أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - محمود شقير - محمود شقير في ابنة خالتي كوندوليزا: تزامن ما لا يتزامن/ د. ابراهيم أبو هشهش















المزيد.....


محمود شقير في ابنة خالتي كوندوليزا: تزامن ما لا يتزامن/ د. ابراهيم أبو هشهش


محمود شقير

الحوار المتمدن-العدد: 8059 - 2024 / 8 / 4 - 14:17
المحور: الادب والفن
    


إذا كانت القصة القصيرة هي الصوت المنفرد ، حسب تعبير كونور ؛ أي أنها تعبّر عن حالة العزلة والفردية في المجتمعات الغربية المعاصرة ، فإنَّ قصص محمود شقير هي صوت مفرد منضفر في صوت الجماعة ووجدانها العام ، فوجهة النظر أو زاوية الرؤية قد تبدو فرديّة إلاّ أنها ليست أحادية ، بمعنى أنها ذات بعد جدلي ينطلق من حضور كثيف للشأن العام منظورا إليه بعين الفرد الذكية المتنبهة المتعاطفة . وهذا أمر له علاقة أساسا بالكاتب نفسه ، أي محمود شقير ، مثلما أيضًا بالحالة الفلسطينية الاستثنائية من حيث إنها تمثل مجتمعا في حالة صيرورة مستمرة يعيش ظرفا تاريخيا خاصا ، ويعاني من وضع شائه فرضته شروط الاحتلال وإكراهاته ، بالإضافة إلى ما يمرّ به هذا المجتمع كغيره من المجتمعات البشرية من شروط العولمة وإملاءاتها ودينامياتها الخاصة ، حتى ليصحّ القول إنَّ قصص محمود شقير تكاد تكون حالة استثنائية فريدة في الأدب الفلسطيني المعاصر في زمن تتسيّد فيه الرواية ، بوصفها جنسا أدبيا لا شكل له ، أجناس القول الأدبية الأخرى ، ممّا يدعم النظرية القائلة بأنَّ القصّة القصيرة تزدهر في المجتمعات التي تمرّ في مرحلة من مراحل التحولات العميقة، مثلما ازدهرت القصة القصيرة في ألمانيا بعد الحرب العالمية الثانية على سبيل المثال ، حتى لو كان هذا الازدهار والتميّز على مستوى النوع وليس على مستوى الكم والانتشار، وهو أمر يعطي قصص شقير أهمية خاصة ، فالعبرة ليست في عدد من يمارسون كتابة هذا الجنس الأدبي بل في الفرادة والتميّز والقدرة على لمس نقاط حساسة في وجدان جمعي .
تتيح قصص مجموعة " ابنة خالتي كونداليزا " طرائق متعددة لمقاربتِها ، مثلها في ذلك مثل سابقتها أي مجموعة " صورة شاكيرا " ، فهما تشتركان في سمات كثيرة، ويمكن النظر إلى بعض قصصيهما على أنها متوالياتٍ سردية ، بل وتكادان معا تقيمان شكلا من أشكال الرواية التجريبية الحداثية ، فمجموع قصص المجموعتين يهيمن عليه مناخ سردي متجانس ، على الرّغم من فرادة كل قصة وتميّزها وإمكان قراءتها باستقلال تام عن أيّة قصّة أخرى ، وعلى الرّغم أيضا من اختلاف كلّ قصة في شخوصها وأحداثها ، إلاّ أنّ هناك مصيرا جماعيا مشتركا يسلك جميع هذه القصص في نظام واحد ، ويسبغ عليها مناخا نفسيا موحدا ، فهي تجري في فضاء اجتماعي إنساني واحد ، وتتضافر جميعها معا في إحداث أثر ذهني وجداني شبيه بالأثر الذي تتركه الرواية في القارئ على وجه العموم .
