|
سيمون فايل، من الماركسية والمجالسية إلى التصوف والروحانية: تحولات فيلسوفة أناركية (2-2)..
حكمت الحاج
الحوار المتمدن-العدد: 8052 - 2024 / 7 / 28 - 17:43
المحور:
الادب والفن
قلنا في القسم الأول من هذه المقالة، (ونحن نستعرض أهم ما جاء في كتاب "القمع والحرية" لسيمون فايل بنسخته السويدية) إن السويديين قد اهتموا بهذه الفيلسوفة والناشطة الفرنسية إن من جهة توجهاتها الفلسفية أو من جهة انخراطاتها السياسية، وإن هذا الاهتمام يمكن فهمه من خلال السياق الثقافي والفكري للمجتمع السويدي، الذي يتميز بالتقدير العميق للأفكار الإنسانية والعدالة الاجتماعية، وكذلك الاهتمام بالفلسفة الروحية. لهذا يمكن اعتبار كتاب "Förtryck och frihet" (القمع والحرية) لسيمون فايل جزءًا من هذا الاهتمام السويدي بأفكارها. إذ يعكس هذا الكتاب جوانب متعددة من فلسفتها التي تجد لها صدى واسعًا في المجتمع السويدي. حيث ان هذا الكتاب يتماشى تمامًا مع الاهتمام السويدي بأفكار سيمون فايل، فهو يعكس القضايا التي تهم المجتمع السويدي. ومن خلال الترجمات، والدراسات الأكاديمية، والفعاليات الثقافية، يظل هذا الكتاب جزءًا مهمًا من الحوارات الفلسفية والاجتماعية المعاصرة في بلد مثل السويد. لقد بدأت سيمون حياتها كمناضلة أناركية فوضوية وخاضت مع الأناركيبن الحرب الأهلية الإسبانية ثم انخرطت في النضال العمالي واشتغلت في المصانع وتبنت بعض الأفكار الماركسية واقتربت من أطروحات "المجالسية" رغم انها لم تنتمي للمجالسيين صراحة، وألهمت الكثير من الناشطات النسويات اللواتي قلدنها وتأثرن بممارساتها ودعواتها النسوية، لكنها في أخريات سنواتها اقتربت أكثر فأكثر من التصوف ويقال انها اصبحت مسيحية متدينة. والسؤال الذي يطرح نفسه بقوة هنا هو: كيف نفسر هذه التحولات في مسيرة سيمون فايل الفكرية؟ وما هي العلائق بين حياتها الشخصية ورؤاها الفلسفية والسياسية؟ وماذا يمكننا في نهاية المطاف أن نصنف توجهات سيمون فايل، فهل هي أناركية أم مجالسية أم ماركسية أم شيوعية أم متصوفة وروحانية؟ سيمون فايل (1909-1943) هي إحدى الشخصيات الفلسفية والفكرية المعقدة في القرن العشرين، كما وصفها ألبير كامو ذات مرة. وقد شهدت حياتها تحولات فكرية وروحية كبيرة يمكن تفسيرها من خلال تحليل حياتها الشخصية وتجاربها العملية والنظرية. لفهم هذه التحولات، يجب النظر في السياقات التاريخية والاجتماعية التي أثرت على مسيرتها، بالإضافة إلى تأثير تجاربها الشخصية عليها. بدأت فايل حياتها السياسية كمناضلة أناركية، متأثرة بالحركات الثورية في أوروبا، وخاصةً بعد اندلاع الحرب الأهلية الإسبانية (1936-1939). شاركت في هذه الحرب بجانب الأناركيين، معتبرةً أن الكفاح ضد الفاشية والظلم الاجتماعي هو واجب أخلاقي. تأثرها بالأناركية نبع من إيمانها بضرورة القضاء على الأنظمة القمعية وبناء مجتمع قائم على الحرية والمساواة. بعد تجربة الحرب، انخرطت فايل في النضال العمالي وعملت في المصانع لتفهم معاناة العمال من الداخل. هذه التجربة جعلتها تتبنى بعض الأفكار الماركسية، خاصةً فيما يتعلق بنقد النظام الرأسمالي واستغلال العمال. رغم ذلك، كانت لديها انتقاداتها الخاصة للماركسية، خاصةً فيما يتعلق بالبيروقراطية وديكتاتورية البروليتاريا. أما اقترابها من الأفكار والممارسات "المجالسية" The Councillism فقد جاء نتيجة لرغبتها في دعم الديمقراطية العمالية والمشاركة المباشرة للعمال في اتخاذ القرارات. رغم أنها لم تنتمي رسميًا للحركة المجالسية، إلا أن أطروحاتها عن الإدارة الذاتية والديمقراطية المباشرة كانت قريبة من هذا التيار. في سنواتها الأخيرة، بدأت فايل بالاقتراب من التصوف والتأمل الروحي، متأثرة بتجاربها الشخصية ومعاناتها الصحية. يُقال إنها تحولت إلى المسيحية، ولكن هذا التحول كان غير تقليدي وغير مؤسسي. بالنسبة لفايل، كان الدين والروحانية وسيلة للبحث عن معنى أعمق للحياة ومقاومة الظلم بطرق غير مادية. هذا ويجمع كثير من الباحثين، ومنهم مترجم وكاتب مقدمة هذا الكتاب الذي بين ايدينا، غوستاف خويبيرغ، أنه يمكننا أن نرى أن كل تحول في مسيرة سيمون فايل الفكرية كان مرتبطًا بتجربة شخصية أو بموقف تاريخي معين. تجاربها في الحرب الأهلية الإسبانية، وعملها في المصانع، ومعاناتها الصحية، كلها لعبت دورًا في تشكيل رؤاها الفلسفية. هذه التجارب جعلتها تدرك أهمية البحث عن العدالة الاجتماعية والحرية، ولكن أيضًا البحث عن معنى أعمق للحياة والوجود. عندما يتعلق الأمر بتصنيف ميول سيمون فايل، فقد يكون الأمر صعبًا بعض الشيء لأنها لا تتناسب تمامًا مع فئة واحدة فقط. قد يقول البعض إنها كانت فوضوية بسبب تركيزها على الحرية الفردية ومعارضة السلطة. وقد يراها آخرون ماركسية، أو شيوعية مجالسية بسبب إيمانها بالعدالة الاجتماعية والمساواة. ثم هناك من ينظر إليها على أنها امرأة صوفية وروحية بسبب بصيرتها وتجاربها الروحية العميقة. تميزت سنوات سيمون فايل المبكرة بتورطها في النشاط الأناركي، وخاصة خلال الحرب الأهلية الإسبانية. قاتلت إلى جانب الأناركيين واحتضنت مُثُلهم من معاداة للسلطة والثورة الاجتماعية. يمكن اعتبار هذه الفترة من حياتها بمثابة انعكاس لالتزامها القوي بالعدالة الاجتماعية والمساواة. شكلت تجاربها في الحركة الأناركية فهمها لديناميات القوة وأهمية العمل الجماعي في النظم القمعية الصعبة. مع انتقال فايل من النشاط الأناركي إلى صراعات العمل، بدأت النشاط في المصانع والانخراط مع الأفكار الماركسية. يمكن اعتبار هذا التحول في توجهها الفكري والسياسي بمثابة تقدم طبيعي نحو استكشاف طرق مختلفة للتغيير الاجتماعي. من خلال دراسة النظرية الماركسية وإشراك نفسها في حركات العمل، تعمقت فايل في فهمها للنضال الطبقي واستغلال العمال داخل المجتمعات الرأسمالية. وعلى الرغم من عدم انخراطها التنظيمي بشكل صريح مع "المجالسية"، فقد تأثرت فايل بأفكار المجالسيين ومبادئهم. كانت "المجالسية"، التي ظهرت كهيئات مستقلة تمثل مصالح العمال، صدى لإيمان فايل في صنع القرار الجماعي والديمقراطية على مستوى القاعدة. تعكس مشاركتها مع أفكار المجالسيين التزامها بتمكين المجتمعات المهمشة والهياكل الهرمية الصعبة للسلطة. كانت ممارسات سيمون النسوية ودعوات المساواة جزءًا لا يتجزأ من نشاطها طوال حياتها. ألهمت العديد من الناشطات النسويات اللائي أعجبن بنهجها المناضل مع قضايا العدالة الاجتماعية. ومن خلال الدعوة إلى حقوق المرأة والمعايير البطريركية المهيمنة الصعبة ، أظهرت فايل التزامها بالمساواة بين الجنسين وتحرير جميع الأفراد المضطهدين. في سنواتها الأخيرة، قادتها نزعتها الروحية المتأصلة إلى أن