|
حَبلْتُ بكَ من أذُنَيَّ
أسماء غريب
الحوار المتمدن-العدد: 8038 - 2024 / 7 / 14 - 14:21
المحور:
الادب والفن
في حضرةِ السيّدة النّطّاحة *
الشّعرُ العرفانيُّ خطير جدّاً، ما احترقَ بنيرانه أحد، إلّا وعافَ الفراديس كلَّهَا، وما عاد يرغبُ بالحور العين ولا بالغلمان واللّؤلؤ ولا بالمرجان والاستبرق، وإنّما تصبحُ عينه على صاحب المُلك والملكوت شخصيّاً: إمّا هو وحده صاحب اللّعب الكبير، والشّأن الخطير وإمّا لا! ومن يصل إلى هذه المرحلة من الشّعراء، يُفتحُ له باب الاختبارات والامتحانات على مصراعيه، فإمّا يكون قادراً على ركوب الأهوال كلّها، وإمّا فليتنحَّ جانباً! وتبدأ طريق هذا النّوع من الشِّعْرِ بإعلان الحُبِّ على الشّاعرِ بنفس الطريقة والدّرجة التي تُعلنُ بها الحرب؛ لا هوادة ولا مهادنة، وإنّما أخذ وردّ، وشدّ وجذب، ومدّ وجزر، وفي هذه الحالة ترتبك النّفسُ ارتباكاً عظيماً، ويشتعلُ القلبُ، ويرتجف الفؤاد، وتظهر الأدغال والصّحاري، وتفيض الأنهار والمحيطات، وتُسَجَّر البحار، ويُفتن الشّاعرُ العاشق فتوناً، فيحزنُ الحزنَ العميق، ويبكي البكاءَ الدّامي، ويبتهجُ البهجة الكبرى ويضحكُ الضّحكَ الباكي، ويرى المحبوبَ ليس كما يراه أحد، وإنّما على الصّورة التي تُظهِرُ له مقامَه بين العُشّاق، وكلّما كان حال المنظور إليه مُرضيّاً، سُجّلَ العاشقُ بين من سَلُم وصفا طريقه ومساره. لا أحد يُطيق نيرانَ العشق وأنواره، ولا امتحاناته الكبرى، والكلّ يدّعي العشقَ ويكتب عنه، وما ذاق طعمه أحد: إنّه مرٌّ كالعلقم في بداياته وحلو كالشّهد في نهاياته، ونار حارقة وبرد زمهرير في الآن نفسه، وما احتواه فؤاد إلّا وأصبح ذا صلاة حارقة، ما وقف خلفه أو أمامه أحد إلّا صُعق وصُرع. نسأل الله السلامة لنا ولكم أيّها العُشّاق! الشّاعرُ العاشق مبتلى بالابتلاءات كلّها، منخطف لا حضور له بين الخلق، إنه الباكي أبداً بين يدي ربّه، يتلمّس طريقهُ كالضّرير مخافة أن يلحظ عماه أحد، فلا بدّ أن تعمى يا صاحبي كي ترى بقلبكَ ما لا يراه الآخرون، ولا بدّ أن تصمّ أذنيْك عن كلّ شيء كي تسمع ما لا يسمعه الآخرون وتحبل منهُما بالكلمة المُقدّسة، ولا بدّ أن تختفي من عالم الكثرة كي تظهر في أراضي الاختبارات الخيميائيّة الكبرى. هناك حيث الإله يتحدّث بالهيروغليفيّة والآراميّة والسّنسكريتية، لا بدّ أن تكون صاحب جلاءٍ لغويّ لتسمع وتفهم أيّها القارئُ الدّرويش الضّرير. ولا بدّ أن تدير ظهركَ للعوالم كلّها وتجثو على ركبييْكَ وتطلب من صاحب الكون أن يكشف لكَ عن ذاك الخيط الرّفيع الّذي يربط عالم المادة بعالم الرّوح، وعن الحقيقة التي أنجبت كلّ ما تراه، وعن القوانين المقدّسة لكي يتحقّق لك أخيراً أنّه كما في الأعلى في الأسفل. فالعاشق الحقّ ليس هو من يُحوّلُ في قصائده المعادن الرّخيصة إلى ذهب خالص، وإنّما هو ذاك الّذي يحاول أن يحوّل نفسه من حال إلى أخرى أفضل وأرفع وأنقى، أيْ ذاك الّذي يَخرجُ بنفسه من حالة خسيسة إلى حالة سامية جديدة مع استشعار نتائج هذا التحوّل داخل القلب بشكل لا يمكن إنكاره أبداً. لأجل هذا لا بدّ من نُضجٍ عرفانيّ جوّانيّ قبل أنْ يصبح العاشقُ شاعراً قادراً على بناء مختبره الخيميائيّ، وذلك لأنّ نتائج أعماله وحركاته وسكناته تكون رهينة بهذه الدّرجة العليا من النّضج، وهذا يعني أن العاشقَ هو ذاك الّذي قطع سابقاً أشواطاً عميقة من مراحل تطوّره الجوّانيّ بطريقة تؤهّله لأن يحوز ملكات داخليّة تمكّنه من أن يصبح رجل التحوّلات الكبرى. لأجل هذا فقد حاولتُ في هذا الدّيوانِ أنْ أُظْهِرَ كيف تبدأ الرّوح الشّاعرة العارفة بذرةً من نور هشٍّ، وكيف أنّها كلّما اكتملتْ في دورةٍ حياتيّة ما وتوهّجتْ وأصبحتْ نوراً حارقاً أعلنت عليها قوى الظلام الحرب الضّروس، فهي الإنسانُ إذن، وهي الرّوحُ العليا في الوقت نفسه، وأعداؤها كُثر، وهُم داخل الهيكل الجسديّ المقدّس العجيب الّذي تسكنُه منذ بدء الخليقة، وقد رأتهُم جميعاً حينما اقتربتْ مثل موسى من شجرة النّار المتكلّمة، وعاينتْ كيفَ أنّهُم منذ ذلك الحين وهُم يركضون خلف العصا التي تَتوكّأُ عليها وتهشُّ بها على غنمها، وتقضي بها مآربَهَا الأخرى. وفهمتْ أخيراً من تكونُ عصاها؛ إنّها الصّقرُ الملكيُّ، والبقرة الصّفراء التي لا شية فيها، واللبؤة الجسورة، والبراق والنّاقة والحيّة العظيمة. إنّها باختصار نفسها المَلكيّة: عين الله الحاكمة، عيساها الّذي يأتيها بالتّنزيل، ومهديّها الجوّاني الّذي يأتيها بالتّأويل، محور اللّهب وصورته العظمى، قنديل السّهرة الحميمة في حضرة البقرة العُلويّة. فما أعظم قدرتكِ أيّتها النطّاحة المتوهّجة بالنّور، والممتلئة بالحليب اللّدنيّ، أنتِ أيّتها العينُ البرزخيّةُ التي يحرقُ لهيبها الأعداء، كوبرا القصر المهيبة، والحيّة التي تلتهم مكائد السَّحَرة الفَجرة. فيا أيّتُها الذّهبيّة، يا حبيبة الملك الواحد الأحد الصّمد، يا من تلتفّين حول عنق الحبيب، خذيني معكِ والقارئَ وأنتِ في طريق الصعود، فنحن أيضاً إلى الهناك ماضون، حيثُ ينتظرنا الأمير، صاحبُ النظرة الخلّابة التي تسلب العقول، وتفتن الألباب! حينما تنتهي القصيدة وتأتي تلك اللّحظة الحاسمة التي يريد الشّاعرُ أن يُقيّم فيها تجربته الشّعريّة، يكتشفُ بطريقة أو بأخرى أنّه ليس هو من خطَّ سطورها، ولا من حفرَ حروفها، فيذهله هذا الأمر خاصّة إذا كان من طينة العرفاء، لأنّه يرى وبشكل لا مجال فيه للشكّ، أنّ هناكَ شاعراً رسّاماً بارعاً قضى كلّ تلك السّنوات من العمر في رسم صور الحياة، - حياتكَ وقصيدتكَ أيّها القارئ -وطبعها في ذاكرتكَ، وفي كثير من الأحيان كان يتصرّف وبحريّة مطلقة في كتابة تاريخ وجودكَ الدّاخليّ لدرجة أنّه في كثير من الأحيان يُخَيّلُ لكَ أنّ ما يحدث في الدّاخل لا يتطابق تماماً مع ما تراه في الخارج. والغريب في الأمر أنّكَ لا تُكرّسُ وقتكَ للنّظر مليّاً في هذا النّسيج المحبوك ببراعة ودهاء كبيريْن، ولا أنتَ تعرفُ متى سيقرّرُ هذا الرّسام عرض لوحاته ولا بأيّ معرض. ثمّ تأتي أنتَ وفجأة تريد أن تكتب ما تسمّيه بالقصيدة المفتوحة، فلا تعرف من أين تبدأ، لأنّك ما إن تفتح الباب حتّى تتقيّن مرّة أخرى أنّكَ لستَ أنتَ صاحب الدّيوان الحقيقيّ ولا معرض أبياته برمّته، فمن هو هذا الكاتب إذن، بل من هو هذا الرّسّام الشّاعر؟ وكيف ستستطيع أن تُحْكِم قبضتك على صوره بداخلكَ وهي تنفلت من بين يديك باستمرار؛ فهناك الطّفولة البعيدة وفيها كنتَ بذرةً من نور، وهناك سنوات الشّباب وفيها بدأت تتلمّس طريقكَ إلى الهوّة الإلهيّة الخطيرة، ثم هناك الشّيخوخة وفيها بدأت ترى بصيصاً من ضياء لا تعرف عن طبيعته شيئاً؛ أهِيَ نور أم نار، لستَ تدري. وكلّها صور مختلطة لا يمكنكَ فرزها إلّا حينما تصل إلى غايتكَ أو غايتهِ المنشودة، ومحطّتكَ أو محطّته الأخيرة، هناك فقط ستبدأ صور الأسماء والوجوه المُقدّسة تمرّ بذاكرتكَ كشريط سينمائيّ يُدخلكَ في حالة من الانتشاء والفناء، وحينما تفيق منها تجد نفسكَ أنّك فقدتَ القدرة على الحكي وعلى الرّسم أو على توثيق ما لا يُوَثَّقُ ورواية ما لا تسعه الكتابة ولا الكلمات، إنه صمت العارفين الأبديّ، الّذي يبرّرُ لنا كيف أنّه لم يصلنا الكثير عن حياة العرفاء الأحقّاء، بل كيف أنّ العديد منهم ظلّوا شعراء مجهولين في الأرض معروفين في السّماء. نعمْ، حيواتي كثيرة في هذا الدّيوان ولا أذكر منها شيئاً، لكن هناكَ بوارق تُخبرني من أنا، تلمع من حين لآخر في حميميّاتي الباطنة، فأرى بقرتي الزّينبيّة الملكيّة، أمدُّ إليها يدي وأناديها بأسمائها الباذخة، وأصرخ بأعلى صوتي من شدّة الشّوق وأقول لها: تقدّمي نحوي يا أمّي الكونيّة، يا صاحبة البهاء الكامل، دعيني أمتطِ صهوتكِ لأقترب من السّماء، وأطّلعَ على ما كاده ضدّكِ الأعداء. إنّني مازلتُ أذكر لليوم غضبكِ الشّديد، وكيف أنّكِ نفختِ من روحكِ لهبكِ الحارق، فامتلأت وجوههم بالدّمامل، لا أحد سواي يستطيعُ أن يمتطيكِ وأنت حلوب، ولا أن يضعكِ فوق رأسه تاجاً وأنتِ حيّةً، ولا أن يمسككِ بيده البيضاء وأنت عصاً. ارفعيني أيّتها النطّاحة، وخذني إلى المكتبة الإلهيّة، فقد تعبتُ من قصائد البشر ونسيتها كلّها لأنّها لا تجلبُ لي سوى صداع الرأس والملل الشديد، وهبيني البوح الحارق الخارق، ودعيني أُجَنُّ وأنا أتحدّث عنكِ، فكلّ جنون في حضرتكِ مُثمر وكل صمتٍ في البعد عنكِ حزين!
