|
الساحرات، القابلات والممرضات: تاريخ المعالِجات
بربارة أيرينريش
الحوار المتمدن-العدد: 8050 - 2024 / 7 / 26 - 18:49
المحور:
حقوق المراة ومساواتها الكاملة في كافة المجالات
Three Witches – William Rimmer بقلم بربارة أيرينريش – ديردري إنغليش
الفهرس
مقدمة
السحر والطب في العصور الوسطى
الهوس بالساحرات
جرائم الساحرات
الساحرات كمعالجات
بروز مهنة الطب في أوروبا
قمع المعالجات
ما بعد القمع
النساء وبروز مهنة الطب في الولايات المتحدة الأميركية
تشريع الطب
حركة الصحة الشعبية
هجوم الأطباء
نصر مهني
حظر القابلات
السيدة حاملة القنديل
الطبيب يحتاج إلى ممرضة
خلاصة
قائمة المراجع
مقدمة لطالما كانت النساء معالجات. كن طبيبات وعالمات تشريح غير مرخصات في التاريخ الغربي. أجرين الإجهاض والتمريض، وقدمن المشورة. كن صيدليات، حيث وزرعن الأعشاب الطبية وتبادلن أسرار استخدامها. كن قابلات، يتجولن من بيت إلى بيت ومن قرية إلى أخرى. لمئات السنين كنّ طبيباتٍ من دون شهادة، منعن من [الحصول على] الكتب والمحاضرات، تعلمن من بعضهن البعض، ومررن الخبرة من الجارة إلى الأخرى، ومن الأم إلى ابنتها. سماهن الشعب “النساء الحكيمات”، وسمين من السلطات ساحرات أو مشعوذات. الطب هو جزء من إرثنا كنساء، من تاريخنا، وهو حق مكتسب لنا.
لكن اليوم، الرعاية الصحية هي ملكية للمهنيين الذكور. 93 بالمئة من الأطباء في الولايات المتحدة هم من الذكور؛ وكذلك، تقريبا، كل مدراء المؤسسات الصحية. لا تزال النساء تشغل الأغلبية الإجمالية- حيث 70 بالمئة من العاملين في المجال الصحي هم من النساء. لم نعد ممارسات مستقلات، معروفات بأسمائنا الخاصة، ووفق عملنا الخاص. نحن، في أغلب الأوقات، جزء من التركيبة المؤسساتية، نشغل وظائف ثانوية: كاتبات، أخصائيات تغذية، فنيات وخادمات.
عندما يسمح لنا بالمشاركة في المجال الصحي، فيمكننا القيام بذلك فقط [كـ]ـممرضات. والأخيرات من كل الرتب هن مجرد “عاملات تابعات” للأطباء. من التمريض المساعد، الذي ينفذ المهام الوضيعة بدقة شديدة، إلى التمريض “المهني”، الذي يترجم أوامر الأطباء إلى مهام مساعدة، تتشارك الممرضات صفة الخادمة الرسمية للمهنيين الذكور المهيمنين.
يتعزز خنوعنا بفعل جهلنا، الجهل المفروض علينا. تُعلَّم الممرضات على عدم السؤال، وعدم التحدي. “الطبيب أدرى”. هو المرشد، وعلى احتكاك مع المحظور، ومع عالم معقد وباطني لعلوم كنا قد تعلمنا أنها بعيدة عن متناولنا. العاملات في المجال الصحي مستلبات من المواد العلمية [الناظمة] لعملهن، يقتصر عملهن على العمل “النسائي” الرعائي والتدبير المنزلي- هن متلقيات، ومن الأغلبية الصامتة.
وقد قالوا لنا أن تبعيتنا هي ذات طبيعة بيولوجية: المرأة بطبيعتها تشبه الممرضة وليس الطبيب. في بعض الأوقات، نحاول تعزية أنفسنا مع نظرية أننا قد هُزِمنا من علم التشريح قبل أن نُهزَم من الرجال، وأن النساء محاصرات من دورات الحيض والإنجاب حيث لم نكن أبدا حرات ومبدعات خارج جدران المنزل. أسطورة أخرى، عززها التاريخ الطبي التقليدي، هي أن وصول الرجال إلى هذه المراتب هو بفعل تفوقهم التكنولوجي. ووفقا لهذه الحسابات، حلت العلوم (الذكورية) تلقائيا وبشكل أو بآخر مكان الخرافات (النسائية)- التي منذ ذلك الحين سميت “حكايات المسنات”.
لكن التاريخ يكذب هذه النظريات. كانت النساء معالجات مستقلات، وغالبا ما كن المعالجات الوحيدات للنساء والفقراء. وقد وجدنا، خلال الفترة الزمنية التي درسناها، أن الرجال تشبثوا بنظرياتهم غير المختبرة والممارسات الطقسية- في حين مثلت المعالجات نهجا تجريبيا وأكثر إنسانية للعلاج.
موقفنا داخل النظام الصحي اليوم ليس “طبيعيا”. إنما هو حالة لا بد من شرحها. في هذا الكتيب نسأل: كيف وصلنا إلى هذا الموقع الحالي من التبعية من موقعنا القيادي السابق؟
علمنا هذا الأمر جيدا: أن قمع النساء العاملات في المجال الصحي يؤدي إلى هيمنة الذكور المهنيين وأن ذلك ليس سيرورة “طبيعية”، وكنتيجة تلقائية للتغيرات في العلوم الطبية، وليس كنتيجة لفشل المرأة في المجال الطبي. إنما كان استيلاء فعليا من المهنيين. لم يكن العلم هو من مكّن الرجال من الفوز: جرت المعركة الحاسمة قبل وقت طويل من تطور التكنولوجيا العلمية الحديثة.
كانت رهانات الصراع مرتفعة: الاحتكار السياسي والاقتصادي للطب يعني السيطرة على المنظمات المؤسساتية، من الناحية النظرية والعملية، وعلى الأرباح والمكانة. والسيطرة الكاملة على الطب هي أعلى اليوم من قبل، لأنها تعني سيطرة الطب الكلية على تحديد من يعيش أو من يموت، من هو الخَصِب ومن هو العقيم، من هو “المجنون” ومن هو العاقل.
قمع المعالجات من المؤسسة الطبية هو صراع سياسي، أولا، هو جزء من تاريخ الصراع الجندري بشكل عام. وقد ارتفعت مكانة المعالجات وانخفضت تبعا لمكانة النساء. فعندما قمعت المعالجات، فقد تعرضن إلى ذلك كنساء؛ وعندما ناضلن في المقابل، فقد قمن بذلك تضامنا مع كل النساء.
ثانيا، كان الصراع السياسي جزءا من الصراع الطبقي. كانت المعالجات طبيبات الشعب، وممارستهن الطبية اليومية كانت جزءا من ثقافة الأخير. هذه الممارسات الطبية اليومية كانت مزدهرة في خضم حراك الطبقات المسحوقة المتمردة المناضلة من أجل التحرر من السلطات المهيمنة. خدم المهنيون، من ناحية أخرى، الطبقة الحاكمة- الطبية والسياسية على حد سواء. وقد تأمنت مصالحهم من الجامعات والمؤسسات الخيرية والقانون. وهم مدينون بانتصارهم- ليس بسبب جهودهم الذاتية- إنما بفعل تدخل الطبقة الحاكمة التي يخدمونها.
يمثل هذا الكتيب باكورة الأبحاث التي ينبغي القيام بها لاستعادة تاريخنا كعاملات في المجال الصحي. من قصص مجزأة، جمعت من مصادر سطحية ومنحازة في كثير من الأحيان، من نساء لسن على الإطلاق مؤرخات “مهنيات”. حصرنا مضمون الكتيب في التاريخ الغربي، لأن المؤسسات التي نواجهها اليوم هي نتاج الحضارة الغربية. نحن بعيدات عن أن نكون قادرات على تقديم تأريخ كامل. بدلا من ذلك، ندرس في هذا الكتيب أمرين منفصلين من المراحل الأساسية للسيطرة الذكورية على الرعاية الصحية: قمع الساحرات في أوروبا خلال القرون الوسطى، وظهور مهنة الطب الذكورية في القرن 19 بالولايات المتحدة.
معرفة تاريخنا تعني أن نبدأ بالتفكير بمعاودة النضال من جديد انطلاقاً منه.
السحر والطب في العصور الوسطى عاشت الساحرات وأحرقت قبل وقت بعيد من تطور التكنولوجيا الطبية الحديثة. كانت الغالبية العظمى منهن من المعالجات غير النظاميات في خدمة الفلاحين/ات، ويمثل قمعهن واحدا من الصراعات المفتوحة في تاريخ قمع الرجال للنساء بوصفهن معالجات.
الجانب الآخر من قمع الساحرات بوصفهن معالجات هو خلق مهنة طبية ذكورية، تحت حماية ورعاية الطبقات الحاكمة. لعبت المهنة الطبية الأوروبية الجديدة دورا هاما في صيد الساحرات، وجعلت من اضطهاد السحرة متوافقاً مع المنطق “الطبي”:
“…. لأن الكنيسة في القرون الوسطى، بدعم من الملوك والأمراء والسلطات المدنية، تسيطر على التعليم الطبي وممارسته، السيطرة [صيد الساحرات] تشكل، من بين أمور أخرى، مثلا مبكرا للتبرؤ “المهني” من المهارات والتداخلات مع حقوق “غير المهنيين/ات” للسيطرة على الفقراء.” (Thomas Szasz, The Manufacture of Madness)
ترك صيد الساحرات تأثيرا دائما: منذ ذلك الحين ألصق الطابع النسائي بالساحرة، واستمرت هذه الهالة من العدوى- خصوصا تجاه القابلة وغيرها من المعالِجات. كان لاستبعاد المرأة المبكر نتائج تدميرية وتحذيرية من أداء أدوار علاجية مستقلة: وقد بات ذلك جزءا من تاريخنا. حركة النساء العاملات في المجال الصحي اليوم لها جذور قديمة من القرون الوسطى، ومعارضوها كما أسلافهم قضوا بلا رحمة على الساحرات.
الهوس بالساحرات عصر صيد الساحرات امتد إلى أكثر من أربعة قرون (من القرن 14 إلى القرن 17) واجتاح ألمانيا وصولا إلى انكلترا. ولد خلال الإقطاع واستمر- وتأجج- حتى “عصر العقل”. أخذ الهوس بالساحرات أشكالا مختلفة في أوقات وأماكن مختلفة، ولكنه لم يفقد طابعه الأساسي: أن حملة الطبقة الحاكمة الترهيبية توجهت ضد الفلاحات من الشعب. شكلت الساحرات تهديدا سياسيا ودينيا وجندريا للكنائس البروتستانتية والكاثوليكية على حد سواء، وكذلك للدولة.
الامتداد الزمني للهوس بالساحرات مذهل: منذ نهاية القرن 15 وبداية القرن 16 سُجِلت الآلاف والآلاف من الإعدامات- عادة عن طريق الحرق- في ألمانيا وإيطاليا وغيرهما من البلدان. في منتصف القرن 16 انتشر الإرهاب في فرنسا، وأخيرا وصل إلى انكلترا. قدّر أحد الكتاب عدد أحكام الإعدام بمعدل 600 في السنة في بعض المدن الألمانية- أي بمعدل إعدامين في اليوم، إذا وضعنا جانبا أيام الأحد: أعدمت 900 ساحرة خلال سنة واحدة في منطقة ويرتزبرغ [ألمانيا]، و1000 إعدام في منطقة كومو وجوارها [شمالي إيطاليا]. في تولوز [فرنسا]، نفذ 400 إعدام في يوم واحد. في أسقفية تراير [ألمانيا]، عام 1585، تركت امرأة واحدة على قيد الحياة في قريتين. وقدر العديد من الكتاب مجموع الضحايا بالملايين. شكلت النساء 85 بالمئة من بين الذين أعدموا- من المسنات والنساء والأطفال. [لم نتطرق في هذه المناقشة إلى محاكمة الساحرات في نيو انغلاند [الولايات المتحدة] التي جرت خلال القرن 17. هذه المحاكمات هي على نطاق صغير نسبيا، وفي وقت متأخر جدا من حقبة صيد الساحرات، وفي سياق اجتماعي مختلف من صيد الساحرات الذي جرى في وقت سابق بأوروبا].
هذا الامتداد الجغرافي يوحي أن صيد الساحرات مثّل ظاهرة اجتماعية عميقة الجذور تذهب إلى أبعد من تاريخ الطب. في المكان والزمان، ارتبط صيد الساحرات مع فترات الاضطرابات الاجتماعية الكبيرة التي أصابت جذور الإقطاع- انتفاضات فلاحية ومؤامرات، بدايات الرأسمالية، وظهور البروتستانتية. هناك أدلة غير متكاملة- يجب على النسويات تتبعها- تشير إلى أنه في بعض المناطق قادت الساحرات الثورات الفلاحية. هنا لا يمكننا استكشاف السياق التاريخي لصيد الساحرات بعمق. ولكن علينا تجاوز بعض الأساطير الشائعة حول الهوس بالساحرات- أساطير تسلب “الساحرة” من أي كرامة ويُلقَى اللوم عليها وعلى الفلاحين/ات الذين/اللواتي خدمتهم/ن.
