أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - سعود سالم - بين التأمل والتجربة















المزيد.....

بين التأمل والتجربة


سعود سالم
كاتب وفنان تشكيلي

(Saoud Salem)


الحوار المتمدن-العدد: 8051 - 2024 / 7 / 27 - 18:11
المحور: الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
    


أركيولوجيا العدم
العقل المحاصر"
3 - بين التأمل والتجربة

الإنسان الذي أفترضه إينشتاين ليعاين ساعته الغريبة بعقله وليحاول إكتشاف ميكانيكيتها الخفيّة، يختلف إختلافا نوعيا عن الإنسان الذي ذكرناه سابقا والذي يعتقد بأن النمل الأبيض لا يأكل كلام الله المدون في المخطوطات القديمة، ولا يأكل إلا الورق الذي بين السطور والخالي من الكتابة، إنه الإنسان الذي يرفض إستعمال عقله ويؤمن بقوة السحر وبقوة الكلمات مثل "سبحان الله"، وهو الذي يخاطب النمل ليطرده من بيته قائلا : " يا نملة يا بنت النمال، أخرجي من بيتي في الحال، وإلا أرسلت عليك جنود سليمان ".
فالإنسان لا يستطيع فهم العالم المحيط به إلا بما يملكه من معلومات وتجارب وما يستطيع أن يتخيله من حلول وسيناريوهات، فالإنسان "وحيد" لدرجة مفزعة أمام العالم، ولا يستطيع أن يستعين برقم أي هاتف لطلب النجدة، وليس هناك أية شركة تأمين ولا بوابة جوجول، وليس هناك أي مسؤول كبير أو صغير للإستعانة بقدرته في فهم وتفسير أبسط الظواهر. عليه أن يتدبر أموره بنفسه وذلك في جميع الأحوال والظروف والمواقف والمستويات العقلية لهذا الإنسان. لأنه حتى في حالة الحصار القصوى، حيث يغيب العقل نهائيا، ويستحضر الإنسان المسطول قوة خارجية وهمية ليستعين بها، فيدعو الآلهة والشياطين والجان وسكان المريخ، فإنه لا يفعل سوى الضحك على نفسه وخداعها، لأنه يعلم يقينا بأنه هو الذي سيضع الكلمات في أفواه هذه المخلوقات الوهمية التي تملأ الفضاء الخيالي والأسطوري للبشرية منذ آلاف السنين، وهو الذي سيهمس في آذانهم بحلوله وأساطيره التي أبتدعها والتي لا يستطيع أن يقتنع بها ولا أن يضفي عليها طابع الشرعية بدون الإستعانة بالسلطات العليا وبالقبائل السماوية. ويكفي بأن نلقي نظرة خاطفة على تاريخ الحضارات القديمة، منذ الإرهاصات الأولى لحضارات النهرين أو في جبال وسهول أمريكا الجنوبية أو غابات أفريقيا وآسيا، لنكتشف ما يزخر به هذا التاريخ البعيد من زخم وثراء وشاعرية، من علو وهبوط ونتوءات وحفر، ولنكتشف أيضا بانه تاريخ هذا الإنسان الحائر وهو يقلب هذه الساعة الصغيرة في يده دون أن يعرف ماهية هذا الشيء الغريب. وتدريجيا، بدأ يلاحظ حركة عقارب الساعة والتكتكة الرتيبة الصادرة من داخل العلبة الصغيرة، ثم بدأ يتسائل عن الأسباب التي تجعل هذا الشيء ما هو عليه ولماذا. وفي كل عصر أختلفت الإجابات وتنوعت التصورات، وفي كل عصر وكل حضارة وكل منطقة جغرافية وكل مجتمع إجابات جديدة وقصص وتفسيرات مختلفة. وفي لحظة ما من تطور العقل البشري، بدأ بعض العلماء المختصين بحل مثل هذه الألغاز، بمحاولة صناعة آلة شبيهة - الفرضية تقول بأننا لا نستطيع فتح الساعة ولا نستطيع رؤية داخلها - وهو طريق جديد لمحاولة الفهم، لأنه إذا تمكنا من صناعة آلة تشبه هذه الساعة تماما، فإننا نكون قد أقتربنا من الإجابة على تساؤلاتنا الأولية، رغم أن معرفتنا هذه ستظل معرفة تقريبية، بمعنى إننا نعرف معرفة يقينية كيفية سير الساعة التي صنعناها بأيدينا، ونفترض أنها شبيهة بالساعة المقفلة التي لم نصنعها ولم نر محتواها، ونستنتج بأن الساعة المفترضة تسير على نفس النمط الذي تسير عليه الساعة التي صنعناها. غير أنه حتى في هذه الحالة، تظل معرفتنا ناقصة ومجرد إحتمال كما قال ديكارت منذ عدة قرون " لأنه كما يستطيع صانع الساعات المجتهد أن يصنع ساعتين تحددان الزمن بنفس الطريقة، ولا يوجد بينهما فرق في ما يظهر من الخارج، ولكن ليس لهما أي شيء مماثل في تكوين تروسهما أو ميكانيكيتهما ". للوصول إلى اليقين المطلق ولمعرفة لا يدخلها الشك لابد من فتح الساعة التي أفترض وجودها إينشتاين وفحص محتوياتها وتحليل ميكانيكيتها الداخلية، وهو الأمر الذي أفترضنا إستحالته في البداية.
