|
رواية للفتيان الفتاة الغزالة طلال حسن
طلال حسن عبد الرحمن
الحوار المتمدن-العدد: 8037 - 2024 / 7 / 13 - 14:23
المحور:
الادب والفن
رواية للفتيان
الفتاة الغزالة
طلال حسن
شخصيات الرواية ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1 ـ الملك 2 ـ الملكة 3 ـ الأمير رامانا 4 ـ الغزالة شاكنتالا 5 ـ الحكيم 6 ـ الحارس بهشو
" 1 " ــــــــــــــــــــــ قبيل غروب الشمس ، والجو معتدل ، خرج الملك والملكة ، على عادتهما في الأيام الأخيرة ، يتجولان وحدهما في حدائق القصر . وتمنت الملكة ، بينها وبين نفسها ، لو أن ابنها الأمير رافانا صحبهما في هذه الجولة ، لكنه ـ كما تعرف الملكة ـ مشغول إما بقراءة كتاب ، أو رسم لوحة عن الطبيعة ، أو .. وهذا الأغلب .. يدلل غزاله . ورمقت الملكة الملك بنظرة خاطفة ، وقالت بصوت حالم : مولاي تاراكا . وابتسم الملك تاراكا ، وقال : الأمير رافانا .. وصمتت الملكة مبتسمة ، فتابع الملك قائلاً : تريدين أن نزوجه . وتوقفت الملكة قائلة : أنت تقرأ أفكاري . وضحك الملك تاراكا ، وقال : هذا ما أريده أنا أيضاً ، لكن الأمير مازال صغيراً . واحتجت الملكة قائلة : أنت عندما تزوجتني ، لم تكن أكبر منه . فتطلع الملك إليها ، وقال : أنا كنت مجبراً . ونظرت الملكة إليه متسائلة ، فتابع الملك قائلاً : أجبرني جمالك ، الذي لا يقهر . وسارت الملكة مغالبة ابتسامتها الفرحة ، وقالت : آه منكَ ـ لم أغلبك ، ولن أغلبك . وتوقفت عند مقعد ، تحت شجرة وارفة ، وقالت : لنجلس هنا قليلاً . وجلس الملك والملكة صامتين ، تحت الشجرة الوارفة ، لكن حلمها في أن ترى ابنها الأمير يتزوج ، لم يصمت ، وظل يتململ في أعماقها . وأفاقت الملكة ، على الملك يخاطبها قائلاً : انظري .. ونظرت الملكة ، وأشرق وجهها بالفرح ، وقالت : الأمير رافانا . فتابع الملك قائلاً : جاء ومعه غزاله . وابتسمت الملكة ، وقالت بحماس : لن أزوجه إلا بفتاة كالغزالة . واقترب الأمير رافانا منهما ، وقال : أبي ، أريد أن أخرج إلى الصيد . وشهقت الملكة بين الفرح والخوف قائلة : الصيد ! والتمعت عينا الملك ، وقال : هذا ما كنت أعرضه عليك ، كلما خرجت إلى الصيد ، لكنك كنت ترفض . وقال الأمير رافانا : أريد أن أصطاد وحدي . وصمت الملك لحظة ، ثم قال : كما تشاء ، سأرسل معك أشدّ حراس ، و .. فقال الأمير : لن آخذ سوى حارسي بهشو .. وقالت الأم : وعشرة حراس .. فقال الأمير رافانا : أختارهم بنفسي . وقبل أن يردّ الملك بشيء ، مضى الأمير عائداً إلى القصر ، وهو يقول : سأذهب غداً مع الفجر . ونظرت الملكة خائفة قلقة إلى الملك ، وقالت : تاراكا . فردّ الملك قائلاً : لا تقلقي ، ابننا يكبر .
" 2 " ــــــــــــــــــــ أوى الأمير رافانا إلى غرفة نومه مبكراً ، فمع فجر الغد سيذهب إلى الغابة للصيد ، يرافقه حارسه بهشو ، ومعهما عشرة حراس أشداء . وقبل أن يندس في فراشه ، سمع طرقاً على الباب ، ورفع رأسه ، ترى من القادم ؟ لقد أوصى جميع خدمه ، وحارسه بهشو ، أن لا يسمحوا لأحد ، مهما كان السبب ، أن يوقظه من نومه ، حتى صباح اليوم التالي . لم يُطرق الباب ثانية ، وإنما فتح قليلاً وبرفق شديد ، ولمح الأمير أمه الملكة خارج الغرفة ، فأسرع إليها قائلاً : أهلاً أمي ، تفضلي بالدخول . ودخلت الملكة ، وهي تتطلع إليه ، فقال رافانا : خيراً أمي .. وقاطعته الملكة قائلة : اطمئن ، لا شيء . وصمتت لحظة ، فقال رافانا : أرجو أن يكون أبي بخير ، يا أمي . ومدت الملكة يديها ، وأمسكت يديه ، وقالت : كلنا بخير ، اطمئن يا بنيّ ، جئتُ أودعك . وتنهد رافانا بارتياح ، وقال مبتسماً : أخفتني يا أمي ، لا تقلقي ، كلّ ما في الأمر ، إنني سأذهب غداً إلى الصيد ، في الغابة . فقالت الملكة : ستذهب وحدك إلى الغابة . فقال رافانا : لستُ وحدي ، معي حارسي بهشو ، وعشرة من الحراس الأشداء . وقالت الملكة : مهما يكن ، فهذه الغابة مليئة بالحيوانات المخيفة الكاسرة . فقال رافانا مطمئناً أمه : الحيوانات المخيفة الكاسرة ! أنت تعرفين ، يا أمي ، إن هذه الغابة خالية من الأسود والنمور والدببة . واعترضت الملكة قائلة : لكن فيها ذئاب وضباع وأفاعي و .. ومدّ رافانا يديه ، وأخذ أمه الملكة إلى صدره ، وقال : اطمئني ، فلن أقرب غير الأرانب ، وربما الثعالب أيضاً ، والطيور غير الجارحة .. وصمت لحظة ، ثم قال : والحقيقة إنني أريد أن أصطاد .. غزالة ، غزالة فتية فقط . ونظرت الملكة إليه ، وقالت : لكن لديك غزالك . وابتسم رافانا ، وقال : غزالي ذكر . وابتسمت الملكة بدورها ، وقالت متسائلة : وتريد له .. غزالة ؟ فهزّ رافانا رأسه ، فربتت الملكة على صدره ، وقالت : وهذا ما أريده لك أيضاً . فردّ رافانا قائلاً : إذا وجدتُ غزالة تصيدني . وقبل أن تخرج الملكة ، وتذهب إلى جناحها ، عانقت رافانا ، فقال لها : قولي لأبي الملك ، أن لا يرسل جنوده في أعقابي ، فأنا لم أعد صغيراً .
