أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - سلام عبود - مقدمة لدراسة الشخصية العراقية















المزيد.....



مقدمة لدراسة الشخصية العراقية


سلام عبود

الحوار المتمدن-العدد: 1766 - 2006 / 12 / 16 - 10:59
المحور: الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
    


لم تحظ شخصيّة الفرد العراقي بدراسات كثيرة معمقة, على الرغم من أنها إحدى الشخصيات البشرية القليلة, التي خُصت بالملاحظة, وجرى تصنيفها على أنها شخصية خلافيّة. ولم تكن تناقضات هذه الشخصية مصدر ملاحظة حديثة, فقد وردت إشارات كثيرة, تعود الى أزمان بعيدة ترصد طبيعة هذه الشخصية. وقد شاع بواسطة عالم الاجتماع العراقي د. علي الوردي رأي أبي عثمان الجاحظ, الذي أورده في (البيان والتبيين), عن الطبيعة الشقاقية للشخصية العراقية, وقلة طاعتها لأولي الأمر. ( شخصية الفرد العراقي- ص 54)
أما شيوع فكرة ازدواج الشخصية العراقية فقد تمت على يد د. على الوردي أيضا. وقد ساهمت لغة الوردي العلمية البسيطة, وطريقته السهلة في الاقناع, في انتشار أفكاره بين الناس ونزولها منزلة المسلّمات. يستطيع المرء تلخيص فكرة الوردي الأساسية ببضع جمل مفادها أن الشخصية العراقية مصابة بالإزدواج لأن " قيم البداوة والزراعة قد ازدوجتا في العراق منذ أقدم العصور ولا تزال تصطرع في أنفسنا حتى اليوم" ( المصدر السابق – ص 52)
ويضيف الوردي الى العامل السابق عوامل أخرى مساعدة أو مكملة, قديمة وحديثة, يعززها بأمثلة يلتقطها من عهود وأزمان مختلفة. فمن العصر العباسي يشير الى الانقسام بين البنية العقلية الراقية, غير العربية في الغالب, والممارسة الحياتية اليومية, وما رافقها من انفصال بين العقل والحياة, بين "المثالية الزاهدة الخاضعة" أو "المثالية الدينية" والنزعة الدنيوية وما يرافقها من ظهور الشخص "غضوبا حقودا", و"غضوبا (ساديا) إذا واجه ضعيفا" (ص 52). ومن العهد العثماني يشير الى ضعف " الحكومة المركزية " وعدم مقدرتها على " أن تحمي مظلوما أو تردع ظالما" (ص 55)
عوامل أخرى كثيرة ترد في دراسة الوردي منها النزعة الرجولية, و التقسيم العائلي, الذي سماه " التجزء", أي التجزؤ, الذي يقوم على استقلال وظائف أفراد الأسرة. " قل أن نجد في هذه الدنيا مجتمعا تجزأت فيه العائلة مثل هذا التجزء البليغ", " ولعل هذه القيم قد جاءتنا من البداوة" (ص 57 )
ومن مظاهر ازدواج الشخصية " ان حماسة العراقيين كنار الحلفاء لا تكاد تلتهب حتى تخمد, تلتهب مع المثل وتخمد مع الواقع", والميل الى الزهد حتى الخضوع, والتطرف في الحقد والغضب, وما يرافقهما من "تمجيد للقوة" ونزوع سادي في مواجهة الضعيف. والعنصران الأخيران: العنف والخضوع, هما محور بحثنا.
مما لا شك فيه ان آراء الوردي تحمل قيمة كبيرة من الناحية البحثية, لكنها لم تدقق جيدا, أو لنقل, لم يعمل الباحثون اللاحقون على إثرائها. فنظرية صدام قيم البداوة والحضارة, التي استندت في الأساس على العامل البيئي, وما يرافقه من مدلولات اجتماعية: المجتمع الزراعي والمجتمع الصحراوي, لها مركز الثقل في بناء فكرة ازدواج الشخصية العراقية. وقد وجد الوردي في هذا التفسير, أو الاكتشاف, إذا صح لنا أن نسميه كذلك, حلا مكينا أخفق الآخرون في الوصول اليه: " حاول المفكرون القدماء أن يفسروا هذه الظاهرة فلم يفلحوا, ونحن اليوم إذ نحاول تفسيرها على ضوء علم الاجتماع الحديث نجدها واضحة لا تحتاج الى تفسير عسير"(ص 54 )
حينما نعود الى العامل البيئي: الطوق الصحراوي القاري المحيط بالعراق, نجده عاملا واهيا بذاته. فمثل هذا الطوق يسور تجمعات سكانية عديدة في العالم , وفي منطقتنا على وجه التحديد, لكنه لم يُحدث الأثر نفسه على الفرد غير العراقي. وحتى الأسباب الثانوية: ضعف مركزية الدولة العثمانية, والقيم الرجولية, والتقسيم العائلي, مظاهر تشترك فيها مع العراق مجتمعات عديدة.
لذلك أرى أن الوردي خلط بين أمرين: "سهولة" رصد تناقض الشخصية العراقية, وهو أمر كان موضع تشخيص منذ زمن قديم, وبين تفسير الظاهرة. فالظاهرة لم تزل في تقديري في عوز كبير الى الإغناء, لكي تكون مقبولة من دون "عسر". كما أن نظرية الوردي تخلط العوامل النفسية بالبيئية, وهذا يقود الى تداخل الأسباب والنتائج المتعلقة بسلسلة الأفعال والنوازع. فالغضب والحقد واستسهال امتهان الضعيف الى حد السادية وتمجيد القوة, صفات سلوكية, وتعبيرات نفسية, لا تخلق الازدواج, بل ترافقه وتعمقه. وهي أعراض تشير الى الازدواج الأساسي, وهو في نظري تنازع الشخصية بين قطبين: العنف وكل ما يرافقه من مشاعر متنوعة: الانفعال السريع, الغضب, التكبر, المفاخرة الكاذبة, الصلف, التحجر العقلي والحقد واللؤم, والخضوع وما يرافقه من أحاسيس ونوازع: الكبت, التزلّف, الكذب, المصانعة, النفاق, الحقد, اللؤم. وهنا نرى أن النقيضين يقودان, من منطلقين نفسيين متعاكسين, الى نتائج سلوكية متشابهة: الميل الى اللؤم والحقد وفقدان الثقة بالآخرين, مقرونا بالعنف والتلذذ بالضعيف واستسهال الإيذاء, والإسراف في الطموح في الصنف الأول, وفي الثاني مقرونا بالخنوع والميل الى المصانعة والوشاية والتشفي والانتقام والاعتماد على الغير والإسراف في الخيال.
يستطيع الباحثون العثور بيسر على أدلة منقولة من عهود قديمة تلقي ضوءا على تناقض الشخصية العراقية. ففي أحاديث الإمام علي , الذي أغتيل عام 40 هجرية, ما يفصح إفصاحا تماما عن وعي حاد بهذا الميل المتطرف, معبرا عنه في صيغة الجمع بين البيعة والنكوص عنها, أو الاستعداد للتهييج والفتور والتقاعس السلبي. "عهدكم شقاق ودينكم نفاق". لقد حاول بعض العراقيين, تحت تأثير مشاعر العنف أوالخضوع ذاتها, تنزيه الإمام علي عن ذلك القول وحصره بالحجاج. لكن الأمر خلاف ذلك تماما. فأصل المفردتين "شقاق" و"نفاق" وردتا كصفات محددة للذم في كلمة علي الى أهل البصرة. وهناك الكثير مما ينسب اليه: "الْوَفَاءَ تَوْأَمُ الصِدْقِ" و " وَ لَقَدْ أَصْبَحْنَا فِي زَمَانٍ قَدِ اتَخَذَ أَكْثَرُ أَهْلِهِ الْغَدْرَ كَيْسا" ( نهج البلاغة : ج1 رقم 41), وهناك من ينسب اليه الأبيات التالية:
ذهبَ الوفاءُ ذهابَ أمس الذاهب ** فالنـاس بـيـنَ مـُخـاتـل ومـواربِ
يُفشـون بينهمُ الـمـودةَ والـصـّفا ** وقـلـوبُـهم محـشـوّةٌ بـالـعـقـاربِ
وكل ذلك يعكس عمق الإحساس بالقلق, الذي أضحى يلازم الإمام علي, جراء تقلب أحوال الناس.
وهناك من يرد عبارة الحجاج بأكملها الى مصادر أبعد. فقد أخرج أبو داود والنسائي عن أبي هريرة أن الرسول محمد كان يدعو قائلا "اللهم إني أعوذ بك من الشقاق والنفاق وسوء الأخلاق", وهو دعاء يطابق شتيمة الحجاج لفظيا مطابقة كبيرة: "أهل النفاق والشقاق ومساوئ الأخلاق". أما القول بأن تلك الإشارات كانت موجهة الى جند العراق, الذين هم جند الفتح, الوافد على العراق, وأن ما حدث من تمردات وفتن كان بتأثير الجماعات الأجنبية, فهو أمر يحتاج الى تبصر أيضا, لا الى خفّة عقلية. فالجند في الشام والعراق ينتسبون, في الغالب, الى أصول متقاربة المصدر. لكن جند الشام كانوا أكثر توحدا وانسجاما من جند العراق, حيث كانت الفتنة على أشدها. ومن المعروف أن الفتن تنشأ في الأطراف, ولم يكن العراق طرفا, بل كان مركزا في خلافة علي. أما عن التكوين القبلي فإن مثل ذلك الرأي قد يصح عند الحديث عن الجند المرابطين في خراسان وجرجان أو غيرها من الأمصار الأعجمية, لكنه لا يصح في العراق, لأنه بيئة عربية. أي هناك تأثير متبادل بين البيئة والوافد الجديد. وقد حاول بعض الغلاة المحاججة, بالمنطق نفسه, حينما تكررت واقعة خذلان زيد بن علي, فنسبوها للأغراب القادمين من الصحراء. وفي واقع الأمر أن زيدا نفسه وأباه وجده ينتسبون الى هذه الجماعات من الأعراب, وهم فرع أصيل منهم. ففي (مقاتل الطالبيين) للأصبهاني يرد أن من بايع زيدا أناس من أماكن عراقية مختلفة, فقد اجتمع حوله في بدء بيعته خمسة عشر ألف رجل من أهل الكوفة خاصة، سوى أهل المدائن، والبصرة ، وواسط, والموصل .." ، "وارسل دعاته إلى الآفاق والكور يدعون الناس إلى بيعته" (ص92 مقاتل الطالبيين). وإذا كان هذا الأمر موضع خلاف, فلا أحد يختلف في أن الكوكبة الصغيرة, التي قاتلت مع الحسين, وزيد ( ما يقرب من ثلاثمئة أو أقل بقليل), أي التي ثبتت على مواقفها, لم تكن تعود بأصولها القديمة الى العراق.
لقد لاحظ الإمام زيد هذا في بدء المعركة, لذلك التفت الى نصر بن خزيمة, أحد مشايعيه, قائلا بعد أن لمس قلقه: " أتخاف أهل الكوفة أن يكونوا فعلوها حسينية؟", لكن نصرا أصر على القتال والاستشهاد, حبا في زيد. وتؤكد مصادر التاريخ أن موقف بني أمية من الكتل القبلية المحاربة كان قائما على الحذر الشديد. فلم يسمحوا بأخذ الجماعات بجريرة الأفراد. فلم يكن يُسمح بارتكاب أخطاء جسيمة ضد التكوينات القبلية ككيانات موحدة, لكيلا يختل ميزان القوى السياسية والعسكرية. وفي حادثة عزل والي العراق في عهد يزيد بن الوليد خير مثال. فقد " عُزل يوسف بن عمر عن إمرة العراق، لما ظهر منه من الحنق على اليمانية ".
