أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - خليل الشيخة - مكسيم غوركي: سيرة ذاتية كاملة















المزيد.....


مكسيم غوركي: سيرة ذاتية كاملة


خليل الشيخة
كاتب وقاص

(Kalil Chikha)


الحوار المتمدن-العدد: 8063 - 2024 / 8 / 8 - 18:42
المحور: الادب والفن
    


غوركي وسيرته الذاتية
الجزء الأول: طفولتي
تعرفت على كتابات مكسيم غوركي عندما كنت في الثانوية، فقد قرأت الكتاب الأول من سيرته الذاتية ” طفولتي” فأعجبت بأسلوبه الرائع في تصوير الأشخاص والأماكن. تميز سرده بالسخرية المُرّة والتفاصيل التي أضفت على أدبه صدق وواقعية، حتى أنك لايمكن أن تنسى رواياته لسنوات.
ولد ألكسي مكسيموفيتش بيشكوف عام 1868 أي قبل إغتيال قيصر روسيا على يد تنظيم ثوري، ويذكر هذه الحادثة عندما كان يعمل كخادم عند أخت جدته. ونحن العرب، احببنا الأدب الروسي سواء في روايات تشيخوف أو غوغول أو غوركي لأننا نشعر أنهم يتكلمون عن مجتمعنا أيضاً, دوّن غوركي طفولته ومرحلة شبابه في ثلاثة مجلدات. هذه السيرة الذاتية احتوت على تفاصيل وأوضاع المجتمع الروسي الذي كانت تغلي فيه النقمة على القيصر ونظامه، بثها غوركي من خلال شخصيات وأحداث ومواقف. كأنه يقول، أن هكذا وضع يتطلب هكذا ثورة. الأجزاء الثلاثة التي دوّنها بدأت بكتاب – طفولتي – وهو يتألف من 280 صفحة، أما السيرة الثانية تتجاوز550 صفحة وهو بعنوان بين الناس أو في العالم والجزء الأخير هو جامعاتي بحجم طفولتي. بدأ كتابة سيرته الذاتية عام 1913 أي قبل الثورة الروسية وانتهى منها علم 1923. عندما بدأ الكتابة في سن الشباب، كان يوقع بأسم ـ غوركي – أي المر أو المرارة التي تدل على حياته البائسة في المجتمع الروسي. ترجمت أعمال غوركي لمعظم لغات العالم وأحدثت صدى واسعاً في الأروقة الأدبية، وقد ترشح لجائزة نوبل خمس مرات. لكن برأي الشخصي المتواضع، أن أدب الشخص وتأثيره لايقاس بجائزة نوبل، بل بما يحدثه بالنفس والفكرالبشري من متعة وتغيرات.
تناول النقاد أدب غوركي وكتب عنه الاف الصفحات. أهم من كتب عنه هو مارك سلونيم وديمتري ميرسكي أو – D. S. Mirsky – وهذا الناقد الأخير هو اوكراني المولد. قال عن غوركي أنه يغرق بالتفاصيل ويبني سرده حول شخصية أحادية يطورها خلافاً لتولستوي، ويرى تشيخوف أن غوركي يسترسل أيضاً بالتفاصيل دون ضابط ويفتقر حواره للمانلوج الداخلي. إضافة إلى ذلك، معظم أحداث رواياته تسير بخط مستقيم، أي ليس فيها تقنيات حديثة مثل فلاش باك وغيرها التي برأي لاتقلل من أعماله العظيمة الرائعة.