للأسف، الساحرات أنفسهن- كفقيرات وأميات- لم يتركن لنا قصصهن. إنما جرى تسجيلها، ككل التاريخ، من قبل النخبة المثقفة، حيث أن ما نعرفه اليوم عن الساحرات وثقته عيون مضطهديهن.
تعتمد نظريتان الأكثر شيوعا لصيد الساحرات على التفسيرات الطبية، حيث يربط جنون الساحرات لانتشار غير قابل للتفسير للهستيريا الجماعية. إحداهما تقول أن الفلاحين جن جنونهم. ووفقا لها، كان الهوس بالساحرات وباء للكراهية الجماعية والذعر جرى تجسيده بصور الفلاحين الغوغاء والدمويين الذي يحملون المشاعل. تفسير نفسي آخر يقول إن الساحرات مجنونات. كتب أحد المؤرخين للأمراض النفسية الموثوقين، غريغوري زيلبورغ التالي:
“…كانت الملايين من الساحرات والمشعوذات، المهووسات والذهانيات يعانين من أمراض عصبية شديدة… لسنوات عديدة بدا العالم كملجأ حقيقي للمجانين…”
ولكن، في الواقع، الهوس بالساحرات لم يكن حملة إعدام غوغائية ولا انتحارا جماعيا من نساء هستيريات. بدلا من ذلك، كان حملة منفذة بدقة عبر إجراءات قانونية. صيد الساحرات كان حملة منظمة تنظيما جيدا، بدأت، وجرى تمويلها وتنفيذها من الكنيسة والدولة. من الكاثوليكية والبروتستانتية، كان لحملة صيد الساحرات، سلطة محصنة حول كيفية تنفيذها عبر كتاب مطرقة الساحرات (Malleus Maleficarum)، الذي كتبه عام 1484 الكاهنان كرامر وسبرنغر (“الابنان المحبوبان” للبابا إينوسنت الثامن). لمدة ثلاثة قرون من صدور هذا الكتاب السادي الذي اعتمد من قبل كل قاضٍ وحملة صيد الساحرات. في قسم طويل حددا فيه الاجراءات القضائية، وكانت التعليمات واضحة حول كيفية التعامل مع الهستيريا:
“كانت وظيفة بدء محاكمة الساحرة من مهام الكاهن أو قاضي المقاطعة، الذي كان يصدر أمرا لتنفيذه خلال 12 يوما… حيث يجب الكشف عن إذا كان أي شخص عرف، أو رأى أو سمع بزنديق/ة أو بساحرة، أو اشتبه بممارسات تسبب ضررا للرجال أو الماشية أو ثمار الأرض أو خسارة للدولة.”
أي شخص لا يبلّغ عن ساحرة يواجه عقوبة الحرمان الكنسي ولائحة طويلة من العقوبات الدنيوية.
إذا كان هذا الأمر يهدد ساحرة على الأقل، فإنه يمكن أن تستخدم محاكمتها للكشف عن العديد منهن. كما قدم كرامر وسبرنغر إرشادات مفصلة حول طرق استخدام التعذيب لانتزاع الاعترافات والمزيد من الاتهامات. ومن الشائع، أن تجرّد المتهمة من ملابسها ويحلق كل شعرها، ومن ثم تتعرض لصنوف مختلفة من التعذيب وسحق العظام والتعليق بمسامير وطحن الأعضاء والتجويع والضرب. هذه المسألة واضحة: الهوس بالساحرات لم ينشأ عفويا ضد الفلاحين. كان الأمر حملة مدروسة من الطبقة الحاكمة للترهيب.
جرائم الساحرات من هن الساحرات، ومن ثم، ما هي “الجرائم” التي يمكن تثير هذه الحملة القمعية من الطبقة الحاكمة؟ من دون شك، على مدى قرون من صيد الساحرات، كانت تهمة “السحر” غطاء للعديد من الاتهامات كالتآمر السياسي والزندقة الدينية وصولا إلى الفجور والكفر. ولكن تكررت ثلاثة اتهامات أساسية في تاريخ السحر في جميع أنحاء شمال أوروبا: أولا، اتهمت الساحرات بالجرائم الجنسية التي يمكن تصورها ضد الرجال. بكل بساطة، جرى “اتهامهن” بجنسانيتهن النسائية. ثانيا، اتهمن بأنهن منظمات. ثالثا، اتهمن بتمتعهن بقدرات سحرية تؤثر على الصحة- وتسبب الضرر، ولكن أيضا العلاج. وكثيرا ما كانت توجه ضدهن اتهامات لامتلاكهن مهارات طبية ومهارات تتعلق بالتوليد.
أولا، بالنسبة إلى تهمة ارتكاب جرائم جندرية. شنت الكنيسة الكاثوليكية خلال القرون الوسطى حملة تمييزية على أساس الجندر: فكتاب مطرقة الساحرات يعلن: “عندما تفكر المرأة لوحدها، فإنها تفكر بالشر.” كراهية الكنيسة للنساء، إذا لم تُثبَت من الهوس بالساحرات لوحده، فإنها تتضح من خلال تعاليمها التي ترى أنه خلال الجماع يودِع الرجل داخل المرأة “شخصا صغيرا”، مكتمل الروح، يسكن ببساطة في الرحم لمدة تسعة أشهر، من دون الحصول على أي سمات من الأم. “الشخص الصغير” ليس آمنا حقا، ولكن حين يصل إلى أيدي الرجال من جديد، وعندما يعمده الكاهن، يضمن خلاص روحه الخالدة.
مثل آخر على خيال محبِط لبعض المفكرين الدينيين خلال القرون الوسطى حيث أنه عند القيامة سيولد كل البشر رجالا!
ربطت الكنيسة المرأة بالجنس، وأدانت كل أنواع المتعة خلال ممارسة الجنس، لأنها لا يمكن أن تأتي إلا من الشيطان. وافترضت الكنيسة أن الساحرات قد حصلن على المتعة خلال جماعهن مع الشيطان (على الرغم من حسن سمعة امتلاكه لعضو بارد)، بدورهن تصيب الساحراتُ الرجالَ بذلك. الشهوة يشعر بها الرجل أو المرأة، ثم يلقى اللوم على المرأة. من جهة ثانية، اتهمت الساحرات بأنهن يسببن العجز للرجال وبإخفاء أعضائهم الجنسية. أما بالنسبة إلى جنسانية النساء، فقد اتهمت الساحرات، بأنهن يقدمن وسائل منع الحمل ويجرين الإجهاض:
“الآن هناك، كما ورد في المرسوم البابوي، سبع طرق يصيب السحر من خلالها الأعضاء الجنسية والرحم: أولا، من خلال استمالة عقول البشر إلى العاطفة المفرطة؛ ثانيا، عن طريق عرقلة القدرة الإنجابية؛ ثالثا، عن طريق إزالة الأعضاء القادرة على ذلك الفعل؛ رابعا، عن طريق تغيير الرجال إلى وحوش عبر أعمال السحر؛ خامسا، عبر تدمير القدرة الإنجابية عند النساء؛ سادسا، عن طريق ممارسة الإجهاض؛ سابعا، من خلال تقديم الأطفال للشياطين، بالإضافة إلى الحيوانات وثمار الأرض التي تقوم بعملها بكثير من السحر…” (مطرقة الساحرات)
بحسب الكنيسة، تستمد الساحرات قوتهن من حياتهن الجنسية في نهاية المطاف. حيث بدأت حياتهن المهنية بجماع مع الشيطان. وتتم الموافقة على الساحرة خلال اجتماع عام (سبت الساحرات) الذي يترأسه الشيطان، وغالبا على شكل ماعز، ويجامع خلاله المبتدئات. مقابل السلطة، تعِدُ الساحرة بخدمته بإخلاص. (في مخيلة الكنيسة حتى الشر يمكن التفكير به عن طريق توجيه ذكوري!) وبحسب كتاب مطرقة الساحرات تبدو المسألة واضحة، يعمل الشيطان دائما من خلال الأنثى، تماما كما فعل في عدن:
“كل السحر يأتي من الشهوة الجنسية، التي هي نهمة عند النساء… لذلك من أجل تحقيق شهواتهن يجامعن الشياطين… ومن الواضح بما فيه الكفاية أنها ليست مسألة تعجب أنه هناك نساء أكثر من الرجال المصابات بهستيريا السحر… ومبارك الله الذي حافظ على الرجال من جريمة كهذه…”
لم يقتصر الأمر على الساحرات- كان هناك النساء اللواتي على ما يبدو تنظمن ضمن جمعية سرية هائلة. كانت تتعرض الساحرة التي يثبت أنها عضوة في “حزب الشيطان” للترويع أكثر بكثير من تلك التي تتصرف بمفردها، وأدب صيد الساحرات كان مهووسا لمعرفة ما الذي حصل مع ساحرات “السبوت” (أكل أولاد غير معمدين؟ ممارسة الجنس مع الحيوانات وممارسة الجنس الجماعي؟ بحسب ما ذهبت إليه مخيلتهم المتوهجة…)
في الواقع، هناك أدلة على اتهام النساء بأنهن ساحرات اجتمعن محليا ضمن مجموعات صغيرة، واجتمعت هذه المجموعات ضمن حشود من مئات وآلاف الأشخاص خلال أيام الاحتفالات. تكهن بعض الكتّاب بأن الاجتماعات كانت مناسبة لممارسة العبادة الوثنية. ومما لا شك فيه أن الاجتماعات كانت مناسبة لتداول الأخبار المتعلقة بالأعشاب. لدينا القليل من الأدلة حول المغزى السياسي لمنظمات السحرة، ولكن من الصعب تصور أن لا علاقة لهن بثورات الفلاحين في ذلك الوقت. أي تنظيم فلاحي، وبمجرد وجوده، يمكن أن يجذب المنشقين، ويزيد التواصل بين القرى، ويبني الروح الجماعية والاستقلالية بين الفلاحين.
الساحرات كمعالجات نصل الآن إلى اتهام أكثر من رائع: اتهمت الساحرات ليس فقط بالقتل والتسميم، والجرائم الجندرية والتآمر- ولكن أيضا بسبب المساعدة والعلاج. كما كتب رائد انكليزي في صيد الساحرات:
“لهذا يجب أن نتذكر دائما، كخلاصة، أنه من خلال الساحرات لا نفهم فقط تلك التي تقتل أو تعذب، ولكن كل العرافين، والمشعوذين والسحرة، ويطلق عليهم اسم الحكماء والحكيمات… وفي نفس الوقت نحسب أن كل الساحرات الجيدات، اللواتي لا يؤذين ولكنهن جيدات، اللواتي لا يفسدن ولا يدمرن، إنما يحفظن ويعالجن… من الأفضل ألف مرة من أجل الأرض إذا عانت كل الساحرات، وخاصة الساحرات المعالجات، من الموت.”
كانت الساحرات المعالجات في الكثير من الأوقات الممارسات الوحيدات للطب للناس الذين لم تتوفر لهم العناية الطبية من جانب الأطباء أو المستشفيات وعانوا بشدة من الفقر والمرض. خاصة، لأن الرابط بين الساحرات والقابلات كان قويا: “لا أحد يسبب الكثير من الضرر للكنيسة الكاثوليكية أكثر من القابلات،” كتب صائدا الساحرات كرامر وسبرنغر.
الكنيسة نفسها كان لديها القليل لتقدمه للفلاحين الذين يعانون:
“يوم الأحد، بعد القداس، جاء المرضى بالعشرات، وكانوا يبكون طالبين المساعدة، كل ما حصلوا عليه كان كلمات: “لقد أخطأتم، والله يجربكم. اشكروه؛ ستتعذبون كثيرا ولكن الحياة المقبلة ستكون أقل عذابا. تحملوا، تعذبوا، موتوا. ألا تصلي الكنيسة من أجل الموتى؟” (Jules Michelet, Satanism and Witchcraft)
بمواجهة بؤس الفقراء، تحولت الكنيسة إلى دوغما تقول إن التجربة في هذا العالم عابرة وغير مهمة. ولكن كان هناك ازدواجية في العمل، الكنيسة لم تكن ضد الرعاية الطبية للطبقة العليا. توفر الأطباء للملوك والنبلاء، الذين كانوا في بعض الأوقات كهنة. المسألة الأساسية هي التحكم: رعاية الرجال من الطبقة العليا تحت رعاية الكنيسة كان أمرا مقبولا، أما الرعاية الطبية التي تقوم به النساء كجزء من الثقافة الشعبية للفلاحين فلم تكن كذلك.
