|
غواتيمالا – في ذكرى الإنقلاب على الرئيس -جاكوبو آربينز-
الطاهر المعز
الحوار المتمدن-العدد: 8038 - 2024 / 7 / 14 - 12:21
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
نشر تشارلز ديفيد كيبنر و جاي هنري سوثيل سنة 1935 كتابًا بعنوان: "إمبراطورية الموز: دراسة حالة للإمبريالية الاقتصادية"، وهو نقد اجتماعي واقتصادي رائد لنموذج الأعمال الإمبريالي لشركة يونايتد فروت (شركة الفواكه المتحدة ) – التي تَغَيَّرَ إسمها إلى "تشيكيتا" – وهي معروفة باسم "إل بولبو" (الأخطبوط) وكانت تُسيطر آنذاك على نحو 40% من الأراضي الصالحة للزراعة في غواتيمالا ومُعفاة من الضّرائب والرُّسُوم الجمركية، وَ وَرَدَ في الكتاب: "إن الشركة "استفادت من النظام الجائر لحيازة الأراضي الذي تسبب في تعفن الوضع في ريف غواتيمالا – وبلدان أخرى - فخنقت المنافسين وهيمنت على الحكومات وقَيّدَت السكك الحديدية ودمرت المزارعين وخنقت التعاونيات وفرضت سيطرتها على العمال وحاربت كل أشكال تنظيمهم واستغلت المستهلكين" ولما حاول الرئيس المنتخب ديمقراطيا جاكوبو أربينز (1913 – 1971) والذي حكم من 1951 إلى 1954، تطبيق برنامجه ووعوده الإنتخابية ومن بينها تنفيذ إصلاح زراعي أقره الكونغرس الغواتيمالي في حزيران/يونيو 1952، وصدر مرسوم لإعادة توزيع الأراضي غير المستخدمة مع مصادرة الأراضي المملوكة لكبار ملاك الأراضي لاستخدامها في برنامج توزيع الأراضي على مستوى البلاد، تمت الإطاحة به من خلال انقلاب نفّذته وكالة الإستخبارات المركزية الأمريكية بواسطة عُملائها في الجيش المَحَلِّي يوم السابع والعشرين من حزيران/يونيو 1954، وعُرفَتْ تلك المؤامرة مؤامرة باسم "عملية بي بي سي سكسيس"، التي أطلقها الرئيس الأميركي دوايت د. أيزنهاور خلال شهر آب/أغسطس 1953 وأدارها كارلوس كاستيلو أرماس، القائد العسكري اليميني الذي أطاح بأربينز بأموال من وكالة المخابرات المركزية وشركة يونايتد فروت التي كانت ولا تزال تستغل آلاف العاملين في زراعة الموز في أمريكا الجنوبية ويُعاني العاملون من غياب الحقوق ومن ظروف العمل السيئة والرواتب الهزيلة ومن المبيدات الحشرية الخطيرة على الصحة، والثعابين السامة والبعوض الناقل للأمراض والرطوبة القاتلة...
كان مشروع الرئيس يعقوب أربينز مُتعارضا مع المشروع الجيوسياسي للإمبريالية الأمريكية ( المُسمّى "مبدأ مونرو") الذي يعتبر أمريكا الوُسطى امتدادًا طبيعيا وجزءًا من مناطق النُّفُوذ الحَصْرِي للولايات المتحدة، ويتضمّن مشروع الرئيس آربينز إعادة الأمل لآلاف من الفلاحين الذين لا يملكون أرضًا والعمال الجائعين ومجموعات السّكّان الأصليين الذين اضطرّوا إلى النّزوح عن موطنهم، وذلك من خلال مُصادرة الأراضي غير المستخدمة والمملوكة لكبار ملاك الأراضي، وإعادة توزيعها على أكثر من مائة ألف أُسْرة ريفية، ضمن برنامج وطني للإصلاح الزراعي، بِدَعْمٍ من اليسار السياسي والنقابات العمالية والحركات الاجتماعية في غواتيمالا التي ناضلت من أجل هذه الأهداف، وفق تقرير رُفِعت عنه السّرّيّة أصدَرَتْه السفارة الأمريكية في أيار/مايو 1951، لكن الإصلاح الزراعي يتعارض مع مصالح شركة "يونايتد فروت" التي لا تهتم بظروف عمل الفلاحي، بل بمستوى الأرباح الصّافية، وكانت تحظى بدعم الرأسماليين الأميركيين ووزارة الخارجية الأميركية والإستخبارات، وكانت