" 3 " ــــــــــــــــــــ أفاق الأمير رافانا ، في اليوم التالي ، عند الفجر ، وهذا ما قرره منذ الليلة الماضية ، فنهض بسرعة من فراشه ، وراح يرتدي ملابسه ، التي سيذهب بها للصيد في الغابة . وبدأ يستعجل قليلاً ، فحارسه بهشو ، وحراسه العشرة ، الذين اختارهم بنفسه ، يقفون الآن إلى جانب خيولهم النشيطة ، متأهبين لمرافقته في رحلة الصيد الأولى هذه ، في الغابة البعيدة . وانتبه رافانا إلى طرق خافت على الباب ، وفكر أنه حارسه بهشو ، ربما جاء ليتأكد من استيقاظه ، وفتح الباب بهدوء ، وبدل الحارس الشخصي ، لاح الملك عند باب الغرفة . وعلى الفور ، أسرع رافانا إليه ، وقال ، أبي .. وقاطعه الملك قائلاً : أردتُ أن أراك ، قبل أن تخرج إلى رحلتك الأولى للصيد في الغابة . وقال رافانا : لم أشأ أن أوقظك ، فقد ودعتك البارحة مع أمي في حديقة القصر . ونظر الملك إليه ، ثم قال : لا أدري ، يا بنيّ ، إنني لستُ مرتاحاً تماماً لرحلة الصيد هذه ، ربما لأنك ستذهب فيها وحدك . فردّ رافانا قائلاً : لستُ وحدي ، يا أبي ، فمعي حارسي بهشو ، وعشرة حراس أشداء . ولاذ الملك بالصمت ، وإن بدا غير مرتاح ، فقال رافانا : أبي ، إن حراسي ينتظرونني الآن ، على خيولهم ، خارج القصر .. وبقي الملك صامتاً ، فمدّ رافانا يديه ، وعانق أباه وهو يقول : لم أعد صغيراً ، يا أبي ، ورحلتي لن تدوم سوى أيام قلائل . وربت الملك على كتفه ، وقال : دعني أرافقك حتى الباب الخارجي للقصر ، يا بنيّ . فقال رافانا : لا يا أبي ، الجو بارد في الخارج الآن ، نحن مازلنا في الفجر . وتوقف الملك ، وقال : كما تشاء ، يا بنيّ . وتراجع رافانا نحو الباب ، وهو يقول : تحياتي إلى أمي الملكة الحبيبة . فقال الملك مغالباً تأثره : رافقتك السلامة .
" 4 " ــــــــــــــــــــ انطلق الأمير رافانا على حصانه ، والفجر يطل من وراء الأفق ، متجهاً نحو الغابة البعيدة ، ووراءه مباشرة حارسه بهشو ، وحراسه العشرة . وخلال الطريق ، لم يكن الأمير وحيداً ، وهو يقطع التلال والسهول والجداول ، فقد كانت معه أمه وأبوه ، وشعور غامض ، كأنه أثر حلم ، عاشه في المنام ، ثم نسيه حين أفاق ، يشده إلى الغابة البعيدة . وتوقفوا أكثر من مرة ، خلال الطريق ، للراحة وتناول الطعام ، وحين لاحت الغابة من بعيد أخيراً ، كانت الشمس تميل إلى الغروب . والتفت الأمير رافانا إلى حارسه ، وقال : انظر ، تلك على ما أظنّ ، هي الغابة . فردّ الحارس قائلاً : نعم يا سيدي ، إنها هي . وسكت لحظة ، ثم قال : لكن الشمس توشك أن تغرب ، يا سيدي . ونظر الأمير رافانا إلى الغابة ، وقال : يبدو أنك ترى أن نخيم هنا الليلة . فقال الحارس : إذا أردت ، يا سيدي . فتوقف الأمير رافانا ، وترجل عن حصانه ، وقال : لنخيم الليلة هنا إذن ، وندخل الغابة غداً مع الفجر . وحلّ الليل ، واتجه الأمير رافانا إلى خيمته ، بعد أن تناول طعام العشاء ، وإلى جانبه حارسه ، وتوقف أمام خيمته ، وقال : من الأفضل أن ننام الآن ، فغداً علينا أن نستيقظ مبكرين . وتوقف الحارس ، وقال : كما تشاء ، يا سيدي . وتناهى عواء ممطوط كئيب من أعماق الغابة ، فرفع الأمير رافانا رأسه ، وراح ينظر إلى مصدر الصوت ، فقال الحارس : هذا ذئب ، يا سيدي . وتطلع الأمير حوله ، ورغم العتمة رأى حراسه العشرة من بعيد ، يحيطون بخيمته ، فقال للحارس : اذهب ونم ، وقل للجميع أن يرتاحوا ، فغداً أمامنا رحلة طويلة شاقة داخل الغابة .