عندما يقدم غوركي شخصياته يفعل ذلك من كون هذه الشخصيات تتمثل ضمن خليه إجتماعية عضوية تتحرك ضمن اطر اخلاقية وزمانية. وربما هذا ماحذا ببعض النقاد إلى تصنيف أعماله على أنها مدرسة جديدة في النقد ومستقلة عن غيرها، وهي مدرسة الواقعية الإشتراكية.الناقد والمؤرخ الروسي دميتري ميرسكي كان صديقاً لغوركي، وله قصة مثيرة. بدأ بالقتال مع جيش البيض ضد البلاشفة، وعندما أنتصر البلاشفة فر إلى اوروبا لاجئاً. كتب عن التاريخ والأدب الروسي. وفي بريطانيا انتسب إلى الحزب الشيوعي واتصل بغوركي من مكانه كي يتوسط له بالرجوع إلى روسيا. فوافق ستالين. رجع ميرسكي غير مدرك للخطر الذي يتوعده هنالك. فقد عد ستالين المثقف الروسي قنبلة موقوته ضده. ففي عام 1937 أتى أديب وناقد بريطاني إلى روسيا واتصل بديمتري، فتشككت المخابرات الروسية على أن ديميتري هذا جاسوس بريطاني، فأمسكت به ودسته في السجن. وفي عام 1939 مات في معسكرات الكولاك مثل ملايين الروس الذين تشكك ستالين في ولائهم لروسيا وللحزب. حتى غوركي لم يسلم من ستالين، فقد ظهرت إشاعة تناقلتها مصادر غربية في تلك الفترة على أن مخابرات ستالين الكي جي بي سممت أبن غوركي وثم سممت غوركي. والمضحك في الأمر أن ستالين كان دائماً يصنع جنازة فاخرة لهؤلاء الرفاق ويحمل مع الحاملين نعش الضحية ويرسم على وجهه امارات الحزن بعد خطب رنانة.
في كتاب طفولتي يبدأ في مطلعه بتصوير جثة والده في غرفة النوم ممدداً وقد ارتسمت على وجهه ابتسامه، كان عمره انذاك خمس سنوات فقد عمل ابوه في حرفة التنجيد ووكيلاً في النقل البحري لكنه اصيب بمرض الكوليرا. هذه الكوليرا اصابت قبله الطفل الكسي وشفي منها، لكن انتقلت العدوى إلى الأب ولم ينج منها، وهذا أحد الأسباب التي كانت أمه تنظر له بعين الإدانة على أنه المسبب في وفاة زوجها. عندما وقف عند القبر المفتوح مع الناس، رأى مياه المطر تسيل في فتحة القبر، وفي لحظة انزال التابوت إلى القبر، شاهد الضفادع تتقافز تحاول الفرار من كومات التراب الملقى فوق التابوت. ينتقل مع أمه إلى بيت جده فاسيلي كاشارين وجدته أكولينا كاشرينا. كان جده يملك مصنعاً صغيراً للصباغة ويعمل عنده عدد من العمال. يجتمعون في الأمسيات على طاولة في غرفة الضيوف يأكلون ويغنون. يحدثنا غوركي كيف كان جده يستغل هؤلاء ولايعطيهم حقهم، فمنهم رجل عمل عنده سنوات طويلة وعميّ بسبب االمواد الكيمائية في الصباغة ولم يرحمه الجد. كان يسكن في بيت الجد الخال ميخائيل وياكوف، يتشاجران لأتفه الأسباب وهما مدمنان على الخمور، ودائما المطالبة بحصصهم من المصبغة كي يستقلا بأعمالهما الخاصة. الجد إنسان عنيف يضرب الجميع ولايترك أحداً من شره، حتى الجدة المسكينة تأكل نصيبها من الضرب أحياناً. بيت تملأه الأنانية والشجارات. يذكر غوركي كيف كان الجد يجلد ساشا ابن خاله وجلده هو أيضاً حتى تورم جسمه من شدة الضرب. وهنا يتسآءل في أحد هذه النصوص : – هل أنا على صواب في تدوين مثل هذه الأحدداث الروسية، والجواب هو أن عليك فهم الحقيقة قبل البدء بمحوها واستبدالها بواقع أفضل – كان له مقولة شهيرة أن العالم مصنوع من مطرقة وروبل، أي العمل والمال هما المحركان لنشاطات البشر. لم تكن أمه تمكث طويلاً في البيت، بل كانت تتركه عند جدته وتغيب مدة من الزمن، وآخر مرة أتت تصطحب معها زوجها الجديد. وهذا الحدث حزّ في نفسه كثيراً وأحس أنه غير مرغوب به.
