|
انتصار الفكر الحُرّ على التاريخ في سردية (القبر الأبيض المتوسط) للروائي كريم صبح
داود السلمان
الحوار المتمدن-العدد: 8054 - 2024 / 7 / 30 - 22:21
المحور:
الادب والفن
أوّلا: الحدث وفكرة النص أستاذ التاريخ الدكتور وجدي، الشخصية الرئيسة في الرواية، يتخلى، على حين فجأة، عن التاريخ، ويهجره مليا، وإلى الأبد؛ حيث يكتشف بأن التاريخ هذا عبارة عن ترهات لا تصمد أمام الواقع، وهو بعدُ، لم نستطع أن نأخذ منه حقا ولا باطلاً، فالشعوب الحية المتطورة اليوم، لا سيما أوروبا، وامريكا واليابان والصين والكوريتين، لم تتقدم خطوة إلى الأمام، إلّا بعد أن تنصلت عن التاريخ، ورأته ما عاد يجدي نفعا، والخوض في تفاصيله عبارة عن مضيعة للوقت. القضية التي اكتشفها الدكتور وجدي، أي الزيف الذي القى هالة فضفاضة على التاريخ، ما هو إلّا خداع وضعه القدماء من أجل الهيمنة واستلاب الناس، والسيطرة على عقولهم، من قبل جهات نفعية همها أن تسيطر على كل شيء، ذلك بأن تحسر تفكير الناس في زاوية ضيقة في الفكر، ولا تدع الناس أن تفكر في ابعاد أخرى، وخصوصا المستقبل، فجعلتهم يفكرون في القديم، تاركين القضايا الحديثة المصيرية، يجادلون ويتجادلون في تلك القضايا التي لم يدرك الواقع حقيقتها، بل هي عبارة عن تخرصات واقوال لا يشبه بعضها البعض، بل يناقض بعضها البعض، حتى كانوا يتقاتلون فيما بينهم، فعلى مدى هذا التاريخ قتل ملايين الناس، ومازال الأمر قائما على قدم وساق. وبعد تركه لهذا التاريخ، يتوجّه وجدي إلى الأدب، ويقوم ببيع جميع الكتب والمصادر التاريخية، ويعوّض عن ذلك بالكتب الادبية، حيث يراها أكثر نفعا وفائدة من التاريخ؛ ذلك التاريخ الموغل بالدس والاكاذيب. ويتعلّق وجدي بالروائي الروسي دوستويفسكي، فيصبح كاتبه المفضّل، إذ يعتكف على قراءة كتبه، ويكتشف فيها اسرار عميقة، ورؤية واضحة للمستقبل، لم يغور في تفاصيلها غير هذا الكاتب، ولم يتوصل إليها أحد سواه. في رائعته "الأخوة كرامازوف" يترك دوستويفسكي النهايات مفتوحة؛ يتأثر وجدي بهذه الملحمة الكبيرة، ويحدوه الأمل على أن يكتب رواية، بعمق تلك الرواية، على أقل تقدير، تسرد أحداث واقعية فلسفية جدلية تضاهي ما كتبه ملهمه دوستويفسكي؛ لتكون مشروعه الفكري. فيسافر إلى بطرسبرج، تلك المدينة التي عاش في ربوعها كاتبه الملهم، بهدف أن يستمد منه العون والمساعدة، ليكتب ذلك العمل الروائي، الذي لم يخطط له ولم يرسم الأحداث التي من المؤمل أن يكتبها. لكن الفكرة لم تبلغ عنده الذروة، فتقدح في باله فكرة الاستعانة بروح دوستويفسكي، لتسده بالإلهام. وفعلا يجد امرأة تعينه على تحضير روح الكاتب، إلّا أنّه تفشل فكرة استحضار روح الكاتب، لينصدم مواقع مرّ، فتخيب آماله، فينقلب على ذاته. ثانيا: تحليل الأحداث 1: بطل القصة الدكتور وجدي، يكتشف زيف التاريخ، فيهجره نهائيا، لا عودة له ثانية، بعد صراع طويل مع التاريخ، ورغم تخصصه فيه، لأنه اكتشف ثغرات كبيرة في التاريخ، لا يمكن سد هذه الثغرات وردم هوتها. ثم أن التاريخ ما عاد يخدمنا في شيء من الأمر، طالما هو يعود بنا القهقرى إلى الخلف، بينما المجتمعات تتطور في كل يوم، ونحن نتراجع خطوات إلى الماضي البعيد، بهدف أن نجد الحلول الآنية عند أقوام، نعتبرهم