" 5 " ـــــــــــــــــــــ أفاق الأمير رافانا مبكراً ، في اليوم التالي ، وعلى الفور نهض من فراشه ، وارتدى ملابس الصيد ، ثم خرج من الخيمة . ورغم أن الفجر ، كان بالكاد يطل بنوره الشاحب ، من وراء الأفق ، إلا أنه رأى حارسه يقف على مسافة أمتار من خيمته ، وأقبل الحارس مسرعاً حالما رآه ، وقال : طاب صباحك ، سيدي . وسكت لحظة ، ثم تابع قائلاً : سيدي ، أظن أن الوقت مازال مبكراً . فقال الأمير رافانا : ومع هذا فأنت مستيقظ . وردّ الحارس : هذا واجبي ، يا سيدي . ونظر الأمير إليه ، وقال : ومن يدري ، ربما لم تنم طول الليل . فقال الحارس : عفواً سيدي ، نمتُ كفايتي . وتطلع الأمير رافانا حوله ، ثم تساءل : والحرس ؟ فقال الحارس : تناوبوا على الحراسة ، طول الوقت ، هذا واجبهم ، يا سيدي . وسار الأمير رافانا مبتعداً عن الخيمة ، وهو يقول : سأذهب إلى الجدول القريب ، وأغتسل . وهمّ الحارس بأن يسير في إثره ، لكن الأمير رافانا قال له : ابقَ أنت هنا ، لن أتأخر . وتوقف الحارس على مضض ، وراح يراقب الأمير رافانا ، وهو يبتعد شيئاً فشيئاً ، متجهاً نحو الجدول ، الذي لا يبعد كثيراً عن المخيم . وهزّ الحارس رأسه ، صحيح أن الجدول صغير ، ومياهه ضحلة رقراقة ، لكن واجبه يقتضي منه أن يكون إلى جانبه ، حيثما يكون . ولأنه لم يرافق الأمير ، ذهب إلى الحراس العشرة ، وتجمعوا حوله ، حالما رأوه متجهاً نحوهم ، فقال لهم : فلنعدّ الإفطار ، لعل الأمير يعود سريعاً . ولاح الجدول للأمير رافانا ، يترقرق هادئاً تحت أضواء الفجر الأولى ، فانحدر إليه عبر شجيرات متفرقة ، نمت على المنحدر الرملي . وتوقف مرهفاً سمعه ، فقد تناهت إليه حركة طفيفة بين الشجيرات القريبة ، وعلى الفور كمن وراء شجيرة كثيفة الأغصان ، وإذا غزالة فتية ، تنحدر في هدوء واطمئنان ، إلى حافة الجدول . وخفق قلب الأمير رافانا ، بشيء من الفرح ، فهاهي ضالته الفريدة ، تسير على مسافة قريبة منه ، فالصياد ـ كما يقول أبوه الملك ـ لا يحتاج فقط إلى خبرة ، وإنما إلى حظ أيضاً ـ . ومالت الغزالة الفتية على الماء الصافي الرقراق ، لتشرب بهدوء واطمئنان ، لكنها فزت خائفة ، حين رأت في مرآة الماء ، شاباً فتياً يمدّ يديه نحوها . وانتفضت الغزالة الفتية ، تريد الهرب ، لكن يدي الشاب الفتي ، أطبقتا على جسمها ، وراحت تنتفض بقوة ، محاولة الخلاص والهرب . وحاول الأمير رافانا من جهته ، أن يسيطر عليها ، وبدل أن يسحبها إلى الشاطىء ، سحبته هي إلى الجدول ، واستطاعت أخيراً ، أن تفلت مبتعدة ، تاركة إياه ملقى في المياه الرقراقة . ونهض الأمير رافانا من الماء ، ومدّ يديه للامساك بها ، لكنها قفزت إلى الضفة الرملية ، وراحت تصعد مبتعدة ، بخطوات متعثرة متألمة . وأسرع الأمير رافانا في أثرها ، يريد الإمساك بها ، لكنه كلما مدّ يديه نحوها ، وكاد أن يلمسها ، انتفضت مبتعدة عنه ، ومضت هكذا متوغلة في أعماق الغابة ، وتوغل الأمير رافانا في أثرها ، وقد صمم على الإمساك بها ، مهما كلفه الأمر .
" 6 " ـــــــــــــــــــــ تفاقم قلق الحارس الشخصي ، لتأخر الأمير رافانا في العودة من النهر ، فهو أساساً كان قلقاً لأنه لم يرافقه هذه المرة ، حيث ذهب . وحاول أن يتشاغل مع الحرس العشرة ، في إعداد الفطور للأمير رافانا ، وها هو الفطور يكاد يكون جاهزاً ، والأمير رافانا لم يعد . ومنذ البداية ، افتقد الحرس العشرة الأمير رافانا ، حتى أن أحدهم قال مستغرباً : يبدو أن الأمير رافانا مازال في خيمته . فرد الحارس قائلاً : كلا ، ذهب إلى النهر . وعلق حارس آخر : يا للعجب ، لم تذهب معه ، إلى حيث ذهب ، هذه المرة . وقبل أن يردّ الحارس ، علق حارس آخر : كان عليك أن ترافقه إلى الجدول . فردّ الحارس بشيء من الحدة : هذا ما أردته ، لكن الأمير رفض ، وأصرّ أن يذهب وحده . لاذ الحراس العشرة بالصمت ، بعد أن لاحظوا انفعال حارس الأمير ، وتأثره الشديد ، وتوقفوا حائرين ، حين فرغوا من إعداد طعام الفطور . ولم يحتمل حرس الأمير بهشو صمتهم ، فقال وهو يمضي متجهاً نحو الجدول : انتظروا أنتم هنا ، سأذهب إلى الأمير ، وأرافقه في العودة . وانتظر الحراس العشرة صامتين ، وقد استبد بهم القلق ، وكلّ أملهم أن يعود الحارس برفقة الأمير رافانا ، في أسرع وقت ممكن . لكن الوقت راح يمرّ ثقيلاً مقلقاً ، بل وأطلت الشمس من وراء الأفق ، دون أن يلوح الحارس مع الأمير ، وأخيراً عاد الحارس وحده . وأسرع الحراس العشرة إليه ، يتعثرون بتوقعاته المخيفة ، وانهالوا عليه بالأسئلة والكلمات المنفعلة القلقة ، وصاح أحدهم : تأخرتَ .. فقال الحارس بصوت مسحوق : لا أثر للأمير . وصاحوا جميعاً : ماذا ! فتابع الحارس قائلاً : بحثتُ عن الأمير في كلّ مكان ، ولم أجد إلا آثار أقدام ، تصعد من الجدول ، وتتوغل في أعماق الغابة . وصمت لحظة ، ثم قال : لنذهب ونتتبع آثار الأقدام ، ولن نعود إلا والأمير معنا .
