أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - سليمان جبران - وديع البستاني















المزيد.....



وديع البستاني


سليمان جبران

الحوار المتمدن-العدد: 8023 - 2024 / 6 / 29 - 13:52
المحور: الادب والفن
    



في ديوان الفلسطينيات، يعرّف وديع البستاني نفسه (1888-1954) بأنّه & لبنانيّ
المولد والعشيرة وفلسطينيّ الإقامة والتوطّن& ، وهو يختصر هذا الانتماء & الثنائيّ&
في بيتٍ من الشعر أيضا:
ومِنْ ورائي فلسطينٌ أعيشُ لها حتى أموتَ وفي عينيَّ لبنانُ

وقدْ رأينا أنْ نقفَ ببعض التفصيل على شخصيّة هذا الشاعر وشعره، إلى جانب
إبراهيم طوقان وعبد الرحيم محمود وعبد الكريم الكرمي، أشهرِ الشعراء
الفلسطينيين في عهد الانتداب، لأسبابٍ تسوّغ، في رأينا، إدراجَه مُمَثّلاً، بلْ رائدا
للشعر الفلسطيني في ذلك العهد.
السببُ الأوّل أنّ البستاني اتّصل بقضيّة فلسطين، كما يذكر في & كلمة المؤلّف& في
ديوان الفلسطينيات، منذ شهر تشرين الثاني 1917، وهو & الشهرُ الذي في ثانيه
المشؤوم صدرَ التصريحُ المشهور المنسوبُ إلى بلفور، وَعْدًا بالوطن القوميّ
للشعب اليهودي& . فقد وصل هذا الشاعر إلى يافا، مُساعدًا مدنيّا للكولونيل باركر،
مع صدور وعد بلفور، وبقيَ في فلسطين، بعدَ أن انتقلَ إلى السكنى في مدينة
حيفا، حتى سنة 1953، حين اضطُرّ أخيرا إلى الرحيل إلى لبنان، فتُوفي هناك بعدَ
سنةٍ من عودته إلى بلدِه.
في هذه الفترة الطويلة & رافق& البستاني الانتدابَ البريطاني والحركةَ الصهيونية،
بشعره وبمواقفه الوطنيّة، ناشطًا في المناسباتِ الوطنيّة والوفود السياسيّة، أو محاميا
مدافعًا في المحاكم عن القضيةِ الوطنيّة. فعلى الرغم من عمله أوّل الأمرِ موظّفا في
حكومة الانتداب لم يتوقّفِ البستاني طوالَ هذه الفترةِ عن نشاطِه في مقاومةِ الحركةِ
الصهيونية، وتأييدِ المطالبِ العربية. ففي رسالة بعثتْ بها اللجْنةُ اليهوديّة في حيفا،
حيث عملَ البستاني، إلى م. أوسشكين في القدس، في أيار 1920، يتجلّى الاستياءُ
واضِحًا من سلوك البستاني في مناصرته القضايا الوطنية: & في المرّة الأولى
زارَني [البستاني] في مكتبي فلفتُّ نظرَه إلى الدعايةِ في الصُّحفِ العربية، وخاصَّة
صحيفة & الكرمل& ، وأردفتُ أنّه بصفته مستشارا للحاكم يجبُ عليه إسكاتُ هذه

2
الدعايةِ، فكان جوابُه أنّه يعتبرُ هذه الدعايةَ ضروريةً ضدّ المطالبِ الصهيونية. وفي
المرّة الثانية حاولَ أنْ يبرهنَ لي أنّ المقاطعةَ الاقتصاديّةَ هي أمرٌ ضروريّ، ويجبُ
على الحكومةِ مساعدتُها، وأنّه شخصيًا لا تَطَأُ قدمُه دُكّاّنا يهوديّا& .
ثم إنّ قصائدَه المنشورةَ في ديوان الفلسطينيات هي سجلٌّ دقيقٌ لِما مرّتْ به فلسطين
في هذه الحقبة من مظاهراتٍ وإضرابات واضطرابات وثورات: ويُتاح لفلسطين
[...] شاعرٌ خصيبُ الوجدان، يقِظ العقل، واعي الضميرِ، يتّصل بحياة هذه البلاد
السياسية اتّصالاً وثيقا يخْبرُ خفاياها فلا يبخلُ على أهلها بالتوعيةِ والتحذير [...] هذا
الشاعر هو وديع البستاني& . وهذا الشاعرُ أبو الإقبال اليعقوبي، يكتب في جريدة
الصراط المستقيم، فينعى في كتاباته على رجال الحركة الوطنيّة في فلسطين & نومةً
طويلةً ناموها& ، وفي العدد 10-1-1930 من الصحيفة، يكتب اليعقوبي قصيدةً
يخاطبُ فيها البستاني بأبياتٍ تعكس صورةَ البستاني الشاعرِ، ودورَه الوطنيّ، في
نظرِه:

