أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - خضير النزيل - تابوت شاعر : تعليق على كتاب سيرينا فيتالي(زرُّ بوشكين)















المزيد.....


تابوت شاعر : تعليق على كتاب سيرينا فيتالي(زرُّ بوشكين)


خضير النزيل

الحوار المتمدن-العدد: 8048 - 2024 / 7 / 24 - 23:10
المحور: الادب والفن
    


" على المائدة، حيث كان الطعام، كان التابوت"
درجافين- من قصيدة "في رثاء الأمير ميشيرسكي".
حاشية أولى:
الموت والشعر، ينجذبان نحو بعضهما البعض، شعراءَ يموتون مُبكراً ،أو يَعيشون لسنوات متأخرة ولكن في عزلة هي أقرب الى الموت، لقد تم تمييز مثل هذا الانفصال بشكل خاص خلال العصر الرومانسي. مات الكثيرون، ومن الأفضل، في أعمار قصيرة وعاش بعضهم، مثل وردزورث وكولردج، حتى سنّ الشيخوخة دون أن يتمكنوا من استعادة تلك النشوة الأولى الجميلة التي أطلقت شهرتهم في مقتبل أعمارهم الأدبيّة ، هاوسمان، أحد آخر الرومانسيين، الذين كرّسوا حياتهم، بحثاً عن الشعر المُبهر، كان يتوق دائمًا الى نشوة قصائده المبكرة، إلى ذلك المصير السعيد لـ "الفتيان الذين سيموتون في مجدهم دون أن يكبروا أبدًا».
في الجزء الأول من القرن التاسع عشر، فَقَد الروس أفضل اثنين من شعرائهم وكتّابهم بسبب غواية القدر للتعويض عن إهانة مُحتملة، وقع هذا في مرحلة من تاريخهم الأدبي عندما كان لدى روسيا عدد قليل جدًا من هؤلاء الكتاب، ممن لا تستطيع تحمل خسارتهم. كل من بوشكين وليرمونتوف، الذي نافسه حتى الأشواط الأخيرة، قُتلا في مُبارزة، كان بوشكين في السابعة والثلاثين من عمره عندما توفي عام 1837، ليرمونتوف كان يصغره بعشر سنوات عندما قُتل عام 1841. لا شك أن جميع المبارزاة .متهورة وحمقاء ومضيعة لحياة الشباب، والتي يجب أن تكون ذات قيمة، وهي حقيقة اعترف بها القيصر نيقولاي الأول عندما جعل المبارزة جريمة يعاقب عليها بالإعدام. ذلك لأن حياة الرجل العسكري وفقاً لقيصر، تنتمي وقبل كل شيء إلى وطنه، ولا يمكن المخاطرة بها في مبارزة، ولكن هل كانت روسيا القيصر نيقولاي الأول بحاجة إلى بوشكين،مثلما هي بحاجة إلى فيدوتوف وريلييف وليرمونتوف وغوغل وإيفانوف؟ هؤلاء الكُتّاب الذين أمسكتهم روسيا من أعناقهم وأحنتهم ببطء الى الأرض، حتى جعلتهم يركعون أمام الأعيان،أمام القيصر، ليموتوا موتهم الحقيقي بوقت كبير
في العام الأخير من حياته ، كان بوشكين مُصَمّماً على الموت بحسب شروطه الخاصّة،وحتى وقت وفاته كان ثمة همس بالفعل من الدوائر الخبيثة في العاصمة على أنه مجرد قوة مستهلكة في الأدب. ومن غير المحتمل أن يكون هذا هو الحال، إن لم يكن هو بالفعل، فبوشكين لم يكتب المزيد من الشعر،كما فعل ليرمونتوف الذي تحول من بعده إلى النثر، وعلى الرغم من أن بعض كتاباته بهذا الشكل كانت جيدة جدًا، إلا أنه لم ينتج بعد تحفة فنية شبيهة بعمل ليرمنتوف "بطل من زماننا". ربما ما كان ليفعل ذلك أبدًا، روايته اللاحقة تم تقطيع الكثير من أجزائها، بينما كان ليرمونتوف يخطط بثقة لعمل طموح، قد ينافس في أهميته "الحرب والسلام" . قبل أن يُتَوّج الموت ما أنجزه أصلاً. في شِجار أحمق، وبائس، مع نيكولاي مارتينوف وهو شاعر روسي آخر معروف في القرن التاسع عشر، ومن زملائه الضباط الذين كانوا يقاتلون في جبهة الشيشان وداغستان. ففي صيف عام 1841، وأثناء وجودهما في مدينة بياتيغورسك بشمال القوقاز، غازلا ابنة الجنرال فرزيلين، إميليا.
