اخلاقيات الإرادة المتشائمة عند شوبنهور (2-8)/ إشبيليا الجبوري - ت: من الألمانية أكد الجبوري

أكد الجبوري

الحوار المتمدن-العدد: 8055 - 2024 / 7 / 31 - 01:42
المحور: الادب والفن
    

… تابع

- لماذا يعتبر شوبنهاور أول منظّر لأخلاقيات إرادة التشاؤم؟
لماذا يعتبر شوبنهاور أول منظّر للتشاؤم؟ يكتب: "في الفضاء اللامتناهي هناك عدد لا يحصى من الكرات الضوئية، تدور حول كل منها حوالي اثنتي عشرة كرة أصغر مضاءة بها، والتي، دافئة من الداخل، مغطاة بقشرة صلبة وباردة تغطيها طبقة متعفنة. لقد ولد كائنات حية وعارفة: هذه هي الحقيقة التجريبية، الواقع، العالم"()

وتستمر الفقرة الأولى التي يبدأ بها شوبنهاور المجلد الثاني من "العالم إرادة وتمثلا":
"لكن بالنسبة لكائن مفكر، إنه موقف مؤلم أن تجد نفسك في واحدة من تلك المجالات التي لا تعد ولا تحصى والتي تطفو بحرية في الفضاء اللامتناهي، ولا تعرف من أين تأتي أو إلى أين تذهب، وأن تكون مجرد واحد من الكائنات المماثلة التي لا تعد ولا تحصى والتي تتشبث تهتز وتتعذب، تولد وتهلك بسرعة ودون توقف في زمن بلا بداية ولا نهاية: لا شيء دائم هناك سوى المادة وتكرار نفس الأشكال العضوية المتنوعة من خلال مسارات وقنوات لا تتغير" ().

آل السؤال التقليدي إذن: لماذا الفلسفة؟ ولماذا يتفلسف؟ يعرضها شوبنهاور في هذا المقطع المقتبس الجميل والذي يتميز بكثافة أفاهيمية فريدة. وبعد ذلك: "... بعد أن غامر - اتبع الفيلسوف الألماني - لآلاف السنين في فلسفة موضوعية فقط اكتشف الإنسان أنه من بين الأشياء العديدة التي تجعل العالم غامضًا ومعقدًا للغاية، فإن الأول والأقرب هو هذا: أن، ومهما كان عظيمًا ومتينًا، فإن وجوده معلق بخيط واحد: وهذا الخيط هو ضمير كل إنسان، حيث يجلس"().

لذا، وفقًا لشوبنهاور، وراء هذه البيانات "لا يمكن أن يكون هناك يقين فوري؛ علاوة على ذلك، يجب أن تمتلك المبادئ الأولى للعلم مثل هذا اليقين. إن الاعتراف بالعالم الموضوعي على أنه موجود بشكل صحيح هو أمر مناسب لوجهة النظر التجريبية للعلوم المتبقية: ""ليس الأمر كذلك بالنسبة للفلسفة التي عليها أن تعود إلى الأول والأصيل"()

- ثم مرة أخرى وبالعودة ثانية؛
لماذا يعتبر شوبنهاور أول منظّر للتشاؤم؟ نعم، إن النظرة إلى العالم كمملكة للشر وملاذ للمعاناة، موجودة في كل الشعراء والكتاب الملعونين. يقول إراسمو ماريا كارو (1826-1887)() : "هذه الأحزان الأنيقة السامية ليست فلسفية، ولا تأتي من تصور عن العالم وعن الحياة: أجزاء من الذات تعود إليه، هناك تنغلق وتستمتع بكبريائها الرقيق؛ ستكون كذلك". محفوظة كأنها دنس، للظهور للجموع"(). ليست الإنسانية هي التي تعاني، بل الشاعر، أي طبيعة استثنائية.