أَوديعُ لم تجْهرْ بصوتِكَ عالِيا والدارُ حتّى اليوم في أغلالِها
أنا ما عهدْتُكَ في فلسطينٍ سوى رَجُلِ الجِهادِ تَجِدُّ في استقلالِها
فاجْهَرْ بِصَوْتِك والبُغاةُ كما ترى فلَعلهُ يَقْضي على آمالِها
واعطفْ على تلك العروبةِ مِثلما عطفتْ عليكَ وأنتَ مِن أشْبالِها
فَلأنتَ مِمَّنْ راحَ يُكبِرُ شعرَهُ بِبَني فلسطينٍ (أبو إقبالِها )
لم تردْ هذه الأبيات بترتيبها هذا في الأصل ، ولم نشرْ إلى مواضع الأبيات التي
أسقطناها رغبة في الاختصار، وهكذا نفعل في المقتبسات الشعريّة لاحقا.
السبب الثاني هو أنّ وديع البستاني يمثّل المرحلة الأولى من عهد الانتداب، بل
يمكن القول إنّه يمثّل طورَ الانتقال من الشعر التقليدي إلى الشعر التجديدي في
الثلاثينات والأربعينات. فرغم دراسة البستاني العلومَ والآدابَ في الجامعة
الأميركية، ومعرفته الواسعة في اللغتين الإنجليزية والفرنسية، وترجماته الأدبية
وغير الأدبية إلى العربية؛ رغم ذلك كلّهِ لم يستطعِ التجديدَ الحقيقي، إذ ظلّت
الصياغة الكلاسيكية التي عرفها في قراءاته الشعرية هي الصياغة المهيمنة على
شعره. ثم إنّ شعره الذي يضمُّه ديوانه هو شعر وطنيّ سياسيّ، ألقيَ معظمُه في
المناسبات الوطنية والسياسية، فلعلّه رأى أنّ الصياغةَ الكلاسيكية، بخطابيتها

3
الجهيرة، هي ما يناسب هذا الشعرَ. على كلّ حال، يمثّل البستاني الجيلَ السابق على
الشعراء الثلاثة المذكورين أعلاه، وهو بين أبناء هذا الجيل أولُ من تنبّهَ إلى حقيقة
الانتداب الإنجليزي ووعد بلفور، فبدأ منذ وطئتْ قدماهُ أرض يافا، موظفاً لدى
البريطانيين، يكتب قصائده منبّهًا ومحرضا: في هذه الفترة المبكّرة من الاحتلال
[الإنجليزي] لم تظفر[فلسطين] من شعرائنا المشايخ بما يُنبئ عن إدراك أحدٍ منهم
لحقيقة الموقف وخطورته، ولدورِ الشاعرِ فيه، ولكنْ مِن اللافت للنظر حقّا أنْ
نحسّ بالتجاوب السريع لهذا الواقع في نفس الشاعرِ العربيَّ وديع البستاني، اللبنانيّ
الموْلد والعشيرة الفلسطينيّ الإقامة والتوطن& . والأستاذ حسني محمود مُحقٌّ في
ذلك، فهذا الشاعر علي الريماوي يخاطب الملك جورج في عيد ميلادِه في قصيدةٍ
نشرها في جريدة فلسطين في 13 حزيران 1918، ممتدحًا هذا & الحليف& ، راجيا
منه أن يُعيدَ للعرب أمجادَها الغابرة:

أَلْعُرْبُ أنتَ رَجاؤها والعربُ ليسَ لها سواكْ
حالفتَها فرجاؤُها فيما تشاءُ لَها رِضاكْ
فَأَعِدْ لَها تاريخَها ذاكَ القديمَ، فقدْ دَعاكْ

أمّا وديع البستاني، وهو من خَبر الإنجليز خيرا من مُحايليه من الشعراء، فيكتبُ
في 30-11-1917، بعد أيامٍ من وصولهِ إلى فلسطين مخاطبًا بريطانيا & الحليفة&
ذاتَها:
تريدونَها جِدّا وجِدّا أقولُها منَ اليوْمِ سِرًّا إنْ أردْتُمُ أوْ جَهْرا
فَتَحْنا لكمْ صدْرًا مددْنا لكمْ يدًا وإِنّي لَأَخْشى أنْ تُديروا لَنا ظَهرا
أَرى هُوَّةً تَزْدادُ عُمْقًا سَحيقَةً على عَدْوَةٍ أَنتمْ ونَحْنُ على الْاُخْرى
أرى الوطنَ القوميَّ يعلو بناؤُهُ أرى غُرْفَةً في القَصْرِ تَحْجِبُهُ قَصْرا