هناك ناقد ومؤرخ أمريكي أسمه أروين ويل – Irwin Weil – عمل محاضرة رائعة عن غوركي وهي موجودة على اليوتوب لمن يريد المتابعة. يقول ويل أن الأدب الروسي بشكل عام وغوركي بشكل خاص هو المفتاح لفهم روسيا تاريخياً وثقافياً وإجتماعياً وفهم أسباب التحولات الثورية التي بدأت بإغتيال القيصر في أواخر القرن التاسع عشر. ويتابع موجهاً كلامه للحضور: تصوروا أن الولايات المتحدة واجهت الحرب الأهلية في منتصف القرن التاسع عشر حيث كانت نسبة الرقيق 10 بالمئة، فما بالك أن مجتمعاً مثل روسيا القيصرية حيث كان الرق يشكل حوالي 90 بالمئة من عدد السكان. – وربما هذا أحد الأسباب التي جعلت من روسيا دولة متخلفة عن أوروبا الغربية، وكانت تنظر للغرب من عين الحسد حتى أن القيصرة كاثرين جعلت اللغة الفرنسية لغة رسمية في القضاء والمحاكم الروسية في عهدها.
شخصيات روايته هي من الواقع الروسي في ذلك الزمن، فهم في الغالب من اللصوص والفلاحين والعمال والمتشردين، يجمع فيما بين هؤلاء جميعاً الفقر والعوز. هذه الشخصيات كانت الهاجس الذي عاشه غوركي وبنى عليه فلسفته في الحياة وأكد أن انحلال الأخلاق في روسيا هو نتيجة لهذه الأوضاع الشاذة التي يحياها الشعب الروسي.
يصور مرة وهو جالس على الحشائش يراقب السماء الصامتة كيف كانت أسراب الطيور تحلق وتحوم حول قباب الكنيسة كـأنها تتفحصها.
بعد أن ساءت أعمال جده في الصباغة وشب حريق بأطراف المصنع باع كل شيء واشترى بيتاً مؤلفاً من طابقين وفي الأسفل خمارة. وعندما كان غوركي الصغير يخرج إلى الشارع في الحي الجديد، يلاحقه أطفال الحارة ويصرخون – هذا هو حفيد الجد كاشرين البخيل.. أضربوه – وكانوا يضربونه حتى يسيل منه الدم. بشر في منتهى العدوانية ضد كل غريب.
شخصيات مهمة في – طفولتي – هذا رائع والجدة:
في البيت الجديد، كان هناك مستأجر لطيف يصفه غوركي بأنه باسق الطول، منحني الجسم، ذو لحية متشعبة ونظارتان كبيرتان. كان منطوياً على نفسه، وكلما كانت الجدة تدعيه إلى العشاء، كان يردد على الدوام : هذا رائع. ومن هذا المنطلق دعاه الجميع بـ هذا رائع.. فيقولون ذهب هذا رائع وعاد هذا رائع. كان كثير الصمت وكثيرالمطالعة للكتب بكل انواعها وكان يجري تجارب كيميائية في الغرفة حتى أن الجد تضايق من ذلك وطرده خارج البيت. هذا الشخص سيأثر في حياة غوركي حتى الممات لما كان يملك من المعارف والطيبة في التعامل مع الآخرين
أما الشخصية التي حفرت في نفسه السعادة والحنان وبوادر فنون القص، هي بلا منازع جدته أكولينيا التي كانت تجلس بجانب سريره وتقص عليه عشرات الحكايات بطريقة ذكية وجذابة إذ أنها كانت البذرة الأولى لتنمية موهبته في الأدب القصصي والروائي. كانت أنسانة جاهلة غير متعلمة، لكنها ذكية جداً كما كان يصفها، فهي تربّت يتيمة مع أختها وكانت تشحد في الشوارع قبل زواجها واستمرت على ذلك عندما خسر زوجها كل شيء. فكانت تجوب الأزقة تستعطف الناس علّهم يعطونها مايسد رمقها ورمق زوجها القاسي. رغم كل بطشه وعنفه معها، كانت دائمة العطف عليه خاصة عندما بدأ يفقد ذاكرته في شيخوخته. كان يصفها في كتاب طفولتي بأنها سمينة مستديرة القوام تشم الظعوط وتعطس للتخفيف من توترها في ذلك البيت. وأحياناً تعّب شيئاً من الفودكا كي تنسى همومها وبؤسها.
موت أمه:
يقول في آخر السيرة الذاتية الأولى أن امه كانت مريضة وانجبت له أخاً من زوجها الثاني دعته نيقولاي، ومن شدة الفقرسقطت صريعة مرض السل. وفي يوم الأحد ماتت عندما كانت هي وزوجها في بيت الجدة. جرى كل هذا أمام عينيه. يقول في الأسطر الأخيرة بعد وفاة أمه وهو مازال طفلاً:
( بعد أيام من وفاة أمي قال لي جدي: حسناً يا ألكسي، أني لا أستطيع أن أبقيك كميداليه معلقة في عنقي. ليس لك مكان هنا، فقد آن لك أن تخرج وتعمل بين الناس… وهكذا خرجت إلى العالم.