" 7 " ـــــــــــــــــــــ لم يتوقف الأمير رافانا ، عن ملاحقة الغزالة ، وكلما بدا بأنها تعبت ، وبأنه يوشك أن يُمسك بها ، انتفضت مبتعدة ، ولكن بخطوات متعثرة . ورغم أنه لاحظ بأنه يبتعد شيئاً فشيئاً عن المنطقة ، التي خيموا فيها ، وأنه شيئاً فشيئاً يتوغل في أعماق الغابة ، إلا أنه لم يتوقف عن ملاحقة الغزالة ، وظل على تصميمه في الإمساك بها . وتوقفت الغزالة متلفتة ، وقد بدا عليها الخوف ، فقد تناهت حركة مريبة بين الأعشاب ، وأراد الأمير رافانا ، أن ينتهز هذه الفرصة ، فانقض عليها ، لكنها انتفضت مبتعدة عنه ، وإن لم تمض ِ بعيداً . وازدادت الحركة بين الأعشاب ، فتراجعت الغزالة مذعورة ، حائرة ، وراحت تتلفت ، مرة إلى الأمير ، وأخرى إلى الأعشاب . وتوقف الأمير مذهولاً ، يتابع بنظره حركة الأعشاب ، وبدا له كأن سهما خارقاً ، يشقها بجنون متجهاً نحو الغزالة ، للفتك بها . وفجأة برز ذئب ضخم ، من بين الأعشاب ، وتباطأ أمام الغزالة ، متأهباً للانقضاض عليها ، وقد كشر عن أنيابه القاتلة ، وبدل أن تلوذ الغزالة بالهرب ، وقفت مشلولة أمامه ، مستسلمة لمصيرها المحتوم . والتقط الأمير ، غصن شجرة من الأرض ، أشبه بهراوة ضخمة ، واندفع بسرعة ملوحاً بالغصن ، ووقف بين الذئب والغزالة الفتية . لم يتراجع الذئب ، بل انقض محاولاً تخطي الأمير ، وقد كشر عن أنيابه ، لكن الأمير عاجله بضربة شديدة من غصن الشجرة ، ألقته مدمى على الأرض . وهمّ الذئب أن ينهض من الأرض ، رغم الجروح التي أصيب بها ، فرفع الأمير غصن الشجرة ، الشبيه بالهراوة ، وضربه ضربة أشد ، ألقته هذه المرة ، على الأرض جثة هامدة . وتراجع الأمير لاهثاً ، متقطع الأنفاس ، وغصن الشجرة ـ الهراوة في يده ، والتفت وراءه ليطمئن على الغزالة ، لكنه لم يجد لها أثراً . وتلفت حوله حائراً ، الأشجار في كل مكان ، ووراء الأشجار ، على مدّ البصر ، لا يوجد غير الأشجار ، لقد فقد الغزالة ، وفقد أيضاً الطريق ، فما العمل ؟
" 8 " ــــــــــــــــــــ لفترة ليست قصيرة ، ظلّ الأمير رافانا ، يدور وسط الغابة ، لعله يعثر على طريق ، يمكن أن يقوده إلى حيث خيمته وحارسه بهشة وحرسه العشرة . وتوقف بين الأشجار المتطاولة محبطاً ، وقد مالت الشمس للغروب ، حين اكتشف أنه يدور في دائرة واحدة ، وأنه يقف الآن حيث بدأ منذ ساعات ، بعد أن تصدى للذئب وقتله . وهمّ أن ينطلق من جديد ، بعيداً عن هذه الدائرة المقفلة ، لعله يعثر هذه المرة ، على بداية طريق ، ينقذه من هذه المتاهة ، ويعيده إلى خيمته وحراسه . وتوقف مذهولاً ، إذ سمع أحدهم يخاطبه بصوت هادىء قائلاً : بنيّ . وعلى الفور ، التفت إلى مصدر الصوت ، وإذا شيخ مسن ، في ثياب خشنة بيضاء ، يقف أمام كوخ ، يكاد يختفي تحت أغصان كثيفة ، لأشجار ضخمة عالية ، يتطلع إليه بنظرات مسالمة حانية . وقبل أن يتفوه الأمير رافانا بكلمة واحدة ، بادره الشيخ قائلاً : طاب يومك . فردّ الأمير قائلاً : طاب يومك ، يا سيدي . وقال الشيخ : تعال ، يا بنيّ . واقترب الأمير منه ، وهو يتفرس فيه ، فقال الحكيم : يبدو أنك ضللت الطريق . وتلفت الأمير حوله : هذا ما يبدو ، يا سيدي ، إنها ليست غابة ، بل متاهة . ثم تطلع إلى الكوخ ، وقال : كنت هنا قبل ساعات ، لكني لم أرَ هذا الكوخ إلا الآن . وابتسم الشيخ ، وقال : الحق معك ، من الصعب أن يلاحظه أحد ، فهو كما ترى ، يكاد يختفي تحت هذه الأغصان الكثيفة . وصمت الشيخ برهة ، ثم قال : الليل يوشك أن يحلّ ، ولا فائدة الآن من أن أدلك على الطريق . فقال الأمير : نعم ، فالمكان الذي خيمنا فيه ، أنا ومن معي ، لا أظنه قريباً . فقال الشيخ : أعرف . ونظر الأمير إلى الشيخ مندهشاً ، فقد فاجأته كلمة " أعرف " هذه ، لكن الشيخ قطع عليه تفكيره قائلاً : أنت الليلة ضيفي . وقال الأمير : أشكرك . واستدار الشيخ ، ومشى بخطوات ثابتة نحو الكوخ ، رغم شيخوخته ، وهو يقول : تعال يا بني ، فأنا وحدي في هذا الكوخ ، مع ابنتي شاكنتالا . ودخل الشيخ إلى الكوخ ، وقال : تفضل ، يا بنيّ ، تفضل ادخل . ودخل الأمير الكوخ ، في أعقاب الشيخ ، وأدهشته نظافته ، وآثاثه المعتنى بها ، رغم قلتها وفقرها ، ونظر الشيخ إليه ، وقال : تفضل اجلس ، ستأتي ابنتي ، لن تتأخر طويلاً ، وتعد لنا طعام العشاء .