كانت الكنيسة ترى في هجومها على معالجي/ات الفلاحين كهجوم على السحر، وليس على الطب. كانت تعتقد أن الشيطان يملك قوة حقيقية على الأرض، واستخدام تلك القوة من الفلاحات- سواء للخير أو للشر- كان مرعبا للكنيسة وللدولة. كلما جرى الاعتماد على القوة الشيطانية لمساعدة أنفسهم، كلما قل الاعتماد على الله والكنيسة وكلما زادت قدرتهم على استخدام قوتهم ضد أوامر الله. وكان يعتقد أن السحر يؤثر، بنفس فعالية الصلاة، على شفاء المرضى، ولكن كانت الكنيسة تعاقب المؤمنين وتراقبهم في حين لم تفعل ذلك بمواجهة الطلاسم والسحر. كانت العلاجات بواسطة السحر، حتى عندما كانت ناجحة، تدخلا لعينا مع إرادة الله، تتحقق بمساعدة الشيطان، وكان العلاج هو بحد ذاته الشر. لم يكن هناك مشكلة في التمييز بين الشفاء الذي يحققه الله أو الشيطان، إنما من الواضح أن الرب سيعمل من خلال الكهنة والأطباء بدلا من الفلاحات.
المرأة الحكيمة، أو الساحرة، كان لديها مجموعة من العلاجات التي تختبرها لسنوات حتى تستعملها. طورت الساحرات العديد من العلاجات بالأعشاب ما زالت مستخدمة حتى اليوم في علم الصيدلة الحديث. كان لديهن المسكنات والعلاجات للجهاز الهضمي والأدوية المضادة للالتهابات. واستخدمن عشبة الإرغوت لمعالجة الألم الناتج عن البدء بالولادة في وقت كانت الكنيسة تقول إن هذا الألم هو عقاب رباني لخطيئة حواء الأصلية. مشتقات الإرغوت هي من الأدوية الأساسية التي تستعمل اليوم لتخفيف الآلام الناتجة عن الولادة وعند البدء بها. كانت الساحرات تستعمل البلادونا- لا يزال يستعمل حتى اليوم كمضاد للتشنج- لعلاج تقلصات الرحم عند خطر الإجهاض. الديجيتاليس، لا يزال دواء هاما في علاج أمراض القلب، ويقال أن ساحرة انكليزية اكتشفته. مما لا شك فيه أن العديد من علاجات الساحرات الأخرى كانت سحرية بشكل بحت، وتدين بفعاليتها- إذا كان لهن ذلك، إلى سمعتهن.
أساليب العلاج التي اتبعتها الساحرات كان تهديدا كبيرا (للكنيسة الكاثوليكية، إن لم يكن كذلك للبروتستانتية) بنتائجه، بالنسبة للساحرة كان ذلك عملا اختباريا: يعتمد على الحواس بدلا من التركيز على الإيمان أو العقيدة، فهي تؤمن بالتجربة والخطأ، السبب والنتيجة. تصرفها لم يكن موقفا دينيا سلبيا، إنما كان استفساريا نشطا. وكانت تثق بقدرتها على إيجاد سبل للتعامل مع المرض والحمل والولادة- سواء عن طريق الأدوية أو السحر. باختصار، السحر كان علم ذلك الزمن.
بالمقابل، كانت الكنيسة على النقيض من ذلك، مناهضة للعمل الاختباري. كانت تقلل من قيمة العالم المادي، وكان لها انعدام ثقة بالحواس. لم تكن تعتمد على أي نقطة في البحث عن قوانين الطبيعة التي تحكم الظواهر الفيزيائية، فالعالم يخلقه الرب في كل لحظة. اقتبس كرامر وسبرنغر في كتابهما مطرقة الساحرات قولا للقديس أغسطينوس عن خداع الحواس:
“… الدافع الآن وراء الإرادة هو شيء ينظر إليه من خلال الحواس أو العقل، وكلاهما يخضع لقوة الشيطان. القديس أغسطينوس يقول في الكتاب 83: هذا الشر، الذي يأتي من الشيطان، ينتشر من خلال كل المقاربات الحسية؛ ينتقل بالأرقام، يتكيف مع الألوان، يلتصق بالأصوات، يتمظهر في محادثة غاضبة وخاطئة، يظهر بالروائح، ويخصب النكهات ويملأ مع بعض البخار جميع قنوات الفهم.”
الحواس هي ساحة الشيطان. الساحة التي يحاول من خلالها جذب الرجال بعيدا عن الإيمان وإلى فكر مخادع أو أوهام شهوانية.
خلال اضطهاد الساحرات، ومعاداة التجريبية وكراهية النساء، والهواجس المعادية للجنس، كانت الكنيسة تعتبر: أن التجريبية والجنسانية على حد سواء يمثلان استسلاما للحواس، وخيانة للإيمان. كانت الساحرة تشكل تهديدا ثلاثيا للكنيسة: كانت امرأة، ولا تخجل بذلك. كانت تظهر كجزء من التنظيمات السرية للفلاحات. وكانت معالِجة تقوم ممارساتها على الدراسة التجريبية. في وجه قدرية الدين المسيحي، عقدت أملها على التغيير في هذا العالم.
بروز مهنة الطب في أوروبا في حين كانت الساحرات يمارسن عملهن بين صفوف الشعب، كانت الطبقات الحاكمة تعتمد في عملها على معالجين مدنيين، الأطباء المدربين في الجامعات. في القرن الذي سبق بداية “الهوس بالساحرات”- القرن 13- أصبح الطب في أوروبا راسخا كعلم مدني ومهنة. كانت مهنة الطب تعمل بنشاط على إقصاء المعالجات- عبر استبعادهن من الجامعات، على سبيل المثال- قبل فترة طويلة من صيد الساحرات.
على امتداد ثمانية قرون، من القرن الخامس حتى القرن 13، وقفت الكنيسة، المعادية للطب، في طريق تطور الطب كمهنة محترمة. ومن ثم في القرن 13، جرى إحياء التعلم، الذي جرى عبر التواصل مع العالم العربي. ظهرت كليات الطب في الجامعات، وسعى المزيد من الشباب للحصول على وسائل التدريب الطبي. فرضت الكنيسة ضوابط صارمة على المهنة الجديدة، وسمحت لها بالتطور فقط وفق الشروط التي تتوافق مع المذهب الكاثوليكي. لم يسمح للأطباء الحاصلين على شهادة جامعية بممارسة مهنتهم قبل استدعاء كاهن للمساعدة وتقديم النصائح لهم، أو لعلاج مريض رفض أن يعترف. بحلول القرن 14 كانت ممارسة الطب تحصل بين صفوف الأثرياء، الذين لطالما استمروا في الاعتقاد أن آلامهم لم تعرّض روحهم للخطر. في الواقع، كانت حسابات تدريبهم الطبي تتم وفق ما يُحتَمل أن يعرض الجسم للخطر.
لم يكن هناك أي شيء في التدريبات الطبية التي جرت خلال أواخر خلال القرون الوسطى يتعارض مع عقيدة الكنيسة، وقلما نجد في ذلك ما يمكن اعتباره بأنه “علم”. طلاب الطب، كالعديد من الطلاب الشباب، قضوا سنوات في دراسة أفلاطون وأرسطو واللاهوت المسيحي. اقتصرت نظرية الطب إلى حد كبير على أعمال جالينوس، الطبيب الروماني القديم الذي ركز على نظرية “طبائع” أو “مزاج” الرجال، “حيث المكبود غاضب، والمتفائل كريم، والحزين حسود،” وهكذا دواليك. في وقت من النادر أن نجد طالبا أو طبيبا قد رأى أي مريض خلال فترة الدراسة، يجري أي نوع التجارب. كان الطب متباينا بشكل حاد عن الجراحة، التي كانت تعتبر في كل مكان تقريبا، مهنة مهينة، وحرفة وضيعة، وكان تشريح الجثث أمرا لم يسمع به تقريبا.
بمواجهة شخص مريض، كان للأطباء المدربين في الجامعة القليل من المهارات والكثير من الخرافات. كان النزيف ممارسة شائعة، خاصة في حالة الجروح. كانوا يعالجون بالدود تبعا للوقت والساعة والهواء واعتبارات أخرى مماثلة. وغالبا ما استندت النظريات الطبية على “المنطق” أكثر من ارتكازها على الملاحظة: “بعض الأطعمة تعطي مزاجا جيدا، وأخرى تعطي مزاجا شريرا. على سبيل المثال، تعطي القرة والخردل والثوم مزاجا صفراويا؛ العدس والملفوف ولحم الماعز العتيق ولحم البقر تعطي مزاجا سوداويا.” وكانوا يعتقدون أن الابتهالات والطقوس شبه الدينية فعالة في العلاج: الطبيب إدوارد الثاني، الذي حصل على درجة البكالوريوس في اللاهوت وعلى شهادة الدكتوراه في الطب من جامعة أوكسفورد، وصف لعلاج وجع الأسنان والفكين، هذا القول: “باسم الآب والابن والروح القدس، آمين،” أو وضعَ الابرة على دودة ومن ثم على الأسنان. وكان العلاج المعتاد لمرض الجذام مرقة مصنوعة من لحم الثعبان الأسود الذي يعيش في منطقة جافة وبين الحجارة.
هذا ما كان عليه حال “العلم” الطبي في وقت كانوا يضطهدون الساحرات المعالجات لأنهن يمارسن “السحر”. طورت الساحرات فهما واسعا للعظام والعضلات، والأعشاب والأدوية، في حين كان الأطباء يعتمدون على التكهن والتنجيم والشعوذة وكانوا يحاولون تحويل الرصاص إلى ذهب. عظيمة كانت معرفة الساحرة لدرجة أنه عام 1527، قام باراسيلسوس، و”مؤسس الطب الحديث” بحرق كتابه عن المستحضرات الصيدلانية، معترفا بأنه “تعلم كل ما يعرفه من مشعوذة.”
قمع المعالجات ترسيخ الطب كمهنة، تطلب تدريبا في الجامعات، ما جعل من منع المرأة من الممارسة من الناحية القانونية أمرا سهلا. مع بعض الاستثناءات، كانت الجامعات مغلقة بوجه النساء (حتى لنساء الطبقة العليا اللواتي كنّ ميسورات ماديا)، ووضعت قوانين ترخص العمل الطبي التي تمنع كل ممارسي/ات المهنة من العمل فيها ما لم يحملوا شهادة جامعية. كان يستحيل تطبيق قوانين الرخصة حيث كان عدد الأطباء المدربين في الجامعة قليلا جدا بالمقارنة مع العدد الكبير من المعالجين غير النظاميين. ولكن القوانين كانت تطبق بطريقة انتقائية. لم يكن الهدف الأول معالِجة الفلاحين، إنما مَن هي أفضل حالا، أي المعالِجة المتعلمة التي تتنافس على نفس الزبائن في المدن مع الأطباء المدربين في الجامعة.
على سبيل المثال، حالة جاكوبا فيليسي، التي سيقت إلى المحكمة عام 1322 من كلية الطب في جامعة باريس، بتهمة ممارسة الطب بطريقة غير قانونية. كانت جاكوبا متعلمة وتلقت “تدريبا خاصا” في مجال الطب. وكان المرضى بحالة جيدة بواقع أنهم (كما شهدوا في المحكمة) استشاروا أطباء مدربين في الجامعة قبل التوجه إليها. وكانت لائحة الاتهامات الأولية التي وجهت إليها:
“…كانت تعالج المرضى من الأمراض الداخلية والجروح أو الدمامل الخارجية. وكانت تزور المرضى بدأب واستمرت في فحص البول كالأطباء، وجست نبضهم، ولمست أجسادهم وأطرافهم.”
وأكد ستة شهود أن جاكوبا قد شفتهم، حتى عندما عجز الأطباء عن ذلك، وأعلن أحد المرضى أنها كانت أكثر حكمة في فن الجراحة والطب من أي طبيب أو جراح رئيس في باريس. ولكن استعملت هذه الشهادات ضدها، والاتهام لم يكن لأنها غير كفوءة، إنما، لأنها كامرأة، تجرأت على ممارسة العلاج.
على نفس المنوال، أرسل الأطباء الإنكليز عريضة إلى البرلمان شجبوا فيها “النساء العديمات الجدوى ومغتصبات المهنة” وطلبوا فرض غرامات و”السجن لمدة طويلة” لأي امرأة تحاول “ممارسة العلاج.” بحلول القرن 14، امتدت الحملة ضد المعالجات المتعلمات في المدن لتشمل جميع أنحاء أوروبا. وكان الأطباء الذكور احتكروا بشكل واضح ممارسة الطب بين الطبقات العليا (باستثناء التوليد، الذي ظل بيد القابلات حتى بين الطبقات العليا لمدة ثلاثة قرون أخرى.) وكانوا على استعداد لتولي دورا رئيسا في القضاء على القسم الأعظم من المعالجات- “الساحرات.”