القصيدة *
(1) أنا أنثى برزخيّة وَلِي فِي كلّ ليلةٍ حكاية أَشِمُها بِسَيْفي ودموعي فوق هذا الجسد النّورانيّ الصّغير الكبير. (2) ربّما لا تعرفُ أنّني خُضتُ الحروبَ كلَّهَا ومازلتُ لليومِ أُقَاتِلُ رأسي كلّه رضوض وكسور ووجهِي خريطة من الكدماتِ والجراح الثّخينة أنا جنديّةٌ زينبيّة أمشي مترنّحةً من شدّة السُّكر في الحانة الملكيَّة ومازالَ يصيبُني الدُّوار العنيف. (3) ربّما لا تعرفُ أنّ السّماءَ هناكَ نارٌ ودخانٌ وأنّ جُرحَ الإله الذّبيح غائرٌ وفائرٌ بالدّماء وأنا، ماذا فعلتُ أنا؟ (4) قدّمتُ لهُ رأسي ولمْ يكُنْ ذلك كافياً قدّمتُ لهُ قلبي ثمّ روحي ولم يكن ذلكَ كافياً ومازلتُ أُقَدِّمُ وأقدّمُ؛ أنزلُ إلى ساحاتِ الوغى، أكفّنُ الموتى، أُطَبِّبُ الجرحى، وأُشْعِلُ البخورَ وأُكَفْكِفُ دمعَ الإله ولا شيء يكفي.
(5) قل لي أنتَ: لماذا يأتي العِشقُ في الزّمن الخطأ؟ بل قُل لي: ما الّذي تعرفهُ نساءُ التّرابِ والطّينِ عن حروب البرازخ الكبرى؟ لا شيء. (6) إنهنّ مُلتهياتٍ في ثرثراتهنّ الرّخيصة وأطباقهنّ الحامضة والجنود هناكَ في السّماء يُقاتلون ويُذبَحون من الوريد إلى الوريد وأنتَ وأنا: ننتَظرُ الموتَ عشقاً يأتينا بل نوراً يتوهّجُ في آخر النّفق كي نخرجَ إلى رَحْبَةِ البدر الملكيّ هناك حيثُ الحفلة التنَكّريّةُ الرّاقصةُ في القصر المهيب. (7) قل لي إذن: هل حقّاً يأتي العشقُ في التّوقيت الخطأ؟ الأرضُ حربٌ والسماءُ حربٌ وقلبي وقلبكَ نجمتان رُسِمَتا اللّيلةَ فوق جبين الحبيب! (8) أنا كائنٌ مُجنّحٌ برتبة قائدٍ عسكريٍّ مُحارب جيوشي عتيدة ولا وقت لديَّ للَّعب معَ رُضَّعِ الجنان المحجوبين بالنّعيم، تارة تفوح منهم رائحة الحليب والعسل وتارات أخرى رائحة اللّبن والخمرة ألم أقل لكَ إنّهم رُضَّع؟! ربّما لا تعرفُ أنّني أقيمُ مع اللهِ في الجحيم وأنّ الأرضَ الّتي تسكُنُها هي هذه الجحيم المستعرةُ بالحروب. (9) هل رأيتَ النّارَ؟ هل رَوَّضْتَ ألْسِنَتَهَا الزُّرق والحُمْر؟ تعالَ، مُدَّ يدَكَ لِنَطِرْ إلى سَقَر التي لا تُبقي ولا تذَرْ إنّها في باطن المدينة التي تُقيمُ فيها، تعالَ، لنغُصْ في حميمها وقَارها. (10) لا تقُلْ لي ألّا قُدرة لديكَ على تحمّلِ العذاب فالبكاءُ والعويلُ في كلّ مكان والدّموع أنهار تنبع من قلب السّماء والنّيل بحرٌ من الدّماء والفرات كذلكَ. تعالَ مُدَّ يدَكَ فكلّ الحكايات بدَأَت بكلامِ نبيٍّ مع شجرة النّار والنّار بقرةٌ ملَكيّةٌ حريٌّ بكَ أنْ تَمْتَطي معي صهوتَهَا لتَرْفَعَكَ إلى الأعْلى أكثَرَ فأكثَر. (11) النّارُ تحيا في قلبكَ وفي السّماء فلا تخشاها تارات تعلو فتتألّقُ في الفردوس وتارات تهبط فتَسْتَعِرُ في الجحيم كامنة فيكَ كالحقد والانتقام. (12) بيضاء كالخير وسوداء كالشّرّ عذوبة وعذاب مختبرٌ للبدايات الكبرى ورؤيا صريحة للقيامات الكبرى إنّها أنا؛ نارُكَ الّتي تناديكَ. قل لي إذن: لماذا يأتي العشقُ في التّوقيت الخطأ؟! تَعِبْتُ يا صاحبي من العُرفاء الّذين يُبَشّرون بالجنّة وهُم لا يعلمون شيئاً عن الجحيم ومللتُ من أحاديثهم الرّكيكة عن النّور والحور العين. (13) ربّما أنتَ لا تعرفُ أنّني ابنة النّيران الإلهيّة الأولى؛ ابنة الشّمعة والقنديل وابنة اللّيالي البِيض، لا أنامُ ولا أغفو. (14) ورأسي حليقة وعيني البرزخيّة كحيلة وفوق وجهي تتحرّكُ أوشامٌ نبويّة هي خرائطُ كُنوزٍ مَلَكيَّة والعدوُّ قرصان يركُضُ خلف الأيائلِ والصقور وأنا أيّلٌ وصقر وأسد، حمامةٌ وغراب وعنكبوت تنسجُ بيتها في الأقبية الملكيّة العتيقة وأنتَ مَنْ أنتَ؟ أيّها الواقف متردّداً أمام النّار اطرق الباب يُفتَح وأسأل تُعْطَ. (15) نعم، اسألني أخبركَ كيف تنزلُ وتصعدُ لكن قبل هذا عليكَ أن تلبسَ رداء الموتِ: اخلع كلّ شيءٍ يا صاحبي واتركِ الكلامَ والشِّعْرَ الّذي تحبّه واقرأ التّعويذات التي لقّنتُها لكَ سيصعد الموتى معكَ إلى الأعلى وستبدأ الحروب الكبيرة فهل أنتَ مستعدٌّ لها أيّها الدّرويش الكفيف؟! (16) ربّما أنتَ لا تعلمُ أنّني فقدتُ كلّ شيءٍ في معاركي العظيمة وأَسَرَنِي العدوُّ لأكثر من مرّةٍ ونفاني إلى أكثر من أرضٍ آخرها كانت في جبل البركان كتفي لليوم تؤلمني ورأسي جريح وما بحتُ أبداً بالسرّ يا صاحبي: سرّ التاج الشّوكيّ والعمامة السوداء وسرّ الطّفل الرّضيع، وابن الملكة صقيل قل لي يا صاحبي: لماذا يأتي العشقُ في التّوقيت الخطأ؟! (17) تعالَ وأخبرني: هل للنّور ثِقْل؟ كلّ ما أعرفهُ، أنّي بتُّ أترنّحُ كلّما مشيتُ في الطّريق، ربّما ظنّني النّاسُ ثملةً من شدّة السُّكر. وحدي أعرفُ سرّي: قرصُ النّور حول وجهي أصبح كبيراً وثقيلاً وبالليل كلّما وضعتُ رأسي فوق وسادة السرّ تزلزلتِ الأرضُ تحت جسدي ودارت بيَ الأمكنة. (18) هل للنّور وزن أيّها الدّرويش؟! أجبني فأنا مازلتُ لليومِ أتذكّرُ قُبلتَكَ الخطيرة لي في الحديقة تحت فيء الشّجرة السرّيّة؛ قُبلةَ نَبيٍّ كانتْ جاءت بعدها قُبْلةُ وَلِيّ والوليُّ أكثر جُرأَةً من النبيِّ وتقاسيمُ النّايِ بين شفتيْكَ كانتْ شاهدةً على طَعْم السِّحْر بين شفتيَّ: سِحْر القُبْلة وسِحْر شجرة الدّفلى. (19) والدّفلى عصايَ الّتي بها فرقتُ البحرَ وعبرتُ إلى دار السّلام. أيبدأُ الطّريقُ بقُبلةٍ؟! قُلْ لي أنت أيّها الدّرويشُ الكفيف فأنا منذُ تلكَ القُبلة وأنا أشربُ السُمَّ في كلّ شيءٍ فالسمُّ للعاشقين يا صاحبي والشّهدُ والخمرةُ واللّبن والحليب للرُّضَّع الطّامعين. (20) وأنت، قل لي مَن أنت، واطفئ لهيب هذا السّؤال فلربّما لا تعرفُ أنّني أعرفكَ أكثر ممّا تعرفُ نفسكَ من ذاكَ الرّكنِ القصيّ في بلاطكَ الملكيّ تطلّ عليّ: قوامكَ نحيل وخدُّكَ أسيل وطرفكَ كحيل ولباسكَ أبيض صقيل ومبسمُكَ هيروغليفيّ. أنيق أنتَ في كلّ شيء؛ نظرة منكَ وقعتْ عليَّ فعرفتُ أنّني منكَ وأنتَ مِنّي. (21) شاعرٌ أنتَ في كلّ شيء؛ خطوة منكَ نحوي جَذَبَتْنِي إليكَ أكثر فأكثر، هل ذابَ كُلّكَ في بعضي؟ ربّما. لكنّي حينما أقف أمام المرآة أرى وجهكَ، لا وجهي هل يمكن هذا؟ ربّما! قُل لي إذن: لماذا يأتي العشقُ في التّوقيت الخطأ؟! (22) أجِبْ واطفئ لهيب هذا السؤال فقد وضعتُ رأسي في الدّلو ورأيتُكَ أنتَ وإيزيس الكبرى رأيتُكَ والماءُ المالحُ سمّاً بين يديْكَ شربتهُ كاملاً فازددتُ عطشاً. (23) نعم، وضعتُ رأسي في الدّلو ورأيتُ البحرَ عارياً وسمعتُ الأساطيل تناديني وتقول: أين درب العشق أيّتها العارفة الأخيرة ومن سيرسمُ الطريق ويحمل المشعل الكبير؟! وضعتُ رأسي في الدّلو ورأيتُ البحرَ ضاحكاً وأنا بين يديْهِ طفلة أركضُ فوق الموج الهادئ وأقطفُ سنابلَ من زمرّدٍ وماسٍ أمَامِي أنتَ يا إِمَامي وحول رأسكَ أرى قرصاً من النّور العظيمِ. (24) أرفعُ إليكَ وجهي يبتسمُ الموجُ وحينما تلتقي عينيّ بعينيْكَ يُمزّقُ البرقُ ستارةَ السّماء ثمّ يُغمى عليّ! (25) وضعتُ رأسي في الدّلو ورأيتُ الدّربَ ضيّقاً جدّاً وأنتَ فيه يا صاحبي تقود سيّارة سوداء فارهة وأنا إلى جانبكَ أنظرُ إلى الطّريق وما إن نغادر الزّقاق بنجاح دون أن تصاب السيارة بأيّ خدش تطلب قُبْلَةً في الزّحام وحينما أمتنعُ بدلال وحياء تخطفها من بين شفتيّ بينما في المرآة الخلفيّة عينُ الوجود البرزخيّة تنظُرُ إليكَ وإليّ وأنتَ تُديرُ المِقْوَدَ بيديْكَ قُل لي إذن: هل حقّاً يأتي العشقُ في التّوقيت الخطأ؟! (26) أجب ودعني أنظُر إلى وجهِكَ العجيب يا إِمَامي الدّرويش، فهذه أوّل مرّة أنتبه فيها إلى صورتكَ الجديدة، فأنا كنتُ أراكَ كما اخترتَ أنتَ أن تظهرَ لي آنفاً: وسيماً أنيقاً بعينيْكَ الهيروغليفيّتيْنِ، طويلاً نحيلاً بحضوركَ المَلكيّ، لكن ما الّذي حدثَ اللّيلةَ؟ إنّه تطوّر خطير، أنا الآن أراك كما أنتَ بوجه سِحريٍّ مهيب. (27) يتحرّكُ الكون فوق وجنتيْكَ وتتحرّكُ عيون الأرض كلّها فوق جبينكَ، إنّكَ وجه يرى بأكثر من عيْنيْن ويتكلّمُ بأكثر من فَم وأنا لا أستطيع النّظر إليكَ طويلاً يصيبني دوار عنيف وتتسارعُ نبضات قلبي ليس إعجاباً وإنّما من الجلال والرّهبة، فهل هذا وجهُ الخَلْقِ أم وجه القُدرة يا سيّدي؟ هل هذا وجه الإرادة، أم وجهُ المشيئة؟ دلّني، فوجهكَ اللّيلة حيّرني كثيراً! وأنتَ تطلُّ عليّ الآن وتحدّثني بأكثر من لسان فلا أفهَم وتنظرُ إليّ بأكثر من عينيْن فتزداد حيرتي متى سأرى جسدكَ إذن؟ هل هو كوجهكَ؟ كثير جدّاً، ويتحرّكُ العالم كلّه فوق مسامكَ لا تتأخر فإنّي مازلتُ أنتظرُ الجواب. (28) أجبني واطفئ لهيب هذا السؤال فالإناءُ بينَ يديْكَ مِن طينٍ أبيض وأنا واقفةٌ أمَامكَ يا إِمَامِيَ أراهُ ممتلئاً بزيتٍ لونهُ كالمَاء أنفخُ فوقَهُ فيشتعلُ بالنّور والنّار. تبتسمُ لي فأصعدُ إلى غرفتكَ البيضاء أجلسُ إلى يمينكَ فوق بساطكَ الأخضر وأسمعُكَ تقول: العشقُ قطرةٌ منها خُلقتِ الأنهارُ والبِحارُ واشتعلتِ الأقلامُ والأشجارُ أبتسمُ لكَ وأقول: العشقُ نظرةٌ منكَ يا مولاي حينما صوّبتَها نحوي ذهلتُ عن نفسي ونسيتُ مَن أنا نسيتُ أهلي، نسيتُ حَرفي نسيتُ قَلمي وما بقيَ شيْءٌ سواكَ. العشقُ أنتَ نقطةٌ منهُ تكفي نقطةٌ هي الآنَ بالقربِ من عيْنِيَ اليُسرى؛ فوق خدّي ثمَّ فوقَ شفتِي العُليا لا يقرؤها إلّا صاحبُ سِرٍّ وتمكين. قُلْ لي كيف يُصابُ بمَرضٍ مَن شربَ نُقطتكَ بل كيفَ يكفيه بحرُ حرفٍ أو نهرُ حِبرٍ أو غابةُ ورق؟! كلّ الكلامِ اختزَنَتْهُ نقطتكَ وكفى كلُّ الكلام رُشِمَ ورُقِمَ في عشقكَ وحدكَ أنتَ وكفى كلّ الكلامِ صمتٌ لا يُشَفِّرُهُ إلّا صاحبُ عِلم وسُلطان وكفى قُل لي إذن: هل أرفعُ المزلاجَ فالطّارقُ خلفَ الباب والبابُ مغلقةٌ بإحكام؟! (29) أجبني واطفئ لهيب هذا السؤال فقد ظفرتُ أخيراً بسمكَةِ القرش العجيبة، كنتُ أراها دائماً تحومُ حول رأسي وكان رأسي في زجاجة كبيرة وكانت الزّجاجة في سفينة عظيمة وكانت السفينة جثّة في أعماق بحر عجيب وكنتُ أنا أوّل وآخر من نجا مِن الطّوفان المهول أخيراً كسرتُ زجاجة رأسي وخرجتُ من حطام السّفينة وحاربتُ السّمكة المُخيفة وقطعتها بسكّين القلب إلى شطرين رأيتُ دماءَها وسمعتُ خوارها ورميتُها في قدرٍ كبيرة وقدّمتُها لضيوف مازالوا لليوم يخشون سمك القرش الرّهيب فهل أكلتَها أنتَ أيضاً يا سيّدي؟ (30) أجبني واطفئ لهيب هذا السؤال وقل لي: منذُ متى وأنتَ معي؟ أنا لا أعلمُ. مِنْ قصركَ المهيب تُطلّ عليَّ لتقول لي فقط إنّكَ هنا، إلى جانبي. (31) وحدَها عينُ قلبي تقودني إليكَ؛ أنظرُ عميقاً فأجدكَ أنَا. هل أنتَ أسوَد البشرة أيّها الحرفُ الدّرويش، هل هذا لون ثابتٌ أمْ يتغيّر؟ أنتَ أنتَ في جوهركَ لا تتبدّلُ لكنّكَ في عالمي لكَ ألفُ تجلٍّ وتجلٍّ: نحيف البنية طويل القامة ملكيُّ الحضور أحياناً أراك جلجامش وأحياناً أوتنابشتيم أحياناً أنتَ سيدوري وأحياناً أخرى أنتَ حمّورابي ورع ونفرتيتي أحياناً تطلُّ عليّ من تاج محلّ وأحيانا من بابل ومرّاكش وأحيانا تأتيني من أرض دلمون وبالنّقطة ترسمُ بل تخلقُ كلّ شيءٍ بداخلي لكن قل لي لطفاً: منذ متى وأنتَ معي؟ (32) أحياناً أشعرُ وكأنّي أجلسُ إلى يمينكَ أو أنّني أنا الجالسة فوق العرش وأنتَ تحضر أمامي فقط لتقول لي إنّكَ هنا. قل لي ما الّذي يحدثُ الآن؟ أنتَ معي، نعم منذ أن نفختَ فيَ الرّوح لكن مَن أنتَ؟ هل أنتَ النّقطةُ أم الألِف هل أنتَ أنا؟ إذا كان الأمر كذلكَ فأنا في محنة كبيرة يا صاحبي، ولا أعرف لماذا أنا هنا بل لا أعرف إذا كنتُ هنا أو هناكَ فأحياناً أشعرُ أنّني في كلّ مكان، وأنتَ معي تنظرُ إليّ حينما أقوم وحينما أنام. أنا سعيدة الآن لأنّني بتُّ أراك كلَّ يوم وأعرفُ أنّك دائماً معي هذا يشعرني بالثقة والأمان في وحشة الوجود والزّمان. (33) أنا أنثى برزخيّة وما أراهُ لا تراهُ أنثى الطّين جسدي مِن رمْلٍ صقيل ماسيٍّ لا تُشْبِهُ فيه الماسةُ أُختَهَا ويوسُفُ جدّي سُجِنَ لسبع سنواتٍ فقط وعلى الرّغمِ من قصر المُدّة باحَ بالسرّ مقابل التّاج الفرعَونيّ وأنا سُجِنتُ بعدهُ ضعف المدّة ذاتها بألف مرّة أو ربّما أكثر وما بُحتُ بالسرّ: سرّ البقرة والقمح الذّهبيّ وأنتَ من أنتَ أيّها الدّرويش الضّرير؟ (34) هل سُجنتَ مثلي، وهل كتمتَ السرّ مثلي؟ ربّما لا تعلمُ أنّ المرأةَ في سجن النّمرود غير الرّجل يا صاحبي! لقد نزلتُ عميقاً وأنتَ صعدتَ دون أن تنزل أبداً لأجل هذا طريقكَ قصير وهشٌّ وطريقي متين وبعُمر الخليقة أو أكثر (35) تعال إذن أُعَلّمْكَ كيف تنزلُ وتصعد وأروِ لكَ حكايتي: فأنا العشقُ الّذي لا وقتَ له وأنا صاحبة الزّمن وأنا الأرضُ والوطن وأنا النّحامُ الأحمر أجنحتي في رأسي وساقَيَّ، هرمزيّة الرّوح والمعنى ألقطُ بمنقاري في مياه الله سمكَ الأفكار اللّدنيّة وأقفُ على ساقٍ واحدة أنتظرُ قدومكَ بشغفِ عاشقة لا تملّ ولا تضجر تعالَ إذن، أعلّمْكَ كيف تنزل وتصعد. (36) بلْ تعالَ أعلّمْكَ كيف تُصبح خيميائيَّ البلاط الأوْحَد فأنا النّقطةُ والتّاجُ الملكيُّ الأوّل وأنا الكَوْثَرُ والوجهُ الأبيَض تعالَ أُحَوِّلْكَ منْ حجَر ميّتٍ إلى حجَر حيٍّ قبلَ أن تبدأ في بناءِ الهَيْكَلِ والمَخْبَر. (37) أنا الأرضُ التي خلقتَ وملكتَ منذ أن كنتُ نقطةً وكُنتَ تاجاً بل أنا البيتُ الّذي بنيتَ بيَدَيْكَ وقلتَ ستزوره متى ما سمعتَ بحاجَتي إليكَ لكنّني أعترف أنّني لم أعرف يوماً كيف أستقبلكَ؛ تلميذة في العشق أنا وأنتَ جسور تأتي بدون موعد وتقتحمُ الأسوار تأخذني من وجهي فأخاف ولا تريني وجهكَ فأخافُ أكثر فأكثر (38) ولمْ أكُ أعلمُ أنّ عماي يؤذيكَ كنتَ تودُّ لو كنتُ بصيرةً فأراكَ أو كنتُ ذات جلاء سمعيّ فأسمعكَ مازلتُ أحبو يا مولاي وأنتَ مُشتاق جدّاً إليّ تحترقُ من فرط الانتظار أعوام مرّت ومرّت وأنا صمّاء يا ويلي أنا حيواتٌ مرّت ومرّت وأنا عمياء يا ويلي أنا قُل لي، كيف أراكَ دلّني؟ فأنا لكَ: عرفتُ هذا وأنتَ غيور وبأسُكَ شديد: عرفتُ هذا وحدي أنا أُغذّيكَ: عرفتُ هذا تريد أن تكبر، تريد أن تقوى، تريد أن تشتعل، تريد أن تظهرَ لأراكَ لكن كيف السّبيل دلّني؟ (39) وتسألني عن العشق ما هو؟ أنا لا أعرفُ ولا أنتَ فكيف أعبر الطريقَ وأنت مثلي أعمى ويدي بيدكَ؟ ماذا سنفعل ومن يفتح باب العشق يا أنت يا أنا؟ عشقُكَ غريب يا مولاي تُخاطبني بالإشارات والعبارات وتُرْسلُ إليّ القصائد والأغنيّات ماذا سأفعلُ بها هل تريدُ أن أؤلّفَ مثلكَ القصائد أو تريدني أن أمارس معكَ فعلَ الحُبّ؟ (40) هذا أخطر ما سمعتُ في حياتي هل تُدركُ هذا؟ اظهرْ إذن كي أراكَ وانتظرني فأنا على وشكِ الإبصار سأكسّرُ القيود والأغلال وسأعانقُكَ كما تريد وأقَبِّلُكَ كما أريد وأعلنَ بلوغيَ سنّ الرُّشد المطلوب فأنا كما قلتُ لكَ سابقاً مازلتُ صغيرة على العشق والعشقُ خطير يا مولاي: بداياته دموع ونهاياته دموع أيضاً فهل سيحتملُ هذا القلبُ المسكين؟ لن أدعكَ تنتظرُ طويلاً يا حبيبي سأظهرُ لكَ أخيراً وستظهرُ لي بعد طول انتظار يا إِمَامِيَ المحبوب! (41) في غابة البرزخ التقينا غابة القبور والموتى رأيتُ العَطَشَ أفعى تلتفُّ حول رقبتكَ والشّهوةَ ذئباً يأكُلُ ساقيْكَ وحينما سألتُكَ أن تُطلِقَ سراحَ الموتى فرّتِ الأفعى وهرب الذّئبُ وخرجَ الموتى جيوشاً تُقاتلُ الفراغ الفسيح لا شجرة في المكان لا غيمة ولا بئر أنتَ وأنا والموتى في هذا الخواء الرّهيب أيّها الدّرويشُ الكفيف (42) في سماء الغابة تلمعُ نجوم كثيرة سألتُكَ لِمَن هي؟ قُلتَ ضحكات أمّكَ والحروفُ التي كتبتُ عنكَ. والموتى يا صاحبي؟ مَنْ كتبتُ عنهُم قلتَ وأنا أشربُ الدّمع المتهاطل من مُقْلَتَيْكَ (43) في البرزخِ رأيتُكَ تركُضُ كثيراً تبحثُ عن محّ المعنى قُلتَ لي. والأرض يباب، لا بيْض فيها ولا معنى سألتُكَ كم من العمر قضيتَ وأنتَ تجري هكذا في البرزخ كطفلٍ فقدَ أمّهُ؟ قُلتَ، منذ أربعينَ عاماً أو أكثر والسّماء شحيحة والأرضُ يابسة والدنيا جحيم لا ربيع فيها وأنت وأنا في الدّركِ الأسفل منها نحملُ الماءَ لمن يبحثُ عن المعنى. (44) في البرزخ لا ينجو من لا يعرف الموتَ ولا يخرجُ من لا يحمل الماء إلى الجحيم هناك رأينا أصحابَ الحرف والقلم وأرباب الشِّعر والسّرد والنّثر هناك يُصبح الكلام شجراً والشّجرُ زقّوم مُرٌّ أخضر (45) طال الرّكضُ يا صاحبي وطالت سنوات التّيه وطال البكاء والنّحيبُ والنّشيجُ وأنت وأنا مازلنا في البرزخ نقرأ كتاب الخليقة والموتى لا نشيخُ ولا نموت ولا نجوع هو فقط هذا العطشُ العجيب يكبر فينا كلّ يومٍ أكثر فأكثر وكلّما اشتدَّ ركضنا وركضنا وركضنا ركض الكون كلّه أو ربّما أكثر. (46) قل لي متى يأتي النّسرُ الملكيُّ ليُخرِجَنا من هنا؟ جاء شيث وتبعه نوح ثم جاء آخرون غيرهما ولم يحدث بعدُ شيئاً وأنتَ وأنا مازلنا نركضُ ونركض فباللّه أخبرني لماذا يُبالغُ العرفاء في الحديث عن النّعيم؟ ألم يسمعوا نواح نوح وبكاء إبراهيم ونحيب محمّد؟ وهذا البرزخ ألمْ يُسافِرْ بعدُ إليه أحد. (47) الصّحراء في كل مكان والآبار لا ماء فيها ولا عسل ولا نبيذ والشّجرة الوحيدة زقّوم أخضر! لا جواب يا صاحبي هات يدكَ ودعنا فقط نركضْ فمن يدري ربّما يكون لهذا الرّكض الأبديّ نهاية أو باب يُفتحُ على المستحيلات الأربع: الموت والخلاص، وأنتَ وأنا وقد رأيتَني ورأيتُكَ أخيراً وزالتِ الغشاوة وحصلنا على الإذن بتبادل الزيارات في هذا البرزخ العجيب! (48) وحيدة أنا في برزخ الموتى والمقابر يا صاحبي وأنتَ وإنْ معي فأعمى وأصمّ وأبكم وهاهي الآن غيمة تمرُّ بسمائنا بعد سبعين سنة من العطش والانتظار سألتُها الوقوف فأمطَرَتْ طوفاناً: فهل شربتَها مثلي هل غسلتَ بمائها أدرانكَ؟ هل حييتَ بها بعد موت وهل أبصرتَ وسمعت وتكلّمتَ بها؟ (49) آآآه ها قدْ رَأَيْتَني ورأيتُكَ أخيراً يا لهذه الغيمة العجيبة إنّها أمٌّ رحيمة بها اختفتْ شجرة الزقّوم وظهرَ النّسرُ الأحمر وسقطَ فوقَ أرضنا اليباب ريشه الذّهبيّ وتحتَ كلّ ريشة نبتتْ شجرة: شجرة للمقبرة وهي دفلى الغياب والعتاب وشجرةٌ لكَ وتحتها يجلسُ ابن سيرين وحوله المريدون طوفاناً من البشر وشجرةٌ لي وتحتها يجلسُ يوسُف وأنا وحدي حوله عارفة لا تعرفُ شيئاً! (50) في الأربعين من عمري فقدتُ عقلي أقصدُ أنّني جُنِنْتُ جنوناً عِرفانيّاً محضاً: أضعتُ الطّرقات كلّها ولا أعرفُ كيف بتُّ كلّما رَكبتُ حافلة أو طائرةً تاهتْ في الأرض أو السّماء آخر حافلة ركبتُها كانتْ قبل يوميْن؛ حينما صعدتُ كان الوقت فجراً وكان الظّلامُ شديداً وكان الدّليلُ الرّقميُّ لا صوتَ لهُ وفي كلّ محطّة كان يقف فيها السّائقُ كنتُ لا أرى ما أمامي من شدّة العتمة فالسّائقُ أعمى وأنا عمياء والرّكاب كذلكَ والحافلة تمضي بنا لا نعرفُ إلى أينَ الشيءُ الوحيد الّذي كنتُ أعرفه أنَّ المحطّة الأخيرة هي برزخ المقابر والموتى هناكَ سننزلُ جميعاً وسيدلف كلّ إلى حفرته هل رأيتَ جنوناً عرفانيّاً أكثر من هذا؟! (51) الجنون عقل في أرض الدّراويش وأرضي اليوم لا زقّوم فيها هي شجرة واحدةٌ اسمها زيْنب زينبُ، أيّتُها السِّرُّ الخطيرُ، منذُ كنتُ بذرةً في رحمكِ أعلنتِ الشّياطينُ عليَّ الحرب ووحدهُم ملوكُ الجِنِّ الأنبياءِ وقفوا في ساحة الوغى لمحاربةِ السَّحَرة الأعداء وحدهُم ساندوني، أنا الرّضيعة آنذاك وبذرة النّور العظيم الحارق! إذا سألكِ الإِنسُ عنّي يا زينب فقولي لهم إنّني ابنةُ الجنِّ خطفني نبيُّهُم الأكبَر وفي بلاطه رضعتُ الحليبَ اللّدنيّ وتعلّمتُ كيف أحبلُ من أذُنَيَّ. ربّما لا يعرفُ الدّراويشُ أنّ العذراوات يحبلن من آذانهنَّ البرزخيّة؛ حينما سمعتُ صوتَ الله أصبحتِ الكلمةُ ابنتي الوحيدة فقد خُلِقْتُ من أجلها، وبها لليوم أرقُم وحيَكِ السّرمديُّ يا زينبُ، يا مَلكتي الخالدة ويا شجرة الحُسن التي أجلسُ تحتَ ظلّها الوارفِ ابتسِمي، فأنا هناكَ من بلاط أبِي النبيِّ الخفيِّ أرى مُلكَكِ العظيم فيبتهجُ قلبي وتدمعُ عيني. (52) ابتسمي، فالموتُ يُرَفرفُ حول رأسكِ ورأسي والموتُ بشارة بقرب اللّقاء الموتُ نبيّ ذو سلطان وحكمة وبيان أخذَ الآمال كلّها وعاد لي من أرض الخوف بوشاح تُطرّزانه السّكينةُ والطّمأنينة الموتُ غيمة مطرها دموع وأنتِ وأنا بكينا كثيراً يا زينبُ يا سرّي الخطير والدّمعُ نور يحرقُ الأسقام كلّها ويؤذن بالدّخول إلى الحضرة الكبرى حضرة الحبيب صاحب النّقطة بين الحاجبَيْن فهيّا قومي يا زينب ودعيني ألبسْ رداءَكِ الملكيّ لننزلَ إلى الأقبية الخطيرة ونحمل النّور سيفاً نُقارعُ به الأعداء (53) تعالي يا سيّدتي ومليكتي فجِنُّ النّور وجِنُّ النّار كلاهُما جيشاً تحت إمرتنا تعالي فقد بدأتِ الحربُ الكُبرى والنّصرُ المُبين على الأبواب. (54) زينبُ بكِ أرفعُ ستارَ الحَجْبِ فأراني في البلاط الإلهيّ وأسمعُ كلام العشق مِن فيه الرّحمن مباشرةً بل بكِ أصبحُ جريئة في البوح وبكِ أبلغُ في العشق سدرة المنتهى فأقول ما لا يقوله العاشقون: أنا حبيبة الله أنا في البلاط أرفرفُ حول العرشِ وليستْ هذه جنّةٌ إنّما الجنّةُ خارجَ البلاط وأنا في الدّاخل لا في الخارج أنا في الله به ومنه وإليه أنا عاشقة مجنونة والجنون حدُّ العقل الأقصى والعقلُ قلبٌ يرى وأنتِ روح القلب يا زينب هيّا ارفعي مزيداً من السُّتُر فمن يدري ربّما غداً أقول: إنّني هو. (55) نعم أنا هو وجهٌ يرى نفسَه في مرآة الحقِّ واسم أعظمٌ لا يُنطقُ بين الخَلق وأنا بين البشَرِ وفوقهم وتحتهم وأمامهم وخلفهم وحولهم أنا في كلّ مكان ولا يحدّني زمان لذا فمَن يعرفُني يراني ويسمعني لا تفصلُ بيني وبينه الجدران ولا المسافات ولا الجبال ولا الصحارى ولا البحار يا زينب ارفعي عصا الفرقان وشقّي بها البحر والقمر فأنا هناك مازلتُ أنظرُ إليكِ فأرى ما لا يراه صديقي الدّرويش (56) تعالَ أيّها الدّرويشُ وحدها زينبُ تجمعنا تعالَ وضع رأسكَ على رأسي ووجهَكَ في وجهي ويدكَ في يدي وقلبكَ في قلبي تعال واركض معي، ففي ذاك النّفق شعاع من الضّوء يقود إلى بلاط الحبيب أنا هناكَ؛ أنتَ رأيتني وأنتَ هناك؛ أنا رأيتُكَ فلماذا مازلتَ هُنا واقفاً تطلبُ يدي أنا لكَ وأنتَ لي قِراناً عرفانيّاً حصل منذ بدء الخليقة وكفى هل مازلتَ تطلبُ المزيد؟! (57) أتى العشقُ في وقته الصّحيح يا صاحبي وزينبُ بابه الكبير لا سؤال في حضرتها إنّما عيون هطّالة بالدّموع والشّموع تحرقُ الأصابع والصّمتُ لغة القلب والمطر يجري من سماء حمراء تنبضُ العروق بكَ أيّها العاشقُ الخطير أنصت إلى زينب إذن فالسّاعة الرّمليّة بين يديها والوقت قد حان والحبيب خلف السّتارة ارفعها بيدكَ لنرى المُعلّم العظيم ونجلس أخيراً في حضرته فالعشق لا يأتي إلّا في وقته الصّحيح تقول زينب والرّسالة اليوم واضحة أكثر من أيّ زمنٍ مضى.
#أسماء_غريب (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
الكاتب-ة لايسمح
بالتعليق على هذا
الموضوع
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
بائعةُ الثّعابين
-
الشّجرةُ الشّافيّة (حكاية فلاديمير ميغري وأناستازيا)
-
حلمٌ هيروغليفيّ: شارل بودلير وأقماره السّودُ
-
جثّة في المرآة: بول فيرلين وآرثر رامبو: قراءة عرفانية جديدة
...
-
جُثّةٌ في المرآة / بول فيرلين وآرثر رامبو: قراءة عرفانيّة جد
...
-
رأسي في الدّلو
-
الهدهد يبني ويهدم: ميتاسرديّات الخاتم السّليمانيّ في رواية (
...
-
سَفَر على بساط الفِكْر في مملكة سليمان (ع): قراءة في رواية (
...
-
أنا النّقطة (رواية)
-
العارفة الأخيرة (رواية)
-
السيّدة كُركُم (رواية)
-
أكلتُ الشّمس (قراءات في روايات صقليّة) (2)
-
أكلتُ الشّمسَ (قراءات في روايات صقليّة) 1
-
قراءات عرفانيّة في فكر عبد الجبّار الرّفاعي
-
في الشرّ وقضاياه
-
تجليات الجمال والعشق عند أديب كمال الدين / الفصول الأخيرة
-
تجليات الجمال والعشق عند أديب كمال الدين / الفصلان الثاني وا
...
-
ترجمة (عشق سرّي / حكاية إينيسّا ولينين) لريتانّا أرميني (3)
-
تجليات الجمال والعشق عند أديب كمال الدين / الفصل الأول (2)
-
ترجمة (عشق سرّي / حكاية إينيسّا ولينين) لريتانّا أرميني (2)
المزيد.....
-
بعد جماهير بايرن ميونخ.. هجوم جديد على الخليفي بـ-اللغة العر
...
-
دراسة: الأطفال يتعلمون اللغة في وقت أبكر مما كنا نعتقد
-
-الخرطوم-..فيلم وثائقي يرصد معاناة الحرب في السودان
-
-الشارقة للفنون- تعلن الفائزين بمنحة إنتاج الأفلام القصيرة
-
فيلم -الحائط الرابع-: القوة السامية للفن في زمن الحرب
-
أول ناد غنائي للرجال فقط في تونس يعالج الضغوط بالموسيقى
-
إصدارات جديدة للكاتب العراقي مجيد الكفائي
-
الكاتبة ريم مراد تطرح رواية -إليك أنتمي- في معرض الكتاب الدو
...
-
-ما هنالك-.. الأديب إبراهيم المويلحي راويا لآخر أيام العثمان
...
-
تخطى 120 مليون جنيه.. -الحريفة 2- يدخل قائمة أعلى الأفلام ال
...
المزيد.....
-
مختارات من الشعر العربي المعاصر كتاب كامل
/ كاظم حسن سعيد
-
نظرات نقدية في تجربة السيد حافظ الإبداعية 111
/ مصطفى رمضاني
-
جحيم المعتقلات في العراق كتاب كامل
/ كاظم حسن سعيد
-
رضاب سام
/ سجاد حسن عواد
-
اللغة الشعرية في رواية كابتشينو ل السيد حافظ - 110
/ وردة عطابي - إشراق عماري
-
تجربة الميج 21 الأولي لفاطمة ياسين
/ محمد دوير
-
مذكرات -آل پاتشينو- عن -العرّاب-
/ جلال نعيم
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
المزيد.....
|