الجزء الثاني: بين الناس... أو في العالم
كتب غوركي سيرته الذاتية الثانية (بين الناس) أو كما ترجمت إلى الإنكليزية (في العالم) بين عام 1913 وعام 1923 أي استغرق عشر سنوات حتى ينهي سيرته الذاتية المؤلفة من ثلاث أجزاء، وفي هذا المقالة نتحدث عن الجزء الثاني من هذه السيرة.
يبدأ هذا الكتاب وفي أول صفحة معبراً عن العنوان:
" هذا أنا بين الناس صبي في مخزن فاخر ومعلمي مخلوق قصرت قامته واستدار جسمه، جامد التقاسيم، له لون حائل إلى التراب وأسنان ضاربة إلى الخضرة. خيّل إلي أنه أعمى، فطفقت أكشر في وجهه بغية إثبات ظني فقال لي مستاءً: لاتلو بوزك هكذا". ساعده على ايجاد هذا العمل أبن خاله الذي كان يكبره سناً. كان العمال يشتغلون في المخزن أثناء النهار وينامون في غرفة وراء المحل. في البيت طباخة عجوز غريبة المنظر كما يصفها، تحب أن تتفرًج على القتال، فتقول له ولابن خاله: "إذهبا وتقاتلا، فأني أحب القتال ولايهمني من يتقاتل ، كلاب أم بشر". لكن وبدون مقدمات تموت الطاهية ذات يوم في المطبخ، إذ أنها تنزلق وتقع وهي تعد الطعام ثم تنزف. يأتي المعلم بطاهية جديدة. أما زوجة المعلم " فكانت عجفاء القامة، كبيرة الأنف، تضرب بقدميها الأرض وتصيح بزوجها كأنه خادم الدار". في محل الأحذية شاب مختص ببيع الزبائن. يقول غوركي عنه واصفأً إحدى المواقف المضحكة: " دخلت سيدة شقراء إلى المخزن بغية شراء حذاء، وعندما جلست وحاول المساعد تجربة الحذاء في قدمها، جمع أصابعه إلى بعضها وطبع قبلة على قدمها، فقالت المرأة،: يالك من فتى ماكر، فنفخ خديه وأطلق زفرةعميقة.. آوه..ه. فانفجرت ضاحكاً بصورة جنونية وتمسكت بقبضة الباب ثم هويت وارتطم رأسي بالزجاج وتحطم".
يهرب من محل الأحذية، عندما يتسبب بحريق في المطبخ، إلى بيت جده وجدته. في تلك الفترة يفقد جده معظم أمواله ويصبح رجلاً فقيراً. يستيقظون قبل شروق الشمس ويذهبون إلى الغابة يصطادون العصافير والبلابل كي يبيعوها ويشترون بثمنها طعاماً. لكن رغم كل هذاالفقر، كانت جدته توقظه أحياناً باكراً تدور على منازل القرية وتترك قليلاً من الخبز والبسكوت للأطفال وأحياناً بعض المال.
في الحي الجديد، يتعرف على فتاة تكبره سناً اسمها ( لودميلا) يصفها بأنها ثرثارة وعرجاء، حيث تقول له مبررة مرضها بأن إحد الجارات تشاجرت مع أمها وسحرتها فأصبحت مريضة وسببت لها العرج. لهذه الفتاة أب في الأربعين من عمره يصفه بأنه " مجعد الشعر كث الحاجبين، صموتاً وكان يضرب زوجته دون سبب ويقف مثل جندي كأنه يؤدي تحية عسكرية". أما أمها فكانت تشبه مكنسة بالية كما يصفها، طويلة نحيلة ذات وجه طويل.
لشدة فقره، يقبل مرة تحدٍ مرعب، وهو أن ينام طوال الليل قرب تابوت لأحد الأموات في المقبرة مقابل روبل واحد، تشجعه جدته أن يفعل ذلك، لأن الروبل في تلك الأيام يشتري الكثير. كان الشاب الذي طرح عليه التحدي أسمه فاليوك، وعندما يذهب إلى هناك، يظل مرعوباً طوال الليل يعد الثواني حتى يأتي الصباح. أخيراً يربح الروبل وتسعد بذلك جدته.