وصلت الشراكة بين الكنيسة والدولة ومهنة الطب إلى ذروتها خلال محاكمات الساحرات. أوكلت مهمة “الخبرة” للأطباء لإضفاء هالة من العلم على الدعوى ككل. وكانوا يُسأَلون لإصدار أحكام حول إذا كانت بعض النساء ساحرات وعما إذا كانت بعض الآلام قد تَسبَبَ بها السحر. كتاب مطرقة الساحرات يقول: “إذا طلب منا كيفية تحديد سبب المرض هل جاء عن طريق السحر أو نتيجة خلل مادي طبيعي، نجيب: أن الطريقة الأولى لتحديد ذلك تتم عن طريق حكم الأطباء…” خلال صيد الساحرات، شرّعت الكنيسة بشكل صريح مهنة الطب ورفضت العلاج غير المهني واعتبرته بدعة: “إذا كانت المرأة تتجرأ على ممارسة العلاج من دون دراسة فهي ساحرة ويجب أن تموت.” (بالطبع، لم يكن هناك أي مجال حتى تتعلم المرأة). وأخيرا، قدم الهوس بالساحرات عذرا مفيدا لفشل الأطباء في ممارستهم اليومية: كل ما لا يستطيعون علاجه هو بلا شك نتيجة الشعوذة.
التمييز بين الخرافات “النسائية” والطب “الذكوري” كان نهائيا خلال المحاكمات لأدوار الطبيب والساحرة. أعطت المحاكمات بضربة واحدة لمهنة الطب طابعا أخلاقيا وفكريا أعلى من المعالجات اللواتي خضعن للمحاكمة. فقد وضعتها إلى جانب الله والقانون، مهنة على قدم المساواة مع المحامين ورجال الدين، في حين وضعت المعالجات إلى جانب الظلام والشر والسحر. وهو [الطبيب] مدين لهذا الوضع الجديد ليس لانجازاته الطبية أو العلمية، إنما للكنيسة والدولة التي خدمهما بشكل جيد.
ما بعد القمع صيد الساحرات لم يقض على معالِجات الطبقة الدنيا، ولكنه وصمهن إلى الأبد بالخرافة وبالشر المحتمل.
هكذا فقدت مصداقيتها بين الطبقات الوسطى الناشئة في القرنين 17 و18 ومكن ذلك الأطباء من تسجيل خرق مهم في المشاركة فيما كان حكرا على المعالجات- التوليد. الممارسون الذكور غير المهنيين- “الحلاقون الجراحون”- قادوا الهجوم في انكلترا، بدعوى تفوقهم التقني في استخدام ملقط التوليد. (صنف القانون ملقط التوليد أداة جراحية، ومنعت النساء من الناحية القانونية من ممارسة الجراحة). بأيدي الحلاقين الجراحين، تمت ممارسة التوليد في أواسط الطبقة الوسطى وتحول بسرعة من خدمة الجيران إلى تجارة مربحة، وبذلك دخل الأطباء بقوة هذا المجال في القرن 18. تنظمت القابلات في انكلترا واتهمن الرجال بالنزعة التجارية وسوء استخدام ملقط التوليد. ولكن بعد فوات الأوان- جرى اتهام النساء بأنهن “مسنات” جاهلات متشبثات بخزعبلات الماضي.
النساء وبروز مهنة الطب في الولايات المتحدة الأميركية في الولايات المتحدة الأميركية كانت السيطرة الذكورية على الأدوار العلاجية قد بدأت في وقت لاحق عن انكلترا أو فرنسا، ولكن في نهاية المطاف ذهبت الأمور إلى أبعد مدى. ربما لا يوجد بلد صناعي يحتوي على نسبة منخفضة من الطبيبات كالولايات المتحدة اليوم: في انكلترا تبلغ نسبتهن 24 بالمئة؛ في روسيا 75 بالمئة؛ أما في الولايات المتحدة فتبلغ النسبة 7 بالمئة. في حين لا يزال التوليد- الذي تتولاه النساء- مزدهرا في الدول الاسكندنافية والمملكة المتحدة وهولندا، إلخ، أصبح ذلك محظورا مع بداية القرن العشرين. وبحلول نهاية القرن، بات الطب مهنة مقتصرة لأقلية صغيرة وللثريات من النساء. ما بقي هو التمريض، وكان ذلك بديلا للأدوار المستقلة التي تتمتع بها النساء كالقابلات والمعالجات بشكل عام.
السؤال ليس كيف يمكن للمرأة أن “تُستبعَد” من الطب وتلجأ إلى التمريض، إنما كيف نشأت هذه المهنة؟ بعبارة أخرى، كيف لفئة معينة من المعالجين، الذين صودف بأنهم بيض ومن الطبقة الوسطى، أن يديروا الإطاحة لجميع المنافسين/ات من المعالجين/ات الشعبيين/ات والقابلات وغيرهم/ن من الممارسين/ات الذين هيمنوا/ن على المشهد الطبي الأميركي في أوائل القرن 19؟
الجواب التقليدي الذي قدمه المؤرخون الطبيون هو، بطبيعة الحال، أن هناك مهنة واحدة حقيقية للطب في الولايات المتحدة- مجموعة صغيرة من الرجال الذين تدفقت سلطتهم العلمية والأخلاقية من تيار يمتد من أبقراط وجالينوس والأطباء الأوروبيين العظام. في الولايات المتحدة كان على هؤلاء الأطباء أن يقاتلوا، ليس بهدف حل المشاكل الروتينية للمرض والموت، إنما للتجاوزات التي يرتكبها مجموعة من الممارسين/ات غير النظاميين/ات- الذين يصوَرون/ن عادة كنساء، وعبيد سابقين وهنود وتجار طب مخمورين. لحسن حظ مهنة الطب، أنه في أواخر القرن 19 طور الرأي العام الأميركي احتراما للمعرفة العلمية للأطباء، نما [الاحترام] أكثر من الإيمان السابق بالدجالين، ومنح مهنة الطب احتكار فنِ العلاج.
لكن الجواب الحقيقي ليس في هذه الدراما المختلقة لعلم بمواجهة الجهل والخرافات. إنه جزء من قصة القرن 19 الطويلة للصراع الطبقي والجندري على السلطة في جميع نواحي الحياة.
عندما عملت النساء في الطب، كان الأخير لعامة الشعب. وعندما دمر الطب المخصص لعامة الشعب، لم يعد هناك مكان للنساء- ما عدا الدور التابع للممرضات. ومجموعة المعالجين الذين باتوا يمارسون مهنة الطب لم يتم الاعتراف بهم لعلاقتهم بالعلوم الحديثة بمقدار علاقتهم بعالم الأعمال الأميركي الناشىء. مع كل الاحترام لباستور، وكوخ وغيرهما من الباحثين الأوروبيين في مجال الطب في القرن 19، أمّن تدخل كارنيغي وروكفلر الانتصار النهائي لمهنة الطب في الولايات المتحدة الأميركية.
كان يمكن للولايات المتحدة أن تكون خلال عام 1800 بيئة غير واعدة لتطور مهنة الطب، أو أي مهنة. كان عدد قليل من الأطباء قد هاجروا من أوروبا. وكان هناك عدد قليل جدا من كليات الطب في الولايات المتحدة، وعدد قليل جدا من مؤسسات التعليم العالي. كان الجمهور العام، الخارج لتوه من حرب التحرير الوطني، معاديا للاحتراف وللنخبة “الأجنبية” من أي نوع كانت.
في أوروبا الغربية، كان الأطباء المدربون في الجامعات يتمتعون باحتكار الحق بالعلاج منذ قرون عديدة. ولكن في الولايات المتحدة، كانت الممارسة الطبية مفتوحة تقليديا لمن يتمكن/تتمكن من إثبات مهاراته/ا في العلاج- بغض النظر عن التدريب الرسمي أو العرق أو الجندر. كانت آن هاتشينسون، الزعيمة الدينية المعارضة خلال القرن 17، ممارِسة “للطب العام”، كالعديد من الوزراء وزوجاتهم. تفيد تقارير المؤرخ الطبي جوزف كيت أن “أحد أكثر الأطباء احتراما في أواخر القرن 18 في وندسور- كونيكتيكت، على سبيل المثال كان زنجيا محرَرا اسمه “دكتور بريموس” في نيو جرسي. ممارسة الطب، ما عدا حالات استثنائية، كانت تتم بشكل رئيس على يد النساء حتى وقت متأخر من عام 1818…”.
كثيرا ما مارست النساء المهنة مع أزواجهن: الزوج يمارس الجراحة، والزوجة تزاول التوليد وتعالج الأمراض النسائية، وكل شي مشترك. وقد تُطور المرأة مهاراتها من خلال رعاية أفراد الأسرة أو من خلال التدرب مع أقاربها أو مع معالج. على سبيل المثال، أصبحت هارييت هونت أول طبيبة مدربة في الولايات المتحدة، إذ اهتمت بالطب خلال مرض أختها، وعملت لفترة مع زوجين معالِجين، ومن ثم علقت بكل بساطة لوحتها الخاصة كطبيبة. (في وقت لاحق قالت إنها خضعت لتدريب رسمي).
تشريع الطب في بداية القرن 19 تزايد عدد الأطباء المدربين الذين بذلوا جهودا كبيرة لتمييز أنفسهم عن الممارسين غير النظاميين. التمييز الأهم أن الأطباء المدربين، أو “النظاميين” كما كانوا يسمون أنفسهم، كانوا من الذكور، وبمعظمهم من الطبقة الوسطى، وكانوا أكثر كلفة من منافسيهم. اقتصرت أعمال الأطباء “النظاميين” إلى حد بعيد على الطبقة الوسطى والعليا اللتين كان بإمكانهما تحمل كلفة العلاج على يد “النبلاء” من داخل طبقتهما. بحلول العام 1800، فَرضت الموضة أن تستخدم نساء الطبقة العليا والوسطى أطباء “نظاميين” للحصول على الرعاية خلال فترة الولادة- وهي عادة وجدها الناس غير لائقة على نحو فاضح.
أما لناحية المهارات الطبية والنظرية، كان من يسمون بـ”النظاميين” أقل بما لا يقاس نسبة إلى الممارسين غير النظاميين. كان “تدريبهم الرسمي” ضئيلا حتى وفق المعايير الأوروبية السائدة في ذلك الوقت: فالبرامج الطبية تختلف من ناحية مدتها من بضعة أشهر إلى سنتين؛ لم تحتوِ العديد من المدارس الطبية على تجهيزات عيادية؛ لم يكن هناك حاجة لحصول الطالب على شهادة ثانوية لقبوله في كليات الطب. وبكل الأحوال لم يكن التدريب الأكاديمي جديا ليساعدهم- ولم يكن هناك جثة للتدرب عليها في العلوم الطبية. بدلا من ذلك كان على “النظاميين” أن يقوموا بتدابير “بطولية”: نزيف حاد، وجرعات كبيرة من المسهلات، والكالوميل (مسهل يحتوي على الزئبق)، ولاحقا، الأفيون. (كان لمهنة الطب الأوروبية ما هو أفضل لتقدمه في هذا الوقت أيضا). وليس هناك شك بأن هذه “العلاجات” كانت في الغالب إما قاتلة أو أكثر ضررا من المرض الأصلي. وبحسب، الطبيب المتميز، أوليفر وينديل هولمز، إذا رمينا كل الأدوية التي يستخدمها الأطباء “النظاميون” في الولايات المتحدة بالمحيط سيكون ذلك أفضل بكثير للمرضى وأسوأ بكثير للسمك.
كان الممارسون غير النظاميين بلا شك أكثر أمنا وأكثر فعالية من “النظاميين”. فقد فضلوا العلاج المعتدل بالأعشاب، والتغييرات في النظام الغذائي وخففوا من القيام بتدابير بطولية. ربما لأنهم لا يعرِفون أكثر من “النظاميين” ولكنهم على الأقل فضلوا عدم تعريض حياة المرضى للخطر. وقد تركوا وحيدين، من الممكن أنهم قد أزاحوا “النظاميين” عن معالجة المرضى من الطبقة الوسطى في الوقت المناسب. ولكنهم لم يعرفوا الأشخاص المناسبين. فـ”النظاميون”، مع علاقاتهم المقربة من الطبقة العليا، كانوا يتمتعون بنفوذ تشريعي. وعام 1830، كانت 13 ولاية قد أصدرت قوانين التراخيص الطبية حرمت فيها الممارسات “غير النظامية” واعتبرت بموجبها الطب “النظامي” العلاج القانوني الوحيد.
كانت خطوة سابقة لأوانها. لم يكن هناك دعم شعبي لفكرة الاحتراف الطبية، ناهيك عن قلة عدد المعالجين الذين ادعوا ذلك. ولم يكن هناك أي وسيلة لفرض القوانين الجديدة: فالمعالجون الذين يثق بهم عامة الناس لا يمكن التشريع بشأنهم بعيدا عن الواقع. والأسوأ من ذلك- أن “النظاميين”- باحتكارهم الطبي المبكر كانوا دافعا لسخط جماعي تمثل بحركة صحية شعبية جذرية، كانت قريبة من تحطيم النخبوية الطبية في الولايات المتحدة مرة واحدة وإلى الأبد.