" 9 " ــــــــــــــــــــ قبل غروب الشمس بقليل ، أتت الفتاة ابنة الشيخ شاكنتالا ، تحمل سلة صغيرة ، فنظر الشيخ إليها ، وقال : بنيتي ، لدينا اليوم ضيف شاب . وتوقفت شاكنتالا ، وسلتها في يدها ، ونظرت إلى الأمير ، وقالت : أهلاً ومرحباً . فنظر الأمير إليها نظرة خاطفة ، وردّ قائلاً : أهلاً بكِ ، أشكركِ . وقال الشيخ : قلتُ لضيفنا ، أنك طباخة ماهرة ، وإنكِ ستقدمين لنا عشاء لذيذاً . وابتسمت شاكنتالا قائلة ، وهي ترفع السلة الصغيرة : فطر طازج ، هذا سيكون عشاءنا اليوم ، وأرجو أن يعجب ضيفنا . ونظر الشيخ إلى الأمير ، وقال : كلْ الفطر أولاً ، وستعرف شاكنتالا . وانصرفت شاكنتالا على عجل ، وهي تقول : سأعد العشاء حالاً . ومدت شاكنتالا السفرة ، بعد أن أعدت الطعام ، ووضعت عليها ثلاثة أطباق ، في كلّ طبق منها شيء من الفطر المطبوخ ، فقال الشيخ : هيا يا بنيّ ، اجلسي لنأكل معاً . وجلست شاكنتالا إلى جانب الشيخ ، وقالت للأمير : هذا فطر لذيذ . وتذوق الأمير الفطر ، ثم قال : عاشت يدكِ ، حقاً إنه طعام لذيذ . وضحك الشيخ ، وقد بدا الفرح على الفتاة ، وقال : هذه شهادة لن تنساها شاكنتالا العمر كله . ونظرت شاكنتالا إلى الأمير ، وقالت وهي تأكل : لم نرك في هذا المكان من قبل . ورمقها الأمير بنظرة سريعة ، وقال : إنها المرة الأولى ، التي أدخل فيها هذه الغابة . وصمت لحظة ، ثم قال : في الحقيقة ، جئت للصيد ، وإن لم أصد أي شيء . وتوقفت شاكنتالا عن تناول الطعام ، ورمق الشيخ الأمير بنظرة سريعة ، وقال : ابنتي شاكنتالا لا تحب الصيد . ونهضت شاكنتالا ، وقالت : إنني إنسانة ، ولا أحب القتل ، والصيد قتل . ولاذ الأمير بالصمت ، مغالباً تأثره ، فنظر الشيخ إليه ، وقال : رأيتُ الذئب الذي قتلته . ورفع الأمير رأسه ، فتابع الشيخ قائلاً : إنه ذئب شرس ، وقد خلصت الكائنات المسالمة منه . ورمق الأمير الفتاة بنظرة سريعة ، وقال : كاد يفتك بغزالة فتية ، لو لم أقتله . وبعد العشاء ، جلس الشيخ والأمير يتبادلان الحديث ، وجلست شاكنتالا صامتة على مقربة منهما ، تنصت إليهما ، وخاصة إلى الأمير . وبدا النعاس على الأمير ، فقال الشيخ : الأفضل أن ننام الآن ، أنت متعب . وأوى الأمير إلى فراشه ، الذي أعدته له شاكنتالا ، إلى جانب الحكيم ، وأوت هي إلى فراشها ، بعيداً عنهما ، في زاوية الكوخ .