كما حاول بعض العراقيين الذبّ عن مواطنيهم بتكذيب خطبة الحجاج, لأنها في زعمهم متناقضة. فهي تصف الشخصية العراقيين بصفتين متعارضتين, وهذا ما لا يقبله المنطق: " قلنا أكذوبته ( أي خطبة الحجاج)، لأنها تحتوي علي تناقض تام هو التالي: هل كان أهل العراق سينشقون ويحاربون الدول الظالمة ويقدمون سيولا من الدماء لو كانوا فعلا منافقين كما وصفهم الحجاج؟ بمعنى: إذا كان المقصود أنهم أهل شقاق ونقد وتنقيب وتحكيم عقل وفطنة فالجواب نعم، أما أن يكونوا أهل نفاق ومراء ودهان فلا، إذ كيف يمكن جمع الماء والنار (النفاق الاستسلامي والشقاق الثوري) في أقنوم واحد؟" (صحيفة الزمان 1-1-2002)
لكننا نحصل في هذا الدفاع, ذي المقاصد الحسنة, على دليل إضافي يؤكد قدم تشخيص نوازع الازدواج في الشخصية العراقية. وفي واقعتي فشل ثورة الحسين ( قُتل عام 61 هـ) وزيد بن علي (قتل عام 121 أو 122 هـ 740م) صور ناطقة لذلك السلوك المتكرر تاريخيا. فقبيل خروج الحسين الى العراق توافد عليه الناس للتوديع والنصح, وكان منهم عبد الله بن عباس, الذي نصحه بعدم التوجه الى العراق " قال ابن عباس : " تريد العراق ؟ إنهم أهل غدر ، وإنما يدعونك للحرب ، فلا تعجل فأقم بمكة " فقال الحسين : "... هذه كتب أهل العراق ورسلهم وقد وجب على ندائهم ، وقام لهم العذر عند الله سبحانه ", عند ذلك بكى ابن عباس، وخرج وهو يتميم بحرقة ولهفة : " واحسيناه ".
إن واقعة استشهاد زيد بن علي وخروجه على الحكم الأموي تؤكد مرة أخرى أن تلك الخصال لم تكن عابرة في البيئة العراقية. أما النقاش الذي دار بين الإمام زيد ومحمد بن عمر بن علي بن أبي طالب ( أخفت بعض المصادر المتطرفة اسمه لاقترانه باسم عمر, على الرغم من أنه كان أخلص أنصار الإمام زيد) ففيه من المغازي ما يغني عن الشرح والتفسير. جاء في (مقاتل الطالبيين), في خبر مقتل زيد " اين تخرج عنا - رحمك الله - ومعك مائة ألف سيف من أهل الكوفة والبصرة وخراسان يضربون بني أمية بها دونك، وليس قبلنا من أهل الشام إلا عدة يسيرة. فأبى عليهم، فما زالوا يناشدونه حتى رجع بعد أن أعطوه العهود والمواثيق. فقال له محمد بن عمر: أذكرك الله يا أبا الحسين لما لحقت بأهلك ولم تقبل قول أحد من هؤلاء الذين يدعونك ، فانهم لا يفون لك ، أليسوا أصحاب جدك الحسين بن علي؟" قال: أجل. وأبى أن يرجع" (ص 92 )
أما موقف الإمام جعفر الصادق فقد اكتنفه الغموض. فبعض المصادر الشيعية تؤكد أنه نصح زيدا مذكرا ومحذرا من مغبة تكرار ما حدث لجدهما الحسين. وهناك من المصادر من تردّ عدم مشاركة الصادق في الثورة الى زيد نفسه, الذي نصحه بضرورة البقاء, لمصلحة العائلة الطالبية. وبصرف النظر عن تضارب الروايات فقد نهج الصادق نهجا يقوم على مبدأ التقيّة. إن القبول شرعا بالحاكم الجائر جزء من تناقضات بناء الشخصية المظلومة, تم الوصول اليه بعد سلسلة من الهزائم المرّة, ارتبطت بالعراقيين تحديدا في جانبيها السلبي والايجابي. فقد شحذ مبدأ التقية الهمة في مجال الدرس العلمي والتأليف, كبديل للثورة والتمرد. وربما تلقي حادثة الوليد بن عبد الملك عند بناء المسجد الأموي بعض الإضافات المفيدة, فهي صورة نموذجية غير قابلة للتأويل, تؤكد وجود هذه الظاهرة, وتؤكد في الوقت عينه أنها مدركة ومعروفة. فحينما رأى الوليد رجلا من عمال البناء يبالغ في نقل الأحجار ظنه عراقيا, وحينما استدعى الرجل للسؤال وجده كذلك. وقد ضرب هذا المثال كواقعة تدل على أن الصفات التي تناقلتها الأجيال لم تكن مجرد أوهام. ومهما كانت درجة صحة هذه الخبر, كواقعة أو كوثيقة, فإن وجوده في ذلك الزمن البعيد دليل على أن " تشخيص الظاهرة" كان متحققا.
وهنا, في هذا الموضع, نختلف مع د. علي الوردي في أن التشخيص لا يعني التفسير. فلم تزل نظرية العوامل البيئية عسيرة على القبول علميا, ما لم تدعم بالمزيد من الحجج. إن إعادة النظر بنظرية الطوق البيئي, الجغرافي, المحيط بالعراق, والنظر اليها من زاوية مختلفة, سياسية- اجتماعية, قد تفتح ثغرات جديدة في جدار البحث عن الأسباب. فلو نظرنا الى العراق تاريخيا لوجدنا أنه قام على قاعدة توالي الممالك القوية والنشيطة عسكريا وثقافيا واقتصاديا, ذات التأثير الملحوظ على الأقوام المحيطة بها. وحال نهوض الدولة الاسلامية نقلت مركزها الى العراق على يد الخليفة الرابع. وحتى انتقال مركز الحكم مؤقتا في زمن الأمويين الى الشام, لم يخفف من ضغط العراق, كبؤرة متحركة, على جسد المركز الجديد, الذي سرعان ما هوى ليعود المركز الى العراق مجددا.
عاملان تاريخيان أساسيان لعبا دورا ملحوظا في تشكيل النسيج الروحي للشخصية العراقية, هما: توالي الحضارات المركزية, وما رافقه من إلغاء متطرف وهدم, وشدة ضغوط المحيط الخارجي وما رافقه من تهديد بالالغاء والالحاق. وكلا الأمرين يشير الى ناحية واحدة: القوة والخضوع. فقد تميزت الممالك العراقية القديمة بطابع المركزية وبالاستحواذ التذويبي للكيانات السياسية السابقة. وربما يقول قائل بأن تلك الظاهرة موجودة بقدر أو آخر في الحضارات القديمة, في مصر واليمن مثلا. فالممالك اليمنية كانت تبسط سيطرتها على رقعة فسيحة من أراضي جنوب الجزيرة العربية في أوج قوتها, لكنها لا تلبث أن تنحسر وتصبح أحيانا مدينة صغيرة مهملة عند أفول نجمها. بيد أن ما حدث في العراق يختلف عن ذلك. فالتمدد والانحسار في المجتمع العراقي القديم كان أقرب الى النموذج المصري, فهو يحدث من طريق انتقال الحكم بتغير أدوار الأسر الحاكمة. وقد أعاد الأمويون نظام الأسرة أو السلالة. وكان خلافهم مع العلويين والعباسيين يتركز بدرجة أساسية حول أدوار الأسر في الحكم, بينما كان الرسول محمد جمهوري النزعة. أما في اليمن فقد كان العامل المناطقي القبلي هو العنصر البارز الذي طبع عمليات التغيير.
لكن ما يميز عملية التغيير في العراق عن غيرها أنها كانت شديدة التطرف ثقافيا. فتعاقب الدول رافقه إلغاء وتعميم جذريان, ليس للأسر الحاكمة وما يرافقها من رموز سياسية فحسب, بل أيضا للمعتقدات: الآلهة والعبادات ورموزها ومدلولاتها, وللعنصر اللغوي السائد, مما أضفي على التغيير طابع الإلغاء والمحو. ومما لا شك فيه أن هذا الإلغاء لا يعني الإفناء التام للمكونات السابقة الدينية واللغوية, وإنما يعني حصرها في أضيق حدود, وفي الغالب حصرها في وظائف محددة. فلربما لعبت لغة مغلوبة دورا ساميا في حضارة منتصرة, ولكن بوظيفة محددة, كأن تكون لغة المعابد, أو أن تكون لغة الترجمة, كما هي حال السريانية بعد قيام الدولة العربية الاسلامية.
وفي الفترات التي تمزق فيها شمل الممالك العراقية الكبرى برز العامل الخارجي بقوة, وأضحى يلعب الدور الأساسي في حياة مجتمع ما بين النهرين. كانت القوى العالمية الثلاث: الفارسية والرومانية- البيزنطية والحبشية, تمثل تكوينات ثقافية عرقية دينية بيئية شديدة الاختلاف والتمايز, لكنها شكلت ضغطا سياسيا وعسكريا وثقافيا خارجيا عنيفا على البيئة العراقية. كان القاسم المشترك بين القوى الثلاث هو القوة العسكرية والنزوع الى التمدد الإقليمي والقاري. لقد ظل التأثير الحبشي العسكري بعيدا نسبيا عن أراضي بلاد ما بين النهرين, فقد توقف عند حدود الجزيرة العربية عسكريا, بانكسار جيش ابرهة. بيد أن التأثير المعنوي والروحي لهذه الضغط كان قويا, وهذا ما أظهرته النتائج لاحقا, بتأكيد وجود النصرانية وتطور فكرة التوحيد وانتشارها. أما القوتان الأخريان فقد كان امتدادهما السياسي والعسكري عظيما, حتى أنهما كادا أن يجعلا من بلاد ما بين النهرين ساحة رئيسية للصدام بينهما, وللصدام مع القوة الكامنة في أعماق مجتمع الجزيرة العربية: القبائل البدوية. لذلك اتخذت القوتان من الممالك الواقعة بين الجزيرة العربية وحدود بلاد مابين النهرين الجنوبية والغربية مناطق تابعة سياسيا وعسكريا وثقافيا, وقد تجسد ذلك في ولاء مملكة الغساسنة السياسي للبيزنطيين, والمناذرة للفرس.
بيد أن حضارة العراق المزدهرة, التي تقوم على تراكم الطبقات, كانت في الغالب حضارة طينية. وقد ظلت كذلك حتى بعد تكون الامبراطورية الاسلامية. وما يميز هذه الحضارة هو اندثار القديم وخرابه, ثم زواله من دون أن يبقي أثرا خلفه. ولو لم تكن حضارة العراق طينية لما بقيت بقعة من أرض الرافدين لم تعلوها بقايا وشواهد الأمم الماضية. لقد لعبت الممالك العراقية الكبرى دورا قويا في تأسيس عنصر القوة والشعور بالعظمة, وفي تأسيس قاعدة التنوع العرقي والديني والروحي بشكل محكم ومتين. لكن الاندثار الذي كان يطبع الحضارة الطينية, جعل الإحساس بالماضي غامضا الى حد كبير, مغلفا بمشاعر الخوف من المجهول. ولا يزال الناس في جنوب العراق يعتقدون أن بقايا المدن الدوارس أقوام سخطها الله وأنها ملاعب للجن. عاملا البناء القوي والاندثار السريع المصحوب بالقوة, في بيئة قائمة على التنوع العرقي والثقافي, اللذان كانا يفعلان فعلهما على الأرض من الداخل, رافقهما طوق تاريخي محكم من الخارج, يمكن تسميته بحزام القوة العالمية. إن حزام القوة هذا, وليس صراع البداوة والحضارة وحده كان أحد عوامل تكوين خصوصية شعوب ما بين النهرين.