يسود غالبيةَ قصص هذه المجموعة عالم سرديّ فانتازي يصور واقعا سورياليا مغرّبا عن الواقع بدون أن يشعر القارئ أن هذين العالمين شديدا الانفصال ، بل إن أحدهما يحيل إلى الآخر ، وهذا الانفصال الظاهري بين الفن والواقع هو ما يكسب الفن قوته ودلالته الخاصة في نقدِ الواقع في رأي أدورنو الذي يرى " أنَّ الأعمال الأدبية الطليعية تمتاز بقدرتها على نفي الواقع الذي تشير إليه لأنها ليست انعكاسا مباشرا عن النسق الاجتماعي بل إن الفن يؤدي دوره داخل هذا النسق بوصفه مثيرا ينتج نوعا غير مباشر من المعرفة . فدور الأدب يتحقق عن طريق كتابة نصوص تجريبية صعبة وليس بكتابة أعمال نقدية أخلاقية " . وقد لا تكون قصص محمود شقير أعمالا صعبة إلاّ أنها جريئة مجددة خارجة على المألوف في اقتحامها عالم الفانتازيا ، والانتقال بين عالم الواقع وعالم الخيال انتقالا سلسا بدون أية غرابة ، تماما مثلما يفعل أبطال الحكايات الشعبية الخرافية في انتقالهم السلس بين عالمي الواقع والخيال ، وإذا كانت الأغوال والكائنات الخرافية هي الجزء الذي يمثل عالم الخيال في الخرافة الشعبية ، فإنّ رامسفيلد وكونداليزا رايس ونعومي كامبل ورامبو وجرج بوش... إلخ هيَ العناصر الموازية لها في قصص محمود شقير . صحيح أنّ هذه شخصيات واقعية تاريخية، ولكنها بعيدة بعدا أسطوريا بمقدار ما كانت حاضرة في كل لحظة في السياسة والإعلام والأخبار، تماما مثل عالم الجن والغيلان والكائنات الخيالية التي كانت حاضرة حضورا قويا في الوجدان الشعبي على الرّغم من غيابها المادي عن الواقع . ومن هنا فإنّ أكبر سمة سردية تميز قصص مجموعة شقير هذه هي سحرها الشبيه بسحر الخرافة الشعبية ، فالقارئ يدلف إليها مسحورا بدون استغراب مثلما يدلف إلى عالم الخرافة الشعبية حاصلا في نهاية الأمر على نشوة أخّاذة لا يحققها سوى المخيال البشري الخلاق ، وعلى الرّغم من ثقل الواقع الذي تصوره وكآبته إلاّ أن شعورا بالخفّة الجمالية يستولي على القارئ يجعله غارقا في عوالمها مثلما كانت عوالم الخرافات الشعبية تأخذ بألباب الأطفال الذين كانوا يستمعون إليها مروية من الجدات والعمات . فقصص هذه المجموعة تنجو من الوقوع قي هوة أشكال التعبير والتخييل النمطية بقدر ما تنبثق في الوقت نفسه من عوالم سردية حميمة موروثة سرعان ما تأخذ طريقها إلى إحداث الأثر المقصود ذهنيا ووجدانيا في نفس المتلقي من خلال تآزر عناصرها معا في إحداث هذا الأثر الكلي .
في القصة الأولى المسمّاة " مشية نعومي كامبل " تتآزر مجموعة من العناصر البنائية كثيفة الدلالة مشكلة معا مناخا سرديا ساخرا يقوم على التورية على المستويين الجزئي والكلي . وربما يفيد هنا التوقف مع هذه القصة بشيء من التفصيل لما فيها من براعة سردية مميّزة ، ولما تحتويه من مفاتيح بنائية وثقافية تصلح لقراءة بقية قصص المجموعة في ضوء منها . وقد يكون هذا السبب الذي جعل هذه القصة تتصدر بقية القصص ، طباعيًّا على الأقل .