ذات يوم، وأثناء الدردشة معها في منزل الجنرال، ألقى ليرمونتوف بضع نكات تسيء الى مارتينوف. تلا ذلك شجاراً وبعد يوم واحد فقط، وعلى حافة منحدر في القوقاز ، اشتبكا في منازلة مُميتة،بَعد العدّ التنازلي الأول، لم يطلق أي منهما مسدسه.
-أطلق النار وإلا سألغي هذه المبارزة!» صَرَخَ ليرمونتوف كمن يشعر بعبث لعبة هذه النمور المصنوعة من ورق أو ربما بعبث ما كان يفعله
«لن أطلق النار على هذا الأحمق!» كتب مارتينوف لاحقًا في افادته الى المُحقّق: «لقد غضبت، وضغطت على الزناد». بعد دقيقتين مات الشاعر، حدث هذا كلّه بدافع التَبجّح المُطلق، أما لماذا وكيف سَمَح ليرمونتوف لنفسه بإطلاق النار عليه؟، نحن لانستطيع أن نَبتَّ بذلك.ولكن الأسباب ستكشف لاحقاً،
بوشكين، الأكبر عمراً والرجل العاقل الذي وضعه المجتمع العصري الراقي لما سيصبح بالنسبة له مأزقًا لا مفر منه. بسبب زوجته الشابة الجميلة ناتاليا غونشاروفا ، وصفتها الشاعرة آنا أخماتوفا مرّة بأنها "شريك في القرصنة والتحضير" لمقتل زوجها، وكتبت عنها مارينا تسفيتايفا: "جمال ولا شيء آخر، مجرد جمال، بدون عقل، روح وقلب دون موهبة، جمال عاري، يقطع كالسيف. وقد طعنت عميقاً."
ناتاليا التي كان يعشقها الجميع، لم تكن ودودة على الإطلاق ،أرادت فقط أن تظهر أو حتى أن تكون زوجة جيدة على الأقل ، لكنها وكما يبدو أرادت كل شيء آخر أيضًا. كانت طائشة وغير متعلمة وطموحة اجتماعيًا دون حدّ. وربما غير مهتمة تمامًا بالحياة الأدبية لزوجها، وصحيح أنّها كانت تعتمد عليه عاطفياً. لكنها لم تكن يوماً باردة أو سِرّية في طبيعتها ، ربما بسبب من دوافعها الطفولية التي جعلتها محبوبة من قبل الكثيرين، -دوافعها الطفوليّة- هذه هي التي احببتها الى زوجها أيضاً، فلقد كان لبوشكين مثل هذا العبث الطفولي في طبيعته هو الآخر.
حتى الآن وبعيدًا عن المكائد التي كانت تحاك وراء ظهره، فقد طلبت هي نصيحته دائماً حول كيفية التعامل مع المعجبين بها، ويبدو أنها قد أسَرّت له بانتصاراتها الاجتماعية وتشابكها حتى النهاية.لكن بوشكين كان بحاجة إلى الكتابة وإلى الهدوء الذي لم يعثر عليه إلا في "الهواء المُفعم برائحة الكتب القديمة والسخام الضعيف للقناديل".
قبل زواجه مباشرة، غادر بوشكين إلى أملاك عائلته في بولدينو لآخذ الأرض التي منحها له والده لمناسبة زواجه القادم. وعلى الرغم من أن الزيارة كانت قصيرة، بقي بوشكين في القرية لمدة ثلاثة أشهر بسبب الحجر الصحي لتفشي الكوليرا. تبين أن هذه الأشهر الثلاثة هي الأكثر إنتاجية في حياته المهنية ككاتب. أكمل العمل على رواية «يفغني أونيغين»، وأنهى كتابة مجموعته القصصيّة حكايات البلقان ، ومجموعة مسرحيات "التراجيديات الصغيرة»، علاوة على ذلك، كتب بوشكين أكثر من 30 قصيدة.