ربما العائق الأساسي الذي يقف أمام محاولة فك الحصار ويؤدي إلى فشل كل المحاولات، هو طرح السؤال بطريقة تبدو خاطة إلى حد كبير. فالسؤال عادة يطرح بهذه الطريقة: هل تعتمد المعرفة والإدراك بشكل أساسي على التجارب الحسية التي نحصل عليها من الحواس، أم أن العقل يلعب الدور الأهم في تفسير وتنظيم هذه المعلومات لتكوين المعرفة ؟ وفي تاريخ الفكر، ظهرت مدرستان رئيسيتان عبر التاريخ الفلسفي لمناقشة آلية المعرفة والإدراك، المدرسة التجريبية أو الإمبريقية empiricism مشتقة من اليونانية εμπειρισμός والتي تعتمد على التجربة الحسية للتيقن من أية معرفة. يمثل هذا الإتجاه، الفيلسوف الإنجليزي جون لوك John Locke (١٦٣٢ - ١٧٠٤) والإسكتلندي ديفيد هيوم David Hume (٧١١ - ١٧٧٦). يعتقدون أن العقل يبدأ كورقة بيضاء (Tabula Rasa) وأن التجارب الحسية تملأ هذه الفراغ الأولي بالمعرفة. رفض جون لوك المبادئ والأفكار والمعرفة الفطريّة، واعتقد أنّ المعرفة الكاملة والخبرة بالأشياء أساسها الحِسّ أو التجربة الحسية المباشرة، حيثُ تصوّر أن العقل يُولد صفحًة بيضاء خالية تمامًا من كل شيء بما في ذلك الأفكار، وأنّ الإنسان هو من يملأ هذه الصفحة بما تمدّه به حواسه من أشياء وأدوات العالم الخارجيّ التي عاشها بالتجربة. غير أنه في تحديده لمصدر المعرفة أعتبر أن الخبرة أو التجربة الحسيّة لا تعتمد على الحواس فقط بل أنّها تتطلب أيضا ما يسميه بالتأمل، حيث هناك الأفكار الناجمة عن التجربة الحسية المباشرة، وهناك أيضا الأفكار الناجمة عن التأمل.
أما ديفيد هيوم فقد تعمق أكثر من جون لوك في تفصيل المُدركات البسيطة الناجمة عن تأثرنّا حسيا بالعالم الخارجيّ، فقسّمها إلى : الآثار أو الانطباعات الحسّية المباشرة ثم الأفكار. "All the perceptions of the human mind resolve themselves into two distinct kinds, which I shall call impressions and ideas."
وعلى الرغم من أنّ هذين القسمين كانا بمثابة وجهين لعملة واحدة في نظره، إلا أنّه اعتبر أنّ الفرق الوحيد بينهم هو في درجة القوة التي يؤثر بها كلّ منها على العقل. فالآثار الحسيّة تترك أثرًا أقوى على العقل، كما أنّها تتسم بوضوحها وحيويتها، أمّا الأفكار أو الخواطر العقليّة فهي عبارة عن نسخة باهتة للآثار الحسيّة، وَهنت قوتها وضعفت صورتها فأصبحت صورًا ذهنيّة كما أسماها.
ثم هناك المدرسة العقلانية Rationalism حيث يعتقد هؤلاء العقلانيون أن العقل هو المصدر الأساسي للإدراك والمعرفة. ويمثل هذا الاتجاه كل من، الفيلسوف والرياضي الفرنسي رينيه ديكارت René Descartes (١٥٩٦ - ١٦٥٠) والفيلسوف الألماني إيمانويل كانط Immanuel Kan (١٧٢٤ - ١٨٠٤). يؤكدون أن العقل لديه قدرات فطرية تمكنه من تفسير وتنظيم المعلومات الحسية للوصول إلى المعرفة الحقيقية، فالمعرفة عند كانط هي اتحاد من مادة وصورة، المادة توفرها الإدراكات الحسية، أما الصورة فهي التصورات العقلية القبلية، والتلاحم بينهما هو مثل التلاحم الأرسطي بين المادة والصورة، أي أنه لا يمكن فصله، فقد أصر كانط دائماً على أن الإدراكات الحسية بدون تصورات هي إدراكات عمياء، والتصورات بدون تجارب حسية هي تصورات فارغة.
غير أن التساؤل هل الإدراك مصدره الحواس أم العقل، هو تساؤل يؤدي حتما إلى طريق مسدود، نظرا لعدم إمكانية بل وإستحالة فصل الحواس عن العقل وإستحالة تقسيم الإنسان وتفتيته إلى عدة آليات مختلفة، فالإنسان هو كل متكامل جسد وعقل وحواس وحدس وقصدية وهو ما نسميه عادة في الفينومينولوجيا الوجودية بـ "الوعي أو الدازاين أو الواقع الإنساني".