" 10 " ــــــــــــــــــــــ أثناء تناولهم لطعام الإفطار ، الذي أعدته شاكنتالا في وقت مبكر ، رمقت شاكنتالا الأمير أكثر من مرة ، بنظرات خاطفة ، ثم قالت : أبي .. ونظر الشيخ إليها صامتاً ، فتابعت قائلة : سأطعمكما اليوم على الغداء ، سمكاً مشوياً . ونظر الشيخ إلى الأمير ، وكأنه يسأله رأيه ، لكن الأمير رافانا بقي صامتاً ، فنظرت شاكنتالا إليه ، وقالت بشيء من الرجاء : ابقَ اليوم معنا . ومرة أخرى ، بقي الأمير رافانا صامتاً ، فابتسم الشيخ ، وقال : السكوت من الرضا . وبعد الفطور ، أخذت شاكنتالا الشبكة والسلة ، وخاطبت الأمير قائلة : سأعلمك اليوم صيد السمك . وضحك الشيخ ، وقال : من أدراكِ ، لعله أفضل منك في صيد السمك . وردت شاكنتالا : لا أظن .. والتفتت إلى الأمير ، وقالت : أليس كذلك ؟ وردّ الأمير قائلاً : نعم . ومضت شاكنتالا إلى الخارج ، وهي تقول : هيّا إلى الدرس الأول في صيد السمك . ولحق الأمير رافانا بها ، وقال : دعيني أساعدك إذن ، يا معلمتي . ووقف الشيخ خارج الكوخ ، يتطلع مبتسماً إلى شاكنتالا والأمير ، وهما يسيران نشيطين جنباً إلى جنب ، متجهين نحو الجدول ، شاكنتالا تحمل الشبكة ، والأمير رافانا يحمل السلة . ولاح الجدول من بعيد ، ينساب رقراقاً تحت أشعة الشمس الأولى ، فأومأت شاكنتالا بيدها ، وقالت : انظر ، ها هو الجدول . وتراءى له الجدول ، القريب من المخيم ، الذي قضى فيه ليلته مع حارسه وحراسه العشرة ، وتابعت شاكنتالا قائلة : هنا تأتي الغزلان ، لتروي عطشها . وخفق قلبه بحنان ، إذ تذكر الغزالة الفتية ، وهي تهم بشرب الماء من الجدول ، وقالت شاكنتالا : لم تحدثني عن تلك الغزالة ، التي أنقذتها من الذئب . ولاذ الأمير بالصمت ، فتابعت شاكنتالا قائلة : حدثني عنها ، قبل أن نصل إلى الجدول ، وننهمك في صيد السمك ، ربما لساعات . وتراءت له الغزالة الفتية مرة أخرى ، ووجد نفسه يقول كأنه يحدث نفسه : رأيتها في البداية تنحدر إلى الجدول ، وتابعتها وهي تهم بشرب الماء .. ونظرت شاكنتالا إليه ، كأنها تتمثل في داخلها ما يرويه لها ، فتابع الأمير قائلاً : أعجبتني جداً ، وأردتها لغزالي ، الذي ربيته وهو رضيع ، فحاولت الإمساك بها ، لكنها أفلتت مني ، ومضت مبتعدة .. وصمت الأمير ، ثم نظر إلى شاكنتالا ، وقال : إنني لم أقرب فتاة في حياتي ، ولا أدري لماذا شعرت بأني أمسك بفتاة ، عندما حاولت الإمساك بها . وحثت شاكنتالا خطاها بين الأشجار ، وقد احمرت وجنتاها الفتيتين ، وقالت مغالبة تأثرها : لقد وصلنا الجدول ، هيا نصطد السمك .
" 11 " ـــــــــــــــــــــــ مدت شاكنتالا السفرة ، بعد أن شوت السمك ، الذي اصطادته مع الأمير من الجدول ، على نار أشعلتها خارج الكوخ ، وجلسوا للغداء . ووضعت الفتاة سمكة كبيرة أمام أبيها الشيخ ، ووضعت سمكة كبيرة أمام الأمير ، أما هي فقد وضعت أمامها سمكة صغيرة الحجم . ورمقها الأمير بنظرة مترددة متسائلة ، وعلق أبوها الشيخ قائلاً : بنيتي ، هذه ليست عدالة . فغمزت شاكنتالا للأمير خفية ، وردت قائلة : سآكل هذه السمكة الصغيرة للذكرى . والتفت الشيخ إلى الأمير ، وقال : لا أفهم ما تقصد إليه شاكنتالا . فقال الأمير : هذه السمكة الصغيرة ، أنا اصطدتها . لم يضحك الشيخ ، ولم ينظر إلى ابنته ، وإنما قال : لنأكل قبل أن يبرد السمك . وبعد الغداء ، لم يتمدد الشيخ في فراشه ، ويأخذ قيلولة ، كما تعود كلّ يوم ، وإنما جلس أمام الكوخ ، يتابع الأمير وشاكنتالا ، وقد لاحظ بعدم ارتياح ، ازدياد الألفة بينهما ، ساعة بعد ساعة . ومن بعيد ، لوحت شاكنتالا لأبيها الشيخ ، وخاطبته قائلة : أبي سنتجول قليلاً في الغابة ، إلى اللقاء . وردّ الشيخ قائلاً : لا تتأخرا . ورغم ذلك تأخرا ، وظل الشيخ في مكانه ، ينتظر قلقاً ، حتى مالت الشمس للغروب ، وأخيراً أقبلا مع الأنفاس الأخيرة للنهار ، وفي يد كلّ منهما باقة من الأزهار البرية النظرة . وربما لاحظت شاكنتالا عبوس أبيها ، فدخلت الكوخ مباشرة ، وهي تقول : سأعد طعام العشاء . وبدل أن يردّ الشيخ عليها ، سمعته يقول للأمير : بنيّ ، رفاقك يبحثون عنك ، سأدلك غداً على الطريق ، لتعود إلى حياتك ، التي ألفتها طويلاً .