4
والغرفة التي يذكرها في البيت الأخير هي غرفة في سراي يافا كُتب على بابها :
الجمعية اليهودية، الرئيس الملازم مكروري، كما ورد في حواشي القصيدة.
ثمّ إنّ البستاني، أخيرًا، لم يظفر، في رأينا، بالمكانة التي يستحقّها في الأبحاث
والدراسات التي تناولت الشعر الفلسطيني في عهد الانتداب. لعلّ السبب في ذلك أنّ
البستاني & لبناني المولد والعشيرة& ، أو لعلّ هناك سببا آخر. ولكنّنا على كلّ حال، لا
نرى ما يسوّغ ذلك مُطلقا. بعض الباحثين تجاهله تماما، وبعضهم ذكره بإيجاز، كما
لو أنّه لا ينتمي إلى الشعر الفلسطيني. الدكتور ناصر الدين الأسد، مثلاً، يُفرد
للبستاني أربع صفحات فقط من كتابه الكبير، دونما عنوان مستقلّ، ويستهلّ حديثه
عن الشاعر كأنما & عرَضا& ، قبل تناوله بعض الشعراء الفلسطينيين في تلك المرحلة:
.. ونحبُّ - قبل أن نعرض لبعض الشعراء الفلسطينيين - أنْ نبدأ بشاعر لبنانيّ
المولد والنشأة، ولكنّه قضى في فلسطين نحو ثلاثين عاما من عمره، هو وديع
البستاني& . أمّا الشاعر إبراهيم الدبّاغ (1880-1946)، وهو فلسطيني النشأة،
مصريّ التوطّن، فقد ظفر باثنتي عشرة صفحة عن حياته وشعره، ليس فيها من
المقتبسات الشعرية سوى ما قاله الدبّاغ في مصر وأحداث مصر وزعماء مصر.
ونحن لا نرى غضاضة في كتابة الدباّغ & القصائد المصرية& ، وهي بلد عربيّ عاش
فيه حتى غدا & وطنه الثاني& . ولكننا عجبنا فعلاً حين تناولنا الجزء الأول من ديوانه
الطليعة، وهو يجمع قصائده من سنة 1920 حتى سنة 1925 ، وجلّه شعر مناسبات
تقليدي تماما، فلم نجدْ فيه قصيدة واحدة تتناول فلسطين وأحداث فلسطين آنذاك. لم
يذكر الدباغ فلسطين سوى مرّة واحدة عابرة في قصيدة له باسم & البناؤون في
فلسطين& ، كتبَها بمناسبة زيارة وفد ماسونيّ مصريّ إلى يافا والقدس، والغريب أنّ
& أحدهم& ، كما يذكر الشاعر، نبّهه إلى إهْمال وطنه فلسطين في شعره، فهو يكتب في
حواشي قصيدة باسم & طلعت بك حرب& قائلاً: قال لي أحدهم قصرتَ شعرك على
الوطنية وجعلتَه وقفاً على سعد باشا ووادي النيل، ولكنّك أهملتَ الوطن الأوّل
& فلسطين& وأغفلتَ القول في رجال الأعمال الجليلة المفيدة لمصر& . فكأنما قصيدته
تلك في طلعت حرب كانت استجابةً لطلب & أحدِهم & القول في رجال الأعمال
الجليلة المفيدة لمصر& ، أمّا & الوطن الأوّل فلسطين& فظل مُهملاً!
البستاني في نظرنا ظاهرةٌ نبيلة في تاريخ الشعر العربي الحديث عامّة. إنّه امتدادُ
& الحلم العربي& في كتابات المفكّرين والأدباء العرب، روّاد الفكر القومي العربي
الذي أخذ يتنامى منذ أواسط القرن التاسع عشر بشكل ملحوظ؛ & الحلم العربي&
بإقامة دولة عربيّة موحّدة أساسُها الرابطة القوميّة، دونما فرْق بين دين وآخر، أو
بين فئة وأخرى، تحقيقا للشعار القوميّ المعروف & الدين لله والوطن للجميع& . وإذا
كان البستاني وهب فلسطين الكثير من شعره وفكره ونشاطه السياسي والقضائي،
فذلك لأنّه اعتبرها قضيةً عربية قومية، بل القضية القومية الأولى، ولذا فإن الجامعةَ
العربية لا تكتمل في رأيه بغير القدس:

5
أَجامِعةٌ وما للقُدْسِ فيها سوى الذيْلِ المُعلّقِ بِالبُنودِ
وما مَعْنى العروبةِ في حِماها وفي قلبِ الحِمى وطنُ اليهودِ؟

وهو يرضى بـ & دين النفط& ، إذا كان يوحّد العرب:
يا نفطُ إنْ كنتَ خيرًا كُنْهُ في وطَني ولا تزدْنا على التهويد تمجيسا
إنْ وَحَّدَ العُرْبَ دينُ النفطِ مُبتدَعًا فليعبدِ العُرْبُ بعدَ اللهِ إبليسا

وفي & المولديه الثالثة& ، و& المولديات& خمس قصائد كان البستاني نظمها في
مناسبات المولد النبويّ الشريف، نقرأ:
همْ فرّقونا بالحدودِ وقسَّموا ولسوفَ يجمعُنا ولو كَرهوا الغدُ

حّيّوا اْلِبلادَ تَحْيَّةً عَرَبِيَّةً وتديّنوا ما شئتُمُ وتعبّدوا
لكِنَّهُ وَطَنٌ إذا حَيّاكُمُ كَتفا إلى كَتِفِ فَخرّوا وَاسْجدوا