أميركا الوسطى ملاذًا للمشاريع الأميركية و"حصناً منيعاً ضد الشيوعية الملحدة"، وفق مجلس الكنائس المَحَلِّي الذي دعم الحكومات المدعومة من الولايات المتحدة والتي استمرت في حكم غواتيمالا حتى منتصف تسعينيات القرن العشرين، وساندت الحملات العسكرية واسعة النطاق التي شنتها هذه الحكومات ضد معارضيها السياسيين ـ سواء من المجموعات المسلحة أو من زعماء النقابات العمالية المستقلة، ومارست سياسة الإبادة الجماعية ضد السكّان الأصليين من خلال مخططات البنك العالمي وبنك التنمية للبلدان الأميركية، وتمويل مشاريع التعدين والسدود الكهرومائية على أراضي شعب "المايا"، وتأمين أرباح شركة "يونايتد فروت"، وجرى القمع والإبادة والإستغلال والإضطهاد في ظل تعتيم إعلامي تام، وأورد الصحافي والكاتب الأمريكي "غريغ غراندين" في كتابه بعنوان "آخر مذبحة استعمارية بأمريكا الجنوبية خلال الحرب الباردة" إن وكالة الإستخبارات المركزية الأمريكية طلبت من الصحف الأمريكية الكُبْرى عدم إرسال مُراسلين إلى الرّيف عقب الإنقلاب الذي أَطاحَ بالرئيس يعقوب آربينز، لأن معظم السّكان مُؤَيِّدُون له ولبرنامج الإصلاح الزراعي، ولم تنته المجازر بعد الإنقلاب بل تواصلت في مزارع الموز ردًّا على مطالب النقابيين بتحسين ظروف العمل، كما استمرت في شكل حرب أهلية حتى سنة 1996، قُتِلَ خلالها ما لا يقل عن مائتي ألف شخص، فضلا عن الآلاف من حالات الإختفاء القَسْرِي...
تمت الإطاحة بالرئيس يعقوب آربينز لأن برنامجه الذي يهدف تحسين وضع الفلاحين يتعارض مع توقعات الأرباح التي صَمَّمَتْها شركة يونايتد فروت، ومع "مبدأ مونرو" ( 1823) الذي يريد إبقاء أمريكا الوُسطى منطقة نفوذ حصْرِي للولايات المتحدة، ما يُشير إلى السياسة التّوسُّعِيّة والهيمنيّة المُبَكِّرة للإمبريالية الأمريكية، وفق ما أورده الصحافي والكاتب إدواردو غاليانو في كتابه " الشرايين المفتوحة لأميركا اللاتينية: خمسة قرون من نهب قارة" . أما كيث فهو رجل أعمال كلّفته حكومة كوستاريكا، خلال سبعينيات القرن التاسع عشر بإنشاء خط سكة حديد عابر للحدود الوطنية لنقل الموز ومحاصيل المزارع الكُبْرى - التي تم إطلاقها على نطاق واسع - بين المزارع والموانئ البحرية، وتمكّن ماينور سي كيث من خلال مشروع السكة الحديدية، من الإستحواذ على مساحات كبيرة من الأراضي في هندوراس وغواتيمالا، وتم تخصيص هذه الأراضي لإنتاج الموز، وفي هذا المناخ تأسّست شركة الفواكه المتحدة (United Fruit Compagny ) إثر اندماج الشركة التي كان يمتلكها رجل الأعمال الأمريكي ماينور سي كيث مع شركات أمريكية أخرى، سنة 1889، تجسيدًا لمبدأ مونرو للعام 1823، الذي نص على أن القارة الأمريكية منطقة نفوذ حيوي وحَصْرِي للولايات المتحدة، ولا ينبغي لأي قوة أوروبية أن تُخطّط لأي مشروع استعماري في المنطقة أو لأي مشروع قد يُعَرْقِلُ المصالح الأميركية في النصف الغربي من الكرة الأرضية...
تأسّست شركة الفواكه المتحدة (يونايتد فروت) وازدهرت وأصبحت ذات نفوذ اقتصادي وسياسي كبير في أمريكا الوُسطى والجنوبية بفعل رشوة ضُبّاط الجيش والحكومات ورجال السياسة، وكذلك زعماء المليشيات وقُطّاع الطُّرُق للإستيلاء على الأراضي الزراعية المملوكة للشعوب الأصلية ولاستغلال المزارعين والعُمّال، وأسّست الشركة جهازًا عسكريًّا يحمي مصالحها ومصالح الإمبريالية الأمريكية...