" 12 " ــــــــــــــــــــــ على غير عادتها ، لم تستيقظ شاكنتالا مبكرة ، ما اضطر الشيخ لأن ينهض من فراشه ، ويقترب منها ، ويهمس في أذنها : بنيتي . وفتحت شاكنتالا عينيها ، لكنها لم تجب بشيء ، فقال الشيخ : حان الوقت لتعدي الفطور ، انهضي يا بنيتي ، فالفتى أمامه طريق طويل . ونهضت شاكنتالا ، وراحت تعد الفطور ، بدون حماسها المعهود ، ولم تلتفت إلى أبيها الشيخ ، أو تلقي ولو نظرة إلى الأمير ، الذي مازال في فراشه . واعتدل الأمير ، ونظر إلى الشيخ ، وقال : طاب صباحك ، يا سيدي . فردّ الشيخ قائلاً : طاب صباحك . وصمت لحظة ، ثم قال : استيقظنا اليوم مبكرين ، فأمامك طريق طويل للوصول إلى رفاقك . ونهض الأمير من فراشه ، ونظر إلى شاكنتالا ليحييها ، لكنها لم تلتفت إليه ، وظلت متشاغلة بإعداد طعام الفطور . وجلسوا يتناولون طعامهم صامتين ، دون أن ينظر أحدهم إلى الآخر ، وتناول الأمير لقيمات قليلة ، ثم نهض ، فقال الشيخ : لم تأكل شيئاً يذكر . فردّ الأمير قائلاً : لقد شبعت . ورمق الفتاة بنظرة سريعة ، ثم أضاف مغالباً انفعاله : أمامي طريق طويل ، كما قلت يا سيدي ، ولابدّ أن أبدأ رحلتي الآن . ونهض الشيخ ، ومعه نهضت شاكنتالا ، ووقفت مطرقة صامتة ، وخرج الشيخ من الكوخ ، وهو يقول : تعال ، يا بنيّ ، لأدلك على الطريق . ونظر الأمير إلى شاكنتالا ، فرفعت رأسها إليه ، وقالت : ليتكَ تبقى معنا . وهزّ الأمير رأسه ، وقال : لا أستطيع ، عليّ أن ألحق برفاقي . فقالت شاكنتالا : لم تعرف أنكَ اصطدتني . ونظر الأمير إليها مذهولاً ، فأضافت بصوت دامع : ليتك تركت الذئب يفترسني . وهمّ الأمير أن يردّ عليها ، وقد تدافع الأفكار في داخله ، لكن الشيخ خاطبه من الخارج قائلاً : بنيّ تعال ، لقد أشرقت الشمس . وخرج الأمير من الكوخ ، وهذا ما ندم عليه فيما بعد ، وبقيت شاكنتالا في مكانها ، ونظر الشيخ إليه ، وقال : إنني أرى رفاقك الآن ، يبحثون عنك قلقين ، في مكان ليس قريباً من مخيمكم . وتساءل الأمير قائلاً : وكيف أعرف هذا المكان ؟ فأشار الشيخ بيده إلى طريق بين الأشجار ، وقال : اذهب من هذا الطريق ، ولا تحد عنه ، وستجد نفسك بعد ساعات وسط رفاقك . وتطلع الأمير إلى الطريق ، ثم التفت إلى الشيخ ، ومدّ يده إليه ، وصافحه بحرارة ، وقال : أشكرك على كرم ضيافتك ، يا سيدي . فردّ الشيخ قائلاً : أهلاً ومرحباً بك ، رافقتك السلامة ، يا بنيّ . ومضى الأمير ، وراح يحث الخطى على الطريق ، وحانت منه التفاتة ، ورأى ما لن ينساه أبداً ، كانت شاكنتالا تقف إلى جانب أبيها ، أمام الكوخ ، الذي يكاد يختفي ، تحت أغصان الأشجار الكثيفة . والتفت الشيخ إلى ابنته ، التي كانت تقف إلى جانبه ، وعيناها غارقتان بالدموع ، فقال لها : بنيتي ، لا تنسي أنك غزالة . وردت شاكنتالا بصوت دامع : إنني غزالة ، حين تريد ، يا أبي ، وحين تريد أكون إنسانة . ولم تتمالك نفسها ، فمضت راكضة إلى داخل الكوخ ، وهي تجهش بالبكاء قائلة : أنا إنسانة .
" 13 " ــــــــــــــــــــــ التقى الأمير رافانا بحارسه وحراسه ، قبيل منتصف النهار ، وكانوا قد بحثوا عنه في كلّ مكان من الغابة ، دون أن يقعوا له على أثر . وبدل أن يعود الأمير رافانا إلى القصر ، حيث والديه الملك والملكة ، اللذين بدآ يقلقان عليه ، عاد برفقة حارسه بيشو ، والحراس العشرة ، إلى المكان الذي التقى فيه بالشيخ وابنته الفتية . وطوال ساعات النهار ، راحوا يجوبون المنطقة على خيولهم ، يبحثون عبثاً عن الشيخ وابنته شاكنتالا ، والكوخ الصغير ، الذي يكاد يختفي تحت أغصان الأشجار الكثيفة . وعند غروب الشمس ، توقف الأمير ، وترجل عن حصانه ، وقال : لا فائدة ، لنخيم هنا . وعلى الفور ترجل الحارس بيشو ، والحراس العشرة عن خيولهم ، وبدؤوا بنصب الخيمة للأمير ، ومن ثمّ إعداد طعام العشاء . وتطلع الأمير إلى البعيد ، والشمس تغرب في الأفق ، وراح يتمشى متلفتاً بين الأشجار ، لعله يعثر على أثر للكوخ الصغير والشيخ وابنته شاكنتالا . وعلى الفور ، ترك الحارس بيشو الحراس العشرة ، ولحق بالأمير ، وهو يقول : سنعود بعد قليل ، أكملوا نصب الخيمة ، وأعدوا طعام العشاء . واقترب الحارس من الأمير ، وقال : مولاي ، الليل يكاد يخيم على الغابة . وتوقف الأمير ، وهو مازال يتلفت ، وقال : يا للعجب ، في هذه المنطقة لا غيرها ، التقيت بالشيخ وابنته ، وقضيت ليلة في كوخهم الصغير . وردّ الحارس بيشو قائلاً : كما رأيت ، يا سيدي ، لقد جبنا المنطقة كلها ، دون جدوى . ولاذ الأمير بالصمت ، فقال الحارس : ما أعرفه ، يا سيدي ، ويعرفه جميع الصيادين ، أن هذه الغابة الموحشة ، لا يسكنها أحد . وحدق الأمير فيه ، وقال بحماس : لكني أنا رأيت الشيخ وابنته ، وقضيت ليلة في الكوخ ، بل أكلت معهما سمكاً ، صدناه من الجدول . وفي طريق العودة إلى الخيمة ، قال الحارس : في المعبد ، كاهن عجوز ، يُقال أنه تحدث مرة عن شيخ عجوز ، شوهد مرة في الغابة . وتوقف الأمير محدقاً في الحارس ، ثم واصل سيره بخطى ثابتة ، وهو يقول : تهيئوا ، سنعود غداً إلى القصر ، مع الفجر .