في تلك الآونة، يموت أخوه الصغير من الجوع والمرض، فقد ماتت أمه منذ فترة وتركت الصغير مع الجدة، وهنا يتذكرها بمشاعر متناقضة، فهو يحن إليها وفي الوقت ذاته يغضب لأنها تركته.
عندما أتى الشتاء وأصبح الطقس بارداً، كان عليه أن يبحث عن مكان يعمل به ويكون دافئاً، فتختار له جدته ( أكولينا) مكاناً في المدينة عند أختها الكبيرة. فيعمل هناك خادماً ينظف البيت ويذهب للسوق يشتري حاجيات المنزل، أما معلمه يكون الأبن الأكبر لأخت جدته كان كما يصفه يشبه الشاب الذي كان يحب والذي كان لقبه (هذا رائع). كانت العجوز فظة الطباع دائمة الصراخ به، توقظه في الصباح الباكر. لم يحتمل العمل هناك، فيهرب عندما يأتي الربيع ويذهب للعمل على ظهر مركب يجلي الصحون في المطبخ لقاء روبلين في الشهر، وهناك يتعرف على الطباخ (سموري) الذي أثّر في حياته لأنه كان محباً لجمع الكتب، كان يطلب منه في كل مساء قراءة بعض كتبه التي يحتفظ بها في الغرفة. وضمن التنافسات، يفقد عمله ويعود إلى جدته مرة أخرى ومعه ثمانية روبلات وهو أكبر مبلغ قبضه في حياته. وفي عودته هذه، يرجع لإلتقاط العصافير والبلابل كي يبيعها ويعيش من ثمنها.
أتى الشتاء مرة أخرى، فيأخذه جده إلى أخت جدته في المدينة كي يعمل عندهم خادماً، وهناك يتعرف على سيدة متزوجة تحب المطالعة، تعطيه بعض الكتب ليقرأها، وفي أحد ليالي الشتاء، يجلس على النافذة ويضع صينية معدنية تعكس ضوء القمر يقرأ طوال الليل من الكتب المستعارة من الجارة، وينام عند النافذة، فتستيقظ أخت جدته وتراه على ذلك الحال، فتنهره وتضربه بالكتاب الذي كان يقرأ وتقول له جملة يتذكرها: الأغبياء والهراطقة هم يؤلفون الكتب والقراءة لهؤلاء خطرة ومضرة للإنسان". هذا ماكان الناس العاديين يظنون في الكتب والثقافة في تلك الفترة.
في عام 1881 تقرع الأجراس في الخارج على غير العادة، وعندما يخرج معلمه الرسام ليستطلع الخبر، يرجع ليقول أن القيصر ألكسندر الثاني قد اغتالته منظمة تطلق على نفسها ( إرادة الشعب).
كانت القراءة كما يقول بلسم ينسيه حياة الشقاء. فقد اعجب بروايات فكتور هوغو وبلزاك وقصائد بوشكين. وهنا يعلن أنه كان معجب بالآداب الأجنبية أكثر مما كان معجباً بالأدب الروسي، خاصة بأدب شارلز ديكنز الكاتب الإنكليزي وولتر سكوت . عندما قرأ رواية (الأنفس الميتة) للكاتب الروسي غوغول قال بأنها لم تعجبه وقرأها بلا مبالاة ثم قرأ لدوستوفسكي ( مذكرات من بيت الموتى). لكن أنا شخصياً اعد رواية غوغول رائعة لأنها يكمن فيها تفاصيل هامة ترشد إلى جزء من تاريخ المجتمع الروسي .
عندما يأتي الصيف يعود ويعمل على ظهر المركب مساعد طباخ بأجر قدره 7 روبلات شهرياً، لكن ما إن رجع الشتاء حتى فارق المركب وعاد للمدينة يعمل إجيراً في محل لرسم الإيقونات، ويحدثنا بأن المعلمة كانت سمينة وعجوز، أما المعلم فكان ينهره لأنه لايتقن جذب الزبائن والبيع، إذ يروي لنا بأنه حاول مرة دعوة أحد الزبائن إلى المحل فقال له : ياسيدي هذا أفضل محل أيقونات في المدينة. لكن الزبون دفعه إلى الخلف وذهب إلى المحل المجاور لأن جارهم يبيع أرخص منهم
أخيراً، يعود ويعمل مع الرسام، أبن اخت جدته لقاء خمسة روبلات شهرياً. في تلك الآونة يعود زوج أمه ويسكن معهم. يقول له مقوله هامة يتذكرها: " الناس الذين يطيلون المكوث في مكان واحد، يكتسبون مع الزمن وجهاً واحداً متشابهاً.