فكأنّي به يريد أنْ يعبّر نظمًا عن شعار & الدين الله والوطن للجميع & الشعار القوميّ
الوطنيّ المذكور.
كما أنّ & الحلم العربي& دفعَهُ إلى تأييد ثورة & الشريف حُسين & شأنُه شأنُ معظمِ
القوميين العرب في تلك المرحلة المبكّرة، فقال في قصيدةٍ قصيرة بعنوان & الخلافة
العربية& :
على الأتراكِ أعلنّا جهادًا وبايعنْا الشريفَ لنا خَليفهْ
ولمّا راح & بيت الوعد& يُبنى نقضْنا حجّةَ القومِ السَّخيفهْ

6
أقصرًا في الهوا أمْ بيتَ شَعرٍ ستبني للشريفِ يدُ الحَليفهْ

يطول بنا الحديث إذا حاولنا تقصّي الفكر القومي في شعر البستاني، فهو مبثوث في
قصائد كثيرة من ديوانه. لذا فاننا نختم هذه الموضوعة ببضعة أبيات ينعى فيها على
العرب فرقتَهم، في & المولدية الثانية& ، وفي تلك المرحلة المبكّرة على أثر سقوط
الحكم العربي في دمشق:
أبكلِّ عامٍ حفلةٌ لِلْموْلدِ تُقضى مراسمُها وتُنسى في الغدِ
وتجددُّ الذكْرى لِمَجدِ تالدٍ والمجدُ ثاوٍ ليسَ بالمُتَجَدِّدِ
أيّامُنا تَتْرى تَمُرُّ ومَنْ لَنا مِنْها بِيَوْمِ مِثلِ & يومِ مُحَمَّدِ&
يا ضَيْعَةَ الْأقوامِ بَيْنَ تَمَقْدُسٍ وتَمَدْيُنٍ وتَدَمْشُقٍ وتَبِغْدُد

!!

لعلّه يجدر بنا، قبل الانتقال إلى موضوعة أخرى في شعره، الإشارة إلى قلّة & النقد
الذاتي& في ديوان البستاني، وخلوّه من السخرية المرّة بالزعماء ورجال السياسة،
وهو مجال واضح في شعر إبراهيم طوقان وعبد الكريم الكرمي خاصّة. أغلب الظنّ
أنّ البستاني، وهو اللبناني الماروني المُقيم في فلسطين لم يرغب في تناول الزعامة
الفلسطينية بالنقد والتقريع، بل حاول أن يظلّ فوق النزاعات والخلافات، مكرّسا
جهده وشعره في القضايا الوطنية العامّة . يذكر البستاني في حاشية قصيدته التي ردّ
فيها على اليعقوبي، ملاحظة يُستشفّ منها، ربّما هذا الموقف & الحيادي& ، إذ يقول:
& أرسل المؤلّف [البستاني] إلى صديقه اليعقوبي بردّ منبّها إلى عدم رغبته في نشره،
والسبب أنّ الستر على الأمّة أولى، والموقف ذاته يتحلّى أيضا في تجنّبه الخلافات
الشخصية ومحاولة الإبقاء على الودّ حتى حين تتضمّن بعض قصائده نقدا شخصيّا.
ونحن نعجب، إزاء ذلك، لما يذكره الأستاذ جودت كسّاب في حديثه عن شعر
البستاني الوطني، حين يقول: & ومن مميّزات هذا المضمون الوطني لدى البستاني
كذلك إظهار الشاعر لمثالب الوطنية عند الزعامة والشعب معا، وقد سلك إلى ذلك
أحد طريقين: إمّا التقريع الشديد اللهجة أو النصح والإرشاد& . لعلنا نضيف هنا،
توخيا للدقة والأمانة، ما وجدناه في مطوّلته & سكت الكنار& ، حيث يرد على لسان
الكنار ما يمكن اعتباره نقدًا للزعماء غيرَ مباشر، لكنّه يظلّ حديثه طبعاً بعيدا عن
& التقريع الشديد& :

7

قالَ الكنارُ دعِ الزعامةَ يا لبيبُ لذي الْحَسَبْ
وهداهِدٌ زُعَماؤنا منذُ القديمِ منَ الْحِقَبْ
صمٌّ وبُكْمٌ والزعامَةُ عندَهُمْ كُلُّ الأرَبْ
ريش طويلٌ في الرؤوسِ وطولُ ريشٌ في الذنَبْ
الموضوعة الثانية التي تتردّد في شعره كثيرا هي دعوته إلى تأخي المسلمين
والمسيحيين في الوطن الواحد والقضيّة الواجدة. هنا أيضا يمكن القول بأنّ هذه
الموضوعة هي امتدادٌ للفكر القومي العربي الذي نادى به روّاد القومية العربية قبله.
فما أكثرَ ما يلحّ في شعره على إيمانه بالتآخي الوطني بين المسلم والمسيحي،
واحترامه للنبيّ محمد كما يحترم المسيح عيسى:
وأحمَدُ عيسى في الصليبِ وعودَهُ وأحمدُ في حَدِّ الحُسام مُحَمَّدا
ودينيَ نفعُ الناسِ لا دينَ بعدَهُ وحسبيَ يا ربي تقًى وتَعُّبدا
وأسْجُدُ في قبْرِ المَسيحِ أزورُهُ وفي المسجد الأقصى ترى ليَ مسجدا

