|
ارم ذات العماد
عادل الامين
الحوار المتمدن-العدد: 1770 - 2006 / 12 / 20 - 06:34
المحور:
الادب والفن
في ذلك الصباح دخل أمين إلى العشة التي يجلس فيها والده يقدم رجل ويؤخر الأخرى، بدأ العام الدراسي وكالمعتاد ستدور أسطوانة كل عام المشروخة وتنتهي نهاية مأساوية.
- أبي !!
- نعم ماذا تريد ؟
- أريد رسوم التسجيل بالمدرسة.
رمقه أبوه شذراً وردد:
- اللعنة على هذه الرسوم.. أفي كل عام؟!
- نعم يا أبي .
- في أي سنة أنت الآن؟
- في السنة الرابعة.
بصق أبوه بصاقاً أخضراً ممزوجاً بوريقات القات ثم سحب نفس طويل من المداعة المشرعة أمامه وكأنها برج إيفل وزاد دخانها الدبق من عتمة المكان وكآبة أمين وأردف في امتعاض.
- يكفي هذا الحد من الدراسة.. أصبحت تقرأ وتكتب الآن..
- لكن يا أبي ليس التعليم أن تقرأ وتكتب فقط.
- ماذا؟! ماذا !!
- التعليم من المهد إلى اللحد.
استشاط أبوه غضباً وانتهزه وطرده من العشة برفسة قوية على قفاه ألقته خارجاً فتعفر وجهه بالتراب ثم زعق فيه وهو يسعل بشدة:
- قليل أدب اذهب وخذ الأغنام إلى المرعى .. هيا!!
نهض أمين في انكسار ونفض التراب عن ملابسه البالية، وذهب إلى الزريبة وأخرج قطيع الأغنام وانحدر به إلى الوادي، هناك تحت شجرة هلج ظليلة جلس في استرخاء يتأمل الغلالة الضبابية الساحرة التي أخذت تغمر الوادي.. فجأة ظهر ضوء شرقي قوي جعل الضباب يكتسي بكل ألوان الطيف، ثم بدأ يظهر طيف مدينة رائعة الجمال ذات قباب فضية وذهبية وأسوار عالية من الحجر الأبيض تطل من أعلاها عقود من الزهور مختلفة الألوان، مدينة خرافية جعلت أمين يقف لها إجلالاً وهي تتماثل أمامه عياناً بياناً، سمع صليل سلاسل وانفتحت البوابة البلورية ودخل إلى المدينة الرائعة.. كانت الناس رائعة الجمال كأنهم ملائكة يسعون على الأرض ولكن كان يخيم عليهم الحزن والبعض منهم يبكي وهم يسيرون في جماعات عليهم ثياب من سندس واستبرق والجنود في حلل خضراء زاهية وقبعات تزينها ريش الطيور الملون يركبون على جياد مطهمة تسير في خيلاء، لمح أحد الجنود أمين ونظر إليه في دهشة وهو يرفل في أسماله البالية، التفت الجندي إلى كوكبة الفرسان حوله وصاح:
- انظروا إلى هذا الغلام البائس إنه يشبه أميرنا الراحل..
تلفت الجميع وتجمهروا على أمين وهم يكفكفون الدمع وينظرون إليه بود وامتنان وأردف جندي آخر: لنأخذه إلى مليكنا الحزين عسى ولعل يتخذه ولداً أويتأسى به.
راقت الفكرة للجميع، تخطفته الجواري ونزعن عنه ثيابه المتسخة وحملنه إلى الينبوع الساحر الذي تنبعث منه الأبخرة الملونة والمعطرة، وغمرته الجواري في الماء وفركن جسده جيداً، تولدت في أمين أحاسيس لا توصف من اللذة والارتياح.. أخرجنه الجواري من الماء وجففنه بمنشفة من القطيفة الفاخرة وضمخنه بالعطور ومشطن شعره وكحلن عينيه ثم ألبسنه حلة بيضاء موشاة بخيط الذهب ثم البرنس الأسود الأميري ووضعن على رأسه عمامة خضراء تزينها زمردة حمراء تتلامع كأنها الشمس ساعة الزوال، ثم جيء بمحفة حمل بها إلى مجلس الملك في البهو السلطاني كمفاجئة سعيدة، وضعوه أمام الملك الحزين الذي صعقه منظر أمين، فاحتضنه في حنو بالغ وأجلسه في حجره، وطفق يناوله ما لذ وطاب من أصناف الطعام أمامه، كان الملك يهذي وهو يربت على ظهر أمين:
- لقد عدت مرة أخرى يا بني، ما أجملك!!