الجزء الثالث: جامعاتي
تناولنا الجزئين الأولين من السيرة الذاتية لمكسيم غوركي (طفولتي) و (بين الناس). هذا الجزء (جامعاتي) كتبه بعد الثورة الروسية وانتهى منه عام 1923. وهو أقل عدداً في الصفحات من الجزئين الأولين، وتشعر بأن غوركي يسعى بسرعة لإنهاءه. فعدد الصفحات لايتعدى 200 صفحة. كما هو معروف عن غوركي الإستفاضة بوصف الشخصيات والطبيعة، فقد أتى هذا الجزء مختصراً لما اعتاد عليه الكاتب. يبدأ غوركي عندما نصحه أحد الأصدقاء أن يدرس في الجامعة لأنه مستعد لها نفسياً وثقافياً. وهو شخص لم يداوم في المدرسة الإبتدائية سوى شهور بسبب التشرد والفقر، فقد تعلم الكتابة والقراءة من جده عندما كان يجالسه في الأمسيات ويقرأ له من كتاب المزامير فتأسس عنده شغف للقراءة والمعرفه. باستطاعتنا القول أن الإنسان اليتيم يصاب في عقدة خلال طفولته، فإما توجهه نحو البناء والإيجابية أو نحو فساد النفس والشرور، وهذا مايذكره غوركي في السيرة، فاليتيم، إما يصبح لصاً أو مثيراً للشغب وبذلك يغدو رجل شر وفساد باعتبار أن اليتم ليس له من يردعه أو يدله على الخير.. هذا حال غوركي الذي فقد أبوه وأمه وهو مازال طفلاً وواجه كل أنواع التشرد والحياة القاسية. فقد سرق أحياناً كي يأكل والتحق بمجوعات ثورية مثيرة للشغب في قازان.
توجه إلى قازان من أجل الدراسة في الجامعة، لكنه اكتشف بعد فترة وجيزة بأنه غير قادر على الإنقاق على نفسه أو على تكاليف الجامعة، فتركها واكتفى بأن يدرس في جامعات الحياة التي اعطته دروساً أهم بكثير من مواد الجامعة. ولهذا سمى هذا الجزء ب (جامعاتي). باختصار لاتصنع الجامعة منك مثقفاً أو واعياً، لكنها تساعدك على أن تكون كذلك.
لقد اجاد غوركي في وصف الطبيعة، سكونها وهيجانها، ليلها ونهارها. ففي هذا الجزء أتى وصف لهطول المطر والليل والنجوم:
.. ظللت وحيداً في الغرفة أنصت إلى صوت العاصفة التي كانت تضرب وتخرمش النافذة وقد تجمعت على الأرض بحيرة صغيرة من المطر. ينتقل إلى وصف الغرفة الفقيرة والتي كانت مستباحة لأمطار الشتاء كما قال. وفي صفحة أخرى ورد وصف السماء: كانت السماء صافية فيما عدا غيمة واحدة مذهبة ... وفي الليل : كانت هناك سحب سود تسير متوازية فوق رأسي والقمر يختال بينها مثل كرة ذهبية ويلقي ظلاله فوق الأرض. ... وعن نجمات الليل، كانت النجمات المتلألئة تخترق الليل الداكن وهي تبدو قريبة من الأرض رغم بعدها المتناهي.
عندما فشل في دخول الجامعة، سكن مع شاب أسمه غوري بليتنوف في دار مليئة بالناس ويوصف ذلك الشاب بأنه ذكي ويعلّم الرياضيات لكنه يقضم أظافره في أوقات الفراغ. في ذلك البيت رأى أيضاً رجلاً يطوف هنا وهناك دون هدف له ساقان مستطيلتان وفم ضخم يعج بأسنان صفراء مثل حصان. كان معهم تلميذ تأتي إليه إمرأة في الأربعين تلاحقه مثل جاسوس أو دائن عنيد وهو يكرهها ولايبوح لها بكراهيته. من جملة الناس، كان هناك شاب من طلاب الجامعة سأله مرة أن يعيره كتاب (حكم وأمثال) ويصف الشاب بأن له رأس زنجي وشعر أجعد وشفتان غليظتان وأسنان بيضاء براقة.