وفي ذكرى الأربعين لوفاة المطران الوطنيّ غريغوريوس الحجّار، التي أقامتْها
اللجنْةُ القوميّة في حيفا، يُذَكِّرُ البستاني بوقفة الحجّار الوطنيةِ، أمامَ اللجنةِ الملكيَّةِ
البريطانية، وهيَ أولُ حفْلة تأبينٍ دخلَها المكرفون ودوّى فيها التصفيقُ في تأبينٍ:
يا حبْرَنا العربيَّ كمْ لكَ وَقْفَةً عنْها تدافعُ بِالهُدى مَدْفوعا
كثرٌ وحسبُكَ وقفةً ملكيةً في لجنةٍ تُلقي & البيان& بديعا
سألوا فأفحمهمْ جوابُكَ حُجَّةً سطعتْ بِرائعةِ النهارِ سُطوعا
لا مُسْلِمينَ ولا نصارى إنَّنا عربٌ نريدُ كيانَنا مجْموعا
تتردّد هذه الموضوعة كثيرًا في شعرِ البستاني، كما أسلفنا، ويطول بنا الحديث إذا
حاولنا إيرادَ كلِّ ما تخللَ شعرَه الوطني من تأكيدٍ لهذا المبدأ. لكنْ لا بدَّ لَنا أخيرا
من ذكرِ موقِفِه النبيلِ في حادثة مقتل جميل البحري، صاحب مجلة الزهرة في حيفا.
ففي 6-9-1930 قُتل البحري & في نزاع على قطعة أرض بين الوقفين الكاثوليكي
والإسلامي. وتوهّما أتُّهم السيد رشيد الحاج إبراهيم فأوقف، وانتهى التحقيق
بخروجه ناصع الجبين، وكانت آونة خيف فيها على الاتّحاد الإسلامي المسيحي أنْ

8
يتسرّب إليه الوهن. فقيلت الأبيات ونشرتْ في جريدة & فلسطين& وفي جريدة
& اليرموك& . يقول في هذه القصيدة داحِضًا الشائعات ومدافعا عن الإسلام:
هلْ فوق صدر جميلنا غير الصليب مع الهلال وسامه ووسامي
هل فيكَ غير فتى حديث بعده للعيسوية كان والإسلامِ
يا ناكرين على الجميل جميله وممرّغين جماله برغامِ
يا قائمين إلى التباعد بعده يا حاجبين ضياءه بظلامِ
لا الدين قاتله ولا أصحابه يا ضاربين لجفوة بسهامِ
لا تُلبسوا الدين الحنيف جريمة يا آثمين كبيرة الآثامِ
لا تجعلوه ضحيّةً لخصومةٍ هذا شعار في الحمى لوئامِ

أخيرًا، ليست هذه المواقف النبيلة في شعره غريبةً على شخصه ومسلكه، وهو
مؤسّس الجمعية الإسلامية المسيحية التي عُرفت فيما بعد بـ & اللجنة العربية التنفيذية
للمؤتمرات العربية& ، وكانت تُعقد من حين إلى آخر، إلى أن قامت ثورة 1936،
فحلّتْ محلّها & اللجنة العربية العليا& .
يلفت النظر أيضًا موقف البستاني من المرأة في تلك المرحلة المبكّرة. ليستِ المرأة
وحرّيتها من موضوعات ديوانه البارزة، ولكنّه يُدعى إلى حفلة تكريم نازك العابد،
مديرة المدرسة الإصلاحية، فينظمُ قصيدة لتحيّتها، مُبديا رأيه في المرأة والسفور
والحجاب، وموقفِ المجتمع من المرأة:

أنازكُ تبدو والرجالُ تَطلعُ أمِ الكَوْكبُ الدريُّ في الليلِ يَسْطعُ
وما ضرَّها هذا السفورُ وكُلُّهمُ عيونٌ لِمَرْآها تغضُّ وتَدْمعُ
وأنتِ فتاةٌ ألبسوها قناعَها وقدْ رابهُمْ حتى الجمالُ المُقنّعُ
وقد حَذروها فتنةٌ وتخيّروا وضاقوا بها ذَرْعًا وما العذرُ أوسعُ