لكن زواجه قد تدخل بشكل كبير في حياته اللاحقة وأثّر على كتابته فيما بعد. لم ترغب ناتاليا فقط وقبل كل شيء في التألق كموظفة في محكمة القيصر، ولكن القيصر نيكولاس نفسه، الذي كان يراقب الفتيات الجميلات مثلما كان يُراقب عن كَثَبِ وبغض النظر الى واجباته الملكيّة، جميع الأقلام التي كانت تكتب في زمنه الرئاسي، وبوشكين، صاحب القصيدة المثيرة للجدل «أغنية الحرية»، التي تُعد واحدة من عدة قصائد أدت لنفيه من قبل الإمبراطور ألكسندر الأول كان محطّ اهتمامه، أحاطه بالجواسيس من كل جانب، ليضل سواء السبيل، كل كلمة يقولها حتى لأخلص أصدقائه كانت تجد طريقها إلى مسامع القيصر، ولكي يُبقيه قريباً وزوجته ناتاليا بوشكينا.، منحه لقباً روسياً غير ذي شأن في جدول الرتب الحكوميّة "كاميرجنكر"، مُنسّق أوراق أو (عرضحالچي) ، لايهم ، من أجل أن يضطره إلى حضور جميع وظائف المحكمة الكبرى. كان للقيصر عشيقته الخاصة في ذلك الوقت، ولا يوجد دليل على الإطلاق على غوايته لزوجة بوشكين قبل وفاته، أو أنه كان يرغب في ذلك.
تزوّج الشاعر من أجل الاستقرار والتمتع بالحياة الأسرية، لكنه وجد نفسه الآن في وضع مستحيل. لم يكن قادرًا على الهروب من بيئة التي لم يستطع العمل فيها أو العثور على الـ«bonheur dans les voies communes» العبارة التي أرسلها قبل زواجه كنوع من السخرية إلى صديق له. وفي اقتباس واضح للجملة الأخيرة من رواية شاتوبريان رينيه. ولأنه كان يجهل تحليل أزماته النفسيّة هذه التي لا يمكن أن تٌدرك طبيعتها دائمًا بالعين المُجردة والثابتة لكاتب يعيش وحيداً ومنغصاً، اذ ذاك أرتكب الغلطة الأخيرة بزواجه ناتاليا، الآن وقد وجد نفسه محاصراً بهذا الشيء الذي لم يكن يتوقّعه،
أن يكون متزوجًا من شابة كان مظهرها يحظى باهتمام متزايد، وقد استنزف حياته بقدر ما استطاع لتكوين أسرة ومنزل. كان مفتونًا بسخافة تمثال ناتاليا ؛ لم تكن لديه أية أوهام حول الطبيعة المحتملة لحياتهما معًا. وغير عابيء بالقدر، الذي كان الشاعر يؤمن به بشدة، وأنه بالكاد يُجهد نفسه في ترتيب بعض نتائجه الكارثية. وقد جاءه القدر هذه المرّة على هيئة مهاجر فرنسي وسيم، هو «جورج تشارلز دي هيكران دانثيس» والذي يُعرف أيضًا باسم دانتي هيكرن، ضابط فرنسي خَدَم في فوج حرس الخيالة،، وحارساً في شوفالييه القيصر نفسه، بسبب من تأثير والده البارون هيكران، السفير الهولندي والذي تَبنّى دانتيس ابناَ غير شرعي له . كانت ناتاليا بوشكين تعتبر أجمل امرأة في الدوائر الرسميّة التي انتقل إليها هذا الضابط عام 1834 وبالطبع سوف ينتبه إلى مفاتنها الصارخة، وقد استمتعت هي بصحبته في البداية لكنها لم تكن تحبه: فقد كانت مغرمة أكثر بالعالم الاجتماعي للعاصمة . كان بوشكين مع ذلك يعاملها بحنان لم يصل إليه أحد غيره، وكان مستمتعًا في البداية بعلاقتها مع دانثيس، ولفترة من الوقت تمتّع أكثر بصداقته من هذا الشاب المرح الذي سيصبح نسيبه بالزواج من كاترينا نيكولاييفنا أخت زوجته، مرّة وفي حالة يرثى لها من الارتباك،جاءت ناتاليا إلى زوجها من أجل طمأنتها وبأنها كانت هي نفسها الهدف الحقيقي لإعجاب دانثيس، وأنه أراد فقط الزواج من أختها كحل أفضل.بمثل هذه الكوميديا الساخرة تعرض بوشكين الى التعذيب وبما يتجاوز القدرة على التحمل ، ربما بسبب التسلية الخبيثة للمجتمع - وهو أمر مختلف تمامًا - فقد كانت العاصمة البطرسبورغيّة كلّها تتحدث همساً عن علاقة زوجته مع دانثيس أو من خلال التلميح إلى اضحوكة إختياره لـ«وسام الدوقيّة ». كان المجتمع يرعى ما بدا وكأنه كوميديا هزلية بشكل متزايد، وقد عزم بوشكين على إنهائها. نجاته من مبارزة يعني- في أحسن الأحوال-، النفي وإنهاء كابوس سان بطرسبرج. أرسل على الفور رسالة توبيخ مسيئة للغاية إلى دانثيس بحيث لا يمكن أن تكون لها سوى نتيجة واحدة فقط. جرت المبارزة بينهما في ثلوج عميقة. أطلق دانثيس النار أولاً وأصاب بوشكين في مقتل، ليتوفي بعد يومين. القيصر (نيكولاس) كتب له وهو على فراش الموت، معربًا عن «مغفرته». تم سداد ديونه الطائلة، واتخاذ الترتيبات لتعليم أطفاله، وحصلت أرملته على معاش تقاعدي. قام القدر بترتيب الأمر بشكل جيد للغاية. كانت الخسارة الوحيدة هي أعظم شاعر في روسيا.
