أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - حامد تركي هيكل - سعادة المستشار














المزيد.....

سعادة المستشار


حامد تركي هيكل

الحوار المتمدن-العدد: 8029 - 2024 / 7 / 5 - 16:55
المحور: الادب والفن
    


المستشار

متعباً خائرَ القوى يجلس في مطبخه وحيداً ينظر من خلال نافذة المطبخ المطلّة على الكراج الفسيح ، الذي كان فسيحاً قبل أن تكتظُّ على أرضيته أكياس قمامة سوداء وزرقاء وأكياس خيش بيضاء لازالت تحتفظ ببقايا الطحين، وثمة صناديق متنوعة الأحجام والأشكال والأنواع، كلها موضوعة بشكل فوضوي على أرضية كراج السيارة، كان عليه أن يقوم بترتيبها وإعادة وضعها على رفوف المكتبة، الا انه يشعر بتعب اليوم، ويظن أنه ربما لن يكون قادراً على القيام بهذا العمل في أي وقت آخر. يلتفت الى شاشة التلفزيون التي كانت تبثُّ صورا مؤلمة ، صورا عن مدينة أو ربما عمّا كانت مدينة قبل أن يحولها القصف الى ركام. هياكل رمادية مهشمة من ركام وحديد ورمال تذروها الرياح.
ترى هل تحتوي تلك الأكياس كلَّ شيئ؟ يشكُّ في ذلك. كان يودُّ منذ زمن بعيد أن يستعيد مكتبته التي يعتزُّ بها كثيراً، والتي كانت تضمُّ أكثر من ستة آلاف كتاب، وكان يرغب بشدة أن يتمكن من نقل محتويات المخزن الأخرى التي يعتزُّ بها كثيرا، دراسات متخصصة شارك فيها، مجلدات من الدراسات، مخططات نادرة، صور فوتوغرافية ذات أهمية قصوى، مداليات، دروع، نياشين، وأقلام حبر ذهبية وساعات سويسرية من الذهب الخالص، هدايا، كتب شكر وتقدير مذهبة مؤطرة بأطارات ذهبية فاخرة، وأشياء أخرى كانت تلك حصيلة عمله الدؤوب الذي استمر عشرات السنين.
لكنه يتسائل أليست تلك الأبنية المهدمة التي يعرض صورها التلفزيون كانت ذات يوم شققاً آمنة تضمُّ حيوات آلاف الأشخاص، أطفال أمهات آباء، جيران، قصص صداقة، وأطباق طعام يتبادلها الجيران! أين أصبح كل ذلك؟ وأي يد ظالمة هدَّت كلَّ ذلك لتحيله الى ركام؟ مجرد أكياس قمامة وصناديق كرتونية مبعثرة على أرضية الكراج.

تذكر بيته الجميل الذي بناه في حي الكفاءات في بغداد ، كان الأمل والطموح وقتها سيد الموقف، وبدا كلُّ شيء كما لو أنه يبلغ درجة الكمال، فقد عاد للتو من بعثة دراسية الى بريطانيا، كل شيء عال العال. منح قطعة أرض وقرض وتسهيلات، كان عليه انجاز بناء البيت بأسرع ما يمكن ليتفرغ للعمل بكل طاقته، أكمل البيت وسكن فيه، وأثثه على أفضل ما يمكن أن يكون الأثاث، ورصَّ مكونات المكتبة كتاباً كتاباً، على مهل، استغرق ذلك ربما ثلاثين سنة، قبل أن يرن الهاتف ليبلغوه بضرورة إخلاء البيت فوراً ودون أن يحمل من أثاثه شيئاً والا فأنهم سيقتلونه.
كل شقة من شقق أبنية المدينة المهدمة لها حكاية. من المؤكد أن لها حكاية. بل ربما حكايات، فالأشياء لا تأتي هكذا بسهولة. الأشياء تنسج حول نفسها قصصاً. تتشابك مع الأحداث وتنشئ لها ذكريات ليصير لها وجود آخر غير وجودها السابق. تصير لها أسماء. وتُحاط بالمشاعر. حين أُضطر للانتقال الى جانب الرصافة للحفاظ على حياته، طلب من جاره أن يسكن في بيته وأن يحافظ على المكتبة العزيزة، سكن الجار سنوات، ثم بعد ان استقر الوضع الأمني في بغداد، قال له الأصدقاء لابد أن تؤجر دارك ليعينك مبلغ الايجار على تحمل نفقات الحياة والعلاج. لكن الجار أبى وماطل، ولم يفرغ الدار الا بعد سنة، وحين أجّرها الى رجل ذي مكانة ومسئولية في الدولة ، رجل مهم، بدأ يعاني الألم. فقد ظل يتواصل مع ذلك المسئول سنوات من أجل أن يسمح له بنقل المكتبة، لكن الرجل يرفض. لابد أن أكون حاضرا، كيف تفكر بالحضور الى بيتي وأنا غير موجود! أنا رجل مهم، ومهماتي حسّاسة وتتطلب مني أن أتواجد في مدن البلاد. انتظر، قال له، وانتظر أربع سنوات أخرى. حتى اضطر لبيع داره الجميلة، اشتراها رجل مستثمر باشر فوراً بهدمها لبناء شقق سكنية على أرضها بعد أن دفع للمسئول الذي كان يسكنها مبلغا كبيرا من المال.