9
أنازكُ لا تُحزنْكِ فهيَ فريّةٌ وثوبُ محالٍ بالكذابِ مُرقَّعُ

كلّ الموضوعات السابقة موضوعات ثانوية، وبعضها هامشيّ، أو جوانب من
الموضوعة المركزية في ديوان الفلسطينيات: قضية فلسطين ونضال الشعب
الفلسطيني ضد الانتداب والصهيونية. يبدأ باب الفلسطينيات في الديوان بقصيدة
& الدولة الرضيع& صفحة 82، وتاريخها 30-11-1917 ويجدها القارئ في & المُلحق
الشعري& في آخر هذا الكتاب، وينتهي بقصيدة & ذكرى بيت الدين& صفحة 308
وتاريخها 5-10-1946، ثم تليها 4 أناشيد نظمها الشاعر، لحّن ثلاثة منها الأستاذ
إبراهيم البوراشي، والرابع تلحين الأستاذ سليم الحلو البيروني. وهي أناشيد وطنيّة
لا يغفل فيها عن ذكر فلسطين، حتى في نشيد & النادي الموسيقي بحيفا& ، ونشيد
& النادي التلحمي& .
قضية فلسطين والتحرّر والاستقلال إذن هي شغل الشاعر الشاغل. حتى في قصيدة
كتبها في رثاء أديب أبو ضبّة، وقد قتل في حادثة سيارة، & بسفره مع الزعيم الجليل
كاظم باشا الحسيني في 15-3-1923، لا ينسى الشاعر القضيّة الوطنية، فيرى
الحياة في الاستقلال والموت في تحكّم الأجنبي:

حياةُ الفتى استقلالُه في بلاده وما دونَه حَتْفٌ له ومنونُ
وإنّي إخال الموتَ حُكمَ تحكّمٍ وإلا فقولوا الموتُ كيف يكون؟

لعل أشهر قصيدة للبستاني في المجال السياسي الوطني هي قصيدته & الردّ على
الرصافي& . فلا يكاد باحث يعرض لشعره الوطني إلا ويورد منها ومن قصيدة
الرصافي المقتبسات، متوسّعًا في مناسبتها & الغريبة& . ففي أواخر سنة 1920 يقيم
رئيس القدس ذو الفضل & راغب& حفلة لتكريم هر بر صمويل يحضرُها يهودا
(ما جنس؟)، ويدعى إليها أيضا الشاعر العراقي معروف الرصافي الذي كان في
القدس في تلك الفترة. وبعقلية الشاعر التقليدية ينظم الرصافي قصيدة & ساذجة&
يمدح فيها هرير صموئيل المعظّم ويهودا أيضًا، غيرَ مدركٍ الأبعادَ السياسيةَ
لقصيدته. بعد الحفلة يُرسل سكرتير المندوب السامي القصيدة إلى نجيب نصّار
لنشرها في الكرمل الحيفاوية، فينتبه نصّار لما في القصيدة من & مَطبّات& سياسية،
ولا ينشرها إلا مُرْفقة بقصيدة للبستاني طلبَها منهُ يردُّ فيها على الرصافي. يلتزمُ

10
البستاني في ردّه نفسَ الوزن والقافية، مُفنّدًا فيها موقف الرصافي، بحيث تذكّر
قصيدته بشعر & النقائض& الكلاسيكية. & وكانت النتيجة أنْ فارقَ شاعر العراق
فلسطين، مضطرًّا مختارا، وذلك أنّ شبّان فلسطين قاموا يهْجونه على صفحات
جرائد فلسطين، ولم تكنْ ردودهم محدودةً بحَدٍ. أمّا الصّلة بين الرصافي والمؤلف
فدامتْ صلة مودةٍ خالصة& .
يقول الرصافي في قصيدته & إلى هربر صموئيل المعظم& :
خطابُ يهودا قد دعانا إلى الفكرِ وذكّرنا ما نحن منه على ذكرِ
لدى محفلٍ بالقدسِ بالقوم حافلٍ تبوّأه هربر صموئيل في الصدرِ
دعاهمْ رئيسُ القدسِ ذو الفضلِ راغبٌ إليهِ فلبّوا دعوةً مِن فتًى حُرِّ
ولسْنا كَما قال الألى يُتْهِموننا نُعادي بني اسرالَ في السرِّ والجهرِ
وكيفَ وهمْ أعمامُنا وإليْهِمُ يَمتّ بإسماعيلَ قدمًا بنو فهْرِ
وإني أرى العَرْبيَّ لِلْعرْبِ يَنْتَمي قَريبًا مِنَ العِبْرِيِّ ينمى إلى العِبرِ

أما ردّ البستاني فكان أكثر تفصيلاً في القضايا السياسية، تناول فيه مسألة هجرة
اليهود إلى فلسطين، ووعد بلفور، وحقّ العرب في القدس، حيث كنيسة القيامة
والأقصى & أولى القبلتين& :
خطابُ يهودا أم عُجابٌ من السحر وقول الرصافي أم كذابٌ من الشعر
قريضكَ من درّ الكلام فرائدٌ وأنت ببحر الشعر أعلم بالدرِّ
ولكنّ هذا البحر بحر سياسةٍ إذا مدّ فيه الحقّ آذن بالجزر
أجلْ عابرُ الأردنِ كان ابنَ عمّنا ولكنّنا نرتاب في عابر البحرِ
أيهجر اوربا ليبنيَ & بيته& على قبّة ما بين مهديَ والقبرِ
هنالك للقبر الكريم كنيسةٌ تذكّرنا صلْب المسيح مدى الدهرِ

