|
جامعات غوركي
خليل الشيخة
كاتب وقاص
(Kalil Chikha)
الحوار المتمدن-العدد: 8053 - 2024 / 7 / 29 - 18:14
المحور:
الادب والفن
كنا قد تناولنا سابقاً الجزئين الأولين من السيرة الذاتية لمكسيم غوركي (طفولتي) و (بين الناس). هذا الجزء (جامعاتي) كتبه بعد الثورة الروسية وانتهى منه عام 1923. وهو أقل عدداً في الصفحات من الجزئين الأولين، وتشعر بأن غوركي يسعى بسرعة لإنهاءه. فعدد الصفحات لايتعدى 200 صفحة. كما هو معروف عن غوركي الإستفاضة بوصف الشخصيات والطبيعة، فقد أتى هذا الجزء مختصراً لما اعتاد عليه الكاتب. يبدأ غوركي عندما نصحه أحد الأصدقاء أن يدرس في الجامعة لأنه مستعد لها نفسياً وثقافياً. وهو شخص لم يداوم في المدرسة الإبتدائية سوى شهور بسبب التشرد والفقر، فقد تعلم الكتابة والقراءة من جده عندما كان يجالسه في الأمسيات ويقرأ له من كتاب المزامير فتأسس عنده شغف للقراءة والمعرفه. باستطاعتنا القول أن الإنسان اليتيم يصاب في عقدة خلال طفولته، فإما توجهه نحو البناء والإيجابية أو نحو فساد النفس والشرور، وهذا مايذكره غوركي في السيرة، فاليتيم، إما يصبح لصاً أو مثيراً للشغب وبذلك يغدو رجل شر وفساد باعتبار أن اليتم ليس له من يردعه أو يدله على الخير.. هذا حال غوركي الذي فقد أبوه وأمه وهو مازال طفلاً وواجه كل أنواع التشرد والحياة القاسية. فقد سرق أحياناً كي يأكل والتحق بمجوعات ثورية مثيرة للشغب في قازان. توجه إلى قازان من أجل الدراسة في الجامعة، لكنه اكتشف بعد فترة وجيزة بأنه غير قادر على الإنقاق على نفسه أو على تكاليف الجامعة، فتركها واكتفى بأن يدرس في جامعات الحياة التي اعطته دروساً أهم بكثير من مواد الجامعة. ولهذا سمى هذا الجزء ب (جامعاتي). باختصار لاتصنع الجامعة منك مثقفاً أو واعياً، لكنها تساعدك على أن تكون كذلك. لقد اجاد غوركي في وصف الطبيعة، سكونها وهيجانها، ليلها ونهارها. ففي هذا الجزء أتى وصف لهطول المطر والليل والنجوم: .. ظللت وحيداً في الغرفة أنصت إلى صوت العاصفة التي كانت تضرب وتخرمش النافذة وقد تجمعت على الأرض بحيرة صغيرة من المطر. ينتقل إلى وصف الغرفة الفقيرة والتي كانت مستباحة لأمطار الشتاء كما قال. وفي صفحة أخرى ورد وصف السماء: كانت السماء صافية فيما عدا غيمة واحدة مذهبة ... وفي الليل : كانت هناك سحب سود تسير متوازية فوق رأسي والقمر يختال بينها مثل كرة ذهبية ويلقي ظلاله فوق الأرض. ... وعن نجمات الليل، كانت النجمات المتلألئة تخترق الليل الداكن وهي تبدو قريبة من الأرض رغم بعدها المتناهي. عندما فشل في دخول الجامعة، سكن مع شاب أسمه غوري بليتنوف في دار مليئة بالناس ويوصف ذلك اشاب بأنه ذكي ويعلّم الرياضيات لكنه يقضم أظافره في أوقات الفراغ. في ذلك البيت رأى أيضاً رجلاً يطوف هنا وهناك دون هدف له ساقان مستطيلتان وفم ضخم يعج بأسنان صفراء مثل حصان. كان معهم تلميذ تأتي إليه إمرأة في الأربعين تلاحقه مثل جاسوس أو دائن عنيد وهو يكرهها ولايبوح لها بكراهيته. من جملة الناس، كان هناك شاب من طلاب الجامعة سأله مرة أن يعيره كتاب (حكم