في هذه الأثناء يتعرف على مجموعة شباب يعملون في السر، يؤلفون منظمة ثورية، أحد هؤلاء الشباب كان أندريه ديرينكوف ويملك هذا الشاب مكتبة في قازان فيها الكثير من الكتب خاصة السياسية المحرمة. ومن خلال السيرة نعرف النمط الفكري الذي يحمله هؤلاء المثقفين الذين يبحثون عن حلول لواقع روسيا، وكأن الثورة الفرنسية قد أثرت بهم إلى حد أنهم كرهوا رجال الدين والدين ذاته لأن القيصر جعل من رجال الكنيسة زراعه الأيسر في حكمه، ولذلك تولد عند معظم هؤلاء عدانية كما قلنا للدين ورجاله. كان أسم المنظمة (سعادة الشعب أولاً). طبعاً مع إنتشار تنظيمات تابعة للروائي تولستوي التي كانت مزيج من التدين والثورية. يذكر غوركي عبارة مهمة إذ يقول أن المثقفين يثورون في سبيل مدينة فاضلة، فالمثالي يثور، ويثور معه الطفيليون والأشقياء والأنذال لأنهم يشعرون بالفراغ.
في الشتاء، وجد عملا في مخبزضمن مجموعة كبيرة من العمال الفقراء وأثرت به هذه الفترة لدرجة أنه استلهم منها قصصاً مثل – (المعلم) .. و (كونوفالوف).. و( ستة وعشرون رجلاً وفتاة). كان المخبز تحت الأرض وفيه الجرذان تخشخش في الأطراف وكان يعمل فيه أربع عشر ساعة يومياً. تعرف على اصناف عديدة من البشر سيكرر شخصياتهم في قصصه ورواياته فيمابعد. يصف الخباز بأن لديه موهبة مميزة في حب النوم والكسل.
يذكر لنا قصة طريفة عندما كان يذهب لمشفى الأمراض العقلية أخذاً معه الخبز بالسلة: عندما دخلت، كان الدكتور يحاضر للطلاب عن أنواع الأمراض العقلية، وقد وضع أمامه رجلاً طويل القامة يرتدي ثوباً أبيض وقف فجأة وحملق بي فتراجعت خوفاً، فهدأه الدكتورومسح على ذقنه بلطف . في تلك الفترة فتح ديرنيكوف مخبزاً فعمل غوركي معه لقاء 10 روبلات في الشهر.
في يوم من الأيام تصله رساله من ابن خاله الذي كان يسكن مع جدته يقول فيها أنها ماتت بعد أن انزلقت من السلم وانكسرت ساقها فالتهبت رجلها وماتت إثر ذلك. يروي في الرسالة أن جده قاسي القلب قد بكى على قبرها.
كان يعاني من العزلة، لأنه لم يستطع أن يبني صداقة قوية مع من حوله، زيادة على ذلك أنه افتقد الإنسانة العزيزة على قلبه إلا وهي جدته فأزدات حياته خواءً وأصبحت بلا معنى، وهكذا أشترى مسدساً وصمم على الإنتحار، فحشاه أربع رصاصات ثم أطلقها على صدره قاصداً القلب، لكن لم يمت لأن الرصاصة أصابت الرئة ولم تخترق القلب. مكث في المشفى فترة طويلة ثم عاد أدراجه يعمل في المخبز. لكنه كتب قصة معتمداً على هذه الحادثة بعنوان (حادث في حياة ماكار).
ومن خلال جلوسه في غرفة صغيرة عارية ذات نوافذ مغلقة يتذكر تلك العشيات المعزولة حيث يقارن بين المدينة والقرية فيقول: ظهرت لي مزايا المدينة مقارنة بالقرية الراكدة ذات المنحى الواحد، ففي المدينة رغبة توّاقة للسعادة والعقلية الجسورة والتنوع في الأهداف والآمال. يدلل على ذلك [ن ثلاث عائلات تشاجروا على إبريق لايساوي سوى بضع كوبيكات، نتج عن ذلك كسر ذراع إمرأة عجوز وانشق رأس صبي، شجار مستمر لاينقطع، بحيث لايمر أسبوع واحد دون طوشة بين الجيران.