هذه القصة الدرامية ليست معروفة جيدًا فحسب، بل إنها معروفة جيدًا في كل مكان، وفي روسيا تمت مناقشتها ومناقشتها إلى ما لا نهاية. حياة بوشكين وموته ، تطارد الشعر الروسي، وأيامه الأخيرة، التحدي والمبارزة، تم التَعرّف عليها بالتفصيل في المئات من السير الذاتية، وتردد صداها في العديد من المسرحيات والأفلام، خطط أيزنشتاين نفسه وكتب سيناريو عن وفاة بوشكين. حتى ليعتقد المرء أنه لم يعد هناك ما يُقال، أو يتم نبشه بحثاً عن المزيد من التفاصيل. بمعنى ما ، قد يكون هذا صحيحًا. الشيء الوحيد الذي حدث مثل ضربة حظ موفقة أعادت المياه الغافية الى مجاريّها التي عانت من الجفاف طويلاً، هو صدور كتاب سيرينا فيتالي"زِرُّ بوشكين"، أو بالدارجة العراقيّة(دُكَمةُ بوشكين) كأفضل سيرة مكتوبة حتى الآن، حول مبارزة بوشكين وموته بالكامل، وسبب أهميّة هذا الكتاب هو أن مؤلفته ، وهي استاذة للغة الروسيّة في جامعة بافيا، جلبت من خلاله، رؤية جديدة وبخيال مليء بالأفكار غير العادية في تناول واقعة مألوفة جداً لكل عشاق الأدب الروسي لدرجة أن كل التفاصيل حولها أصبحت أمرًا مفروغًا منه. تأخذ البروفيسورة فيتالي عنوان كتابها الخاص من كل ما تُرك بإهمال من دون الفحص الانتقادي لفن بوشكين برمته، لكل ما تركه من الكتابات الخطابيّة، المذكرات، الجمل العابرة، مقالات السير الذاتيّة، الأشعار، القصص، الروايات، ومساحاتها الإجتماعيّة والدينيّة، النقد الأدبي بل وحتى الرسائل الخاصة والعامّة، أو بكل ما كان عليه بوشكين فعلاً، ولا أظن أحداً يملك مثل هذه القرائن الكثيرة، أفضل من مؤلفة هذا الكتاب الشيّق، الذي لا يحتمل المجاملة، كتاب لم يوضع من أجل الشهرة، أو التَملّق لتدبيجات صحفيّة طنّانة، حتى لو أضطرّها ذلك لإعادة كتابة تاريخ بوشكين برمّته، وهو ما فعلته تقريباً ،وسط هذا الكمّ الهائل من الأوراق والأبحاث الأرشيفية، هناك حقيقة واحدة تتعلّق ببوشكين نفسه ،هذا الذي لا يمكن المبالغة في تقدير أهميته ، أو النقاش حول آليّات أعماله وبطريقةٍ قد تتجاوز في بلاغتها و قوتها و عقلانيتها و تفوّقها ما قدمه أيّ كاتبٍ روسي آخر ، نعم، ولكنه غندور رائع أيضاَ من ذلك النوع الذي يمارس اللمسة القذرة - لم يكن هناك شيء من الإعجاب الإنجليزي به، .