفرنسي والعربي.
- صدقت، لكنّ الشعر الدارج بالعربية العامية له أسرار تخصه وحده، وهي خفية عني.
- لا بأس.
قالها لي شاعر القصيدة بنبرة التشجيع، ثم واصل:
- ولكنك تسمع الأغاني. هل تتوقع لكلماتي هذه إذا غنتها مطربتنا الصاعدة أن تشقّ طريقها إلى أسماع الناس بلا جفاء؟
أجبت:
- من الصعب أن يتوقع المرء نجاح أغنية قبل إذاعتها. أذواق الناس غريبة عجيبة، فهي كثيراً ما تطرب لأغنية كلماتها هابطة، ولا تطرب لأغنية كلماتها في منتهى الرقي والجمال. قبل ثلاثة أشهر، وأنا في كاراج الباصات أنوي السفر إلى حلب في آخر إجازة لي، كان بائع الكاسيتات يطلق في الأجواء من مكبرٍ للصوت أقوى من مكبرات جامع بني أمية أغنية لإحدى المطربات؛ والناس مقبلة على شرائها إقبالاً ملفتاً للأنظار بالرغم من أن كلماتها باهتة إلى حد السخف.
التمع في عيني شاعر القصيدة المنتقدة من قبل صاحبه بريق اهتمام مفاجئ غريب، ثم رأيته يحوّل عني وجهه إلى صاحبه. لم أر وجه صاحبه الجالس أمامي، لكني مع ذلك خلت عينيه تلتمعان بمثل ما التمعت به عينا شاعر القصيدة، فلما رفع وجهه عن صاحبه إليّ، سألني:
- من كانت المطربة، لو سمحت...؟
أجبت:
- عبير شلالا.
- عبير؟! عبير شلالا؟
- نعم.
- هل تحفظ كلمات أغنيتها؟
- كل السوريين يحفظونها.
- ليتك تذكر لنا مقطعاً صغيراً منها.
وجعلت أقرأ له غيباً ما حفظت منها:
"طاء طاء يا طاطا.
جيوبنا مليانه فراطه.
نْزلنا ع سوق الخضره.
واشترينا بطاطا.
سَلْئِتْ أمي البطاطا.
بَيّيّ بحب السالاطه.
لمّا سَكْبتلو منها.
شالْ بوجْها الشحَّاطه.
طاء طاء يا طاطا
--------------“
- ها، ها، ها...
ضحك شاعر القصيدة المنتقدة، لكنه لم يغرب في الضحك كصاحبه، ولم يلبث أن باح لي بسر ضحكته، قائلاً:
- هذه كلمات الشاعر صديقي الجالس على المقعد قدامك.
هتفت كالمذعور:
- حقاً؟!
ثم تملكتني دهشة فاقعة اللون.
وأنا بعد غارق في دهشتي، سمعت الشاعر الذي كان ينقد بلا رحمة قصيدة صاحبه في (ديما الولهانة) الجالس أمامي يسألني:
- هل لك مأخذ آخر على الكلمات غير الذي قلتَه فيها؟
فتلعثمت، نزف جبيني خجلاً أسود، وأنا أجيب عن سؤاله:
- أرجو المعذرة، لم أكن أعلم أنها لك.
لكن الشاعر صاحبَ ديما، سرعان ما أخرجني من ورطتي، وكانت الحافلة الصغيرة وصلت بنا إلى ضاحية دمشق الجنوبية (الحجر الأسود) وصارت تخترق أحياءها المكتظة ببشر من كل الجهات والمحافظات، إذ تولى الكلام موجهاً دفته نحوي:
- لا عليك! للشعر العامي أسرار تخفى حتى على المثقفين. من أسراره أن كلماته السخيفة الهابطة مثل الضرع يغزر فيه الحليب، حليبُ المعاني. فلو تأملت المعنى الغزير في كلمات صديقي، لعذرته على سخف كلماته بحسب وصفك لها. أليس ضرب الرجل للمرأة بالشحاطة، قضية اجتماعية خطيرة تستوجب أن يعالجها الشعراء؟
لم أتبين لشدة دهشتي وخجلي، ما في قوله من تعريض ساخر بصاحبه، إلا بعد أن وقفت بنا الحافلة في (باب مصلّى) وصاح بنا السائق طالباً منا النزول: "الحمد لله على السلامة".
فصافحت الرجلين على الرصيف مودعاً، ومعتذراً بحرارة إلى الشاعر الذي سخّفتُ كلماته، وسرت في الاتجاه الآخر من الرصيف. كانت المرأة الخمسينية تمشي بجانب الشيخ ببطء سلحفاة، في نفس اتجاهي، فقفز الفضول ثانية إلى نفسي غصباً عن إرادتي مخترقاً زحام الرصيف لمعرفة من هي بالنسبة إلى الشيخ، أهي زوجه؟ أهي أخته؟ أهي كنّته، من هي؟ ولقد كان فضولاً (سخيفاً) غير لائق بي، تافهاً بلا معنى. نقمت على ذهني أن ينشغل بتافهٍ ليس منه نفع ولا جدوى. لكني ما إن جاوزتهما حتى بصقته من ذهني بصق اللبان طال علكه، ودخلت مقهى شعبياً مفتوحاً على ساحة باب مصلى الصاخبة، لأخبر بالهاتف عمي ادمون أنني في الشام.
رد مساعد عمي من الصيدلية على هاتفي. أخبرني أن عمي لم يحضر في وقت دوامه ولن يحضر اليوم؛ لأنه متوعك. أصابته نزلة بسيطة بسبب الانخفاض المفاجئ لدرجة الحرارة.
اسـتأجرت سيارة إلى باب توما قاصداً دار عمي إدمون. لم أتلفن له على نمرة البيت. خطر لي أن أفاجئه. وعلى طول الطريق إلى باب توما، لم يهدأ ذهني عن استرجاع حتى أدق التفاصيل من حكاية لقائي بالشاعرين في الحافلة. إن مصادفات الحياة الغريبة لا تجود بمثل هذا اللقاء في كل مرة.
وحين غادرت عمي وخرجت من الشام لزيارة أخوالي، سردتها على سمر. سمر لم تستغرب حدوث الواقعة – أغلب الظن لأنها قد شاهدت أفلاماً كثيرة فيها وقائع مماثلة - لكنّ مشهد شاعر ينقد شعر صاحب له، وشعر هذا الشاعر مثل شعر الشاعر الناقد: أدنى منه درجة في الجودة، أو أرفع منه درجة في الضعف والركاكة، أو مساوٍ له في الجودة والرداءة، سيرتطم صداه بجدار انتباهها؛ فإذا هي تتمثَّل لصنيع الشاعر الناقد بمثال الجمل ذي السنام، وهي تحدجني بنظرة غامضة لم أستطع أن أفهم المعنى الذائب فيها، قائلة بلهجتها الخفيفة الرشيقة:
- الجمل لا يرى سنامه.