وأمثال) ويصف الشاب بأن له رأس زنجي وشعر أجعد وشفتان غليظتان وأسنان بيضاء براقة. في هذه الأثناء يتعرف على مجموعة شباب يعملون في السر، يؤلفون منظمة ثورية، أحد هؤلاء الشباب كان أندريه ديرينكوف ويملك هذا الشاب مكتبة في قازان فيها الكثير من الكتب خاصة السياسية المحرمة. ومن خلال السيرة نعرف النمط الفكري الذي يحمله هؤلاء المثقفين الذين يبحثون عن حلول لواقع روسيا، وكأن الثورة الفرنسية قد أثرت بهم إلى حد أنهم كرهوا رجال الدين والدين ذاته لأن القيصر جعل من رجال الكنيسة زراعه الأيسر في حكمه، ولذلك تولد عند معظم هؤلاء عدانية كما قلنا للدين ورجاله. كان أسم المنظمة (سعادة الشعب أولاً). طبعاً مع إنتشار تنظيمات تابعة للروائي تولستوي التي كانت مزيج من التدين والثورية. يذكر غوركي عبارة مهمة إذ يقول أن المثقفين يثورون في سبيل مدينة فاضلة، فالمثالي يثور، ويثور معه الطفيليون والأشقياء والأنذال لأنهم يشعرون بالفراغ. في الشتاء، وجد عملا في مخبزضمن مجموعة كبيرة من العمال الفقراء وأثرت به هذه الفترة لدرجة أنه استلهم منها قصصاً مثل – (المعلم) .. و (كونوفالوف).. و( ستة وعشرون رجلاً وفتاة). كان المخبز تحت الأرض وفيه الجرذان تخشخش في الأطراف وكان يعمل فيه أربع عشر ساعة يومياً. تعرف على اصناف عديدة من البشر سيكرر شخصياتهم في قصصه ورواياته فيمابعد. يصف الخباز بأن لديه موهبة مميزة في حب النوم والكسل. يذكر لنا قصة طريفة عندما كان يذهب لمشفى الأمراض العقلية أخذاً معه الخبز بالسلة: عندما دخلت، كان الدكتور يحاضر للطلاب عن أنواع الأمراض العقلية، وقد وضع أمامه رجلاً طويل القامة يرتدي ثوباً أبيض وقف فجأة وحملق بي فتراجعت خوفاً، فهدأه الدكتورومسح على ذقنه بلطف . في تلك الفترة فتح ديرنيكوف مخبزاً فعمل غوركي معه لقاء 10 روبلات في الشهر. في يوم من الأيام تصله رساله من ابن خاله الذي كان يسكن مع جدته يقول فيها أنها ماتت بعد أن انزلقت من السلم وانكسرت ساقها فالتهبت رجلها وماتت إثر ذلك. يروي في الرسالة أن جده قاسي القلب قد بكى على قبرها. كان يعاني من العزلة، لأنه لم يستطع أن يبني صداقة قوية مع من حوله، زيادة على ذلك أنه افتقد الإنسانة العزيزة على قلبه إلا وهي جدته فأزدات حياته خواءً وأصبحت بلا معنى، وهكذا أشترى مسدساً وصمم على الإنتحار، فحشاه أربع رصاصات ثم أطلقها على صدره قاصداً القلب، لكن لم يمت لأن الرصاصة أصابت الرئة ولم تخترق القلب. مكث في المشفى فترة طويلة ثم عاد أدراجه يعمل في المخبز. لكنه كتب قصة معتمداً على هذه الحادثة بعنوان (حادث في حياة ماكار). ومن خلال جلوسه في غرفة صغيرة عارية ذات نوافذ مغلقة يتذكر تلك العشيات المعزولة حيث يقارن بين المدينة والقرية فيقول: ظهرت لي مزايا المدينة مقارنة بالقرية الراكدة ذات المنحى الواحد، ففي المدينة رغبة توّاقة للسعادة والعقلية الجسورة والتنوع في الأهداف والآمال. يدلل على ذلك [ن ثلاث عائلات تشاجروا على إبريق لايساوي سوى بضع كوبيكات، نتج عن ذلك كسر ذراع إمرأة عجوز وانشق رأس صبي، شجار مستمر لاينقطع، بحيث لايمر