لكي تشكل هذه المعاناة نظرية، لا يكفي أن تكون صادقة وعميقة، فمن المؤلم أن يكون الشعور الذي مستوحاة منها عامًا. سيقول إراسمو ماريا كارو لاحقًا: الشر الذاتي ليس سوى حادث تافه في العالم. فالهدف الشرير هو الذي يسود في جميع درجات ومناطق "الكائن".() هذه هي الطريقة الوحيدة لتشكيل الفلسفة. والباقي أدب أو سيرة أو رواية أو قصة.()

أخلاقيات إرادة التشاؤم الفلسفي "لا تجعل من الألم امتيازا، بل قانونا. لا تخلقوا أرستقراطية يائسة. التفوق الوحيد الذي يعزوه إلى عبقريته هو أن يرى بوضوح ما يشعر به الجمهور بطريقة مشوشة. يُشبِّه الوجود كله بالبؤس، ويمتد قانون المعاناة من الإنسان إلى الطبيعة، من الطبيعة إلى مبدأها.." ().

من وجهة النظر هذه، لا يمكن إنكار أنه، على الرغم من عمق أسس المفكرين الآخرين لأسباب الموقف المتشائم تجاه العالم، فإن أخلاقيات إرادة التشاؤم فقط في نظام شوبنهاور الفلسفي يتم حله، من خلال التفكير الاخلاقي الفلسفي؛ والتي يجب أن تكون الوسيلة التي تتطلب منا تبني وجهة نظر تتجاوز معاناتنا الفردية، وتحتل أفكارنا وتسمح لنا برؤية العالم والحياة ككل ووحدة، حيث شؤوننا الشخصية، "الممتنعون عن كل تمسك بالجلد نفسه، يُحكم عليهم من نبل من يرى فيهم، لم يعد مصير فرد معين، بل مصير البشرية إن الشعور بالجليل يعني، فلسفيًا، أننا لا نستطيع أن نقبل أن العالم ليس له سوى معنى مادي، ولكن قبل كل شيء، له إحساس ميتافيزيقي".()

- مذهب الطبيعة، باعتباره جوهر أخلاقيات إرادة تشاؤمها الفلسفي.
كل من الأشياء والجنس والنوع، وكل فرد – عند شوبنهاور – ليس له سوى مادة مرئية، ووجودها وهمي ولا يرتبط إلا بالتعددية الناجمة عن قانون العقل الكافي، "مبدأ الفردية". "تزييف" الإرادة يؤدي إلى أن تكون الأشياء المختلفة، من خلال فشلها في تحقيق وحدة جوهرها، في حالة من "حرب الإبادة المستمرة" مع بعضها البعض.

"لذا، فإننا نرى في كل مكان في الطبيعة - كما يكتب شوبنهاور في كتابه "العالم كإرادة وتمثل"() - التنافس، والصراع، وعدم ثبات النصر، وسندرك لاحقًا أن هذا هو التشعب المتأصل في الإرادة نفسها"(). وكل مرحلة من مراحل الموضوعية تتنازع فيها اخلاقيات الإرادة المادة والمكان والزمان مع الآخر. يجب أن يتغير شكل المادة الدائمة باستمرار، لأن الظواهر الميكانيكية والفيزيائية والكيميائية والعضوية، التي تسترشد بالسببية، والمتعطشة للاكتشاف، ترفض مادة بعضها البعض: كل منها يريد الكشف عن فكرته. يمكن تتبع هذا التنافس في جميع أنحاء الطبيعة، بل إنه موجود فقط بسببه: لأنه لو لم يكن هناك أي قيد بين الأشياء، لكان الجميع واحدًا، كما يقول إمبيدوكليس (490 ق.م - 430 ق.م) ()؛ لأن هذا التنافس بالذات ليس سوى مظهر من مظاهر التشعب المتأصل في اخلاقيات الإرادة نفسها. ويتجلى هذا الصراع العالمي بأوضح صورة في مملكة الحيوان: فهي تتغذى على مملكة النبات، وفي داخلها يصبح كل حيوان بدوره فريسة وغذاء للآخر، أي أنه يجب عليه أن يتخلى عن المادة التي عبر فيها عن فكرته.() تعبير عن فكرة أخرى، لأن كل حيوان لا يمكنه الحفاظ على وجوده إلا من خلال التدمير المستمر للآخرين؛ وهكذا فإن إرادة الحياة تلتهم نفسها وتخدمها كغذاء في مختلف الأنواع، وأخيرا الجنس البشري في انتصاره على الجميع "وإلا فإنه يرى أن إرادة الحياة هي الشيء الوحيد الذي يمكن أن يحافظ على وجوده".()

