|
السينما الافريقية بين حرية الابداع وضغوطات الدعم
سعاد الزريبي
الحوار المتمدن-العدد: 8036 - 2024 / 7 / 12 - 21:35
المحور:
الادب والفن
لم ينتهي الاستعمار الفرنسي لبعض الدول الإفريقية بإنتهاء الصراع المسلح ولم تنتهي المقاومة بإعلان الاستقلال و الاعتراف بإستقلال الدول بل نشاء بنهاية الاستقلال شكلا جديدا للإستعمار و الذي لعبت فيه السياسة الثقافية دورا هاما في تمديد فترة الاستعمار الفرنسي للدول الافريقية الى تاريخ غير محدد و قد يبدو في بعض البلدان الى حدود اللحظة الراهنة . لعبت السياسة الثقافية الفرنسية ابان نهاية فترة الاستعمار الفرنسي دورا هاما في نشر الثقافة الفرنكوفونية لا بفرض اللغة الفرنسية فحسب بل بنشر الثقافة الفرنسية من خلال سياسة الدعم الفرنسي للبلدان الناشئة و الذي مثل الدعم المالي للسينما الافريقية أهم مشاكل الثقافة الافريقية الى حدود اللحظة الراهنة لأنه الأوفر حظا من حيث التمويل الفرنسي يقول رافاييل ميييه "الامر لا يتعلق بسياسة تقديم معونة فرنسية لخدمة السينمات الجنوب بقدر ماهو استغلال فرنسا لتلك السينمات لمعاونة السياسة الثقافية الفرنسية" . وبذلك يتسع مفهوم الإرث الفرنسي ليشمل المنتجات الثقافية الواردة في المناطق المتحدثة بالفرنسية ، الفرنكوفونية، و هكذا تصير السينما الفرنكوفونية الواردة في أي مكان اخر cinéma d’ailleurs سينما فرنسية". أنشأت الحكومة الفرنسية ما بعد الاستعمار وزارة الثقافة و وزارة التعاون و التنمية والتي أنشئت خصيصا للإشراف على التعاون بين فرنسا و الدول الافريقية و التي قامت بإنشاء وحدة الفيلم في باريس عام 1963 برئاسة جان رينيه دوبري بلغ عدد الأفلام المدعومة فرنسيا في تلك الفترة بالتحديد ما بين 1963 و 1975 قرابة 185 فيلما لكن كانت السياسة الثقافية الفرنسية واضحة، رغم زعم جان رينيه دوبري أن 125 فيلما من بين هذه الأفلام لم يخضع للرقابة لكنه يعترف أنه رفض مساندة فيلم عثمان سيمبين في إخراجه لفليه الفتاة السوداء الذي مثل لحظة هامة في السينما الافريقية وعلاقتها بالسياسة الثقافية الفرنسية لأنه أعطى صورة سوداوية للمجتمع الفرنسي في علاقته بإفريقيا و الفوارق بين المستعمر و مستعمراته من خلال صورة الخادمة ذات الأصول الافريقية التي انتقلت للعيش في فرنسا مع عائلة فرنسية لكنها عاشت تجربة اغتراب داخل المجتمع الفرنسي وبالتحديد داخل البيت الفرنسي و بالحنين الى أصولها الافريقية لتقرر في نهاية الفيلم وضع حد لحياتها . في المقابل كانت السياسات الفرنسية تسعى الى تلميع صورة فرنسا في أوساط السينما الافريقية و في مجتمعاتها إذ هيأت فرنسا ان ذاك السينما الافريقية لبرنامج استعماري مغاير بإسم نشر الثقافة الفرنسية وأنشأت جمعية نشر الفكر الفرنسي ADPF كما دعمت وزارة الثقافة الفرنسية صندوق دعم الجنوب و نجحت هذه السياسة الثقافية الاستعمارية الجديدة في انتاج قرابة 105 فيلما مدعوما من قبل هذا الصندوق. يقول فريد بوغدير " ان السينما وصلت الى افريقيا مع الاستعمار الكولونيالي و كان دورها الرئيسي تقديم مبرر ثقافي و أيديولوجي للهيمنة السياسية و الاستغلال الاقتصادي". "وقد تمكن العالم من أن يدرك عبر هذا المصباح السحري ان فرنسا قد أنجزت فتحها المشهود بأن جعلت نفسها محبوبة في مستعمراتها كحب الأم ، لأنها أظهرت نفسها في صورة الدولة العادلة و الإنسانية دائما في كل مكان". فلقد ساعدت السينما في تقديم الصورة البطولية للمستعمر "عرضت بطولة الرجال الفرنسيين مع صور نمطية للصحراء و الكثبان الرملية و الابل و عززت فكرة ان الاخر خطر". قدم جي إينيبيل في دراسة شاملة حول السينما الافريقية يقول " إنها أفلام صنعها أشخاص ذوو بشرة بيضاء لأمثالهم من ذوي البشرة البيضاء و قد أمكن تمويل