تكون أقرب إلى الصوفية والمسيحانية. ويمكن تفسير هذا التحول، بحسب كاتبة سيرتها الذاتية الأكثر شهرة، "سيمون بيتريمنت"، وكانت صديقة ومعاصرة لها، وقدمت سردًا عميقًا لحياة وأفكار فايل، على أنه مسعى للتجاوز والبحث عن المعنى الروحي. وقد عكس اكتشاف فايل للتقاليد الصوفية والتعاليم الدينية بحثها المستمر عن الحقائق الأعمق للوجود الإنساني على هذا الكوكب. وفي ختام رحلتنا مع كتاب سيمون فايل بعنوان "القمع والحرية" في نسخته السويدية، لا يسعنا إلا تأكيد ما قاله ألبير كامو الذي كان صديقا مقربا منها، من أن حياة وأفكار وأعمال سيمون فايل ما هي إلا "رحلة"، بما تعنيه الكلمة من أبعاد فلسفية وروحية. فلقد تميزت رحلة سيمون فايل الفكرية بسلسلة من التجارب التحويلية التي شكلت نظرتها الفلسفية والسياسية. منذ أيامها الأولى كناشطة أناركية إلى مشاركتها اللاحقة مع النظرية الماركسية، والشيوعية المجالسية، والدعوة النسوية، والاستكشاف الروحي، تعكس رحلة فايل التزامًا عميقًا بالعدالة الاجتماعية والمساواة والتدريب الروحي. ومن خلال دراسة العلاقات بين تجارب حياتها الشخصية ورؤايتها الفلسفية والسياسية، يمكننا أن نكتسب فهمًا أعمق لإرث سيمون فايل متعدد الأوجه، والأهمية الدائمة لأفكارها في الصراع المعاصر من أجل العدالة والتحرر والقيم الكونية لحقوق الإنسان.
#حكمت_الحاج (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
الكاتب-ة لايسمح
بالتعليق على هذا
الموضوع
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
سيمون فايل، من الماركسية إلى التصوف: تحولات فيلسوفة أناركية
...
-
ليلة في قصر الحلوف..
-
بيانات، وحديث البدايات والنهايات..
-
القصة القصيرة حديث المصعد، أو القصة في دقيقة..
-
رواية عن الشعر والكورونا والجريمة ودونالد ترامب.. ستيفن كينغ
...
-
ريلكه والفلاسفة: في العلاقة العضوية الملتبسة ما بين الشعر وا
...
-
فيني، فيدي، أمافي
-
ريلكه والفلاسفة: في العلاقة العضوية الملتبسة ما بين الشعر وا
...
-
شوكولاتة
-
سكين سلمان رشدي وتقسيم العوالم.. (2-2)
-
هكذا حديث النجوم
-
سكين سلمان رشدي وتقسيم العوالم.. (1-2)
-
راي Raye
-
إنسلال
-
ثلاث عشرة قصيدة من فن الهايكو..
-
اعذروا لكنتي الفرنسية
-
أين ذهب ذلك -الزمن الجميل-، ومن أين أتى؟ جوليان بارنز، باريس
...
-
موت مدفعي
-
أغاني زرادشت
-
ناقدات من تونس
المزيد.....
-
-البحث عن منفذ لخروج السيد رامبو- في دور السينما مطلع 2025
-
مهرجان مراكش يكرم المخرج الكندي ديفيد كروننبرغ
-
أفلام تتناول المثلية الجنسية تطغى على النقاش في مهرجان مراكش
...
-
الروائي إبراهيم فرغلي: الذكاء الاصطناعي وسيلة محدودي الموهبة
...
-
المخرج الصربي أمير كوستوريتسا: أشعر أنني روسي
-
بوتين يعلق على فيلم -شعب المسيح في عصرنا-
-
من المسرح إلى -أم كلثوم-.. رحلة منى زكي بين المغامرة والتجدي
...
-
مهرجان العراق الدولي للأطفال.. رسالة أمل واستثمار في المستقب
...
-
بوراك أوزجيفيت في موسكو لتصوير مسلسل روسي
-
تبادل معارض للفن في فترة حكم السلالات الإمبراطورية بين روسيا
...
المزيد.....
-
تجربة الميج 21 الأولي لفاطمة ياسين
/ محمد دوير
-
مذكرات -آل پاتشينو- عن -العرّاب-
/ جلال نعيم
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
المزيد.....
|