حركة الصحة الشعبية عادة ما تشطب حركة الصحة الشعبية خلال ثلاثينيات وأربعينيات القرن 19 من تاريخ الطب التقليدي كنموذج فاقع من النفاق والثقافوية الطبية. في الواقع، كانت الحركة الطبية جزءا من اضطراب اجتماعي عام أثارته الحركات النسوية والعمالية. كانت النساء العامود الفقري لحركة الصحة الشعبية. “جمعيات النساء الفيزيولوجية”، أي ما يعادل دورات إعرفوا/ن جسدكم/ن، ظهرت في كل مكان، وقدمت تعليمات بسيطة للجمهور حول جسم الإنسان والنظافة الشخصية. وكان التركيز فيها على الرعاية الوقائية، بدلا من “العلاجات” القاتلة التي مارسها الأطباء “النظاميون”. شددت الحركة على ضرورة الاستحمام المتكرر (بعكس نصيحة الأطباء “النظاميين”)، وارتداء الملابس الفضفاضة، وتناول الحبوب الكاملة، والاعتدال، ومجموعة من النصائح التي يمكن أن تقوم بها النساء. وفي وقت كانت والدة مارغريت سانغر لا تزال صغيرة، بدأت الحركة بالدفع بالمعالم الأولية للتحكم بالنسل.
كان هجوم الحركة جذريا على النخبوية الطبية، وتأكيدا على التقاليد الطبية الشعبية. “كل رجل هو طبيب نفسه”، كان شعار إحدى أجنحة الحركة، وجعلوه شاملا لكل امرأة أيضا. وهاجمت الحركة الأطباء “النظاميين” والمرخص لهم باعتبارهم أعضاء “طفيليين في طبقة غير منتجة”، وقد استطاعوا النجاة بفعل “الطعم اللذيذ” للكالوميل والنزيف الذي تذوقته الطبقة العليا. وقد نددت الحركة بالجامعات (حيث يدرّب الأطباء “النظاميون”) لأنها أمكنة يتعلم فيها الطلاب “النظر إلى العمال/ات كأذلاء/ذليلات وحقراء/حقيرات” وأن يصنفوا/ن أنفسهم ضمن صفوف الطبقة العليا. تجيشت الطبقة العاملة الراديكالية حول هذه القضية واعتبرت أن “الملكية والكهنوت والمحاماة والطب” هي الشرور الأربعة لذلك الوقت. في ولاية نيويورك، كانت الحركة ممثلة في المجلس التشريعي بأحد أعضاء حزب العمال، والذي اغتنم كل فرصة لمهاجمة “الأطباء أصحاب الامتيازات”.
وجد الأطباء “النظاميون” أنفسهم قليلي العديد ومعزولين. ورفض الجناح اليساري لحركة الصحة الشعبية رفضا تاما أن تُسعّر خدمة الطب- أقل بكثير من التكلفة الباهظة لهذه “المهنة”. أما الجناح المعتدل فقد وضع مجموعة من الفلسفات الطبية الجديدة، أو الطوائف، للتنافس مع “النظاميين” بشروطهم الخاصة: التركيبية، الغراهامية، الطب المتجانس، وغيرها من الاتجاهات. هذه الطوائف كان لها مدارسها الطبية الخاصة، (التي تؤكد على الرعاية الوقائية والعلاج المعتدل بالأعشاب)، وبدأت بتخريج الأطباء. في هذا السياق من الاستقطاب الطبي، بدأ الأطباء “النظاميون” بالنظر إلى أنفسهم كمجرد طائفة أخرى، طائفة لها فلسفتها الخاصة تميل إلى استخدام الكالوميل والنزيف وغيرها من العلاجات السطحية والممارسات “البطولية”. وكان مستحيلا معرفة من هم الأطباء “الحقيقيون”، وبحلول أربعينيات القرن 19، ألغيت قوانين الترخيص الطبي من معظم الولايات.
وتزامن صعود حركة الصحة الشعبية مع بدايات الحركة النسوية المنظمة، وكانت الحركتان مرتبطتين بشكل وثيق بحيث من الصعب معرفة متى بدأت الأولى ومتى توقفت الثانية. “حملة صحة المرأة [حركة الصحة الشعبية] ارتبطت كمسببة ونتيجة لمطالب حقوق المرأة بشكل عام، وكان لا يمكن التمييز بين الحركات الصحية والنسوية في ذلك الوقت”، بحسب ريتشارد شريوك، المؤرخ الطبي المشهور. حركة الصحة كانت معنية بحقوق المرأة بشكل عام، وكانت الحركة النسائية مهتمة بشكل خاص بالصحة وبإمكانية حصول المرأة على التدريب الطبي.
في الواقع، استخدم قادة المجموعتين الصور النمطية المهيمنة حول الجنس للقول أن النساء يتمتعن بجهوزية أعلى من الرجال ليصبحن طبيبات. “لا يمكن أن ننكر أن النساء يمتلكن قدرات متفوقة لعلم الطب”، كتب القيادي في حركة الصحة، صموئيل تومسون، عام 1834. (مع ذلك، كان تومسون يعتقد أن الجراحة يجب أن تكون محصورة بالذكور). ذهبت النسويات، مثل سارة هايل، أبعد من ذلك، وأعلنت عام 1852: “الحديث عن هذا المجال [الطب] كان يُحصَر بالرجال، ولهم فقط! مع العشرات من الأسباب يمكننا القول أن هذا المجال مناسب للمرأة، ولها وحدها”.
فتحت مدارس الطب الجديدة للطوائف بالفعل الباب أمام النساء في وقت كانت فيه مراكز التدريب “النظامية” مغلقة بوجوههن. على سبيل المثال، رُفِض طلب هارييت هانت التسجيل في كلية الطب في جامعة هارفرد، وبدلا من ذلك، توجهت هانت إلى مدرسة طائفية لتلقي تدريبها النظامي. (في الواقع، صوتت جامعة هارفرد لصالح قبول طلب تسجيلها- إلى جانب طلاب سود- ولكن الطلاب هددوا بالتمرد في حال دخولهم/ن إلى الجامعة). الأطباء “النظاميون” يدينون في تدربهم لـ إليزابيث بلاكويل، أول طبيبة “نظامية” في الولايات المتحدة، ولكن كليتها في نيويورك أصدرت قرارا يمنع تسجيل المزيد من النساء. أول كلية طب مختلطة “غير نظامية” كانت كلية الطب المركزية في نيويورك، في سيراكيوز. وأخيرا، أقيمت أول كليتين للإناث، واحدة في بوسطن والأخرى في فيلادلفيا، وكانتا “غير نظاميتين”.
يجب على الباحثات النسويات أن يعرفن أكثر عن حركة الصحة الشعبية. من وجهة نظر حركتنا اليوم، من المحتمل أن تكون أكثر أهمية من الحركة النسائية من أجل انتزاع الحق بالاقتراع. بالنسبة لنا، إن الجوانب الأكثر إثارة للحيرة للحركة كانت: (1) أنها مثلت كلا من الصراع الطبقي والنسوي: اليوم، يبدو أن الموضة أن يقتصر العمل على قضايا نسوية كقضايا تهتم بها الطبقة الوسطى. أما خلال نضال حركة الصحة الشعبية نرى تكاتف الطاقات المعنية بالقضايا النسوية والعمالية. حصل ذلك لأن حركة الصحة الشعبية استقطبت كافة أنواع المعارضين/ات، أو كان ثمة هوية أعمق للغاية؟ (2) لم تكن حركة الصحة الشعبية مجرد حركة تسعى من أجل الحصول على رعاية صحية أكثر وأفضل، إنما كانت تسعى من أجل نوع مختلف جذريا من الرعاية الصحية: كانت تحديا حقيقيا للدوغما الطبية السائدة، سواء عن طريق النظرية أو الممارسة. اليوم نحن نميل لتوجيه النقد باتجاه تنظيم الرعاية الصحية، ونفترض أن البنية التحتية العلمية للطب لا يمكن التعرض لها. علينا نحن أيضا تطوير القدرة على إجراء دراسات نقدية لـ”علم” الطب- على الأقل بما يتعلق بالمرأة.
هجوم الأطباء خلال أوج نضال حركة الصحة الشعبية في ثلاثينيات وأربعينيات القرن 19 توفر للحركة أطباؤها “النظاميون”- الأسلاف المهنيون لأطباء اليوم- العاملون بخوف. في وقت لاحق من نهاية القرن 19، انحسرت طاقة النضال القاعدي للحركة وتحولت الحركة إلى مجموعة من الطوائف المتناحرة، فاستعاد “النظاميون” زمام المبادرة وعاودوا الهجوم. عام 1848، شكلوا منظمتهم الوطنية، المسماة تفاخرا بالجمعية الطبية الأميركية، وجرى حل العديد من الجمعيات في الولايات والمقاطعات التي ازدهرت خلال ثلاثينيات وأربعينيات القرن 19، وبدأت عملية الإصلاح.
خلال السنوات الأخيرة من القرن 19، هاجم الأطباء “النظاميون” بلا هوادة الممارسين غير النظاميين، والأطباء من طوائف مختلفة والممارسات بشكل عام. كانت الهجمات مترابطة: الهجوم على الممارسات يمكن كان بسبب توجهاتها الطائفية؛ والهجوم على الطوائف يمكن كان بسبب انفتاحها على النساء. وتراوحت الحجج المستعملة ضد الطبيبات بين البطريركية (كيف يمكن لامرأة محترمة أن تتنقل خلال الليل لتلبية نداء طارئ؟) وصولا إلى التمييز الجندري. وقال الدكتور ألفرد ستيل في خطابه الرئاسي في الجمعية الطبية الأميركية عام 1871:
“تسعى بعض النساء إلى منافسة الرجال في العديد من الألعاب الرياضية… ويبذلن جهودا لتقليدهم في كل شيء، حتى في اللباس. عندما يقمن بذلك فإنهن يحظين بإعجاب ككل المنتجات الفظيعة الملهمة، خاصة عندما يسعين إلى تحقيق هدف أعلى مما هن عليه.”
المعارضة الذكورية الأميركية الضارية للنساء في مجال الطب لا مثيل لها في أوروبا. وربما يعود ذلك للأسباب التالية: أولا، قليلات النساء الأوروبيات اللواتي كن يطمحن بمهنة الطب في ذلك الوقت. ثانيا، لم تكن الحركة النسوية قوية في أي مكان كما كانت في الولايات المتحدة، وهنا ربط الأطباء عن حق بين دخول النساء في مجال الطب مع الحركة النسوية المنظمة. وثالثا، جرى بالفعل تأسيس مهنة الطب الأوروبية بحزم أكبر وبالتالي أقل خوفا من المنافسة.
النساء القليلات اللواتي تمكن من الدخول إلى كلية طب “نظامية” واجهن تحيزا ضد المرأة. أولا حصلت مضايقات مستمرة- بذيئة في الكثير من الأحيان- من الطلاب الذكور. ورفض أساتذة مناقشة العلم الجسماني بحضور الطالبات. وكان هناك كتاب معروف صادر عام 1848 عن التوليد جاء فيه: “المرأة لديها رأس صغير جدا لتفكر ولكن كبير بما فيه الكفاية للحب”. وكان هناك نظريات “محترمة” ضمن الطب النسائي تتحدث عن الآثار الضارة للنشاط الفكري للمرأة على أعضائها الجنسية.
بعد إنهائها الإعداد الأكاديمي، عادة ما تجد الطبيبة الطريق مسدودا. المستشفيات كانت مغلقة بوجه الطبيبات، وحتى أنها لم تكن تستقبل النساء كمتدربات. وإذا تمكنت من البدء بممارسة مهنتها، فتجد زميلها “النظامي” غير الراغب في إحالة المرضى إليها، ويعارض معارضة تامة عضويتها في الجمعيات الطبية.
وما هو الأغرب بالنسبة لنا، والأكثر حزنا، أنه ما يمكننا تسميته “حركة صحة المرأة” التي بدأت، مع نهاية القرن 19، تنأى بنفسها عن حركة الصحة الشعبية وتسعى إلى فرض احترامها. وجرى طرد عضوات الطوائف “غير الشرعية” من كليات الطب النسائية. وانضمت الزعيمات الطبيات مثل إليزابيث بلاكويل إلى جانب الأطباء “النظاميين” في المطالبة بوضع حد للتوليد غير النظامي وأن يخضع/تخضع لـ”دراسة طبية كاملة” كل من يريد/تريد ممارسة التوليد. كل هذا، في الوقت الذي ما زالت فيه الميزة “العلمية” لـ”النظاميين” قليلة أو معدومة نسبة إلى الأطباء الطائفيين أو المعالجين غير النظاميين.
ما يفسر ذلك، بحسب اعتقادنا، أن النساء اللواتي سعين إلى تدريب طبي رسمي كن في ذلك الوقت من الطبقة الوسطى. ولا بد من أنهن وجدن أسهل أن يعرّفن أنفسهن كطبيبات الطبقة الوسطى “النظاميات” على أن يُصنَفن كمعالجات الطبقة الدنيا أو طبيبات المجموعات الطائفية (التي سبق تحديدها ضمن الحركات الراديكالية). حصل التحول في الولاء لأن الممارسات غير النظاميات في المدن، المتزايدة أعدادهن، كنّ من المهاجرات. (في الوقت نفسه، إن احتمالات قيام حركة نسائية عابرة للطبقات كانت تتلاشى في وقت كانت نساء الطبقة العاملة يتوجهن للعمل في المصانع ونساء الطبقة الوسطى للاستقرار ضمن أسلوب حياة النساء الفيكتوري). وأيا يكن التفسير المحدد، كانت النتيجة أن نساء الطبقة الوسطى قد تخلين عن الهجوم على الطب الذكوري، وقبلن بالشروط التي حددتها مهنة الطب الذكورية الناشئة.