11
هنالك للإسلام أوّل قِبلة هنالك سرٌّ والحقيقة بالجهرِ
فهيكلُكمْ يا للكرامةِ مَسجدٌ وفيه نصلّي في العشيةِ والفجرِ
فما بالكمْ تبكونَ خلفَ جِدارهِ وتَذْروَن هاتيكَ الدموعَ على الصخرِ !
أنُؤْمنُ في بلفور بعد محمّدٍ وعيسى وموسى، والوزيرُ من الوِزرِ؟
& ارشليم& دارُ الحَشْرِ والنشرِ حولَها تقومونَ في يومِ القيامةِ والحشرِ
وفي سنة 1920 أيضًا شارك مُفتي يافا في زيارة المندوب السامي لِمصنع الخمور
في عيون قارة (ريشون ليتسيون)، فألقى المفتي سلّة عنب في المعصرة بعد
المندوب السامي، فكتب البستاني في يومياّته:

يا مفتيَ الإسلامِ تعصرُ خمرةً عندَ اليهودِ وما هُديتَ تهوّدا
أنكرتَ دينَ محمّدٍ ومحمّدًا أليومَ تعصرُها وتشربُها غَدا
إنها كما نرى دعوة مبكّرة إلى مقاطعة المشروع الصهيوني، ويبدو أنّ الشاعر أحسّ
بما في البيتين من إساءة شخصية، ولذا فاننا نقرأ في الحاشية: & والبيتان من يوميّة
المؤلّف [...] ولم يُنشر البيتان في يومهما، ولكنّهما بلغا الشيخ المعنيّ بهما، إذ
تناقلتْهما الألسن، وكان - رحمه الله - من أصدقاء المؤلّف، وحصر استياءه في
نفسه، وما عاتب صديقه إلا منتحلاً المجاملة عذرًا ومصرحًا: أنّ الاعتذار عن
الحضور كانَ أولى. ولولا قيام المقاطعة، وهذا الكتاب مائل للطبع لما رضي
المؤلّف بنشر هذه الغمزة، ولكنّ بها عبرة وذكرى، وما فات مات وبقيت العبرة& .
ذكرنا أنفا أنّ البستاني كان من أوائل من حذّروا من بريطانيا الحليفة، وهاجم انتدابها
على فلسطين، بل إنّه في سنة 1936 أصدر في بيروت كتابه الانتداب الفلسطيني
باطل ومُحال، وهو كتاب وضعه في اللغتين الانجليزية والعربية. لذا، ليس غريبا أنْ
يعرض الشاعر في مواضع كثيرة من ديوانه للانتداب معارضا مندّدا. يقول في
قصيدة بعنوان & إنه الله - يحب العربا& تاريخها 24تشرين الثاني 1922:

يشتكي قوميَ من يومٍ أتى بعدَ أمسٍ طابَ لمّا ذهبا

12
أنكروا السيّدَ فيهمْ حاكمٌا فأتاهمْ حاكمًا مُنتَدبا
فمتى يخرجُ فيهم مُصطفى يُرغم الدهرإذا الدهرأ بي
ليسَ يسْتجدي الليالي حَقّه إنّما يسلبُها ما سُلبا
وفي قصيدة أخرى عنوانها & لا وصاية ولا انتداب ولا انتخاب& تاريخها 35 أيار
1923 ، وكانت البلاد قد قاطعت الانتخاب للمجلس التشريعي الأبتر الأعرج& نقرأ:

وأنكرْنا وصايتهمْ عليْنا وقدْ جعلوا بوادِرَها اغتصابا
ولم نندبْهمُ للأمرِ فينا وقدْ حكَموا وسمَّوْه انتِدابا
ومَنّوا أنهمْ قد حرَّرونا إذا مَلَكوا المرافقَ والرقابا
أتَوْنا يحملونَ لنا وطابًا ولكنْ بِئْسَ ما ملَأوا الوِطابا
ودَسّوا السمَّ في الدسْتورِ دسّا فما ذقنا الطعامَ ولا الشرابا
أرادوا الانتخابَ ولمْ نردْهُ فقاطعناهُ وانقطع انْتخابا
وحسْبهُمُ منَ السنواتِ خمسٌ سلخْناها بصحبتهمْ صِعابا
ولا سلمٌ ولا حربٌ ولكنْ عمارُ قلوبِنا أمسى خرابا!
بناء على ما تقدّم من الطبيعي أنْ يحفل ديوانُه أيضا بقصائد المناسبات الوطنية،
والشخصيات الوطنية تكريما أو رثاء. ولا حاجة بنا إلى الإطالة بإيراد المقتبسات
من هذه القصائد، بل نكتفي هنا بذكر عناوينها وموقعها من الديوان لا أكثر: & تحية
العلم& (ص 95)، & الحكم الذاتي& (ص 155)، & الأمة وجمعية الأمم& (ص 111-
148-143 112)، & حرب الاقتصاد& (ص127-129)، & في سبيل الدستور& (ص.
143 – 148)، & فتنة المبكى& (ص 182-184)، & فؤاد حجازي وأخواه&
(ص191-192)، & الرئيس الجليل& موسى كاظم الحسيني& (ص. 223-224)،
& ثورة فلسطين عام 1936 292 ص228-239)، & الثائر الفلسطيني& (ص 255-
257)، & جمال الحسيني& ( )، مهرجان الجلاء ( ص. 299 - 306)...