جاء في الفقرة الأولى ما نصه :
" رآها أبوها وهي تجتاز البوابة الكبيرة عائدة من الجامعة إلى البيت ، جسدها محشور في بنطال أزرق ، والهاتف النقال على أذنها تتلقى مكالمة جاءتها للتو كما يبدو، وشعرها الطويل الناعم يرف على جبينها وكتفيها . لم يعرف إلا بعد وقت قصير أن بنطالها خلق مشكلة في الحي ، نهلة عرفت أن ثمة مشكلة وقعت من دون قصد مسبق ، كم تكره هذا الحي ! تكرهه لواحد وأربعين سببا ، ( ليس لديها وقت لتوضيح هذه الأسباب !) تذهب إلى الجامعة في الصباح ، تجتاز ثلاثة حواجز عسكرية وأحيانا أربعة للوصول إليها ، وبعد الظهر بقليل تغادرها عبر الطريق نفسها التي سلكتها في الصباح ، تتكدس على الحواجز نفسها مع أصناف عديدة من البشر ، تدخل القدس بعد مكابدة مرهقة ، وتتجه مباشرة إلى بيتها الواقع في إحدى ضواحي المدينة ، تشعر أنها تدخل منطقة يتجاور فيها المعقول واللامعقول ." (ص5) فعبارة " تشعر أنها تدخل منطقة يتجاور فيها المعقول واللامعقول " من أهم مفاتيح قراءة هذه المجموعة , أمّا هذه المنطقة التي هذه صفتها فليست سوى مكان مصغر ( مايكروكزوم ) يختصر دلاليا المجتمعَ الفلسطيني برمته . وهكذا فإنَّ تجاور الواقع والخيال ، أو المعقول واللامعقول يواجه القارئ منذ الصفحة الأولى في المجموعة ليمهد له أجواء بقية القصص ويقوده في تلقيها وقراءتها . فهي قصص تصور مجتمعا يعاني ظرفا استثنائيا خاصًا ، ولكنه يشترك مع بقية المجتمعات البشرية في كونه يمرّ بحالة عنيفة من مراحل العولمة . وأهمُّ سمةٍ من سمات هذه العولمة التي لم تترك بقعة في الكرة الأرضية بدون أن تمسّها هو تزامن اللامتزامن _ حسب تعبير هارالد موللر _ صاحب كتاب " تعايش الثقافات " ، فقد وضعت مجريات العولمة ودينامياتها الخاصة التطور الاجتماعي في حالة تسارع مذهلة بحيث نشأت ظروف تزامنت فيها ظواهر وقيم تنتمي إلى حقب اجتماعية تاريخية متباعدة ومتباينة .
تصور القصّة أزمة وقعت في ذلك الحي من المدينةِ الذي يتجاور فيه المعقول واللامعقول أو يتزامنُ فيهِ ما ليس متزامنا _ كما سنرى _ . كادت تتطور إلى مشاجرة قبلية عنيفة تسيل فيها دماء أبناء الحي الواحد . يتصاعد الحدث بعد أن يعلق أزعر الحارة على نهلة الفتاة الجامعية ابنة تاجر الأعلاف الميسور في أثناء عودتِها من الجامعة وهي ترتدي بنطالها الجينز الأزرق وتتحدث في هاتفها الخلوي بأنها تمشي مثل نعومي كامبل ، وهنا يتصدى له مهبول الحارة الذي يتوهم أن نهلة تحبُّه مثلما يحبها هو فيندلع شجار يتناهى إلى مسامع الأب الذي يرى أنَّ في ذلك إهانة لشرف العائلة ، فيعقد مجلسا عشائريا يشارك فيه طبيب شاب من العائلة تخرَّجَ حديثا من تركيا ، ويقرر الهجوم على عائلة الأزعر . في بداية الأمرِ يقرر الأب الخروج إليهم راكبًا سيارته المرسيدس الجديدة، إلاّ أنَّه سرعان ما يصرف النظر عن هذه الفكرة خشية أن تتعرض السيارة للضرر جراء الحجارة فيخسر الجولة ، فيقرر أن يخرج إليهم راكبًا فرسه وشاهرًا سيف الأجداد الذي ظلَّ سنوات طويلة معلقًا على جدار المضافة . وهكذا يخرج على رأس قومه _ ومن ضمنهم الطبيب _ إلاّ أنَه ينصر بالرعب لأن الشارع كانَ خاليًا من خصومه الذين تحصنوا فوق سطوح منازلهم حاملين الحجارة الثقيلة ، فيعدُّ الأب ذلك نصرًا ويقرر العودة ، وهنا تصادفه دورية للجيش(الإسرائيلي) فتوقفه لتوجه إليه بعض الأسئلة ، فيضطر لإخفاء السيف تحت ثيابه ، غير أن الفرس تواظب على رفع قائمتها وتحريكها مما يجعل السيف يحز في لحم فخذه ذهابًا وإيابًا مدميًا إياه ومسببًا له ألمًا شديدًا، ولكنه لا يجد بدًّا من السكوت خوفًا من انكشاف أمره ، في مشهد تبلغ فيه المفارقة أعلى درجات السخرية ، فيعود إلى بيته دامي الساق في حين يظلُّ موضوع نهلة بلباسها ومشيتها وهاتفها معلقًا، بل إنّها أصلاً تواصل حياتها اليومية دون تغيير فتظلُّ ملازمة غرفتها وهاتفها الخلوي لا يفارق أذنها غير شاعرة بما يجري بسببها.