نصر مهني وكان “النظاميون” لا زالوا في حالة لا تسمح بمحاولة أخرى لتحقيق الاحتكار الطبي. لسبب واحد، لا زالوا غير قادرين على الادعاء بأنه لديهم أي وسيلة فعالة فريدة أو أي هيئة خاصة للمعرفة. إلى جانب ذلك، لا تكتسب مجموعة مهنية أي احتكار مهني على أساس التفوق التقني وحده. المهنة المعترف بها ليست مجرد مجموعة من الخبراء الذين نصبوا أنفسهم، إنما هي مجموعة لديها سلطة ضمن القانون لتحديد أعضائها وتنظيم ممارستها، أي، احتكار مجال معين دون تدخل خارجي. كيف تكتسب مجموعة معينة مكانة مهنية كاملة؟ بحسب كلمات عالم الاجتماع إليوت فريدسون:
“تصل المهنة إلى موقعها أو تحافظ عليه بحكم حماية ورعاية لأجزاء من النخبة في المجتمع الذين جرى إقناعهم بأن هناك قيمة خاصة في عملهم”.
بعبارات أخرى، المهن هي نتاج الطبقة الحاكمة، حتى يصبح الطب مهنة، يحتاج الأطباء “النظاميون”، قبل كل شيء، إلى رعاية الطبقة الحاكمة.
من محاسن الصدف لـ”النظاميين”، أن أصبح كلا من العلم والرعاية متاحين في الوقت عينه في بداية هذا القرن. قدم العلماء الفرنسيون والألمان نظرية جرثومية المرض، الذي قدم للمرة الأولى في تاريخ البشرية، كأساس منطقي للوقاية من الأمراض والعلاج. في حين كان الطبيب الأميركي لا زال يعتمد على نظرية الأخلاط وحقن الناس بالكالوميل، سافرت نخبة طبية صغيرة إلى الجامعات الألمانية لتعلم هذا العلم الجديد. وقد عادوا إلى الولايات المتحدة يملؤهم الحماس الإصلاحي. عام 1893، درب الألمان الأطباء (بتمويل من متبرعين محليين) وأنشؤوا أول كلية طب على الطراز الألماني في الولايات المتحدة، سميت جونز هوبكنز.
فيما خص المناهج، كان ثمة ابتكار كبير في هوبكينز عبر دمج العمل المخبري مع العلوم الأساسية إلى جانب التدريب السريري الموسع. وتضمنت الإصلاحات الأخرى التعاقد مع أعضاء هيئة تدريس بدوام كامل، والتشديد على الأبحاث، وارتبطت المدرسة الطبية ارتباطا وثيقا بالجامعة. كما قدمت كلية جونز هوبكنز نمطا حديثا من التعليم الطبي- أربع سنوات تعليم في المدرسة يتبعها أربع سنوات في الكلية- والتي، بالطبع، منعت أبناء وبنات الطبقة العاملة والفقراء/الفقيرات من إمكانية الحصول على تعليم طبي.
في الوقت عينه، كانت الولايات المتحدة بدأت تتزعم الصناعة في العالم. وبدأت تتراكم الثروات من الاستثمارات في مجال النفط والفحم الحجري واستغلال لا يرحم العمال والعاملات الأميركيين/ات، وبالنتيجة، ضخّ الثروات في الامبراطوريات المالية. للمرة الأولى في التاريخ الأميركي، سُجِّل تركز كاف للثروة للشركات حتى تقوم بعمل خيري ضخم ومنظم، أي سمح ذلك بتدخل الطبقة الحاكمة في الحياة الاجتماعية والثقافية والسياسية للولايات المتحدة. وتأسست أدوات هذا التدخل- فظهرت مؤسستا روكفلر وكارنيغي في العقد الأول من القرن 20. وكان أقدم وأهم بند مدرج على جدول أعمالهما “الإصلاح” الطبي عبر إنشاء مهنة علمية ومحترمة للطب في الولايات المتحدة.
مجموعة الممارسين الأميركيين الذين اختارتهم المؤسساتان لدعمهم، كانوا بطبيعة الحال، النخبة العلمية من الأطباء “النظاميين”. (العديد من هؤلاء الرجال كانوا في الوقت نفسه من الطبقة الحاكمة، وكانوا مُدُنيين، ومتخرجين محترمين من الجامعات). وبدءا من عام 1903، بدأ المال يصب في كليات الطب بالملايين. والشروط كانت واضحة: أن تكون الكلية متوافقة مع نموذج جونز هوبكنز أو قريبة منه. ولتعميم ذلك، أرسلت مؤسسة كارنيغي موظفا، ابراهام فليكسنر، في جولة وطنية على كليات الطب- من هارفرد إلى الكليات التجارية من الدرجة الثالثة.
قرر فليكسنر بمفرده تقريبا، من هي الكليات التي ستحصل على المال- وبالتالي قدرتها على الاستمرار. الكليات الأكبر والأفضل (أي تلك التي لديها بالفعل ما يكفي من المال للبدء في تنفيذ الإصلاحات المقررة)، وُعدَت بمنحها مساعدات كبيرة. كانت جامعة هارفرد من الفائزين المحظوظين، وقال رئيسها بتعجرف عام 1907: “أيها السادة، وسيلة زيادة الثروات للطب هو عبر تحسين التعليم الطبي”. أما بالنسبة للكليات الصغيرة والأفقر، التي شملت معظم المدارس الطائفية والمدارس الخاصة بالسود والنساء- فلم يعتبرها فليكسنر تستحق الانقاذ. كانت خياراتها أن تقفل أو أن تبقى مفتوحة وتواجه الاتهام العلني في التقرير الذي كان فليكسنر يعده.
صدر تقرير فليكسنر عام 1910، وشكل إنذارا تأسيسيا للطب الأميركي. عقب ذلك، أغلقت العديد من كليات الطب بسببه، من بينها ست كليات طب للسود وغالبية الكليات “غير النظامية” التي كانت ملاذا للطالبات. تأسست مهنة الطب مرة واحدة وإلى الأبد كفرع من التعليم “العالي”، الذي لا يمكن الوصول إليه إلا عن طريق التدريب الجامعي الطويل والمكلف. من المؤكد أنه مع تزايد المعرفة الطبية، بات التدريب المطول ضروريا. ولكن لم تكن نية فليكسنر والمؤسسات جعل هذا التدريب متاحا لعدد كبير من المعالجين/ات والأطباء/الطبيبات “غير النظاميين/ات”. بدلا من ذلك، أغلقت الأبواب بوجه السود، وغالبية النساء والرجال البيض الفقراء. (شكا فليكسنر في تقريره من واقع أن أي “شاب وقح أو متراخٍ” كان باستطاعته الحصول على التدريب الطبي). وأصبحت مهنة الطب، يشغلها البيض والذكور والطبقة الوسطى.
ولكن الأمر كان أكثر من احتلال. إنما بات لدينا، في النهاية، مهنة. وحتى نكون أكثر دقة، باتت مجموعة معينة من المعالجين، والأطباء “النظاميين”، تمارس اليوم مهنة الطب. وكان انتصارهم لا يستند إلى أي مهارة خاصة بهم: لم يكتسب الطبيب “النظامي” ذو المستوى العادي فجأة المعرفة بالعلوم الطبية مع نشر تقرير فليكسنر. لكنه اكتسب سرية العلم. حتى لو أن جامعته الخاصة قد أدينت في تقرير فليكسنر؛ ألم يكن هو عضوا في الجمعية الطبية الأميركية، وألم يكن في طليعة الإصلاح العلمي؟ بات الطبيب- بفضل بعض العلماء الأجانب والمؤسسات الشرقية- “رجل العلم”: بعيدا عن النقد، وبعيدا عن التنظيم، وتقريبا خارج المنافسة.
حظر القابلات ولاية تلو الأخرى، أصدرت قوانين جديدة وصارمة تمنح التراخيص ممارسة الطب للأطباء حصرا. كل ما بقي هو طرد الجيوب الأخيرة الممارِسة للطب الشعبي القديم- من ضمنهم القابلات. عام 1910، حصلت 50 بالمئة من الولادات على يد القابلات- أغلبهم/ن من السود ومن الطبقة العاملة المهاجرة. كان أمرا لا يطاق لاختصاص التوليد الناشئ حديثا: لسبب واحد، كل امرأة فقيرة تذهب إلى قابلة هو خسارة إضافية للتعليم الأكاديمي والبحث العلمي. مجمل موارد الطبقة الدنيا الأميركية للتوليد كانت تهدر على قابلات جاهلات. إلى جانب ذلك، كانت النساء الفقيرات ينفقن ما يقدّر بـ 5 مليون دولار أميركي على القابلات- أي أن هذا المبلغ كان يمكن أن يذهب لصالح “المهنيين”.
بشكل علني، أطلق أطباء الولادة هجماتهم على القابلات باسم العلم والإصلاح. وقد سخروا من القابلات عبر وصفهن بـ”القذرات الميؤوس منهن، والجاهلات وغير الكفوءات”. وعلى وجه التحديد، حُملن مسؤولية انتشار “حمى النفاس” (التهابات الرحم) والرمد الوليدي (العمى بسبب إصابة الوالدين بمرض السيلان). كل هذه الحالات كان يمكن الوقاية منها بسهولة عن طريق تقنيات مناسبة في متناول أي قابلة غير ملمّة بالقراءة والكتابة (غسل اليدين بالنسبة لحمى النفاس، وقطرات في العين للرمد). بالتالي إن الحل الواضح لمهنة توليد عامة وحيوية كان يمكن أن يكون من خلال جعل التقنيات الوقائية مناسبة ومعروفة ومتاحة لمجموعة القابلات. هذا في الواقع ما حصل في إنكلترا وألمانيا ومعظم الدول الأوروبية الأخرى: طورت مهنة القبالة من خلال التدريب لتصبح مهنة منظمة ومستقلة.
لكن أطباء التوليد الأميركيين لم يكن لديهم التزام حقيقي لتحسين الرعاية التوليدية. في الواقع، أشارت دراسة أجراها أستاذ في جامعة جونز هوبكنز عام 1912 أن معظم الأطباء الأميركيين كانوا أقل كفاءة من القابلات. لم يكن سوى الأطباء من لا يمكن الاعتماد عليهم ليس فقط للوقاية من حمى النفاس والرمد ولكنهم كانوا يميلون أيضا لاستخدام التقنيات الجراحية المهددة لحياة الأم أو الطفل. إذا كان من فئة تستحق أن تنال احتكارا قانونيا للرعاية التوليدية، فهن القابلات وليس الأطباء. لكن الأطباء كانوا يتمتعون بالسلطة، أما القابلات فلا. وتحت ضغط شديد من مهنة الطب، أقرت ولاية بعد أخرى قوانين تجرم القبالة وتقيد ممارسة التوليد بالأطباء. بالنسبة لنساء الطبقة العاملة والفقيرات كان هذا الواقع يعني أسوأ- أو عدم وجود- رعاية توليدية. (على سبيل المثال، أظهرت دراسة زيادة في معدلات وفيات الرضع في واشنطن في السنوات التي تلت إقرار قانون يمنع فورا القبالة). بالنسبة لمهنة الطب الذكورية، عنى الحظر الجديد للقابلات التخلص من المنافسة. وجرى نقل النساء من موطئ أقدامهن الأخير كممارِسات مستقلات.
السيدة حاملة القنديل كان التمريض المهنة المتبقية للمرأة في مجال الصحة. لم يكن التمريض دائما موجودا كمهنة مأجورة- كان لا بد من اختراعها. في بداية القرن 19، كانت “الممرضة” مجرد امرأة سبق لها أن رضّعت أحدهم- طفل مريض أو أحد الأقارب المسنين. جرى في المستشفيات توظيف الممرضات. ولكن المستشفيات كانت تستخدم في ذلك الوقت ملجأ لفقراء على فراش الموت، وتقدم لهم رعاية رمزية. كانت سمعة ممرضات المستشفيات سيئة، إذ كن عرضة للثمالة والعمل الجنسي والسرقة. غالبا ما كانت الأوضاع في المستشفيات فاضحة. في نهاية سبعينيات القرن 19 أشار تقرير صادر عن لجنة تحقيق في مستشفى بلفيو بنيويورك أنه تعذر العثور على الصابون داخله.