يعلق على شاب متدين أسمه إيزوت يجلس بجانبه مستغرقاً بالتفكير، فهويؤمن بأن الله محبة وليس خوف، فهو أي الشاب، يرى أن الله شيخاً كبيراً وسيماً لطيفاً مالكاً على الأرض لايلاحق الشرور لأنه لايجد الوقت الكافي لذلك. لكن إيمانه هذا لاينقذه من وحشية وعدوانية أهل القرية الذين رأوا بهولاء الشباب خطراً على اخلاقهم وحياتهم بسبب معارضتهم للقيصر. ذات يوم يتبع أحدهم إيزوت ويقتله وهو يقود مركباً في النهر. لا تتوقف العدائية عند ذلك، بل يحاول أهل القرية التخلص منهم جميعاً بوضع البارود في إحدى خشبات الموقد وتنفجر، لكن لم يتضرر أحد، ثم أحرقوا مخزنهم قاصدين قتلهم.. كل هذا بسبب أنهم متهمون بتأسيس تعاونيات.
ولما وجد غوركي كل هذا العداء، قرر السفر عند الفجر كما يصف: في الليل كان القمر معلقاً فوق الحقول وراء النهر مثل دولاب عربة، بعدها، زحف الفجر محترساً يشق طريقه عبر السحب. خرجنا من القرية، وعندما وصل المركب من سمارا إلى شواطئ بحر قزوين، عثرنا على عمل مع مجموعة صغيرة من الصيادين في مسمكة قذرة في كابانكول.



#خليل_الشيخة (هاشتاغ)       Kalil_Chikha#          



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- جامعات غوركي
- الإستعمار سبب تخلفنا
- غوركي: بين الناس
- من غشنا ليس منا
- غوركي وطفولة النكد
- رمزية بلد العميان
- جرة الماء والسقا مات
- ذكريات المعرجلانة
- زيارة إلى مصر
- الجبنة المدوّدة ومحاكم التفتيش
- الشيوعية إلحاد وزندقة
- المعذبون في الأرض
- فنون التسوّل
- صندوق العجائب
- في التشحير والتجريس
- معرض القرد والضبع
- علي الخليلي والفجر الأدبي
- قمة عربية اسلامية مباركة
- نادي الصداقة العربي الأمريكي
- القدس عروس عروبتكم


المزيد.....




- کيان الاحتلال يلغي التمثيل الدبلوماسي لممثلي النرويج في فلسط ...
- -الملحد- المصري في مواجهة -ظاهرة إلغاء العقل-
- لهذه الأسباب.. إسرائيل تلغي التمثيل الدبلوماسي النرويجي لدى ...
- moe.gov.jo رابط نتائج التوجيهي 2024 بالأردن للشعبتين العلمي ...
- روسيا بصدد إصدار أول موسوعة كبرى للبوذية
- قصيدة عامية مصرية :بعنوان(جحود)بقلم الشاعر مدحت سبيع.مصر.
- فيلم يوثق اعتدء جنود إسرائيليين جنسيا على أسير فلسطيني ومحكم ...
- ميراث البشرية.. هل اللحاق الحضاري ممكن؟
- هل تعيش أنغام في عالم مواز؟.. قراءة في كلمات ألبومها الجديد ...
- -قنينة حليب-.. عمل مسرحي مرتقب للفنان المقدسي حسام أبو عيشة ...


المزيد.....

- البصرة: رحلة استكشاف ج1 كتاب كامل / كاظم حسن سعيد
- صليب باخوس العاشق / ياسر يونس
- الكل يصفق للسلطان / ياسر يونس
- ليالي شهرزاد / ياسر يونس
- ترجمة مختارات من ديوان أزهار الشر للشاعر الفرنسي بودلير / ياسر يونس
- زهور من بساتين الشِّعر الفرنسي / ياسر يونس
- رسالةإ لى امرأة / ياسر يونس
- ديوان قصَائدُ لَهُنَّ / ياسر يونس
- مشاريع الرجل الضرير مجموعة قصصية / كاظم حسن سعيد
- البحث عن الوطن - سيرة حياة عبدالجواد سيد / عبدالجواد سيد


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - خليل الشيخة - مكسيم غوركي: سيرة ذاتية كاملة