كل ما احتوته هذه القصة من عناصر سردية بنائية يجعلُ من هذه القصة قطعة متفوقة من السرد الساخر بليغ الدلالة على تعرية واقع كاريكاتيري متناقض زائف ، تتزامن فيه قيم ما قبل الحداثة وما بعدها ، فالحي يقع في مدينة ‘لاّ أنه محكوم بالقيم والأعرافِ القبلية ، فهو ليس أكثر من تجمع قبلي في المدينة في حين تغيب المدينة بقوانينها ومؤسساتها وقيمها ، والتاجر يقتني فرسا وسيفا ويمتلك سيارة مرسيدس في الوقتِ نفسه ، وابنته تذهب إلى الجامعة على بعد ثلاثة حواجز عسكرية في الذهابِ ومثلها في الإياب . وترتدي ملابس حديثة ولا تفارق هاتفها الخلوي . وسيارة المرسيدس تتراجع لتتقدم الفرس والسيف رمزا للمجد والسؤدد والذياد عن الحمى إلاّ أنهما يغدوان عناصر دينكوشوتية في مواجهة حداثة المحتل وعصريته ، بل إن هذا السيف الذي رفع ضدَّ أبناء الجلدة الواحدة توجّب إخفاؤه وبدلاً من رفعه في وجه المحتل أو العدو المشترك ، صار يحزّ في اللحم الخاص ويدميه ، ناهيك عن عدم قدرته على حسم الأمر ، بل إن نهلة واصلت حياتها ومشيتها ملازمة هاتفها الخلوي ، واستطاعت أن تفرضَ نفسها وتقتحم اجتماع العشيرة في المضافة بهيئتها الحداثية تاركة الجميع في ذهول وعجز علما أن الاجتماع الذي يشارك فيه الطبيب ظلَّ منعقدًا تاركًا القصة تنفتح على نهاية مشرعة عن انتصار غير معلن للفتاة ذات الجينز الضيق والهاتف النقال على مجتمع ذكوري شائه مزّيف جبان ، يصدع فيه المثقف الشاب المتعلم بأمر الجاهل العاجز .
وأغلب قصص المجموعة تستدعي في عنواناتها وفي متونها شخصيات عالمية مشهورة ، جعلها السارد جزءًا عاديًّا مألوفًا من المشهد الفلسطيني المعولم الذي يختلط فيه الحابل بالنابل ، وتتجاور فيه قيم العشيرة مع ممارسات ما بعد الحداثة ، بل إنّ السّرد نجح في إلغاء المسافة بين هذه الشخصيات العالمية المؤسطرة والواقع . مثلما يلغي السّرد في الحكاية الشعبية المسافة بين عالم الواقع وعالم الخيال ، بحيث يتنقل البطل بين العالمين بدون دهشة أو استغراب ، فهكذا يصبح رامبو مشهدا خلفيا مألوفا عاديا في الحيّ وهو يمتطي حماره القصير في ذهابه وإيابه من بيت الشعر الذي نصبه في طرف الحيِ ليعيش فيه مع زوجته ، أو وهو يدور على بيوت الحارة بيتًا بيتًا ويجمع القمامة منها . ومثلما ظهر فجأة يغادر فجأةً ولم يترك له من أثر سوى طفل بستة أصابع ولد له من زوجته التي تزوجها سرًّا .