إذاً، لم يكن التمريض حقلا جاذبا للعاملات، كان المجال مفتوحا للإصلاحِيات. لإصلاح الرعاية في المستشفيات، كان يجب إصلاح التمريض، وجعل التمريض مقبولا للأطباء وللنساء “ذات الطباع الجيدة”، ولا بد من تقديم صورة جديدة كليا. حصلت فلورانس نايتينغال على فرصتها في عملها بمستشفى ميداني خلال حرب القرم، حيث استبدلت طاقم “الممرضات” المسنات بأخريات منضبطات ورصينات، في منتصف أعمارهن. قدمت مُصلحة المستشفيات الأميركية، دوروثي ديكس، تصنيفا جديدا للممرضات في اتحاد المستشفيات بالحرب الأهلية.
سيطرت الممرضة الجديدة- “السيدة حاملة القنديل”، المنحنية بتفان لمعالجة الجرحى- على المخيلة الشعبية. بدأت مدارس التمريض الحقيقية في الظهور في انكلترا بعد حرب القرم، وفي الولايات المتحدة بعد الحرب الأهلية. في الوقت عينه، بدأ عدد من المستشفيات يتزايد لتلبية احتياجات التعليم الطبي. احتاج طلاب الطب للمستشفيات للتدرب فيها؛ في مستشفيات جيدة، حيث كان يتعلم الأطباء، الذين احتاجوا إلى ممرضات جيدات.
في الواقع، بذلت أولى مدارس التمريض الأميركية قصارى جهدها لتسجيل نساء الطبقة العليا كطالبات. أشرفت الآنسة أوفيميا فان رينسيلار، المنحدرة من عائلة أرستقراطية قديمة في نيويورك، على أول صف للتعليم في بلفيو، وفي جامعة جونز هوبكنز، دربت إيزابيل هامبتون الممرضات في مستشفى الجامعة، حيث شكا طبيب رائد فقط من:
“الآنسة هامبتون كانت الأكثر نجاحا في الحصول على المتمرنين/ات [الطلاب] من الطبقة العليا؛ ولكن للأسف، قالت إنها تختارهم/ن كلهم/ن لمظهرهم/ن الجيد لأن موظفي/ات المستشفى كانوا/ن في ذلك الوقت في حالة سيئة”.
دعونا ننظر أكثر عن كثب على النساء اللواتي اخترعن مهنة التمريض، لأن التمريض، بالمعنى الحقيقي، كما نعرفه اليوم هو نتاج ظلمهن كنساء الطبقة العليا الفكتورية. كانت دوروثي ديكس وريثة موارد مالية كبيرة. كانت فلورانس نايتينغال ولويزا شويلر (اللتان كانتا وراء إنشاء أول أسلوب نايتينغالي أميركي في التدريب على التمريض) من الأرستقراطيين/ات الفعليين/ات. كانتا هاربتين من الفراغ القسري لأسلوب حياة النساء الفيكتوري. ديكس ونايتينغال لم تباشرا في انتقاء عملهن الإصلاحي إلا حين بلغتا الثلاثينيات من عمرهما، وواجهتا احتمال عزوبية طويلة وعديمة الفائدة. وركزتا طاقتيهما على رعاية المرضى لأن هذا الاهتمام كان “طبيعيا” ومقبولا للنساء من طبقتهما.
جعلت نايتينغال ومريداتها من التمريض عرضة لوصمة لا تزول من التحيزات الطبقية. حيث يقوم التدريب على الصفات الشخصية، وليس على المهارات. كان المنتج النهائي، الممرضة النايتينغالية، بكل بساطة مجرد سيدة مثالية، نُقِلَت من المنزل إلى المستشفى، معفية من مسؤولياتها الإنجابية. وقدمت للطبيب فضيلة الزوجة الطيعة بشكل مطلق. وقدمت للمريض تفاني الأم ونكران ذاتها. وصولا إلى أدنى المستويات الوظيفية في المستشفى، قدمت الممرضة الانضباط الحازم ولكن اللطيف كرب منزل اعتاد التعامل مع الخدم.
ولكن، وعلى الرغم من صورة “السيدة حاملة القنديل” البراقة، فإن معظم أعمال التمريض كانت منخفضة الأجر، مقابل أعباء وظيفية ثقيلة. منذ وقت طويل، كانت أغلب كليات التمريض تستقطب فقط النساء من الطبقة العاملة والفئة الدنيا من الطبقة الوسطى، اللواتي كانت خياراتهن محصورة بالعمل في المصانع أو في المكاتب. ولكن فلسفة تعليم التمريض لم تتغير- بعد كل ذلك، بقيت المدربات من نساء الطبقة الوسطى والعليا. وإذا كان من شيء، فإنه جرى التشديد عليهن لتنمية وتهذيب شخصيتهن، وباتت التنشئة الاجتماعية للممرضات سمة القرن العشرين: فرض القيم الثقافية للطبقة العليا على نساء الطبقة العاملة. (على سبيل المثال، وحتى وقت قريب، كانت معظم طالبات التمريض يدرسن حسن تصرف الطبقة العليا كسكب الشاي، وتقدير الفن، إلخ. والممرضات ما زلن يرتدين المشدات، ويتبرجن، وبشكل عام يحاكين سلوك “أفضل” فئة من النساء).
لكن أسلوب التمريض النايتينغالي ليس مجرد إسقاط أسلوب حياة النساء من الطبقة العليا على عالم العمل: فقد جسدت الممرضة روح الأنوثة على الشكل الذي حدده المجتمع الفيكتوري المتحيز جندريا. رأى/ت مخترعو/ات التمريض بأنها مهنة بطبيعتها للنساء، تأتي في المرتبة الثانية بعد الأمومة. وعندما اقترحت مجموعة من الممرضات الانكليزيات أن نموذج التمريض يأتي بعد مهنة الطب، بعد الامتحانات ونيل ترخيص مزاولة المهنة، أجابت نايتينغال بأن “… الممرضات لا يمكن تسجيلهن وفحصهن أكثر من أي أم”. أو كما قال أحد مؤرخي التمريض، بعد ما يقارب مئة سنة، “المرأة هي ممرضة بغريزتها تعلمتها من الطبيعة الأم”. (Victor Robinson, MD. White Caps, The Story of Nursing) إذا كانت النساء ممرضات بغريزتهن، فإنهن لم يكن، من وجهة نظر نايتينغال، طبيبات بغريزتهن. حيث كتبت عن العدد القليل من الطبيبات خلال عصرها، قائلة: “لقد حاولن فقط أن يكن رجالا، وقد نجحن بأن يصبحن رجالا من الدرجة الثالثة فقط”. بالفعل، كلما ازداد عدد الطالبات في كليات التمريض في نهاية القرن 19، كلما انخفض عدد طالبات الطب. وهكذا وجدت المرأة مكانها في النظام الصحي.
كما أن الحركة النسوية لم تعارض تمهين الطب، ولم تواجه التمريض كدور قمعي للمرأة. في الواقع، كانت النسويات أنفسهن قد بدأن في أواخر القرن 19 بالاحتفال بالصورة الأنثوية للممرضة/الأم. وكانت الحركة النسائية الأميركية قد تخلت عن النضال من أجل المساواة الجندرية الكاملة لتركز جهدها حصريا على الحق بالتصويت، وللحصول عليه، كانت جاهزة لتبني أهم المبادئ الأيديولوجية الفيكتورية المتحيزة جندريا: النساء يحتجن إلى الحق بالتصويت، كما حاججت، ليس لأنهن من البشر، إنما لأنهن أمهات. “المرأة هي أم البشرية”، هتفت بحماس النسوية البوسطونية جوليا ورد هوي، “الوصية على الطفولة العاجزة، المعلمة الأولى، البطلة الأكثر حماسة. المرأة هي أيضا ربة منزل، وعليها تقوم التفاصيل المباركة والمجمّلة لحياة الأسرة”. وهكذا دواليك في أنشودة متتالية من المؤلم اقتباسها.
تراجعت الحركة النسائية عن تركيزها السابق على فتح المهن للنساء: لماذا تهجر أمومتها لصالح مطارَدات تافهة للذكور؟ وبالطبع تخلت منذ فترة طويلة عن مهاجمة الاحتراف المهني المتحيز جندريا والنخبوي. بدلا من ذلك، عملت على تمهين الوظائف الطبيعية للمرأة. فمجدت العمل المنزلي كتخصص جديد لـ”علم الخدم”. وقد اعتبرت أن الأمومة تحتاج إلى الكثير من الإعداد والمهارات كالتمريض والتدريس.
وفي حين كانت بعض النساء يعملن على تمهين الأدوار المنزلية النسائية، كانت الأخريات يحولن الأدوار المهنية إلى أدوار منزلية، كالتمريض والتعليم، ولاحقا العمل الاجتماعي. بالنسبة إلى المرأة التي اختارت أن تعبر عن أدوارها الأنثوية خارج المنزل، قدمت هذه المهن كامتداد بسيط لأدوار النساء المنزلية “الطبيعية”. وعلى العكس، جرى تشجيع المرأة، التي اختارت البقاء في المنزل، على رؤية نفسها كممرضة ومعلمة ومرشدة تمارس ذلك في إطار عائلتها. وهكذا تمكنت نسويات الطبقة الوسطى في أواخر القرن 19 من تحييد أشد التناقضات المتحيزة ضد النساء.
الطبيب يحتاج إلى ممرضة بالطبع لم تكن الحركة النسائية بأي حال في موقع لتقرر مستقبل التمريض. وحدها مهنة الطب من كانت تفعل ذلك. في البداية، شكك الأطباء قليلا بالنموذج النايتينغالي للتمريض- ربما ظنوا أنه ليس أكثر من محاولة أنثوية للتسلل إلى الطب. ولكنهم سرعان ما كسبوا خضوع الممرضات الكامل. (كانت نايتينغال مهووسة حيال هذه النقطة. عندما وصلت إلى القرم مع مجموعة من الممرضات المتدربات حديثا، في البداية تعرضن للتجاهل من الأطباء. فرفضت نايتينغال السماح للممرضات بأن يقدمن أدنى مساعدة لآلاف المرضى والجرحى إلى أن طلب الأطباء ذلك. وقد أعجب الأطباء بذلك، وفي نهاية المطاف رضخوا وسمحوا للممرضات بتنظيف المستشفى). بالنسبة للأطباء المحاصرين خلال القرن 19، كان التمريض هبة من السماء: فالتمريض كان نوعا من العمل الصحي الذي لا يريد التنافس مع “النظاميين”، ولم يكن يملك عقيدة الطب لإزاحة سواه، والذي يبدو أنه لا يريد شيئا سوى تأمين الخدمة.
في حين كان اعتياديا أن يرحب الطبيب النظامي بالممرضات، فإن أطباء بداية القرن العشرين جعلوا من التمريض أمرا ضروريا. كان الطب “المابعد- الفليكسنري” الجديد، أقل انشغالا من أسلافه في الوقوف وانتظار نتائج التقدم المحرز لـ”علاجه”. فهو يشخص، ويقدم الوصفة، وبعد ذلك يذهب. فهو لا يمكنه أن يضيّع مواهبه، أو تدريبه الأكاديمي المكلف على التفاصيل المملة للرعاية السريرية. لذلك هو بحاجة، إلى مساعد صبور ومطيع، شخص ليس أعلى من أداء المهام الوضيعة، باختصار، إلى ممرضة.
يتطلب العلاج، بمعناه الواسع، علاجا ورعاية، تطبيبا وتمريضا. كان العلاج غير النظامي القديم يجمع بين عدة وظائف، وكان لكل منها قيمته. (على سبيل المثال، لا تعمل القابلة فقط عند الولادة، إنما تستمر في ذلك حتى تتمكن الأم من تقديم الرعاية لولدها). ولكن مع تطور علم الطب جرى الفصل بين الوظيفتين إلى غير رجعة. بات العلاج حكرا على الطبيب، والرعاية أسقطت على الممرضة. يُقدم كل الثناء لتعافي المريض/ة إلى الطبيب و”حله السريع”، لمجرد مشاركة الطبيب في تطبيق لغز العلم. أما عمل الممرضة، من ناحية أخرى، كان بالكاد يمكن تمييزه عن عمل الخادمة. لم يكن لديها أي سلطة، أو سحر، ولم تدّعِ أي مفخرة.
نشأ التطبيب والتمريض كمهمتين متكاملتين، والمجتمع الذي حدد التمريض كمهنة أنثوية يمكنه بكل بساطة أن يعتبر التطبيب بجوهره “ذكورياً”. وإذا كانت الممرضة هي المرأة المثالية، فإن الطبيب كان الرجل المثالي- يجمع بين الذكاء والعمل، النظرية المجردة والواقعية البراغماتية. الصفات التي جعلت من المرأة ممرضة هي نفسها التي تمنعها من التطبيب، والعكس صحيح. تبعدها رقتها وروحانيتها الفطرية عن عالم العلم القاسي. حزمه وفضوله يجعلان منه صالحا لبذل ساعات طويلة في رعاية المرضى.