يتبع



#سعود_سالم (هاشتاغ)       Saoud_Salem#          



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- بين الإحتمال واليقين
- ساعة إينشتاين
- حريق الظل الطويل
- عن الأخلاق واللاهوت
- الغرامشية اليمينية
- الثقافة ضد الدكتاتورية
- الثورة المضادة في فرنسا
- الخطر الفاشي في فرنسا
- القشور
- لعبة الروليت الماكرونية
- الفلسفة الأولى
- ثقوب الوعي
- عن الميتافيزيقا
- الإنفصام
- عن كون ولا كون الكائن
- نكبة الحرف المجنون
- ماهية العدم
- طرق المعرفة
- الكينونة بين المعرفة والخيال
- العقل المفكك وبعثرة المقاومة


المزيد.....




- مراوح قارب تسحق ذراع شاب أثناء غطسه في البحر.. والسائق معتذر ...
- ترامب يعلن مواصلته عقد تجمعات بأماكن مفتوحة بعد محاولة اغتيا ...
- ألمانيا.. ازدياد شعبية الحزب المعارض لإمدادات الأسلحة إلى ال ...
- -سرايا القدس- تعلن السيطرة على طائرة استطلاع إسرائيلية في خا ...
- فرنسا لا تستبعد ضلوع طرف أجنبي في أعمال تخريب شبكة القطارات ...
- أستراليا تحظر استخراج اليورانيوم من أحد أكبر المناجم في العا ...
- صحيفة أمريكية: نتنياهو بين نارين بعد طلب واضح من قادة الديمق ...
- إسرائيل تقدم للإدارة الأمريكية مقترحا معدلا لصفقة التبادل وو ...
- نعيم قاسم: أعيش أفضل حياة لن أتخلى عنها وحسن نصر الله أسعد إ ...
- سلسلة انفجارات تدوي في مدينة دنيبر الأوكرانية


المزيد.....

- حقوق الإنسان من سقراط إلى ماركس / محمد الهلالي
- حقوق الإنسان من منظور نقدي / محمد الهلالي وخديجة رياضي
- فلسفات تسائل حياتنا / محمد الهلالي
- المُعاناة، المَعنى، العِناية/ مقالة ضد تبرير الشر / ياسين الحاج صالح
- الحلم جنين الواقع -الجزء التاسع / كريمة سلام
- سيغموند فرويد ، يهودية الأنوار : وفاء - مبهم - و - جوهري - / الحسن علاج
- فيلسوف من الرعيل الأول للمذهب الإنساني لفظه تاريخ الفلسفة ال ... / إدريس ولد القابلة
- المجتمع الإنساني بين مفهومي الحضارة والمدنيّة عند موريس جنزب ... / حسام الدين فياض
- القهر الاجتماعي عند حسن حنفي؛ قراءة في الوضع الراهن للواقع ا ... / حسام الدين فياض
- فلسفة الدين والأسئلة الكبرى، روبرت نيفيل / محمد عبد الكريم يوسف


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - سعود سالم - بين التأمل والتجربة