أو كما يحضر رامسفيلد وليمة تقليدية في بيت شعر ضرب خصيصا لاستقباله بعد أن لبَّى دعوة عم السارد ، تقدمَ فيه المناسف بينما تغني النسْوة في الخلفية في مشهد يجعل جميع العناصر السردية ، ومن ضمنها رامسفيلد جزءا من جو شعبي اعتيادي:
ركب رامسفيلْ وسافر ع حلب
قدموا له البقلاوة في صحون ذهب
ركب رامسفيل وسافر ع طوباس
قدموا له البقلاوة في صحون نحاس
ومثلما أصبحت شاكيرا في المجموعة السابقة ( صورة شاكيرا ) فردا من عشيرة كبيرة لمجرد مجانسة لفظية نجمت عن عجمة جندي طارئ ، يغدو بابلو عبد الله أيضا بديلا فلسطينيا قوميا لرونالدو المتعجرف الذي رفض تلبية دعوة سائق سيارة الأجرة كاظم علي -بطل قصة " مقعد بابلو عبد الله " التي تمتاز برشاقة سردية خاصة ، فكاظم يصر على أن بابلو عبدالله فلسطيني ، ويواجه من يعترض على ذلك بأن لا غرابة في اسم بابلو فهناك نهرو إبراهيم وجيفارا البديري مثلاً . في أحد الأيام يعود كاظم ليجد زوجته مرتدية شورتا أسود وحذاءً رياضيا وهي تضرب الكرة في مواجهة جدار المنزل ، وسرعان ما تنضم إليها ثلاث جارات أخريات ، وهكذا يبدأ اللعب بين رجل واحد وأربع نساء. وعندما تندفع الكرة خارجًا يرفض كاظم أن تخرج زوجته لإحضارها ، ويندفع وراءها عائدًا بها بينما تبقى النساء الأربع في انتظاره خلف السور . وهي نهاية مفتوحة ولكنها واضحة الدلالة في حين يظلّ صدى القصة بأحداثها العادية وشخصياتها من بسطاء الناس يتردد في الوجدان مانحا المتلقي نشوة أو شعورا بالخفة شبيها بالذي تمنحه الحكاية الشعبية الخرافية ، ويجعله يتخفف من ثقل الواقع وكآبته ، وهو دورٌ نقدي للأدب والفن غاية في الأهمية ، فالواقع المتحقق سرديا بما يحدثه من أثرٍ ذهني ووجداني هو واقع آخر مختلف ، مما يدفع المتلقي إلى إعادة التأمل في واقعه الحقيقي من جديد في ضوء وعي تحصّل بفعل قوّة الفن . أما هذا الانفصال الذي يشعر به القارئ لهذه القصص بين نشوة الأثر الفني وما يحدثه من خفة من جهة ، وثقل الواقع وكآبته من جهة أخرى فهو مثل ذلك الجمال الذي يستشعره القارئ لقصيدة غنائية جميلة حتى لو كان موضوعها مأساويا ، فالتناسب طردي بين قوّة القيم الحياتية والقيم الجمالية التي تولدها ، مثلما أن العلاقة جدلية بين هاتين القيمتين ، فقيم فنية رفيعة من شأنها أن تولد قيمًا إنسانية رفيعة أيضًا ، وهذا ما نجحت فيه قصص هذه المجموعة بطريقة بارعة غير مباشرة في إبداعها لهذه العوالم الفانتازية الشعبية الماتعة التي تجعلنا ننفصل عن الواقع لكي يتسنى لنا إعادة تأمله وتفحصه والتعرف عليه .
2- أما الاحتلال الذي كان الخلفية الحاضرة أبدًا في كل قصةٍ من قصص هذهِ المجموعة ، فإنه مع ذلك لم يستطع منع حياة هذه الكائنات السردية مفردة أو بصفتها جزءًا من نسيج مجتمعي تاريخي من التدفق والنماء وممارسة مختلف أشكال الحياة البشرية ، إلاّ أنه مع ذلك لم يكن بدون تأثير ، بل إن تأثيره كان في كثير من الأحيان مدمّرًا على مستوى المجتمع والأفراد ، لأن واقعًا بهذا التشوّه والشذوذ لا بدّ أن يترك أثره في سلوك الأفراد والجماعة ، بل وفي بناهم السيكولوجية أيضًا ؛ فكثير من الشخصيات القصصية مصابة بهذه الدرجة أو تلك من البارانويا متمثلة في تضخم الشخصية وشعورها بالعظمة ، أو في شعورها بالملاحقة والاضطهاد والمؤامرة . ومع ذلك فالقارئ لا ينفر من هذه الشخصيات ، لأن السّرد قدمها من جانبها الإنساني تقديمًا رفيقًا يتضمن تعاطفًا وقبولاً باعتبارها جزءًا من واقعنا الخاص ، فصورة الفلسطيني المنمّطة أي كونه إما بطلا أو ضحية ، التي صارت صورته أيضًا في نظر نفسهِ، وجدت لها موازاة فنية ساخرة في بعضِ قصص هذه المجموعة ، وخاصة قصة " الأستاذ مهيوب يتطلع إلى جائزة نوبل " التي تتحدث عن مدرس متقاعد يعد العدة للفوز بجائزة نوبل للسلام ، ورصيده في ذلك عدد هائل جدا من التلاميذ يحفظ أسماءهم جميعًا عن ظهر قلب ، ثم ورود اسمه دائمًا على صفحات الجرائد المحلية في صكوك الصلح العشائرية ، أمّا الملف الذي يحتوي على كل ذلك فيتطاير في الريح جراء تفتيش الجنود له وهكذا تذهب أحلامه أدراج الرياح مع أوراق الملف المبعثرة .
