السيد تروسكافكي

حسان الجودي
(Hassan Al Joudi)

الحوار المتمدن-العدد: 8045 - 2024 / 7 / 21 - 20:58
المحور: الادب والفن
    

في أعماق غابة كثيفة، حيث تلتف الأشجار وتتشابك الأغصان، عاش كائن سحري في سرية تامة. السيد تروسكافكي، كما كان يُعرف، لم يكن مثل أي مخلوق آخر. يمكن تخيله كثمرة فراولة عملاقة، بارتفاع يصل إلى ثلاثين سنتيمتراً. جسده الأحمر اللامع ممتلئ ومستدير، تتناثر على سطحه بذور صفراء صغيرة تومض بلطف، كما لو كانت نجوم صغيرة متلألئة في سماء الليل.
تشبه عيناه الكبيرتان حبتي توت أسود تتلألآن دائماً ببريق ذكي. يظهر أنفه كبرعم أخضر صغير في منتصف وجهه ، وكان يهتز بلطف مع كل نفس يستنشقه من روائح الغابة العطرة. وعندما كان يبتسم، كان يتحول شقٌّ رقيق في وجهه إلى ابتسامة واسعة تكشف عن صف من الأسنان الصغيرة البيضاء التي تشبه بذور السمسم.
تعلو رأس السيد تروسكافكي أوراق خضراء زاهية، يحركها النسيم برشاقة، ومن جانبي جسمه تبرز ذراعان رفيعتان تنتهيان بأصابع دقيقة، أشبه بجذور النباتات الصغيرة.
تنتهي ساقاه القصيرتان والسميكتان بقدمين على شكل أوراق نعناع خضراء، وعندما يتحرك، كان يترك خلفه آثاراً من غبار ذهبي يتلألأ تحت ضوء الشمس الذي يتسرب من بين أوراق الأشجار.
ينبض جلده الأحمر بإيقاع بطيء وثابت، وأحياناً تظهر عليه تموجات خفيفة من ألوان قوس قزح. رائحته دائماً حلوة ومنعشة، تجمع بين عبير الفراولة الناضجة ورحيق الأزهار البرية.
صوته عميق ورنان، تشوبه نغمة موسيقية خفيفة تذكر بالناي الخشبي الصغير.
السيد تروسكافكي رمز للسحر والجمال في عالم الغابة، وكائن فريد يأسر القلوب بخياله وتفاصيله.
****
التقيت به في مدينة "فروتسواف" البولندية قبل سنوات. هو بالتأكيد بولندي الأصل. فاسمه تروسكافكي يعني بالبولندية فراولة. لقد تطابق شكله مع معناه ، وقد حدث هذا في مكان بولندي ، فكيف لا أعترف لكم بذلك؟
دعوته للجلوس في مقهى في المدينة القديمة، فرحب بذلك، وارتعشت الاوراق الخضر فوق رأسه. وقد فاجأني ذلك ، وفاجأني أكثر بطلبه الشخصي:
-هيا من فضلك أخرج هاتفك المحمول، وابدأ بالكتابة ! صفني بكل مهارة تمتلكها!
كان طلباً غريباً منه. فعلاقتي معه كانت مجرد علاقات نفعية في مزرعة فراولة تخص عائلة بولندية نعرفها.
عاود إلحاحه الغريب، فاستجبت لرغبته، وكتبت الوصف السابق في المقطع الأول له.
سألته أخيراً ، إن كان يمانع بالتقاط صورة لأرفقها مع الوصف. فصدرت عنه غمغمة مرحبة.
تجولنا بعدها في المدينة القديمة، وحرصت على زيارة أماكن أحبها، كالكنيسة الكبيرة ، والجسر المائي القديم.
طلب السيد تروسكافسكي أخيراً الجلوس في حديقة أحبها، إذ طالما اصطحبت إليها صديقاتي الجدد اللواتي كنت لا أثير فضولهن ، بل كان صديقي ذو الشعر الأسود يفعل ذلك.
-أعتذر منك، يجب أن أغادر .
قال ذلك بحزن، وودعني وأوصاني بنشر أوصافه.