مهما كان إعجاب بوشكين بالإنجليز وببايرون وشكسبير، الذين قرأ لهم بالفرنسية مثل أي روسي مٌثقّف، يعرف لغة المجتمع الراقي في سانت بطرسبرغ حينها. (كتب قصيدة لرسام بورتريه إنجليزي يعيش في العاصمة، بعنوان «To Dawe، Esquire»، هي عبارة عن لوثة ساحرة أخطأت في ترتيب المجاملة بالطريقة الصحيحة). كما أنه كان يرتدي بيكيش، معطف شتاء طويل مقلم ومبطّن بالفراء، سمي على اسم كونت مجري وغندور شهير. هذا مثال واحد فقط عن الطريقة النموذجية التي تتعامل بها فيتالي مع الأحداث لنشر «قاموس مصغر» كامل، لما تسميه، المصطلحات الروسية للملابس، الشيء الذي سينبهر له حتماً الروائي البوشكيني فلاديمير نابوكوف - على الرغم من أنها تتغاضى بشكل غريب عن الأضواء الشهيرة التي رافقت تلك المرحلة ، وكمثال آخر هو بحثها لما تحيله كلمة "بيكيش" في المعاجم الروسيّة ولتكتشف في الأصل أنها من "الشينيل "الفرنسي، وأيضاً هي عنوان لأشهر قصة لغوغول"المعطف" .هذا الـ"بيكيش" الذي تَمَّ تجميع الطيات والطيات العديدة له في الجزء الخلفي من الخصر بواسطة زرّ كبير. بيكيش بوشكين كان يفتقر إلى هذا الزر. لا شك أنه أضاعه في مكان ما ، دون أن يكلف نفسه عناء خياطته . فيتالي تعوّل على أهمية مثل هذا الإغفال، رغم أنها لم توضحه تمامًا، لكنها تربطه ربما برفض الشاعر الانضمام إلى المجتمع الروسي الراقي ؟
تقتبس فيتالي أيضاَ عددًا من النكات، المعروفة جيدًا للبوشكينيين، من أجل توضيح الطبيعة شديدة الصرامة للدولة النموذجية الجديدة والتسلسل الهرمي الذي أسسه بطرس الأكبر. أفاد فيازيمسكي، صديق بوشكين، أن الكونت أوسترمان أخبر شخصية أجنبية بارزة، "بالنسبة لك روسيا هي زي رسمي ترتديه ويمكنك خلعه في اي مناسبة ، بالنسبة لي هو بشرتي ". في زمن بوشكين، كان الكثير من الروس يرتدون الزي العسكري بشكل دائم، وكان على بوشكين نفسه، بصفته كاميرجنكر، أن يكون لديه ثلاثة معاطف، بما في ذلك ثوب رائع باللونين الأخضر والذهبي. كان يرتديه على استحياء، ويغطيه ببيكيش (معطف) قديم بالي، وعندما كان القيصر يحيّيه «بونجور، بوشكين!» يردَ عليه «بونجور، سيدي»، وهو ما توثّقه الكاتبة هنا «باحترام ولكن بشكل عرضي، دون تلميح من الرهبة». أن تكون شاعر القيصر المُقرّب،مهنة خطرة، وقد كرهها بوشكين لما تجلبه له من الإهانة الدائمة، احساس الشاعر الذي يؤنبه من أجل كرامته. لكنه لم يستطع التخلّص من هذا الشعور. كانت روسيا نيكولاس الأول أكثر صرامة مما كانت عليه بروسيا في أي وقت مضى، ولم يتم التخلي عن الأرستقراطيين الأكثر امتيازًا. لقد كانوا تحت تصرف القيصر بقدر ما كان الأقنان في ممتلكاتهم. الأشخاص المتميزون الوحيدون حقًا هم كبار ضباط الجيش، رجال مثل الكونت بينكندورف، الذي أدار رقابة القسم الثالث للشرطة السرية، والذي قيل إن القيصر نفسه يتوجّس من تدخلاته في شؤون الدولة،. لاحظ صديق بوشكين فيازيمسكي أن أحد الفكاهيين في موسكو ،قد ترجم العبارة الحكوميّة الرسميّة" le bien-ütre général en Russie" على النحو «من الجيد أن تكون جنرالًا في روسيا».