تمتعت شركة الفواكه المتحدة (يونايتد فروت أو تشيكيتا حاليا) بالحصانة طيلة سبعة عُقُود أو أكثر، وفي الذكرى السبعين للانقلاب العسكري المدعوم من الولايات المتحدة والذي أطاح بيعقوب أربينز في غواتيمالا، اعتبرت هيئة مُحَلَّفِين في قضية مدنية في المنطقة الجنوبية من فلوريدا، في حزيران/ يونيو 2024، أن شركة "تشيكيتا براندز" مسؤولة عن تمويل مليشيات ومجموعات شبه عسكرية يمينية متطرفة، ارتكبت جرائم وانتهاكات لحقوق الإنسان خلال الحرب الأهلية التي استمرت نصف قرن في كولومبيا، واعتبرت هيئة المُحَلَّفِين إن لشركة تشيكيتا ( يونايتد فروت سابقا) علاقات وطيدة مُوثّقَة بالحُجَج مع هذه المليشيات التي تُسلحها وتُدربها الإستخبارات الأمريكية، ومن بينها مجموعات أصبحت تعتبرها الولايات المتحدة والإتحاد الأوروبي (بعد انتهاء مهامها) "منظمات إرهابية"، وأمرت المحكمة شركة تشيكيتا براندز بتسديد 38,3 مليون دولارا إلى عائلات ثمانية من ضحايا المليشيات في كولومبيا، وقد يؤدّي هذا الحُكْم إلى إثارة العديد من القضايا الأخرى المُعَلَّقَة التي حاولت إثبات الروابط بين نظام الحكم في كولومبيا (المدعوم من الولايات المتحدة وأوروبا) والمليشيات الإرهابية اليمينية المتطرفة، خصوصًا خلال فترة حُكْم الرئيس السابق ألفارو أوريبي، ذي العلاقات الجيدة مع رأس المال الأمريكي...
تجدر الإشارة إلى تأسيس شركة يونايتد فروت "رأسمالية الموز" في كولومبيا ( كما الحال في غواتيمالا) حيث تظاهر ضدّها أكثر من ثلاثة آلاف من عُمّال مزارع الموز في شوارع مدينة سيجانا ( كانون الأول/ديسمبر 1928) على سحل بحر الكاريبي، بإشراف اتحاد عمال ماغدالينا احتجاجًا على ظروف العمل وانخفاض قيمة الرواتب، وبدل الحوار مع المضربين اتهمتهم شركة يونايتد فروت وحكومة ووسائل إعلام الولايات المتحدة بأنهم "شيوعيون"، يُعرقلون فُرص الإستثمار الأمريكية وتدفُّقَ السّلع الرخيصة القادمة إلى الولايات المتحدة من غواتيمالا وكولومبيا وكوبا وجمهورية الدومينيكان وهايتي وهندوراس ونيكاراجوا، وفنزويلا، وتقع جميع هذه البُلدان تحت السيطرة العسكرية المباشرة لسلاح البحرية الأميركية، ومكّنت هذه الهيمنة العسكرية شركة يونايتد فروت من ممارسة الضُّغُوط الشّديدة على الجيش الكولومبي الذي أطلق النار على العُمّال المُضربين وقتل أكثر من ألف عامل، وفق برقية السفير الأميركي في بوغوتا، جيفيرسون كافري، وكانت فظائع هذه المجزرة المُسمّاة "مجزرة الموز" والنفوذ الأمريكي المتزايد، أحد مواضيع رواية "مائة عام من العزلة" التي نَشَرها الكاتب الكولومبي غابريال غارسيا ماركيز سنة 1967، واعتبرها عملا إجراميا للمحافظة على المصالح الأميركية التي تتطلب عرقلة الإصلاح الزراعي، وبرامج والرعاية الاجتماعية الشاملة وتنظيم النقابات العمالية، وكتب المؤلف المسرحي البريطاني هارولد بينتر سنة 1996: "لم يحدث شيء قط، وحتى أثناء حدوثه لم يحدث، ولم يكن للأمر أي أهمية... كانت جرائم الولايات المتحدة في جميع أنحاء العالم منهجية ومتواصلة وناجعة ولا هوادة فيها وموثقة بالكامل ولكن لا أحد يتحدث عنها".