حاولت الأسطورة العراقية القديمة الإجابة عن سؤال الوجود الأساسي: الحياة والموت, من خلال شواهد مأخوذة من البيئة العراقية: "هل بنينا بيتا يدوم؟" و "هل يدرأ كوخ القصب الزمهرير؟". هذا القلق الوجودي صاغته ملحمة جلجامش, بكلمات حسية, مأخوذة من مشاهد الزوال والاندثار الماثلة على الأرض. أرض لا تحفظ كنوزها. حينما تسير في أغلب المدن الأوروبية تجد التاريخ ماثلا أمامك. وحتى المدن الحديثة تحتفظ ببقع تخلد عبق تاريخها. لكن برج بابل لا نجد له صورة إلا في الخيال, وما نعرفه عنه حفظته ذاكرة الكتب المقدسة فحسب. وعصر هارون الرشيد الذهبي, لم يبق من بريقه سوى ما توارثته الرواية الشفاهية وكتب السيرة والتاريخ, إضافة الى نسخ معمارية مشوهة عن أصول منقرضة. هناك اندثار تعرضت لها حضارة الطين, وكذلك حضارة القصب في الجنوب. فلم نعد نحتفظ من سومر سوى بثقافة الماء المندائية وبقارب القار السومري وبيت القصب.
حينما أفل نجم الحضارات العراقية القديمة وفقدت قوتها الذاتية برزت القوى الدولية المحيطة ككيانات ضاغطة, صانعة طوقا ثقافيا وعسكريا وسياسيا محكما حول العراق, لم يتم كسره إلا بعد ظهور قوة دولية جديدة عالميا: الدولة الاسلامية, التي اتخذت من العراق مركزا للحكم أو نقطة للارتكاز والانتشار. لقد لعب عامل القوة الخارجية والداخلية دورا عظيما في تشكيل الذات الاجتماعية, المتنوعة الأعراق والأديان, فجعلها نشيطة, متماسكة, خلاقة في عصور الازدهار, وجعلها ممزقة متحاربة, مفتتة, كسيرة في فترات الضعف والانهيار. هذا التناقض الحاد بين قطبي الضعف والقوة طبع الشخصية بميسمه, فجعلها بيّنة الازدواج. وحينما نتحدث عن الإزدواج ينصرف الذهن الى أمر خاطئ تماما, حينما يعتقد المرء أن المقصود بالازدواج انقسام المجتمع الى قاهرين ومستضعفين, الى غضوبين وخانعين. إن الأمر خلاف ذلك تماما. فقد تظهر بعض الجماعات الصغيرة, وحتى الكبيرة أحيانا, بمظهر المغلوب على أمرها, أو الخانعة في مقابل جماعات أخرى تلعب الدور المعاكس. لكن الأمر غير ذلك من الناحية العامة. فالازدواج الذي نعنيه حاصل ومتحقق في الشخص الواحد. وتحققه يعني أن الفرد, كعنصر تاريخي, وليس ككيان فردي, أي كعنصر حامل ووارث لثقافة البيئة, يستطيع أن يلعب أدوارا متناقضة, تبعا لتقلب الأحوال. فالغضوب, السادي, قد ينقلب الى نقيضه, والخاضع قد يغدو غضوبا. إن تبادل الأدوار في الشخصية الواحدة هو جوهر الازدواج وسره العميق. وقد يبدو للبعض أن هذا التحول المتطرف غير قابل للحدوث. ولكن الواقع يثبت عكس ذلك, فبين العنف والخضوع مشتركات أساسية جوهرية: الأنانية المفرطة, تبرير الدوافع من دون الرجوع الى المنطق, قبول أو رفض الآخر كحزمة متكاملة. وهذا ملمح لا يراه المرء بيسر, إذا لم يتم رصد تطور الشخصية في أزمان ومواقف مختلفة. لكننا نستطيع أن نثبته بمئات الأمثلة الحسية, في المجالين الثقافي والسياسي خاصة, حينما نقوم بجرد تاريخي مقارن لحقب الانقلابات الاجتماعية الكبيرة. ومن الأمثلة الحديثة, الحيّة على إزدواج العنف والخضوع ما أثاره السيد مسعود البرزاني في قضية إنزال العلم العراقي, وكاد أن يخلق به فتنة وطنية. برر البارزاني قراره قائلا إن علم العراق هو العلم الذي رفعه صدام عند ذبح الكرد. لكن البارزاني يعلم أنه العلم ذاته الذي رفعه الجيش العراقي حينما هبّ لنجدته عندما أوشك غريمه الطالباني أن يخضعه بالقوة. فالعلم يمكن أن يكون رمزا للخير والشر, تبعا لموازين القوة. فحينما يكون البارزاني ضعيفا يكون "علم الديكتاتور" نافعا ومقبولا: فهو خير, وهذا هو ما نسميه بمنطق الخضوع, وحينما يكون الديكتاتور في القفص والبارزاني في سدة الحكم, يكون العلم شرا, وهذا منطق القوة. مثل هذا التناقض في المنطق يمكن تبريره سياسيا بسبل شتى, ولكن ما لا يمكن تفسيره وتبريره هو تناقض البارزاني المركّب, حينما ادعى أنه مستعد لرفع علم "ثورة 14 تموز" مؤقتا درءا للفتنة. ما نريد الوصول اليه هنا هو أن البارزاني , كذات حاملة لموروثات سياسية وثقافية محددة, بصرف النظر عن صواب أو خطأ موقفه, ينسي مرة ثانية أن هذا العلم هو العلم ذاته الذي دكت به مدفعية وطائرات الحكومة العراقية قرى كردستان, حينما كان عبد الكريم في نظر الثورة الكردية "الديكتاتور الأرعن", الذي تحالفوا ضده مع الإنقلابيين الدمويين البعثيين. إنه الازدواج التاريخي ذاته, ولكن بلغة بهدنانية! فالأرث الثقافي لا ينتقل بالدم, بل ينتقل من خلال العلاقات والخبرات الثقافية. لذلك أؤكد دائما في أبحاثي على أن دراسة وكشف ثقافة العنف, في العهود كافة, ضرورة ثقافية وطنية ملحّة.