إنتاج هذه الأفلام بفضل مستوى المعيشة بالغ الإرتفاع الذي تمتعت به الأقلية البيضاء بفضل الامتيازات التي كفلتها لها القوانين العنصرية المخجلة". لكن الفيلم الوحيد الذي ناقض هذا التصور هو فيلم المخرج الجنوب الافريقي جيمي أويس " لابد أن الألهة مجنونة" 1970 وهو فيلم يصور أحد رجال البوشمان الذين يعيشون في بوتسوانا يرى أن زجاجة الكوكا كولا فارغة هبة من عند الالهة وهو فيلم كوميدي ، ساخر و نقدي بشكل كريكاتوري للبيض و السود على حد السواء. لقد أستعملت السينما من طرف المستعمر سلاحا آخر من أجل تمرير سياساتها الاستعمارية هاهنا ليس الاستعمار مسلحا ولا بالدبابات أو مشروط بإستباحة الدماء لكن بالصور ومن خلال السينما أما الرهان فهو عقول البشر وهوياتهم كتب كيان توماسيللي " كان لابد من تبرير القمع بشكل ما ، وقد لعبت السينما دورا تاريخيا مهما في تقديم الفعل العنصري كطريقة طبيعية للحياة". لكن على الرغم من السياسة الفرنسية العتيدة نشأت سينما مقاتلة و مقاومة حيث اصدر الميثاق الجزائري للسينما الافريقية سنة 1973 تشديدا على ضرورة ارتباط السينما الافريقية بمجتمعاتها وروابطها الروحية العميقة يقول نص الميثاق "تلعب السينما دورا جوهريا لأنها وسيلة من وسائل التعليم و الاعلام و رفع الوعي وهي في نفس الوقت من حوافز الابداع .إن انجاز هذه الأهداف يعني وضع المخرج الافريقي موضع التساؤل هو و صورته عند نفسه و طبيعة وظيفته و مكانته الاجتماعية و وضعه في المجتمع عموما". يهدف الميثاق الى ضرورة أن تحقق السينما فرادتها و تصوير خصوصية شعوبها و مجتمعاتها. من جهة اخرى خصص الفيلسوف و الكاتب و الطبيب النفسي فرانز فانون، الذي عرف باسم إبراهيم عمر فانون وهو المولود بجزر المارتنيك ولكن المتوفي بالجزائر و الذي شارك في ثورة التحرير الجزائرية والذي اشتهر بنضاله من أجل الحرية و مناهضة التمييز، وعمل في كتاباته الى التأكيد على ضرورة الوعي الجديد بالهوية القومية في كل البلدان الخارجة من تحت حكم الاستعمار الكونوليالي و أشاد بضرورة بناء المثقف الوطني أي "المثقف الذي يحول نفسه الى أداة لإيقاظ الشعب ، ومن هنا نشئ مفهوم الادب المقاتل ،الادب الثوري و الأدب القومي" في هذا الاطار نشأت أفلام مقاتلة و سينما افريقية مقاتلة متحررة نابعة من عمق مأساة مجتمعاتها مصورة في ذات الوقت السحر الافريقي في جماليته وروعته ، صور لمأساتها وحقها في الحرية و الانتماء الى ذاتها. ولكن لئن أظهرت السياسات الثقافية الفرنسية نواياها الاستعمارية الغير مباشرة للسينما الافريقية فإن الأعمال السينمائية الفردية الغربية قد ساعدت المجتمعات الافريقية في صناعة صورتها الخاصة فلقد ظهرت في بداية الستينات حركة في أوروبا الغربية اعتمدت منهجا تعبيريا سمي "سينما الحقيقة" وهي حركة انطلقت من أعمال الانتروبولوجي الفرنسي جان روش الذي صور أفلامه في إفريقيا دون طموح فني كبير وبعين باحث في أصول وتقاليد شعبية. رسم جون روش صورة دقيقة، حقيقية وواقعية للشعوب الافريقية قد تبدو في بعض الأحيان خيالية لمجتمعات لم تصورها السينما الفرنسية سوى تحت صورة الهمجي الذي يعتبر الاستعمار محررا لها من كل ارثها السوداوي .. فقد صور هذا المخرج الفرنسي في فيلمه أنا أسود صورة الحياة في الجماعات الإفريقية ساعيا للكشف بمصداقية تسجيلية عن مستوى وعيهم في المدن الكبرى. ونجح، الى حد كبير في أن يجعل المواطنين الزنوج الذين صورهم، يعلقون على أنفسهم من خلال الصور الصامتة بشكل عفوي وإرتجالي، وحقق أفلاما واقعية ممتازة". بين سينما عولت على الدعم الفرنسي في تمويل وإنتاج عدد كبير من الأفلام الافريقية بشقيها العربي وسينما جنوب الصحراء وبين السينما التسجيلية لحياة الشعوب الافريقية والسينما المناهضة لكل الصور العنصرية في السينما الافريقية والغربية تعيش السينما الافريقية مرحلة ارتياب كبير وحرج ملموس بين تحقيق صورة سينمائية صادقة ووفية للشعوب الافريقية وضغوطات الدعم الخارجي . السؤال الذي يطرح نفسه دائما: هل هناك سينما إفريقية مستقلة؟ متى يمكننا أن نعتمد على الأفلام الافريقية من أجل دراسة السينما الافريقية كسينما مستقلة على شاكلة السينما الأوروبية والسينما الامريكية ؟ بمعنى هل هناك سينما إفريقية حرة بشكل كاملة خالية من التوجيهات الفرنسية الاستعمارية المبطنة؟ لا. على الرغم من العمل الحثيث على خلق مشهد سينمائي افريقي وإطلاق بعض المهرجانات التي تعنى بشكل خاص بالسينما الافريقية كمهرجان ايام السينما الافريقية يالمملكة المغربية ومهرجان الأقصر للفيلم بجمهورية مصر العربية إلا أنها تبدو غير كافية داخل قارة تعد أكثر من خمسين دولة. لا يكمن الإشكال في السينما الافريقية في غياب المهرجانات فحسب بل في غياب الدعم الداخلي وغياب السياسات الثقافية الداعمة للسينما وللمخرجين السينمائيين وإنتاج الأفلام مع غياب دور العرض مما جعل السينما الافريقية إن كانت عربية أو أفلام السينما افريقيا جنوب الصحراء سينما مهمشة عالميا وذات حضور ضئيل داخل المهرجانات العالمية وتبقى نجاحات السينما الافريقية نجاحات فردية لبعض المخرجين العرب والأفارقة في الاثناء لا يتعلق المشكل بالنسبة للسينما الافريقية في غياب أفلام السينمائيين الافارقة والعرب عن المهرجانات العالمية فحسب بل عدم الإقبال الجمهور المحلي أيضا على مشاهدة الأفلام الإفريقية . بين غياب السياسات الثقافية الناجعة والداعمة للإنتاج السمعي البصري وعدم إقبال الجمهور وضغط الدعم الفرنسي تبقى السينما الإفريقية موضع إشكال داخل المجتمعات الإفريقية التي يبدو أن تحقيق التحرر البصري داخل أفلامها وصورها السينمائية شكلا من التحرر والاستقلال من الصورة الإستعمارية أي من تلك الصورة التي رسمها الآخر المستعمر وهي صورة الإفريقي الهمجي والعنيف والتي مازالت تسري بشكل واضح أحيانا وخفي أحيانا أخرى في الأفلام الافريقية والأعمال الدرامية الأمر الذي يجعلنا نعتبر أن استقلال الدول من استقلال صورها البصرية وخير دليل على ذلك السينما الإفريقية.
#سعاد_الزريبي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
جماليات الألم في لوحات سيروان باران
-
قصة النكبة
-
كيف السبيل للتحرر من القمقم الرعوي؟ قراءة في كتاب صخب المؤنث
...
المزيد.....
-
بين القنابل والكتب.. آثار الحرب على الطلاب اللبنانيين
-
بعد جماهير بايرن ميونخ.. هجوم جديد على الخليفي بـ-اللغة العر
...
-
دراسة: الأطفال يتعلمون اللغة في وقت أبكر مما كنا نعتقد
-
-الخرطوم-..فيلم وثائقي يرصد معاناة الحرب في السودان
-
-الشارقة للفنون- تعلن الفائزين بمنحة إنتاج الأفلام القصيرة
-
فيلم -الحائط الرابع-: القوة السامية للفن في زمن الحرب
-
أول ناد غنائي للرجال فقط في تونس يعالج الضغوط بالموسيقى
-
إصدارات جديدة للكاتب العراقي مجيد الكفائي
-
الكاتبة ريم مراد تطرح رواية -إليك أنتمي- في معرض الكتاب الدو
...
-
-ما هنالك-.. الأديب إبراهيم المويلحي راويا لآخر أيام العثمان
...
المزيد.....
-
مختارات من الشعر العربي المعاصر كتاب كامل
/ كاظم حسن سعيد
-
نظرات نقدية في تجربة السيد حافظ الإبداعية 111
/ مصطفى رمضاني
-
جحيم المعتقلات في العراق كتاب كامل
/ كاظم حسن سعيد
-
رضاب سام
/ سجاد حسن عواد
-
اللغة الشعرية في رواية كابتشينو ل السيد حافظ - 110
/ وردة عطابي - إشراق عماري
-
تجربة الميج 21 الأولي لفاطمة ياسين
/ محمد دوير
-
مذكرات -آل پاتشينو- عن -العرّاب-
/ جلال نعيم
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
المزيد.....
|