#نعيم_إيليا (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الأخلاق بين فريدريش إنجلز ولودفيج فويرباخ
- دوَّامةُ النّهرِ الكبير 11
- منطقُ الجاحظ في ردِّه على النصارى
- مُشادّة على مائدة الحوار المتمدن
- دوَّامةُ النّهرِ الكبير 10
- الوعي والحياة بين هيغل وماركس
- مناظرة السيرافي والقُنَّائي
- دوَّامةُ النَّهرِ الكبير 9
- البعد الفلسفي لفرضية الانفجار الأعظم
- محاورة ملحد الكريتي
- ثالوث الديالكتيك الماركسي
- الطعن على رأي الأستاذ منير كريم في الديالكتيك والمادية
- دَوّامةُ النَّهرِ الكبير 8
- الزمان بعداً رابعاً
- سُلَّم الوجود
- مشكلة النسبية
- ميزتا التعليق والتصويت في صحيفة الحوار المتمدن
- دَوّامةُ النَّهرِ الكبير 7
- الإلحاد والتطرف
- إفسادُ منطق الإمكان


المزيد.....




- -الفن أقوى من المنع-.. تدوينة للكاتب المصري إبراهيم عيسى بعد ...
- سيلين ديون تنتقد استخدام أغنيتها من فيلم تيتانيك بتجمع انتخا ...
- سيلين ديون تعترض على استخدام أغنيتها في فيلم تيتانيك خلال تج ...
- طلال مداح: على أوتار عوده صاغ الموسيقى السعودية
- الإعلان الترويجي الأول.. موعد عرض مسلسل المتوحش الموسم 2 وال ...
- زيادة التأهب الأمني في مهرجان -سيجيت- في المجر بعد الكشف عن ...
- الرابط الرسمي.. تنسيق الثانوية العامة 2024. لينك التنسيق الإ ...
- تنسق الثانوية العامة 2024 الشعبة العلمية والأدبية المرحلة ال ...
- سيلين ديون تنتقد استخدام أغنيتها بفيلم تيتانيك في تجمع انتخا ...
- -حماس- تنفي -الرواية الإسرائيلية- لقصف مدرسة -التابعين- بغزة ...


المزيد.....

- كتاب نظرة للامام مذكرات ج1 / كاظم حسن سعيد
- البصرة: رحلة استكشاف ج1 كتاب كامل / كاظم حسن سعيد
- صليب باخوس العاشق / ياسر يونس
- الكل يصفق للسلطان / ياسر يونس
- ليالي شهرزاد / ياسر يونس
- ترجمة مختارات من ديوان أزهار الشر للشاعر الفرنسي بودلير / ياسر يونس
- زهور من بساتين الشِّعر الفرنسي / ياسر يونس
- رسالةإ لى امرأة / ياسر يونس
- ديوان قصَائدُ لَهُنَّ / ياسر يونس
- مشاريع الرجل الضرير مجموعة قصصية / كاظم حسن سعيد


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - الادب والفن - نعيم إيليا - دوَّامةُ النّهرِ الكبير 12