إن إعادة الحفر التاريخي تكشف لنا أن الكثير من غوامض الاحداث في العراق تمت بفعل عامل ازدواج العنف والخنوع في ذات واحدة. فعامل الازدواج يلعب دورا خطيرا في تقرير مصائر البشر حينما يكون جزءا من خصال الشخصيات التي تلعب الدور القيادي, فكريا وسياسيا. واحدة من أكبر مشكلات العراق السياسية, قضية كركوك عام 1959, أو ما عرف بمجازر كركوك, يقف خلفها هذا الميل المزدوج وتجاذباته غير المرئية. فمنظمة الحزب الشيوعي في المدينة لم تكن بمستوى الحدث. وسبب ذلك يعود الى وجود شخص على رأس قيادتها لم يكن قادرا على خلق توازن سياسي دقيق في وضع متوتر. لأنه, كفرد, كان يفتقد, الى هذا التوازن نفسيا. فقد وقع " أبو سرود", مسؤول منظمة كركوك بين تأثير التطرف الكردي, بحكم ضغط الشوفينيين الكرد في المدينة ومن خلال علاقته العائلية, زوجته الكردية, وبين إحساسه بالضعف الداخلي, الذي كان يغمز به بعض المنافسين, خفية وعلنا, محاولين ابتزازه. فأبو سرود, هو نفسه عادل منير, الذي كان يعاني من ضغط نفسي شديد بسبب خلفيته اليهودية. كان الصراع بين ضغط الشوفينيين والشارع من جهة وبين مشاعر عدم الوقوع في الضعف هو الذي غلّب لديه قرار إطلاق حالة الفوضي, بدلا من كبح جماح الجماعات المتطرفة والسيطرة على مشاعر الناس. فالمزاج الفردي يتأثر سلبا وايجابا بمكونات الوسط الاجتماعي والثقافي وينطبع بطابعه, مرغما, في حالات خاصة. وحينما يلعب المزاج الفردي دورا قياديا, يصبح حينئذ عاملا مؤثرا في الوسط الاجتماعي نفسه, الذي ولد في أحضانه وتحت تأثيره.
إن أبرز الرموز التاريخية العراقية القديمة المنحوتة, مجسّم جلجامش وتمثال "أسد بابل", يجسدان هذه الحظة الفريدة: اتحاد العنف بالخضوع. في "أسد بابل" نجد شاهدين تاريخيين, الأول: الأسد كرمز للقوة والإنسان كرمز للخضوع. أما الشاهد الثاني فهو رأس التمثال المهشم. إنه الحفر الثقافي على الرمز التاريخي: التدمير والمحو. أما في مجسم جلجامش فتنقلب الصورة رأسا على عقب, ويغدو جلجامش رمزا للقوة, أما الأسد المهصور, مثل حمل مذعور, بين ذراعي جلجامش, فيصبح رمزا للخضوع. هنا يتبادل الأسد والإنسان أدوار القوة والخضوع, كما تبادلها البارزاني مع عبد الكريم وصدام في قضية رفع وإنزال العلم العراقي.
لقد فهمت نظرية الوردي فهما خاطئا, نتيجة للثقافة السائدة لدى عموم العراقيين, القائمة على الإشاعة, وحب سماع الأخبار من دون التثبت من فحواها, وعدم الصبر على القراءة المعمقة والعلمية, والميل الى قراءة العناوين والأسماء وتحديد المواقف على ضوئها, وادعاء العلم من غير حاجة الى معرفة واطلاع. فقد جرى تشويه هذه المفاهيم العلمية معتقدين أن نقد شخصية العراقيين شتيمة لهم أو انتقاص من قيمتهم. وهناك من ظن خطأ أن نقد عيوب هذه الشخصية, كالبحث في العنف أو الازدواج يعني جعلها شخصية مرضية, غير سوية. وكل هذا يتعارض تماما مع مفاهيمنا ومع مفاهيم من سبقونا الى بحث هذا الموضوع.
فالعراقي, في نظر الوردي, لا يختلف عن غيره من بني البشر في حياته. لكن الفرق الوحيد " موجود في تفكيره المثالي فقط, فهو يفكر بمبادئ لا يستطيع تطبيقها ويدعو الى أهداف لا يقدر على الوصول اليها. ولذلك تجده يقول للزعماء انهضوا فأنا معكم, ثم اذا نهضوا وجد في نهضتهم مخافة فقبع في بيته يشكو من تصاريف الزمان" ص 54
أما موضوع العنف والخضوع, فهو سلوك جمعي في الغالب يشترك فيه البشر كلهم بدرجات متفاوتة. وأكاد أجزم فأقول إن نوازع العنف موجودة لدى البشر جميعا, وحتى نوازع استعباد الضعيف قائمة في نفس الإنسان, كجزء من بقايا طبيعته الحيوانية. لكن هذه النوازع تم تهذيبها تاريخيا, فاضطر الفرد الى إخفائها أو تحويلها أو تجميدها (كبتها). لكننا نجده يعيد إطلاقها فورا حالما تكون الأحوال مؤاتية نفسيا واجتماعيا. فالأفراد المصابون باختلالات في النمو العقلي والعاطفي يكونون أميل الى إطلاق مثل هذه النوازع, لضعف جهاز التحكم لديهم, ولسوء استخدامهم شروط التهذيب الحضاري التي اكتسبتها البشرية خلال تطورها التاريخي. ولكن حتى الشعوب المتقدمة دستوريا وحضاريا ليست بمنجاة من وقوع كتل وجماعات, وربما فئات واسعة اجتماعيا, وأحيانا المجتمع بأسره, تحت مشاعر التحلل من تهذيب الحيوان القابع في الداخل, فتطلق لنفسها العنان, وتسمح بظهور مشاعر الحقد والكره والعداء والعنف علنا, ولا تتورع عن تبريرها قانونيا وأخلاقيا وسياسيا. مثل هذا نجده لدى الجماعات المتطرفة عرقيا أو دينيا أو آيديولوجيا في أكثر البلدان رقيا, وهي جماعات لا تقل تحضرا وسوية عن غيرها. وربما يميل المجتمع بأسره, في الغالب, نحو العدوانية السافرة, تحت تأثير عوامل تاريخية جمعية, كما يفعل الأميركيون الآن قياسا بغيرهم من الأوربيين. ولهذا السبب, فإن إطلاق طاقات العنف في المجتمع العراقي يكتسب صفاته الحسية بالظهور علنا, لا لمرض في الشخصية, وإنما لوجود ميل في الواقع الاجتماعي يسمح ويجوز حدوث ذلك, ويغدو هذا الميل سافرا نتيجة لكثرة تكراره تاريخيا وطول ممارسته, الى الحد الذي يكاد أن يكون جزءا من بنية ثقافية, أي يكون نسيجا روحيا وعقليا, وليس مجرد مزاج عابر. وهذا الميل لا يزول إلا بكسر دورة إنتاجه. أي بتدمير الأسس العامة المنتجة والمجوزة له: الاقتصادية والاجتماعية والسياسية, وبدرجة أكبر الثقافية. وبخلاف ذلك فسيظل هذا الميل يفعل فعله, مهما كانت نوايا الناس طيبة وخيّرة.