دهش أمين من هذا الشيء العجاب ولكنه بفطنته المعهودة عرف أن هذا الملك الطيب فقد ابن عزيز وسبب موته الحزن له وللمدينة.. سعد لسعادة الملك أهل المدينة إلا الوزير الذي أخفى امتعاضه العميق وراء ابتسامة زائفة، نهض الوزير وأمسك أمين من يده برفق واستأذن الملك في أن يأخذ الأمير الجديد في جولة حول المدينة الساحرة. خرج أمين مع الرجل القبيح في المدينة إلى خارج القصر، وهناك ركبا عربة الوزير الفارهة التي تجرها الصافنات الجياد، وتحركت العربة وسط كوكبة من الفرسان تشق طرقات المدينة كان أمين يتلفت حوله بصورة أدهشت الوزير فردد متسائلاً:-
- هل تبحث عن شيء ما ؟!
- نعم أبحث عن مدرسة، ألا توجد مدارس في المدينة ؟!
بان الامتعاض على وجه الوزير في اقتضاب:
- ما حاجتنا إلى المدارس.. ولدينا المال والجواري والغلمان وكل ما لذ وطاب.. والقات أيضاً!
- فقط المتعة الحسية !! لا تكفي .. أنا أعني الـ …
قاطعه الوزير بجلافه :
- لا حاجة لنا هنا بالتعليم ، هل فهمت ؟!
نظر أمين إلى الوزير في دهشة يشوبها الاحتقار وتذكر نصائح أستاذهم المحبوب البيلي في مدرسة القرية، فتنحى منحى آخر في حديثه سقراطي الطابع، ونظر إلى الوزير متسائلاً:
- كيف مات ابن الملك ؟ !
- مات بالمرض.
- أعني ما نوع أو أعراض المرض الذي مات به الأمير ؟!
دهش الوزير لطبيعة الأسئلة الغريبة التي يسألها الغلام:
- أصابته حمى مصحوبة ببرد وارتعاش، وتعرق غزير لعدة أيام ثم مات ..
- إذاً .. الأمير مات بالملاريا مرض عادي له علاج متوفر هو الكلوركوين، نسبة لعدم التعليم الجيد في مدينتكم لا يوجد أطباء فتفتك بكم الأمراض العادية.
غضب الوزير لجرأة أمين وتطاوله عليه فأمر الجنود بأن يأخذوه، اقترب جنديان من العربة التي تجرها الخيول وسحبا أمين بغلظة من جوار الوزير، دهش أمين وبان عليه الغضب الشديد:
- ماذا جرى، لماذا تفعلون ذلك، أنا كنت أتحدث فقط..
أجابه الوزير بغضب
- الحديث ممنوع في مثل هذه المواضيع !
- اللعنة !! ألا توجد لديكم حرية أيضاً ؟!
- حرية !! هاها يوجد لدينا المال فقط وهو كل شيء.
شعر أمين بالامتعاض الشديد .
- أخرجوني من مدينتكم الملعونة أيها الخنازير.. أنا لا أريد البقاء فيها، أتحسبون هذه حياة!!.
صاح الوزير غاضباً بالجنود :-
- هيا أخرجوه من المدينة، إن وجود مثل هذا الغلام جوار الملك سيؤدي إلى زوال مجدنا.
سحب الجنود أمين إلى البوابة الخارجية، سمع أمين صليل السلاسل الذهبية وانفتحت البوابة البلورية.. جرده الجنود من كل الملابس الفاخرة والمجوهرات التي عليه وألقوه خارج المدينة عارياً وقذفوه بصرة ملابسه القديمة، تعفر وجهه بالتراب، نهض وهو يسب ويلعن وارتدى ملابسه وانصرف دون أن يلتفت وراءه ..