يمكن لقارئ بوشكين،وخاصة لمن يشعر، انّه قد تُرك بإفراط وفي ضرب من الشّك،حول التاريخ الثقافي لزمن بوشكين ، أن يقرأ كتاب سيرينا فيتالي وكأنه يشاهد "فيلم إثارة». يشمل هذا أيضاً القاريء العادي الذي لا يعرف الكثير عن خلفيّة وقصّة أمير شعراء روسيا. نظرًا لأن شعر بوشكين نفسه لا يزال غير متاح للقراء تقريبًا دون معرفة اللغة التي يكتب بها، وقد يكون لمثل هذا الترويج تأثير جيد في جعل بعض القراء يتعلمون ما يكفي من اللغة الروسية لقراءة هذا الشاعر كما تنبغي قراءته. لكن بوشكين لم يكن شاعرًا عظيمًا فحسب، بل "نبيّ مٌكرّس" وكما وصفه دوستويوفسكي في خطابه الشهير عنه ، فكاهيًا أحَبَّ التردد على الصالونات والنميمة مع أصدقائه. أحَبَّ العاصمة المتلألئة وملذاتها. تاريخها وكل شيء يرتبط بها.
عندما كتب الشاعر البولندي الكبير ميكيفيتش هجاءاً مريرًا عن سانت بطرسبرغ، ردّ عليه بوشكين بأكثر الطرق أدباً، ولكن بوطنية شديدة أيضاً. كانت النتيجة واحدة من أفضل قصائده وأكثرها غموضًا، «الفارس البرونزي»، حيث أشاد بأخلاق بطرس الأكبر وإنجازاته في الوقت الذي كانت القصيدة تتحدث فيه عن «الحكاية المُحزنة» للفيضان الذي دمر حياة العديد من رعايا القيصر وبما يشبه ابطال القصيدة نفسها، .ورغم أن بوشكين لايعلّق علانية على هذه الوحشية الاستبدادية لإنجاز بطرس، تلك التي أجبرت مواطنيه على العيش والعمل في مستنقع خطير. لا يوجد هناك شيء من هذا القبيل، ليس بسبب الرقابة فقط ولكن لأن فن بوشكين يقوم بالمهمة بشكل مثالي وبطريقته المُقتضبة الحادّة:
"أُحبّكِ يا صنيع بيتر
أُحبُّ مَنظركِ الأهيفَ الصَّارمَ
حيث يجري النيفا جليلاً
أٌحبُّ أسوارك وزخرفة حديدها الزهري
وفي لياليك الحالمة
أُحبُّ الغسق الصّافي، المٌتألّق دونما قمر،
حيثُ القصورُ تَتَجلّى فخمةً راقدةَ
على جانبي الشارع المهجور
ومسلَّةُ الأدميراليّة في توهّج"
لا شيء غير حيويّة أبيات بوشكين والطاقة المُدمّرة في قوافيّها هذه التي لا يمكن قياسها من خلال ترجمة حسب الشيخ جعفر لهذه القصيدة. فقط هذه الحقيقة الأساسية لشاعر عظيم يمكنه أن يحب عالمه ويكرهه على طريقته الخاصة.
لا تذكر سيرينا فيتالي سوى القليل من شعر بوشكين، ولكن بطابع النميمة المرحة - ومثل كل نَمّام جيد، فهي على دراية بما تنقله - تقترح بطريقة أكثر رسومية ، جانبًا واحدًا من القصة، وجانبًا واحدًا من العالم الاستثنائي - الذي يكرهه ويعشقه بوشكين ، كما في قصيدته «حان الوقت يا صديقي، حان الوقت!» والتي تقتبسها الكاتبة، كمثال جيّد ، يُعبّر عن التناقض العاري بين بوشكين الذي كان يتوق قبل كل شيء إلى «السلام والحرية»، وحرية الكتابة والتفكير وكمُجَدّد للغة بلده ،وبوشكين الذي أحب قبل كل شيء أن يغرق نفسه في عالم العاصمة الساحر، بمؤامراته وتسليته، وثرثرته مع من يدخل ومن يخرج، ومعرفته بكل ما يجري في خبايا القصور.هذا المجتمع الرائع والذي يحتمل أن يكون قاتلاً هو ما تجعله سيرينا فيتالي حيّ للغاية أمام القاريْ بينما تقترح وقد حلت العديد من ألغازه وأسراره، وكشفت العناصر بطريقة تشكل خاتمة فلم مثير للغاية . إنها بالتأكيد تدير القارئ معها بطريقة بارعة، على الرغم من حل معظم الأسرار الفعلية وتفكيك الكثير من الألغاز. ولقد صار من الصعب تحديد ما إذا كان أسلوبها المثير والمبالغ فيه إلى حد ما هو أسلوبها الطبيعي أو جزئيا لما وضعته الترجمة، على الرغم من أن المترجمين لكتابها ، قاموا بعمل جيد،. لكن التأثير العام، مهما كان متحركًا، لم يكن مبهج دائمًا، كما هو الحال في تعميمها حول شخصية بوشكين ومصيره.