فالأستاذ مهيوب هذا هو الوجه الآخر لعبد السميع بطل قصّة " هاجس الفانتوم أيضًا " الذي أصابه وسواس قاهر مدمر بأن طائرات الفانتوم لا بدّ أنها ستقصف بنايته لأن أحد المستأجرين قد أطال لحيته ويمكن أن يستثير اشتباه الاحتلال في أنه أحد الاستشهاديين. وهذان النمطان من البارانويا يمتزجان معًا في شخصية مغني الحي في قصة " ما بعد صورة شاكيرا ، ففي حين أنه متردد من الظهور مع نانسي عجرم في ألبوم غنائي مشترك _ فإنه يحمّل صحفي الحي مسؤولية انطماسِ شهرته وركودها لأنه يتجاهله في مقالاته ولا يكتب عنه ، وينتظر أن تسند إليه وزارة الداخلية التي طال الجدل حولها في التشكيل الوزاري القادم . فهذا المغني يضخ في ذاته الجوفاء انتفاجا كاذبًا تعويضًا عن قزمية إنسانية وإبداعية يبررها هو بنظرية المؤامرة . وفي النهاية تحسم الأمور عائليًّا حين يكمن أقاربه للصحفي ويوسعونه ضربا ثم يعقب ذلك صلح عشائري يكمن بعده أقارب الصحفي للمغني ويطعمونه بدنًا أجبره على التوقف عن الغناء عدة أشهر ، فشخص في مستوى نانسي عجرم وعمرو دياب فنيا يتوسّل في النهاية بأكثر الطرق بدائية لحل مشكلاته ، وهي سمة مشتركة في كثير من القصص التي تضع يدها على ضعف مؤسسات المجتمع المدني وغيابها في فترة الانتفاضة الثانية التي هي مسرح غالبية هذه القصص . فهو واقع شاذ تغدو فيه السياسة الأمريكية كابوسا فلسطينيا خاصًّا ، فبطل إحدى هذه القصص يظلّ متوجسًا من جورج بوش لأنه زار العراق في يوم من الأيام ضمن وفد قابل صدام حسين ، وهو تشوّه سيكولوجي يقع أثره في القصص على الرجال غالبًا في حين تحاول الزوجات _ بدونِ جدوى_ التخفيف من حدته في أزواجهن بدون جدوى _ كما في _ هاجس الفانتوم " أو كما في " خلاف على ملح الطعام " . بالذات التي تصل فيها السخرية حدًّا مأساويا حين يخلي الزوج عبدالودود مطبخه من كل ما من شأنه إثارة شكوك أمريكا بما في ذلك مسحوق الغسيل وملح الطعام ، لأنها قد تعتبر أسلحة كيماوية محتملة.
3- ومن جهة ثالثة يمكن مقاربة هذه القصص من جهة معمارها الفني ، ومكوناتها السردية الخاصة وخاصة لغتها المتقشفة التي تتنازل عن كل درجة من درجات الشعرية لصالح إقامة عالم سردي تقوم الدهشة فيه على البناء والتراكيب وتفاعل العناصر وقوة التخييل ، في حين أن كثيرًا من كتاب السرد العرب يقعون في فخ البذخ اللغوي لسدّ ثغرات في أبنيتهم السردية . وهو، أي هذا التقشف ، أمر ينطبق أيضًا على مستوى هذه اللغة القريبة من اللغة الشعبية الملائمة لمستوى شخصيات بسيطة ولكنها تغدو أجزاء تركيبية في عالم سردي جذاب ، صحيح إنها شخصيات ذات تكوين بسيط إلا أنها فاعلة في استبطان واقع برمته وإعادة إدراكه .