بهذه الطريقة، تتجلى الحرب في كل مرحلة ذات صلة من تجسيد اخلاقيات الإرادة المتشائمة - بدءًا من المعارضة المتبادلة لقوى الجاذبية والمرونة وحتى الصراعات بين الناس -؛ المثال الأكثر وضوحًا على تقسيم اخلاقيات الإرادة هذا هو العلاقة بين المفترس والفريسة. هذه المعارضة لا يمكن اختزالها، لأنها تقوض أخلاقيات الإرادة باعتبارها جوعًا أبديًا لا يشبع.

إن خضوع الاعتراضات الأدنى لأخلاقيات الإرادة للاعتراضات العليا هو أساس موضوعية اخلاقيات الإرادة المتشائمة في مختلف القوى وحالة العالم نفسه كتمثيل وأعلى نقاطه - معرفة الذات بالإرادة من خلال المعرفة الإنسانية -؛ إن التغلب الجدلي على القوى الأدنى في الاعتراضات العليا هو شرط لأقصى قدر ممكن من التنوع القيمي في أنماط إظهار أخلاقيات الإرادة المتشائمة:
"عندما تتعارض عدة ظواهر لأخلاقيات الإرادة، في المراحل الدنيا من موضوعيتها، أي غير العضوية، مع بعضها البعض، بمعنى أن كل منها، متبعا اتجاه السببية، يريد انتزاع المادة الموجودة: من هذا الصراع يظهر مظهر فكرة متفوقة، تهيمن على كل ما كان موجودا من قبل، ولكن بطريقة تسمح لجوهر هذه الأخيرة بالوجود بطريقة ثانوية، وتمتص في حد ذاتها عملية لا يمكن فهمها إلا من هوية الاستعداد للظهور في كل الأفكار ومن جهدها نحو موضوعية أعلى من أي وقت مضى."()

إن أكمل ما ينبثق من مثل هذا الانتصار على العديد من الأفكار الرديئة أو الاعتراضات على اخلاقيات الإرادة المتشائمة، يكتسب طابعًا جديدًا تمامًا على وجه التحديد لأنه يأخذ على عاتقه تشبيهًا أكثر قوة لكل منها الذي يفوز به: يتم الاعتراض على أخلاقيات الإرادة في شكل من أشكال تشاؤم الإرادة الفلسفي. طريقة جديدة وأكثر اختلافًا: إنها تظهر في الأصل عن طريق الجيل المتساوي، ثم من خلال استيعاب الجرثومة الموجودة، والمريمية العضوية، والنبات، والحيوان، والإنسان. وهكذا، من الصراع بين الظواهر الأدنى، تظهر الظواهر الأعلى، التي تلتهمهم جميعًا، ولكنها أيضًا تبذل جهد الجميع إلى درجة أعلى ().

وفي الوقت نفسه، لا يكون للفرد أهمية بالنسبة لأخلاقيات الإرادة إلا بقدر ما يساهم في الحفاظ على النوع والحياة ككل؛ إنه مع الأخير ولا شيء آخر مع ما يمكننا ربطه بـ "غائية الطبيعة". إن عقيدة الطبيعة باعتبارها انبثاقًا وانفصالًا وصراعًا لأخلاقيات الإرادة مع نفسها، وكذلك معرفتها لذاتها، تشكل جوهر اخلاقيات إرادة التشاؤم الفلسفي عند شوبنهاور.

يتبع...
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
Copyright © akka2024
المكان والتاريخ: طوكيـو ـ 7/31/24
ـ الغرض: التواصل والتنمية الثقافية
ـ العينة المستهدفة: القارئ بالعربية (المترجمة).

#أكد_الجبوري (هاشتاغ)      

---

اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين	حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل

كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على:

الفيسبوك

التويتر

اليوتيوب

RSS

الانستغرام

لينكدإن

تيلكرام

بنترست

تمبلر

بلوكر

فليبورد

الموبايل

كيفية إشراك-إيصال مواضيعكم أو مواضيع تهمكم  إلى اكبر عدد ممكن من القراء والقارئات