هناك طرق أسهل بإعتقادي للقول إن الشاعر الشاب المبهر قد فقد الآن الكثير من جاذبيته ،جمهوره الواسع من القراء ،حينما طور نفسه وبشكل متزايد الى مجرد ساخر مرير . أسلوب بوشكين الخاص سحريًا وأحيانًا المباشر والصريح بشكل لاذع لدرجة أن طريقة الكتابة عنه بهذا الشكل المباشر لا بد أن تحدث تباينًا مؤلمًا في بعض الأحيان.
يعرف جميع البوشكينيين أن الأشرار المتخفين وراء مصير شاعرهم المُفضّل هم أشخاص من الطبقة العليا جمهرة من الحاقدين والمحبين للقيل والقال على شاكلة بنكيندورف والسيدة بيلوسيلسكايا وأوفاروف ، برسائلهم المجهولة التي بعثوا بها إلى بوشكين عن خيانة زوجته وعن تعيينه كـ «مؤرخ» لـ «ترتيب الدوقيّة السيرين». وقد قامت البروفيسورة فيتالي بعمل جيد في البحث عن التاريخ اللاحق لإثنين من هؤلاء - هما غاغارين ودولغوروكوف. الأول ربما ساهم فقط في نسخ ما كان يمكن أن يكون الرسالة القاتلة،الفعل الذي ندم عليه فيما بعد وغادر على أثره روسيا وممزقاً نفسه كأي مبتدي بقراءة الإنجيل في أحد الكنائس اليسوعية الفرنسية. أما بالنسبة لدولغوروكوف، فقد نفى نفسه هو الآخر إلى فرنسا، حيث واصل هواياته المُحببة في كتابة مشجرات الأنساب التي يجيد حرفتها.
لم يٌعبر دانثيس أبدًا عن أدنى ندم لقتله أعظم شاعر في روسيا. ووفقًا لميثاق الشرف، لم يكن هناك سبب يدعوه إلى ذلك. لقد تم استفزازه من قبل خصمه بطريقة لم يكن لدى ضابط حراسة ورجل نبيل سوى أن يطلق مسدسه في الهواء، لكن بوشكين، الذي كان يجيد التسديد بالأسلحة ، رغم انّه لم يكن من طبقة هؤلاء الضباط المحترفين لحماية قيصر، فمن المؤكد أنه ما كان ليفعل غير ذلك. عند هذه النقطة كانت كراهيته لدانثيس لا يمكن السيطرة عليها. كتب صديقه الكونت سولوجوب، الذي نجح، من خلال الإعتذار في الوقت المناسب، ولتجنب خطر مبارزة سابقة، في وقت لاحق أن شفاه بوشكين المرتعشة والغضب في عينيه المحتنقتين بالدم كانتا بمثابة شهادة مرعبة على الموت، كشفت لأول مرّة أصله الأفريقي العنيد، وكأنه عطيل آخر تمّت إثارته، في مشهد المبارزة في «يفغني أونيغين»، كان بوشكين قد وصف بالفعل الطريقة التي أعدّها لموته، تمامًا كما فعل ليرمونتوف في مشهد مٌتنبيء في روايته "بطل من زماننا". على الرغم من حكم القيصر الصارم ضد المبارزة، عاش كل منهما في مجتمع عسكري ولكن بميثاق شرف صارم ، كان عليهما أن يلتزما به . قضى ليرمونتوف كل حياته القصيرة حارساً في أوهلانز، بينما استمتع بوشكين بشكل كبير برحلته إلى القرم كجندي في أحد الأفواج التي كانت تُخضع بثبات القبائل المتمردة في القوقاز. وفي المجتمع الذي شيّده بطرس الأكبر، أن تكون «في الخدمة» هو الالتزام العادي للرجل المحترم. أحد أبناء بوشكين وكذلك والده وعمه وشقيقه كانوا في رتب عالية في الجيش.