" 14 " ــــــــــــــــــــــ قصد الأمير رافانا المعبد ، في صباح اليوم التالي ، الذي وصل فيه إلى القصر ، ليقابل الكاهن العجوز ، الذي تحدث عنه حارسه بيشو . واستقبله رئيس المعبد مرحباً ، فقال له : أريد أن أرى الكاهن . فردّ رئيس المعبد قائلاً : إنه في صومعته الآن ، فهو رجل عجوز ، كما تعرف ، سأرسل من يدعوه لمقابلتك فوراً ، يا سيدي . فقال الأمير رافانا : لا ، أنا سأذهب إليه . فقال رئيس المعبد : سأرافقك إليه ، يا سيدي . ورافق رئيس المعبد ، الأمير رافانا ، عبر ممرات المعبد ، إلى صومعة صغيرة ، وقال : هنا يعيش الكاهن العجوز ، يا سيدي . وطرق رئيس المعبد الباب برفق ، وبعد هنيهة أطلّ كاهن عجوز ، فبادره رئيس المعبد قائلاً : الأمير رافانا ، جاء ليراك ، يا . وبدت الدهشة على الكاهن العجوز ، وتطلع إلى الأمير رافانا بعينين غائمتين ، وقال بصوت شائخ : أهلاً ومرحباً ، سيدي رافانا . وردّ الأمير رافانا قائلاً : أهلاً بك . ثم التفت إلى رئيس المعبد ، وقال : سأبقى مع الكاهن وحدي . وقال رئيس المعبد : سمعاً وطاعة . ومضى رئيس المعبد مبتعداً ، فقال الكاهن العجوز : تفضل إلى الداخل ، يا سيدي . ودخل الأمير رافانا الصومعة ، وأغلق الكاهن العجوز الباب ، وقال : أهلاً ومرحباً ، أرجو أن أستطيع خدمتك ، يا سيدي . وتطلع الأمير رافانا إليه ، وقال : أريد أن أسألك عن أمر غريب ، هام عندي ، رأيته في الغابة ، عندما ذهبت للصيد ، قبل عدة أيام . وردّ الكاهن العجوز قائلاً : هذه الغابة تعج بما هو غريب وغامض ، يا سيدي . فقال الأمير رافانا : رأيت غزالة فتية ، طاردتها حتى ضللتُ طريقي وسط الغابة ، وصادفني شيخ يعيش مع ابنته في كوخ صغير ، فاستضافني عنده ليلة ، وحين عدت إلى رفاقي ، بحثت عن الشيخ وابنته والكوخ الصغير ، فلم أجد لهم أثراً . ولاذ الكاهن العجوز بالصمت ، ثم قال بصوته الشائخ : ولن تجد له أثراً ، يا سيدي ، لأنه أساساً لا وجود له في أي مكان من الغابة . وتمتم الأمير رافانا مذهولاً : ماذا تقول ! فردّ الكاهن العجوز قائلاً : قرأت في كتاب قديم ، أن كاهناً طيباً ، ضلّ الطريق في الغابة ، وأوشك أن يموت من الجوع ، فأقبل عليه شيخ ، يعيش في كوخ صغير مع غزالة فتية ، فاستضافه ليلة ، وفي اليوم التالي دله على الطريق ، الذي يخرجه من الغابة ، ومضى الكاهن ، وحين التفت إلى الوراء ، لم يرَ لا الشيخ ولا الغزالة الفتية ، ولا حتى الكوخ الصغير . عاد الأمير رافانا إلى القصر ، وحاول أن يستغرق في حياته العادية ، لكن لم يغب عن باله ما رآه في الغابة ، وخاصة الفتاة الغزالة .
30 / 6 / 2015
#طلال_حسن_عبد_الرحمن (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
حكايات من التراث حكايات موصلية طل
...
-
حكايات من الموصل طلال حسن
-
حكايات من الموصل طلال حسن
-
حكايات شعبية جنجل وجناجل
-
مسرحة الموروث الشعبي -قراءة في مسرحيات (هيلا يارمانه) لطلال
...
-
خمس مسرحيات من التراث الموصلي
...
-
رواية للفتيان الغزالة
...
-
قصص قصيرة جداً أنا الذي رأى
...
-
رواية للفتيان الملكة كوبابا ط
...
-
مطاردة حوت العنبر
-
سيناريوهات قصيرة قيس وزينب طلال حسن
-
سيناريو عرس النار طلال حسن
-
علي بابا
-
رواية للأطفال الثعلب العجوز
...
-
رواية للأطفال بيت بين الأشجار
...
-
رواية للفتيان روح الغابة طلال حسن
-
مسرح صفحات مطوية من الحركة المسرحي
...
-
قصص للأطفال عصافير من مخيمات نينوى
...
-
رواية للفتيان شبح الاهوار
...
-
مسرحية للأطفال الكبش الأحمق طلال حسن
المزيد.....
-
شاهد ما حدث للمثل الكوميدي جاي لينو بعد سقوطه من أعلى تلة
-
حرب الانتقام.. مسلسل قيامة عثمان الحلقة 171 مترجمة على موقع
...
-
تركيا.. اكتشاف تميمة تشير إلى قصة محظورة عن النبي سليمان وهو
...
-
3isk : المؤسس عثمان الحلقة 171 مترجمة بجودة HD على قناة ATV
...
-
-مين يصدق-.. أشرف عبدالباقي أمام عدسة ابنته زينة السينمائية
...
-
NOOR PLAY .. المؤسس عثمان الموسم السادس الحلقه 171 مترجمة HD
...
-
بجودة HD مسلسل المؤسس عثمان الحلقة 171 مترجمة بالعربي علي قص
...
-
بجودة HD مسلسل المؤسس عثمان الحلقة 171 مترجمة بالعربي علي قص
...
-
حالا استقبل تردد قناة روتانا سينما Rotana Cinema الجديد 2024
...
-
ممثل أميركي يرفض كوب -ستاربكس- على المسرح ويدعو إلى المقاطعة
...
المزيد.....
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
-
السيد حافظ أيقونة دراما الطفل
/ د. أحمد محمود أحمد سعيد
-
اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ
/ صبرينة نصري نجود نصري
-
ببليوغرافيا الكاتب السيد الحافظ وأهم أعماله في المسرح والرو
...
/ السيد حافظ
المزيد.....
|