ما أفعل الآن بوصف الغياب؟
ربما ذاب السيد تروسكافكي في مياه نهر "أودرا"
أو ربما ركب القطار إلى برلين .أو عاد إلى الكتاب الذي خرج منه. لذلك سأحرص على تقليم أشجار ذاكرتي ، لعلها تشب وتنمو من جديد في ربيع الغريب.
***
لا ربيع للغرباء ! تعرف ذلك دائماً. وقد أكدته لك ألدونا .فبعد أن تذوقت فطائرها الشهية المحشوة بالتوت الأزرق ، أردت إغواءها عاطفياً فقدمت لها مجموعة شعرية للجيب، ودعوتها إلى عشاء آخر . فرفضت كل ذلك، ونذرتك غريباً لا يمكن الوثوق باستمرار زمانه.
يشبه السيد تروسكافكي ألدونا بطريقة لذيذة ما . كلاهما صغيرا الحجم ، يرشح منهما رحيق وعطور ، ويحتاجان إلى ساعات من الوقوف أمام المرآة لتزيين الوجه.
كلاهما وسيمان إلى درجة نادرة ، فما سبب رغبتهما العظيمة تلك بترسيخ الشكل أمامك؟
أنت أيضاً شكلٌ مثلهما. وربما لم تفهم الدرس جيداً! كان عليك البقاء شكلاً بأبعاد ثلاثة ، ولم يكن يجدر بك إعلان الروح.
كنت شكلاً جميلاً، أو ربما قبيحاً . هذا لا يهم على الإطلاق. لديك وصف جميل للسيد تروسكافكي الذي ستتعرف عليه في حيوات أخرى. ووصف متقن لآلدونا ، وبذلك ستجد معناهما حيث اتجهت.
***
تعرف أنك تكتب وتفكر بسذاجة مثل برتراند رسل، فالوصف اللغوي لا يمكن أن يحدد معنى الشيء، والإشارة إلى الكائن الأطول في العالم لا تحيل إلى معنى الزرافة ، بل قد تحيل مثلا إلى حيوان أسطوري قديم أو ببساطة إلى ناطحة سحاب.
يجب أن تحرص وأنت تكتب،فاللغة تشكل أفكارنا وإدراكنا للعالم ، والوصف اللغوي قد يؤثر على فهمنا للمعنى. بل إن تحليل المفاهيم اللغوية يمكن أن يكشف عن المعاني الضمنية.
وصفك للسيد تروسكافكي ولآلدونا ، ولشكلهما هو وصف "التهام " في الحقيقة. أنت تريد التهام السيد تروسكافكي ( دون إحالة جندرية) أنت تريد التهام الفراولة اللذيذة وآلدونا مثل عديدات استطبت التهامهن.
فهل حقاً تريد ترسيخ معنى الالتهام؟
هل حقاً تريد العودة الميمونة إلى حقول الفراولة في وسط أوروربا لتواصل سيرة الالتهام؟
تشعر بأنك الضحية هنا، فمنذ ٢٠١١ والحرب تلتهم أطرافك المدببة والدقيقة كأقلام رصاص. فلماذا لا تصف آلدونا وتورسكافكي كما تصف بلاداً أمومية تفتقدها؟
إنها سيرة الالتهام!
إنها سيرة الحرب، التي أفسدت ماضيك البولندي أيضاً رغم غيابها عن الزمكان الذي كنت تعيشه.
إنها الحرب وقد أفسدت كل شيء.

#حسان_الجودي (هاشتاغ)       Hassan_Al_Joudi#          

---

اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين	حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل

كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على:

الفيسبوك

التويتر

اليوتيوب

RSS

الانستغرام

لينكدإن

تيلكرام

بنترست

تمبلر

بلوكر

فليبورد

الموبايل

كيفية إشراك-إيصال مواضيعكم أو مواضيع تهمكم  إلى اكبر عدد ممكن من القراء والقارئات