إن التاريخ لا يكذب.
تروي كتب الأخبار أن سائلا جاء يسأل عبدالله بن عباس عن حكم نجاسة البعوضة, وفي رواية ثانية عن جواز قتل الذبابة في المسجد. فقال له ابن عباس: من أي بلاد أنت؟ أجابه السائل: من العراق. فرد عليه ابن عباس: عجبت لكم أهل العراق تقتلون الحسين بن علي وتستفتون في دم الذبابة!
بعد 1320 سنة على ذلك السؤال, عقب حصارمدينة الفلوجة, وبعد تمشيط شوارعها وبيوتها الـ 36 ألفا المتضررة بالقصف, قام جنود أميركيون بقتل جرحى في أحد مساجد المدينة. وقد كشفت الأحداث أن بثّ صور القتل كان متعمدا, حاله كحال صور التنكيل بثوار الاتنفاضة, التي سربها إعلام صدام حسين الى العالم بواسطة صحافيين غربيين, لغرض إرعاب المعارضة والشعب. كان هدف النشر إشعار العالم أجمع أن الجندي الأميركي يستطيع أن يقتل متى يشاء, وأينما يشاء, وكيفما يشاء.
في العراق, فهم رئيس الوزراء إياد علاوي تلك الرسالة بطريقته الوطنية,الفريدة, وترجمها عمليا بالموافقة التامة على حصار وتدمير المدينة على رؤوس ساكنيها علنا أمام شاشات التلفزيون, ولكن, من دون أن يتخلى عن أصالته العراقية. لذلك صرح لوسائل الإعلام قائلا إنه " قلق من إعدام جريح عراقي". هذا الخبر الموثوق نقلته صحيفة الصباح الحكومية في 25 شباط 2005 . ترى, كيف قُدّر لذبابة ابن عباس أن تحيا كل هذا الزمن الطويل! وكيف قُدّر لها اختراق تحصينات المنطقة الخضراء والدخول في تلافيف دماغ علاوي؟
هذا سر من أسرار الشخصية العراقية!
إن أخطر جوانب هذا الميل ينشأ حينما يكون العنف أو الخضوع جزءا من صفات الحاكم. حينذئذ يصبح تأثيره الإجتماعي معمما, وسريعا وشاملا, وفي أحوال كثيرة مصدرا للكوارث المؤكدة. لقد آثرنا أن نعطي أكبر عدد من الأمثلة المأخوذة من سلوك السياسيين الحاكمين, لكي تكون الصورة واضحة وبينة. وقد تبدو هذه الصورة, للبعض, مبالغا فيها, كما لو أنها موضوعة تحت العدسة المكبرة. وهي حقيقة كذلك, لأن أفعال السياسيين, كما أسلفت, لها تأثير اجتماعي, يتجاوز حدود الفرد, الى المجتمع كله.
هذا الاضطراب العقلي وما يرافقه من اضطرابات سلوكية أو العكس, طابع عام يميز العقلية السياسية حينما تتجرد من الضوابط الأخلاقية والقانونية بحكم إحساسها بالقوة أو بالخضوع التام أو باتحادهما. فعلاوي الذي سير حملات التنكيل ضد ما يعرف بالإرهابيين طوال فترة حكمه وفي مرحلة مجلس الحكم, حينما كان رئيسا للجنة الأمن, هو الشخص ذاته, الذي يقف خلف المباحثات السرية بين الوسطاء الأميركيين وممثلي "المقاومة الشريفة"! وقد فضح الأميركيون تلك اللقاءات التي تمت بتدبير منه وبضيافته في بغداد وبعض العواصم الأجنبية. ليس علاوي وحده من يتمتع بمثل هذا الاضطراب, فأيهم السامرائي, وزير الكهرباء في حكومته, حامل الجنسية المزدوجة, العراقية- الأميركية, والعضو المزدوج في الحزب الجمهوري الأميركي وحزب الباججي, يقوم فور إخراجه من الحكومة "المعادية للارهاب", بقراءة بيان صادر عن "المقاومة الشريفة"! هذه الاضطرابات العقلية والسلوكية لا يبررها عقل سليم بيسر, إلا وفق منطق خاص, معقد, هو منطق الازدواج. أما رئيس الجمهورية جلال الطالباني, فاضطراباته العقلية والسلوكية لا تقبل الإخفاء. ومن هنا نرى أن فوضى الواقع السياسي ناجمة بدرجة أساسية من فوضى القيم والمفاهيم والسلوك, التي تتحلى بها الجماعات التي تقود الواقع السياسي وتتحكم به.