وفجأة انطلقت الطائرات والبوارج والدبابات والمدافع لتهدم أبنية تلك المدينة بكل ما أنطوت عليه من قصص. وبمثل تلك السرعة أيضا، وفي الساعة عينها، ربما، انطلقت الآلات الضخمة تهدُّ البيت على محتويات المكتبة. أبلغه المسئول الكبير في الدولة أن عليه أن يحضر حالاً لاستلام مكتبته، فالآلات بدأت بهدم السقف والجدران، وعليه أن يأتي ليلاً مع عمال لاستخراج المكتبة من بين الأنقاض. ركض مثل شاب صغير رغم سنواته التي ناهزت التسعين، لكنه لم يجد سوى ركام. فقد تمزقت الكتب والمجلدات واختلطت بالركام. اختفت الالوان تقريبا وصار اللون الرمادي هو الغالب. لم تعد الأشياء تمتلك صورها السابقة، فقد اتشحت بالصمت. وَحَّدَها الموتُ، الجدران والممرات، والشرفات، الشبابيك والابواب وما كانت يوماً ما شققاً سكنية تضجُّ بالحياة تحوَّلت الى ركام، مجرد أكياس مبعثرة ملقاة على أرضية الكراج، أما هو فقد أعيته سنواته التسعون، ولم يعد قادراً على تحريك الأشياء. كان يتمنى لو أنه استطاع اطفاء التلفزيون. لكن ذلك العمل بدا مستحيلاً.



#حامد_تركي_هيكل (هاشتاغ)      



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)

الكاتب-ة لايسمح بالتعليق على هذا الموضوع


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- عبد العال
- الندم
- خيارات محدودة
- زمانان
- بيروقراطية ونفاق
- موقفان
- فنان فطري عجيب
- عطلة العيد
- حكايتا بقرة ووزّة
- اجتماع اللجنة العليا
- ضحايا مجرمون
- حكاية موت الدكتور سلمان
- حكاية سعيد الورّاق
- كاميرات ثلاث -الجزء الثالث
- كاميرات ثلاث -الجزء الثاني
- كاميرات ثلاث -الجزء الأول
- خيالات
- هو الذي رأى كل شيء _الجزء التاسع والأخير
- هو الذي رأى كل شيء _الجزء الثامن
- هو الذي رأى كل شيء _الجزء السابع


المزيد.....




- مصر.. تأييد لإلزام مطرب المهرجانات حسن شاكوش بدفع نفقة لطليق ...
- مصممة زي محمد رمضان المثير للجدل في مهرجان -كوتشيلا- ترد على ...
- مخرج فيلم عالمي شارك فيه ترامب منذ أكثر من 30 عاما يخشى ترح ...
- كرّم أحمد حلمي.. إعلان جوائز الدورة الرابعة من مهرجان -هوليو ...
- ابن حزم الأندلسي.. العالم والفقيه والشاعر الذي أُحرقت كتبه
- الكويت ولبنان يمنعان عرض فيلم لـ-ديزني- تشارك فيه ممثلة إسرا ...
- بوتين يتحدث باللغة الألمانية مع ألماني انتقل إلى روسيا بموجب ...
- مئات الكتّاب الإسرائيليين يهاجمون نتنياهو ويطلبون وقف الحرب ...
- فنان مصري يعرض عملا على رئيس فرنسا
- من مايكل جاكسون إلى مادونا.. أبرز 8 أفلام سيرة ذاتية منتظرة ...


المزيد.....

- فرحات افتخار الدين: سياسة الجسد: الديناميكيات الأنثوية في مج ... / محمد نجيب السعد
- أوراق عائلة عراقية / عقيل الخضري
- إعدام عبد الله عاشور / عقيل الخضري
- عشاء حمص الأخير / د. خالد زغريت
- أحلام تانيا / ترجمة إحسان الملائكة
- تحت الركام / الشهبي أحمد
- رواية: -النباتية-. لهان كانغ - الفصل الأول - ت: من اليابانية ... / أكد الجبوري
- نحبّكِ يا نعيمة: (شهادات إنسانيّة وإبداعيّة بأقلام مَنْ عاصر ... / د. سناء الشعلان
- أدركها النسيان / سناء شعلان
- مختارات من الشعر العربي المعاصر كتاب كامل / كاظم حسن سعيد


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - حامد تركي هيكل - سعادة المستشار