حُكم على دانتيس في البداية بالشنق. تم تخفيف هذا الحكم ؟، بإنزال رتبته العسكريّة ونفيه مدى الحياة كأي جندي عادي للخدمة في منطقة نائية، بعد إطلاق سراحه بفترة قصيرة، تمكن من الهرب ، ولأن دانثيس لم يولد روسيًا ،اصطحبه رجال الدرك إلى الحدود الألمانية وطردوه هناك بإجراءات موجزة. عاد مع زوجته، أخت ناتاليا زوجة بوشكين، إلى فرنسا، حيث بدأ مسيرته المهنية الناجحة للغاية، وانتهى به الأمر كعضو في مجلس الشيوخ. وصف بروسبر ميريمي، أول كاتب فرنسي يُترجم بوشكين، الرجل الذي قتله: بأنه خطيب رائع، " و "رجل رياضي ذو لهجة ألمانية،ومن النوع الماكر جدا ". اعتاد دانتيس أن يقول إنه مدين لتلك المبارزة المحظوظة في مسيرته السياسية الناجحة ، والتي بدونها لكان من المحتمل أن ينتهي به الأمر الى مجرد ضابط مع عائلة كبيرة دون موارد في بلدة إقليمية روسية مهجورة. سأله أحد الأصدقاء أيضًا، الآن بعد أن انتهى كل شيء بأمان، أذا ما كان حقًا عشيق السيدة بوشكين. أجاب: بالطبع.
ثمت رسالة مكتوبة الى دانثيس من موسكو ، في عام 1845، ومن سيدة اسمها "ماري" ، مازال يعتقد أنها هي نفسها ناتاليا بوشكينا ، تنتهي اسطرها الأخيرة على هذا النحو:"لن أنسى أبداً، أنني مدينة لك بالمشاعر الطيبة والأفكار الناصحة التي افتقدتها قبل أن ألتقي بك "
وكرجل عجوز ، اعتاد دانثيس أن يُلهم من حوله كلما تطرّق الحديث عن حياته البطرسبورغيّة المُتهتّكة هناك ، وأنه كان بإمكانه الحصول على كلّ من يريدهنَّ من النساء، بإستثناء واحدة هي" السخرية الفائقة، كانت حبي الوحيد» يقول ضاحكاً في اشارة الى زوجة بوشكين ،ومتخيلاً شبح الشاعر وقد ومضت اسنانه البيضاء في ضحكة ساخرة تُعبّر عن عدم الوثوق أبداً، بكل كلمة ينطق بها رجل فرنسي.



#خضير_النزيل (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- إعدام جندي
- الوقوع على الجهات البعيدة


المزيد.....




- الأردن.. انطلاق فعاليات الدورة الـ 38 من مهرجان جرش للثقافة ...
- هيئة الترفيه السعودية تعيد النظر في إنتاج فيلم لأحمد حلمي
- 4 أفلام عربية في النسخة الـ81 لمهرجان فينيسيا السينمائي
- لعشاق عالم الحيوان والطبيعة.. تردد قناة ناشيونال جيوغرافيك ا ...
- كيف تفاعل رواد مواقع التواصل مع تراجع تركي آل الشيخ عن إنتاج ...
- جيروزاليم بوست: ممثل كوميدي أميركي يكتشف حب الجميع لحماس في ...
- ظهور رسام الكاريكاتير المصري في النيابة بعد نحو 48 ساعة من ا ...
- -حابب تروح عبيت خالتك-.. ممثل سوري يكشف لـ-المنتدى- سر الجرأ ...
- -ثقافة الخوف- و-إقرار بالخطأ-.. حقوقيون يتحدثون عن العدالة ف ...
- -شكري اللاأخلاقي- ندوة في مهرجان -تويزا- بطنجة تثير جدلا


المزيد.....

- مختارات هنري دي رينييه الشعرية / أكد الجبوري
- الرفيق أبو خمرة والشيخ ابو نهدة / محمد الهلالي
- أسواق الحقيقة / محمد الهلالي
- نظرية التداخلات الأجناسية في رواية كل من عليها خان للسيد ح ... / روباش عليمة
- خواطر الشيطان / عدنان رضوان
- إتقان الذات / عدنان رضوان
- الكتابة المسرحية للأطفال بين الواقع والتجريب أعمال السيد ... / الويزة جبابلية
- تمثلات التجريب في المسرح العربي : السيد حافظ أنموذجاً / عبدالستار عبد ثابت البيضاني
- الصراع الدرامى فى مسرح السيد حافظ التجريبى مسرحية بوابة الم ... / محمد السيد عبدالعاطي دحريجة
- سأُحاولُكِ مرَّة أُخرى/ ديوان / ريتا عودة


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - خضير النزيل - تابوت شاعر : تعليق على كتاب سيرينا فيتالي(زرُّ بوشكين)