من يراقب الواقع السياسي والثقافي العراقي يجد ما يكفي من الأدلة على ازدواج عقل السياسيين العراق, الناشئ من سياسة تبادل أدوار القسوة و الخنوع. فعقب صدور تقرير بيكر- هاملتون بيوم, أعلن جلال الطالباني ما يلي: إن وجود ضباط أجانب يعملون مع الجيش العراقي هو خرق للسيادة العراقية." وتساءل الرئيس العراقي " ماذا سيبقى من السيادة العراقية إذا أصبح الجيش العراقي أداة بيد ضباط أجانب قدموا من الخارج؟"
فالطالباني الذي اعتبر احتلال العراق تحريرا, والذي باع الوطن من شماله حتى جنوبه علنا, من دون أن يرى في ذلك خرقا للسادة الوطنية, يرى في وجود ضباط أميركيين في العراق إنتقاصا للسيادة!
ذبابة ابن عباس ليست طرفة تاريخية, وليست خيالا محضا. إنها واقع يومي في البيئة العراقية.
مثل هذا المنطق هو الذي يُسيّر الواقع السياسي والثقافي العراقي, وهو الذي يعيّن اتجاه سير المجتمع.
إنها تناقضات الشخصية وهي تتأرجح بين العنف غير المشروط والخضوع المَرَضي. في هذه التناقضات نعثر على بعض ألغاز القضايا والكوارث الوطنية الغامضة التي ارتبطت بسلوك صدام حسين: اتفاقية الجزائر مع شاه إيران, انهيار الجيش العراقي في المحمرة, الانسحاب المذل والكارثي للجيش العراقي من الكويت, لجان التفتيش, شروط الحصار, انهيار السلطة المريب عشية الاحتلال الأميركي, وبالمقابل: غزو المحمرة واحتلالها, غزو الكويت واحتلالها, قمع الانتفاضة عسكريا, حملات الأنفال, قمع المعارضة.

# فصل من كتاب سيصدر قريبا بعنوان " من يصنع الديكتاتور؟"



#سلام_عبود (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- جيش الوشاة.. شعراء السيد القائد.. شعراء السيد العريف
- نوبل على مائدة هادئة
- خرافة اجتثاث البعث في التطبيق
- اجتثاث البعث, دراسة تحليلية تاريخية حول قضية اجتثاث البعث وص ...
- البرابرة يستيقظون مساء ..رسالة شخصية الى مواطن اسرائيلي
- رسالة الى صديق لبناني
- الواقعيون العرب:من نظرية المؤامرة الى نظرية المغامرة
- العودة الى آل ازيرج
- سنلتقي خلف منعطف النهر :::الى أخي كمال سبتي
- من الثورة الغادرة الى الثورة المغدورة
- من أجل مشروع ثقافي عراقي بديل.. جدل ثقافي ساخن على قبر يوسف ...
- لماذا يخشى السياسيّون العراقيون جدولة رحيل قوات الاحتلال؟
- جماليات فن التعذيب
- بريد الأنبياء الى أجمل الشهيدات:أطوار بهجت
- ما بعد جائزة نوبل للأدب, أزمة الذات الثقافية العربية
- الرابحون والخاسرون في معركة حرية التعبير - حول نشر صور الرسو ...
- عولمة الشر وتفكيك الديكتاتورية
- غرائز مسلّحة - ملاحظات على مقالة: أي نزار قباني يسلسلون ورسا ...
- أول حرب جنسية في التاريخ
- ارحلوا ايها الكلاب


المزيد.....




- روبرت كينيدي في تصريحات سابقة: ترامب يشبه هتلر لكن بدون خطة. ...
- مجلس محافظي وكالة الطاقة الذرية يصدر قرارا ضد إيران
- مشروع قرار في مجلس الشيوخ الأمريكي لتعليق مبيعات الأسلحة للإ ...
- من معرض للأسلحة.. زعيم كوريا الشمالية يوجه انتقادات لأمريكا ...
- ترامب يعلن بام بوندي مرشحة جديدة لمنصب وزيرة العدل بعد انسحا ...
- قرار واشنطن بإرسال ألغام إلى أوكرانيا يمثل -تطورا صادما ومدم ...
- مسؤول لبناني: 47 قتيلا و22 جريحا جراء الغارات إلإسرائيلية عل ...
- وزيرة خارجية النمسا السابقة تؤكد عجز الولايات المتحدة والغرب ...
- واشنطن تهدد بفرض عقوبات على المؤسسات المالية الأجنبية المرتب ...
- مصدر دفاعي كبير يؤيد قرار نتنياهو مهاجمة إسرائيل البرنامج ال ...


المزيد.....

- كتاب رينيه ديكارت، خطاب حول المنهج / زهير الخويلدي
- معالجة القضايا الاجتماعية بواسطة المقاربات العلمية / زهير الخويلدي
- الثقافة تحجب المعنى أومعضلة الترجمة في البلاد العربية الإسلا ... / قاسم المحبشي
- الفلسفة القديمة وفلسفة العصور الوسطى ( الاقطاعية )والفلسفة ا ... / غازي الصوراني
- حقوق الإنسان من سقراط إلى ماركس / محمد الهلالي
- حقوق الإنسان من منظور نقدي / محمد الهلالي وخديجة رياضي
- فلسفات تسائل حياتنا / محمد الهلالي
- المُعاناة، المَعنى، العِناية/ مقالة ضد تبرير الشر / ياسين الحاج صالح
- الحلم جنين الواقع -الجزء التاسع / كريمة سلام
- سيغموند فرويد ، يهودية الأنوار : وفاء - مبهم - و - جوهري - / الحسن علاج


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - سلام عبود - مقدمة لدراسة الشخصية العراقية