اسلافنا ونضرب بهم المثل بسطوع العقل، ونجعل منهم مثلنا الأعلى. فيدرك وجدي أننا يوما بعد يوم نتخلف عن المجتمعات المتقدمة، والسبب تصديقنا بالتاريخ، وما جاء به من غث وسمين، وأحداث تخالف العقل والمنطق، بل لا يمكن تصديقها أبدًا. التاريخ كتبته اياد غير أمينة، هدفها مصالح شخصية ضيقة، وذهب يروّج لأحداث ذلك التاريخ نفعيون من رجال اللاهوت، لأنّ ثمة صلة وثيقة بين من كتب التاريخ، وبين من يروّج لمجريات لتلك الأحداث، اليوم، وهي غير واضحة المعالم، ولم نستطع أن نثبتها يقينا. 2: يكتشف كذلك وجدي خرافات كثيرة، كان هناك من يصدق بها، ويعدها حقائق ثابتة، وما هي إلّا خرافات واساطير، كحكايات ألف ليلة وليلة، ومن تلك الخرافات، قضية تحضير الأرواح والتي اراد الدكتور وجدي تفنيدها. وبتفنيد قضية تحضير الارواح يفنّد وجدي قضايا كثيرة على شاكلتها، ولها صلة عميقة بهذه القضية، حيث هو نفسه من يروّج لهذه يروّج لقضايا بعيدة كل البُعد عن العقل والمنطلق، وما ترويجها إلّا من أجل تجهيل المجتمعات، وتغييب الوعي لدى الناس، وبالتالي الركوب على ظهورهم لتحقيق غاياتهم المرجوة. فالمجتمعات إذا ما نهضت واكتشف زيف ما يدعيه رجالات اللاهوت، سينقلبون عليهم، كما انقلب أوروبا على أولئك الذين كان بيدهم زمام الأمور، وحتى كانوا يتحكمون بمصائر شعوبهم. ذلك في أحداث الثورة الفرنسية، وما تبعها من نتائج، إذ زحفت تلك الثورة لتعم أوربها كلها، فتنتهي حقبة مظلمة، قاست فيها الشعوب ما قاست من تعسف وظلم. 3: مغادرة التاريخ ضرورة حتمية. لذلك لأنّ تلك الأحداث لم نستطع أثبات حقيقتها؛ ثم أنها وقعت لأناس ما عاد تربطنها بهم صلة وثيقة، لأنّها وقعت في زمان ليس زماننا، وأناس عاشوا في حقبة زمنية مظلمة، لم ندرك أحداث تلك الحقبة، إذ لا يثبتها الواقع بصورة جلية. والعالم اليوم انما تقدم بعد أن دار ظهره عن تلك الاحداث، وطفق يفكر في مستقبله، كيف يكون وما هي الأمور والقضايا التي تعينه على تطور نفسه؟، والنهوض بواقع علمي يضاهي طموح الإنسان العصري؟. وتلك الأحداث تعود بنا إلى ماض سحيق ذهب حيث لا عودة، ماضي لا ندرك فيه الحقيقة التي عاشها، ثم أن مجرد التفكير في تلك الأحداث يضفي على نفوسنا المرارة والنكد، فالأولى هو التفكير في المستقبل، كيف نجعله مضيئا مشرقا، حتى نحصل على جيل ينعم بالتقدم والرُقي. 4: كثير هُم من فند التاريخ، وشكك في أحداثه، ورأى أن التاريخ ودراسته ما عادت تجدي اليوم نفعا. ومنهم المؤرخ والفيلسوف الايطالي جامبا تيستا فيكو (1) حيث سلطت الضوء على فلسفته وما ارتأى من اقوال، عطيات ابو السعود. وتلخص ابو السعود القضايا الهامة فقط التي يجب أن نأخذها بعين الاعتبار، من التاريخ، أما القضايا التي تخص الحروب، والخلافات الأخرى فجيب التغاضي عنها. وجعلت القضايا الهامة منها تكمن ببعدين، لا ثالث لهما: بُعد تجريبي يتضمن نظام العلاقات الاجتماعية، وبُعد نظري يتضمن نظرية القوانين التاريخية التي يقوم عليها المضمون التجريبي. فهي بحسب رؤية الكاتبة، قضية تخصنا اليوم ويجب أن نأخذها بعين الاعتبار. في كتابه "فلسفة التاريخ عند هيجل" استعرض أحمد زيغمي، التاريخ والاحداث التي رافقته، وفند كثير من تلك القضايا والاحداث، على ضوء نظرية