أسبوع واحد دون طوشة بين الجيران. يعلق على شاب متدين أسمه إيزوت يجلس بجانبه مستغرقاً بالتفكير، فهويؤمن بأن الله محبة وليس خوف، فهو أي الشاب، يرى أن الله شيخاً كبيراً وسيماً لطيفاً مالكاً على الأرض لايلاحق الشرور لأنه لايجد الوقت الكافي لذلك. لكن إيمانه هذا لاينقذه من وحشية وعدوانية أهل القرية الذين رأوا بهولاء الشباب خطراً على اخلاقهم وحياتهم بسبب معارضتهم للقيصر. ذات يوم يتبع أحدهم إيزوت ويقتله وهو يقود مركباً في النهر. لا تتوقف العدائية عند ذلك، بل يحاول أهل القرية التخلص منهم جميعاً بوضع البارود في إحدى خشبات الموقد وتنفجر، لكن لم يتضرر أحد، ثم أحرقوا مخزنهم قاصدين قتلهم.. كل هذا بسبب أنهم متهمون بتأسيس تعاونيات. ولما وجد غوركي كل هذا العداء، قرر السفر عند الفجر كما يصف: في الليل كان القمر معلقاً فوق الحقول وراء النهر مثل دولاب عربة، بعدها، زحف الفجر محترساً يشق طريقه عبر السحب. خرجنا من القرية، وعندما وصل المركب من سمارا إلى شواطئ بحر قزوين، عثرنا على عمل مع مجموعة صغيرة من الصيادين في مسمكة قذرة في كابانكول.
#خليل_الشيخة (هاشتاغ)
Kalil_Chikha#
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
الإستعمار سبب تخلفنا
-
غوركي: بين الناس
-
من غشنا ليس منا
-
غوركي وطفولة النكد
-
رمزية بلد العميان
-
جرة الماء والسقا مات
-
ذكريات المعرجلانة
-
زيارة إلى مصر
-
الجبنة المدوّدة ومحاكم التفتيش
-
الشيوعية إلحاد وزندقة
-
المعذبون في الأرض
-
فنون التسوّل
-
صندوق العجائب
-
في التشحير والتجريس
-
معرض القرد والضبع
-
علي الخليلي والفجر الأدبي
-
قمة عربية اسلامية مباركة
-
نادي الصداقة العربي الأمريكي
-
القدس عروس عروبتكم
-
توتي وفروتي
المزيد.....
-
شاهد.. -موسى كليم الله- يتألق في مهرجان فجر السينمائي الـ43
...
-
اكتشاف جديد تحت لوحة الرسام الإيطالي تيتسيان!
-
ميل غيبسون صانع الأفلام المثير للجدل يعود بـ-مخاطر الطيران-
...
-
80 ساعة من السرد المتواصل.. مهرجان الحكاية بمراكش يدخل موسوع
...
-
بعد إثارته الجدل في حفل الغرامي.. كاني ويست يكشف عن إصابته ب
...
-
مهندس تونسي يهجر التدريس الأكاديمي لإحياء صناعة البلاط الأند
...
-
كواليس -مدهشة- لأداء عبلة كامل ومحمد هنيدي بفيلم الرسوم المت
...
-
إحياء المعالم الأثرية في الموصل يعيد للمدينة -هويتها-
-
هاريسون فورد سعيد بالجزء الـ5 من فيلم -إنديانا جونز- رغم ضعف
...
-
كرنفال البندقية.. تقليد ساحر يجمع بين التاريخ والفن والغموض
...
المزيد.....
-
مختارات من الشعر العربي المعاصر كتاب كامل
/ كاظم حسن سعيد
-
نظرات نقدية في تجربة السيد حافظ الإبداعية 111
/ مصطفى رمضاني
-
جحيم المعتقلات في العراق كتاب كامل
/ كاظم حسن سعيد
-
رضاب سام
/ سجاد حسن عواد
-
اللغة الشعرية في رواية كابتشينو ل السيد حافظ - 110
/ وردة عطابي - إشراق عماري
-
تجربة الميج 21 الأولي لفاطمة ياسين
/ محمد دوير
-
مذكرات -آل پاتشينو- عن -العرّاب-
/ جلال نعيم
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
المزيد.....
|