* * * * *
فتح أمين عينيه ببطء شديد، شاهد آخر خيوط أشعة الشمس الواهنة وهي تهوي مصروعة في الغرب وقد بددت أنوارها الدامية المدينة السرابية.. نهض أمين وجمع قطعان الماعز وقفل عائداً إلى القرية، على بعد لمح أمين مدرسته العتيدة بمبانيها البيضاء تقف في شموخ عند أطراف القرية فتذكر موقف والده المخزي في الصباح، دمعت عيناه وأطلق زفرة حارة، ثم ابتسم عندما ومضت فكرة كان قد نسيها في خاطره "لا يهم، أمه الطيبة تخبئ زجاجة من السمن البلدي كل عام لمثل هذه الظروف، غداً سيأخذها إلى سوق الربوع ويبيعها ويعود إلى المدرسة ويسجل اسمه لدى أستاذهم السوداني المحبوب .. البيلي).
هوامش : - عبد الرحمن البيلي: استاذ سوداني توفي،كان يعمل في ناحية الزيدية، الحديدة- 1999م.
#عادل_الامين (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
الهلال والمريخ وثقافة المجتمع المدني في السودان
-
كلاب بابلوف
-
سوق الاثنين*
-
رسول الاحزان
-
المفتي ..هل هو ظاهرة دينية ام سياسية؟!!!!ا
-
فلسفة الثعبان المقدس
-
ابوالطيب المتنبي...شاهدا على العصر
-
ديك دارالنعيم
-
الجندى الثالث...كان طيبا
-
حكاية جبرالله جابر
-
ابوالعلاء المعري وثقافة المجتمع المدني
-
من يقتل العراقيين؟؟(2-2)ا
-
(1-2)اغتيال الوعي العربي ..العراق نموذجا
-
الطاغية والحكيم
-
اسرائيل في مخيلة النخبة العربية
-
الطاعون
-
الوعي...والتجريد
-
عصام ...الخريج الذى فقد نفسه
-
الانسان والابداع
-
الحقيقة والجمال
المزيد.....
-
وصف مصر: كنز نابليون العلمي الذي كشف أسرار الفراعنة
-
سوريا.. انتفاضة طلابية و-جلسة سرية- في المعهد العالي للفنون
...
-
العراق.. نقابة الفنانين تتخذ عدة إجراءات ضد فنانة شهيرة بينه
...
-
إعلان القائمة القصيرة للجائزة العالمية للرواية العربية 2025
...
-
بينالي الفنون الإسلامية : مخطوطات نادرة في منتدى المدار
-
ذكريات عمّان على الجدران.. أكثر من ألف -آرمة- تؤرخ نشأة مجتم
...
-
سباق سيارات بين صخور العلا بالسعودية؟ فنانة تتخيل كيف سيبدو
...
-
معرض 1-54 في مراكش: منصة عالمية للفنانين الأفارقة
-
الكويتية نجمة إدريس تفوز بجائزة الملتقى للقصة القصيرة العربي
...
-
-نيويورك تايمز-: تغير موقف الولايات المتحدة تجاه أوروبا يشبه
...
المزيد.....
-
نحبّكِ يا نعيمة: (شهادات إنسانيّة وإبداعيّة بأقلام مَنْ عاصر
...
/ د. سناء الشعلان
-
أدركها النسيان
/ سناء شعلان
-
مختارات من الشعر العربي المعاصر كتاب كامل
/ كاظم حسن سعيد
-
نظرات نقدية في تجربة السيد حافظ الإبداعية 111
/ مصطفى رمضاني
-
جحيم المعتقلات في العراق كتاب كامل
/ كاظم حسن سعيد
-
رضاب سام
/ سجاد حسن عواد
-
اللغة الشعرية في رواية كابتشينو ل السيد حافظ - 110
/ وردة عطابي - إشراق عماري
-
تجربة الميج 21 الأولي لفاطمة ياسين
/ محمد دوير
-
مذكرات -آل پاتشينو- عن -العرّاب-
/ جلال نعيم
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
المزيد.....
|