هذه القوالب النمطية أُثبِتَت أنها غير قابلة للكسر. ربما يصر اليوم قادة جمعية التمريض الأميركية على أن التمريض لم يعد مهنة أنثوية إنما “مهنة” محايدة. ربما يطالبون بالمزيد من الممرضين لتغيير “الصورة”، ويصرون على أن التمريض يتطلب إعدادا أكاديميا بمقدار الطب، وهكذا دواليك. ولكن الدفع نحو “الاحتراف” للتمريض هو، في أحسن الأحوال، هروب من واقع التمييز الجندري إلى النظام الصحي. وبأسوأ الأحوال، هو تمييز جندري بحد ذاته، لأنه يعزز الانقسام بين النساء العاملات في المجال الصحي ويمتن الهرمية التي يسيطر عليها الرجل.
خلاصة في هذه اللحظة من التاريخ، علينا العمل، إنطلاقا من نضالنا. ماذا يمكننا التعلم من الماضي والذي سيساعدنا اليوم في حركة النساء الصحية؟ هنا البعض من استنتاجاتنا:
– علينا ألا نكون متفرجات في تاريخ الطب. ولد النظام الحالي وتشكل من خلال التنافس بين المعالجين والمعالجات. مهنة الطب على وجه التحديد ليست مجرد مؤسسة أخرى حصل فيها التمييز ضدنا: هي قلعة صممت وأقيمت لاستبعادنا. وهذا يعني بالنسبة لنا أن التمييز الجندري في النظام الصحي ليس عرضيا، وليس مجرد انعكاس للتمييز الجندري في المجتمع أو بسبب التمييز الجندري لبعض الأطباء. إنه أقدم تاريخيا من العلوم الطبية نفسها؛ إنه عميق الجذور، إنه تمييز جندري ممأسس.
– عدونا ليس فقط “الرجال” أو الشوفينية الذكورية الفردية: إنه النظام الطبقي بمجمله الذي يسمح بانتصار المعالجين من الطبقة العليا ويجبرنا على الخضوع. يدعم التمييز الجندري المفروض من النظام الطبقي سلطة الذكور.
– لا يوجد أي مبرر تاريخي متسق لاستبعاد النساء من أداء أدوار علاجية. هوجمت الساحرات لأنهن براغماتيات، تجريبيات وغير أخلاقيات. ولكن في القرن 19 انقلب الخطاب: باتت النساء غير علميات، حساسات وعاطفيات. تتغير الصور النمطية لتتناسب مع الذكور- لا يوجد في “طبيعتنا الأنثوية الفطرية” ما يبرر خنوعنا الحالي.
– حافظ الرجال على سلطتهم في النظام الصحي من خلال احتكار المعرفة العلمية. وقد دهشنا من العلم، تعلمنا الاعتقاد بأنه أمر ميؤوس وخارج عن متناول أيدينا. خلال إحباطنا، كان لدينا بعض الميول لرفض العلم، بدلا من تحدي الرجال الذين يبخلون علينا. ولكن العلوم الطبية يمكن أن تكون قوة محرِّرة، وتعطينا السيطرة الحقيقية على أجسادنا وعلى حياتنا كعاملات في المجال الصحي. في هذه المرحلة من تاريخنا، كل جهد يمكن بذله وكل مشاركة للمعرفة الطبية هو جزء هام من النضال- مثل دورات التعرف على الجسد والأدبيات، ومشاريع المساعدة الذاتية، وتقديم المشورة، والعيادات المجانية للنساء.
– الاحتراف المهني في الطب هو ليس أكثر من إضفاء الطابع المؤسساتي للاحتكار الذكوري للطبقة العليا. يجب علينا ألا نخلط بين الاحتراف والخبرة. الأخيرة هي ما هو مخصص للعمل والمشاركة؛ أما الاحتراف المهني فهو- بحكم طبيعته- نخبوي وحصري، مميز جندريا، عنصري وطبقي. في الماضي الأميركي، سعت النساء للحصول على تدريب طبي رسمي وكن مستعدات أيضا لقبول الاحتراف المهني الذي سعين إليه. وحققن مكاسبهن ضمن مكانة- ولكن فقط على حساب أخواتهن الأقل حظا- القابلات والممرضات والمعالجات غير النظاميات. لا يمكن أن يكون هدفنا اليوم فتح مهنة الطب للنساء، إنما فتح الطب- لكل النساء.
– هذا يعني أنه علينا البدء في تحطيم الفوارق والحواجز بين العاملات في المجال الصحي والمستهلكات. ينبغي أن نبني الاهتمامات المشتركة: المستهلكون/ات على بينة من حاجات النساء كعاملات، والعاملات مدركات لاحتياجات النساء كمستهلكات. يمكن للعاملات أن يلعبن دورا قياديا في مشاريع المساعدة الذاتية والتعليم الذاتي الجماعيين، والهجمات على المؤسسات الصحية. ولكنهن يحتجن إلى دعم وتضامن من حركة قوية للمستهلكات.
– القمع الذي نتعرض له اليوم كعاملات في مجال الصحة يرتبط ارتباطا وثيقا بالقمع الذي نتعرض له كنساء. التمريض، دورنا المهيمن في النظام الصحي، هو مجرد امتداد لعملنا كزوجات وأمهات. واجتماعيا جرى تعليم الممرضة بأن التمرد لا ينتهك فقط “احترافها المهني”، إنما أنوثتها أيضا. وهذا يعني أن النخبة الطبية الذكورية لها مصلحة خاصة جدا بالحفاظ على التمييز الجندري في المجتمع ككل: الأطباء هم القادة في صناعة حيث العمال هم في معظمهم من النساء. التمييز الجندري في المجتمع ككل يضمن أن غالبية النساء العاملات في القطاع الصحي هن عاملات “جيدات”- طيعات ومتلقيات. القضاء على التمييز الجندري يعني القضاء على إحدى الدعائم الأساسية في الهرمية داخل القطاع الصحي.
عمليا، هذا يعني بالنسبة لنا، أنه في النظام الصحي لا يوجد وسيلة لفصل المنظِّمة العمالية عن المنظِّمة النسوية. الوصول إلى العاملات في المجال الصحي يعني الوصول إليهن كنساء.
قائمة المراجع The Manufacture of Madness, by Thomas Szasz, M.D., Delta Books, 1971. يؤكد سزاسز أن الطب النفسي الممأسس هو نسخة حديثة من صيد الساحرات، حيث يظهر المريض بدور الساحرة. نحن ندين له بتقديم أول عمل حول السحر في سياق الصراع بين المهنيين والمعالجين غير النظاميين. إقرأ(ي) بشكل خاص الفصل “The Witch as Healer.”
Satanism and Witchcraft, by Jules Michelet. The Citadel Press, 1939. كتاب من القرن 19 من مؤرخ فرنسي مشهور. وهو كتاب أساسي حول القرون الوسطى، والخرافات والكنيسة ويتضمن مناقشة مسألة “الشيطان كطبيب”.
The Malleus Maleficarum, by Heinrich Kramer and James Sprenger, translated by Rev. Montague Summers. The Pushkin Press, London, 1928. كتاب صعب من القرون الوسطى، ولكنه حتى اليوم أفضل مصدر للعمليات اليومية لصيد الساحرات، ويتضمن رؤية واضحة لعقلية صيادي الساحرات.
The History of Witchcraft and Demonology, by Rev. Montague Summers. University Books, New York, 1956. كتب خلال عشرينيات القرن 20 من قبل كاهن كاثوليكي ومدافع- حقا!- عن صيد الساحرات. يهاجم فيه الساحرات باعتبارهن “زنديقات” و”فوضويات” و”عاهرات”.
Witchcraft, by Pennethrone Hughes. Penguin Books, 1952. مقدمة عامة واستكشافية.
Women Healers in Medieval Life and Literature, by Muriel Joy Hughes. Books for Libraries Press, Freeport, New York, 1943. كتاب متحفظ، يقدم معلومات جيدة عن حالة الطب الأكاديمي وحول المعالجات غير النظاميات والقابلات. لسوء الحظ، يرفض بشكل كامل مسألة السحر.
The Witch-Cult in Western Europe, by Margaret Alice Murray. Oxford University Press, 1921. الدكتورة موراي هي أول شخص قدم وجهة نظر أنثروبولوجية، المقبولة اليوم على نطاق واسع، حيث قدمت السحر، بجزء منه، وسيلة تمسك المؤمنين بالأديان ما قبل المسيحية.
A Mirror of Witchcraft, by Christina Hole. Chatto and Windus, London, 1957. كتاب مرجعي يتضمن مقتطفات من تقارير المحاكمات وكتابات أخرى، وفي معظمها من محاكمات الساحرات الإنكليزيات خلال القرنين 16 و17.
The Formation of the American Medical Profession: The Role of Institutions, 1780-1860, by Joseph Kett. Yale University Press, 1968. وجهة نظر محافظة، ولكنه يتضمن معلومات مبعثرة حول المعالجين غير النظاميين. ويناقش الطبيعة السياسية المتطرفة لحركة الصحة الشعبية في الفصل الرابع.
Medicine in America: Historical Essays, by Richard H. Shryock. Johns Hopkins Press, 1966. كتاب ممتع وواسع الانتشار، وليبرالي نسبيا. إقرأ(ي) بوجه خاص الفصلين “Women in American Medicine” and “The Popular Health Movement.”
American Medicine and the Public Interest, by Rosemary Stevens. Yale University Press 1971. كتاب طويل وممل، والفصول الأولى منه مفيدة لناحية تبيان تشكل مهنة الطب الأميركية ودور المؤسسات.
Medical Education in the US and Canada, by Abraham Flexner, Carnegie Foundation, 1910. (Available from University Microfilms, Ltd., Ann Arbor). “تقرير فليكسنر” الشهير الذي غير وجه التعليم الطبي الأميركي. ثمة بعض المقترحات المعقولة، ولكن المذهلة بنخبويتها، وعنصريتها وبالتمييز الجندري.
The History of Nursing, by Richard Shryock. N.B. Saunders, 1959. من أفضل الكتب حول تاريخ التمريض- التي عادة ما يمجد فيها مدربو/ات التمريض مهنة التمريض- ولكنه أسوأ بكثير من بقية كتب شيروك التأريخية للطب.
Lonely Crusader: The Life of Florence Nightingale, by Cecil Woodham-Smith. McGraw Hill, 1951. يتضمن سيرة غنية بالتفاصيل تضع التمريض في سياق قمع نساء الطبقة العليا في العصر الفيكتوري.
Glances and Glimpses, by Harriet K. Hunt. Source Book Press, 1970. سيرة ذاتية غير مترابطة لنسوية وطبيبة “غير نظامية” في منتصف القرن 19. كتاب مفيد لوصف أوضاع ممارسة مهنة الطب خلال ذلك الوقت.
“The American Midwife Controversy: A Crisis of Professionalisation,” by Frances E. Kobrin. Bulletin of the History of Medicine, July-August 1966, p. 350. كتاب بحثي ومتحفظ حول تحريم عمل القابلات في الولايات المتحدة. قراءته مفيدة جدا.
#بربارة_أيرينريش (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
الساحرات، القابلات والممرضات: تاريخ المعالِجات
المزيد.....
-
جريمة تزويج القاصرات.. هل ترعاها الدولة المصرية؟
-
رابط التسجيل في منحة المرأة الماكثة في المنزل 2024 الجزائر …
...
-
دارين الأحمر قصة العنف الأبوي الذي يطارد النازحات في لبنان
-
السيد الصدر: أمريكا أثبتت مدى تعطشها لدماء الاطفال والنساء و
...
-
دراسة: الضغط النفسي للأم أثناء الحمل يزيد احتمالية إصابة أطف
...
-
كــم مبلغ منحة المرأة الماكثة في البيت 2024.. الوكالة الوطني
...
-
قناة الأسرة العربية.. تردد قناة ناشيونال جيوغرافيك أبو ظبي ش
...
-
تتصرف ازاي لو مارست ج-نس غير محمي؟
-
-مخدر الاغتصاب- في مصر.. معلومات مبسطة ونصيحة
-
اعترف باغتصاب زوجته.. المرافعات متواصلة في قضية جيزيل بيليكو
...
المزيد.....
-
الحركة النسوية الإسلامية: المناهج والتحديات
/ ريتا فرج
-
واقع المرأة في إفريقيا جنوب الصحراء
/ ابراهيم محمد جبريل
-
الساحرات، القابلات والممرضات: تاريخ المعالِجات
/ بربارة أيرينريش
-
المرأة الإفريقية والآسيوية وتحديات العصر الرقمي
/ ابراهيم محمد جبريل
-
بعد عقدين من التغيير.. المرأة أسيرة السلطة ألذكورية
/ حنان سالم
-
قرنٌ على ميلاد النسوية في العراق: وكأننا في أول الطريق
/ بلسم مصطفى
-
مشاركة النساء والفتيات في الشأن العام دراسة إستطلاعية
/ رابطة المرأة العراقية
-
اضطهاد النساء مقاربة نقدية
/ رضا الظاهر
-
تأثير جائحة كورونا في الواقع الاقتصادي والاجتماعي والنفسي لل
...
/ رابطة المرأة العراقية
-
وضع النساء في منطقتنا وآفاق التحرر، المنظور الماركسي ضد المن
...
/ أنس رحيمي
المزيد.....
|