ومن الخصائص البنائية اللافتة أيضًا الطاقة الدرامية الواضحة المتضمنة في هذهِ القصص، فكل منها تتمتع بقدرة حركية غاية في الحيوية والتجسد يجعلها أقرب إلى مسرحية من فصل واحد ، مثلما يكاد يقرّبها من شخصيته المقامة في السرد العربي القديم من خلال قدرة السارد على تمثيل شخوصه ومسرحة أحداثه وضخ طاقة حركيّة قوية فيها ، في كل ذلك في جوّ قائم على المفارقة والتورية الساخرة ، بل إنه لجأ أحيانًا في جمل معترضة إلى وضع توجيهات للقراءة مثل تلك التي يكتبها كاتب المسرحية ليستعين بها المخرج ، كما في قصة " الأستاذ مهيوب " وخاصة في أثناء حديثه بالتلفون . مما يجعل القارئ يشعر بأنه مشاهد لمسرحية تجري أمامه وليس أنه مجرّد قارئ لعمل سردي .



#محمود_شقير (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- أدب الناشئة ودوره في تعزيز الرواية التاريخية والهوية الفلسطي ...
- توفيق زياد في ذكراه الثلاثين
- رشيد ونفيسة/ ست قصص قصيرة جدا
- تأملات على هامش الصراع
- الأدب بوصفه تعبيرًا عن الجرح
- باسم خندقجي أسير بثلاثة مؤبدات شاعر وروائي
- أنا ومدينتي الأولى: القدس4
- أنا ومدينتي الأولى القدس3
- أنا ومدينتي الأولى: القدس2
- أنا ومدينتي الأولى: القدس
- ما قلّ ودل3/ على هامش هذه الحرب
- القدس في كتابات الأسيرات والأسرى8
- القدس في كتابات الأسيرات والأسرى7
- القدس في كتابات الأسيرات والأسرى6
- القدس في كتابات الاسيرات والأسرى5
- القدس في كتابات الأسيرات والأسرى4
- القدس في كتابات الأسيرات والأسرى3
- القدس في كتابات الأسيرات والأسرى2
- القدس في كتابات الأسيرات والأسرى
- تحية وسؤال


المزيد.....




- متاحف قطر تفتتح معرض -الفكر الأولمبي: قيَمٌ وقمَم-
- بعد غياب 6 سنوات.. كاظم الساهر يشعل مسرح قرطاج
- ما مستقبل العلاقة بين الغرب الإمبريالي والثقافة الدينية؟
- “لينك فعال” نتيجة الثانوية العامة قسمي العلمي والأدبي 2024 ف ...
- نادي الترجمة في اتحاد الأدباء يخرج بتوصيات لتفعيل نشاطه
- درنة بين البحر والسدين.. حكايا ذاكرة مبللة لمدينة رماها الما ...
- لِمَ العرف يقضي بارتداء الكوميديات أزياء محتشمة على خشبة الم ...
- بالاسم ورقم الجلوس …رابط نتائج الثانوية العامة في اليمن العل ...
- مؤشرات تنسيق الثانوية الازهرية لكليات العلمي والأدبي 2024
- -البيوت الروسية- حول العالم تبدأ بعرض فيلم -التاريخ المختصر ...


المزيد.....

- مشاريع الرجل الضرير مجموعة قصصية / كاظم حسن سعيد
- البحث عن الوطن - سيرة حياة عبدالجواد سيد / عبدالجواد سيد
- Diary Book كتاب المفكرة / محمد عبد الكريم يوسف
- مختارات هنري دي رينييه الشعرية / أكد الجبوري
- الرفيق أبو خمرة والشيخ ابو نهدة / محمد الهلالي
- أسواق الحقيقة / محمد الهلالي
- نظرية التداخلات الأجناسية في رواية كل من عليها خان للسيد ح ... / روباش عليمة
- خواطر الشيطان / عدنان رضوان
- إتقان الذات / عدنان رضوان
- الكتابة المسرحية للأطفال بين الواقع والتجريب أعمال السيد ... / الويزة جبابلية


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - محمود شقير - محمود شقير في ابنة خالتي كوندوليزا: تزامن ما لا يتزامن/ د. ابراهيم أبو هشهش