هيجل المتعلقة بالتاريخ؛ إذ يرى أن هذا الفيلسوف الألماني يضرب مثلا نستنتج منه تزييف الحقائق، وانقلاب التاريخ على نفسه، إذ يقول: "إنّ بومة مينيرفا لا تحلّق إلّا في الظلام". (2) غوستاف لوبون، في كتابه "فلسفة التاريخ" يؤكد المعنى ذاته، الذي اشرنا إليه في مقدمة هذه الدارسة، فهو الآخر يزيّف التاريخ ولا يصدق في كثير من الاحداث المروية فيه. إذ يقول: "ومن أعظم ما في التاريخ من مصائب كون الحاضر الذي يكتنفنا، ونراه جديا، صادر عن ماض بعيدا لا نراه، فيقتضي حسن أدراك الحوادث أن يرجع إلى سلسلة طويلة من العلل السابقة". (3) هوامش (1)عطيات محمد ابو السعود، فلسفة التاريخ عند فيكو، ص 178، منشورات التنوير، الطبعة الثانية لسنة 2010. (2)أحمد زيغمي، فلسفة التاريخ عن هيجل، ص 20، منشورات دار الأمان – الرباط، تونس من دون ذكر سنة الطبع. (3)غوستاف لوبون، فلسفة التاريخ، ص 18، منشورات دار الرافدين الطبعة الأولى لسنة 2019، بترجمة عادل زعيتر.
#داود_السلمان (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
الكاتب-ة لايسمح
بالتعليق على هذا
الموضوع
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
سياحة قصيرة في (كفُّ تلوَّح لكلماتٍ في الدّخان) لأمير الحلاج
-
حكايات من بحر السراب
-
لها.. وهيَّ على فراش الغياب
-
أدب الرسائل ‘الى (.....) الرسالة الثالثة والأخيرة 17 تموز
-
وحيد شلال شاعر الجمال والحماسة والوطنية
-
في نصّها (منافي الرماد) عطاياالله ترسم جدارية للبوح
-
لها فحسب
-
المتعة أو الزواج المنقطع
-
اللاهوتيون وعلي والوردي
-
العمامة والغناء
-
نتانة التاريخ وصناعة الأقزام
-
(قصائد عارية) وموقف الجواهري
-
الأسباب النفسية والروحية لصناعة المبدع نص (نبوءة الجداول)– أ
...
-
قصة (الحمار) فضح لحقيقة الإنسان الفاشل
-
مكسيم جوركي والأسئلة الكبرى الوجودية
-
عمامة الجواهري وشيوعية السياب
-
فيصل الياسري شبع من: المال والجاه والنساء
-
صدمة التهكم في نص (مذكرات على أوراق محترقة) للشاعر مازن جميل
...
-
علي داخل.. والأداء المميّز
-
التساؤلات المحضة عند الشاعر عادل قاسم
المزيد.....
-
جيل -زد- والأدب.. كاتب مغربي يتحدث عن تجربته في تيك توك وفيس
...
-
أدبه ما زال حاضرا.. 51 عاما على رحيل تيسير السبول
-
طالبان تحظر هذه الأعمال الأدبية..وتلاحق صور الكائنات الحية
-
ظاهرة الدروس الخصوصية.. ترسيخ للفوارق الاجتماعية والثقافية ف
...
-
24ساعه افلام.. تردد روتانا سينما الجديد 2024 على النايل سات
...
-
معجب يفاجئ نجما مصريا بطلب غريب في الشارع (فيديو)
-
بيع لوحة -إمبراطورية الضوء- السريالية بمبلغ قياسي!
-
بشعار -العالم في كتاب-.. انطلاق معرض الكويت الدولي للكتاب في
...
-
-الشتاء الأبدي- الروسي يعرض في القاهرة (فيديو)
-
حفل إطلاق كتاب -رَحِم العالم.. أمومة عابرة للحدود- للناقدة ش
...
المزيد.....
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
-
السيد حافظ أيقونة دراما الطفل
/ د. أحمد محمود أحمد سعيد
-
اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ
/ صبرينة نصري نجود نصري
-
ببليوغرافيا الكاتب السيد الحافظ وأهم أعماله في المسرح والرو
...
/ السيد حافظ
المزيد.....
|