بعد مرور حوالي قَرْن (96 سنة) على "مجزرة الموز" في كولومبيا، وبعد سبعين سنة على انقلاب غواتيمالا، بدأ الكشف عن بعض الحقائق بشأن التّدخّل الأمريكي المُباشر في أمريكا الوسطى والجنوبية، بمناسبة الإجراءات القانونية الجارية ضد الرئيس السابق ألفارو أوريبي، وربما يتم الكشف عن خطورة الدور الذي لعبته شركة الموز الأمريكية العملاقة في جنوب القارة الأمريكية، بالتعاون مع الحكومة والجيش والإستخبارات الأمريكية...
#الطاهر_المعز (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
متابعات، نشرة أسبوعية – العدد الثمانون، بتاريخ الثالث عشر من
...
-
كوريا الجنوبية - بعض خفايا -المُعجزة- الإقتصادية
-
انطباعات وملاحظات عن انتخابات فرنسا
-
سويسرا – الإستعمار -النّاعم- والعُنْصُرِية -المُقَنَّعَة-
-
أوروبا - مخاطر الفاشية
-
متابعات، نشرة أسبوعية – العدد التاسع والسّبعون، بتاريخ السّا
...
-
فرنسا - اليمين المتطرف: الإبن الشّرعي للرأسمالية
-
عرض كتاب - -مجموعة بيلدربيرغ، نخبة القوة العالمية- - 2014
-
فرنسا عشية الإنتخابات المبكرة 2024
-
متابعات، نشرة أسبوعية – العدد الثامن والسّبعون، بتاريخ التاس
...
-
نوعام شومسكي- صَنََمٌ في مجالات الألسُنِيّة والسياسة
-
متابعات، نشرة أسبوعية – العدد السّابع والسّبعون، بتاريخ الثا
...
-
الولايات المتحدة الأمريكية – دولة مارِقَة
-
اليمين المتطرف الأوروبي والصهيونية، نفس المعركة ضد نفس الأعد
...
-
الحرب بسلاح التّضليل
-
كاميلا رافيرا 1889 – 1988 امرأة شيوعية إيطالية لم ينصفها الت
...
-
من التُّراث الدّموي لألمانيا الإستعمارية
-
متابعات، نشرة أسبوعية – العدد السّادس والسّبعون، بتاريخ الخا
...
-
فرنسا غداة الإنتخابات الأوروبية
-
الإنتخابات الأوروبية – إجْراء شَكْلِي الجزء الثاني
المزيد.....
-
رئيس وزراء اليابان يخطط لزيارة الولايات المتحدة ولقاء ترامب
...
-
ترامب يعلق على تحطم الطائرة في فيلادلفيا: المزيد من الأرواح
...
-
الدفاعات الروسية تسقط 9 مسيرات أوكرانية غربي البلاد وتدمّر ز
...
-
-فوكس نيوز-: إيران تخفي تطويرها النووي تحت ستار برنامج فضائي
...
-
استخباراتي أمريكي سابق يتحدث عن حرب مع المكسيك -قد تتحول إلى
...
-
OnePlus تكشف عن هاتفها الجديد ومواصفاته المميزة
-
اكتشاف ارتباط بين النظام الغذائي وسرعة الشيخوخة البيولوجية
-
أول هجوم على قوات الاحتلال منذ بدء توغلها في سوريا
-
مجلس الأمن يدين هجمات الدعم السريع في دارفور
-
جامعة أميركية تعلق عمل مجموعة مؤيدة لفلسطين عامين
المزيد.....
-
الخروج للنهار (كتاب الموتى)
/ شريف الصيفي
-
قراءة في الحال والأداء الوطني خلال العدوان الإسرائيلي وحرب ا
...
/ صلاح محمد عبد العاطي
-
لبنان: أزمة غذاء في ظل الحرب والاستغلال الرأسمالي
/ غسان مكارم
-
إرادة الشعوب ستسقط مشروع الشرق الأوسط الجديد الصهيو- أمريكي-
...
/ محمد حسن خليل
-
المجلد العشرون - دراسات ومقالات- منشورة بين عامي 2023 و 2024
/ غازي الصوراني
-
المجلد الثامن عشر - دراسات ومقالات - منشورة عام 2021
/ غازي الصوراني
-
المجلد السابع عشر - دراسات ومقالات- منشورة عام 2020
/ غازي الصوراني
-
المجلد السادس عشر " دراسات ومقالات" منشورة بين عامي 2015 و
...
/ غازي الصوراني
-
دراسات ومقالات في الفكر والسياسة والاقتصاد والمجتمع - المجلد
...
/ غازي الصوراني
-
تداخل الاجناس الأدبية في رواية قهوة سادة للكاتب السيد حافظ
/ غنية ولهي- - - سمية حملاوي
المزيد.....
|