13
من بين هذه القصائد، وهي كما يظهر كثيرة تتضمّن كلّ القضايا الوطنية والسياسية
التي شغلت الشعب الفلسطيني في عهد الانتداب، قصيدة & الثائر الفلسطيني&
المذكورة أعلاه. تلفت هذه القصيدة النظرَ بما فيها من & مضمون& لا يكاد يختلف عن
قصيدتي إبراهيم طوقان & الفدائي& و& الشهيد& . إلا أنّ أسلوبها يختلف اختلافا كبيرا
عنه في القصيدتين المذكورتين؛ إنه الفرق بين جيلين مختلفين وفنّينن متغايرين.
مع ذلك نورد بعض الأبيات من هذه القصيدة للتمثيل والمقارنة ، وهي من قصائده
الجيدة، على كلّ حال:
واستخارَ اللهَ في نيّتهِ ورأى جنَّته لمّا استخارا
موتُهُ فرضُ وقتلُ المُعتدي حقُّهُ، يبتكرُ الموتَ ابتكارا
النجادانِ على الصدرِ هلالانِ شعّا مئةً صفرًا نضارا
وعلى منكبِهِ بنتُ الوغى أمّ خمسٍ حرّةٌ أختُ العذاري
جاورتْ خنجرَهُ قنبلةٌ وابو العشرِ رعى ذاكَ الجوارا
روحُهُ في كفّهِ مبذولةٌ ودم من راحتيه يتجارى
أعلنَ العصيانَ والثورةَ لا ينثني، إلا وقدْ صانَ الذمارا
ننتقل إلى النظر في النواحي الفنية من شعر البستاني، فنجد أنه شعر مناسبات
واضح، كما أسلفنا، خاصّة قصائده السياسية الوطنية. والشاعر نفسه يحرص على
إثبات تاريخ القصيدة عادة، والصحيفة التي نُشرت فيها، والمناسبة، والشروح
الكثيرة سواء لبعض المفردات الصعبة، أو المقصود ببيت معيّن، أو بعض
الإلماعات إلى الشعر القديم والتراث، بحيث يبدو الديوان مُثقلاً تماماً بالشروح
والهوامش، كما في الشعر الكلاسيكي الجديد، غالبًا. والقصائد بعضها، وهو القليل،
مقطوعات من بيتين أو ثلاثة، كأنما هي خواطر نظمها شعرًا، وبعضها يلاحظ فيه
الطول المتعمَّد، بحيث يمكن اعتبارها امتدادا للمطوّلات الدينية الشائعة قبل النهضة.
أسلوب القصائد، تبعا لما تقدّم، هو أسلوب تقليدي واضح، يسير فيه الشاعر على
نهج الكلاسيكيّين الجدد، ويتضمّن معظم سِمات شعرهم. فالقصيدة عنده هي تعبير
أدبيّ عن المناسبة القومية أو الاجتماعية، تابعةٌّ لها، منفصلةٌ انفصالاً يكاد يكون تامّا
عن ذات الشاعر. إنها باختصار وسيلة لتوصيل الأفكار والمواقف إلى المتلقّي. واذ
هي كذلك، فلا بدّ أنْ تكون أقرب إلى المباشرة والخطابية، مشفوعة بالإيقاع
الكلاسيكي الواضح، بعيدة عن الإيحائية والصور الذاتية المركّبة. بل إنّ شعره بين

14
الكلاسيكيين الجدد أقرب إلى شعر حافظ إبراهيم ومعروف الرصافي في أسلوبه،
منه إلى شعر أحمد شوقي ومحمد مهدي الجواهري مثلاً.
في معظم قصائده، خاصة القصائد & الجادة& ، يعمد البستاني إلى الأوزان الكلاسيكية
الفخمة مثل الطويل والوافر والكامل والبسيط، وهي أكثر الأوزان شيوعًا،
وبالترتيب. القافية أيضا هي قافية موحّدة مطلقة، باستثناء قصائد قليلة هامشيّة
يحاول فيها التنويع في القافية وتبدو أقرب إلى & التجريب& . بل هو يعمد أحيانا إلى
القوافي الوعرة أيضا، لإظهار القدرة والبراعة ربّما، كما في قصيدته & المجدلية
الجوجية& حيث يأتي على 48 بيتا من الطويل رويها الجيم - & يهيجها& - وبأربع
صفحات ونصف من الشروح اللغوية التي يبدؤها & معتذرا& بقوله: & جاء أسلوب هذه
القصيدة جاهليا& !
يُكثر في قصائده أيضا من الإلماع ، أو الإشارة إلى الشعر العربي الكلاسيكي. من
الواضح أنه قرأ وحفظ الكثير من هذا الشعر، وظلتْ إيقاعاته تتردّد في مخيّلته، وإذ
يأخذ في كتابة قصيدته، فإنّ إيقاعا هنا أو قافية هناك يستدعيان بعض هذا المخزون،
فيظهر في قصيدته، وهو يشير في أحيان كثيرة إلى المصدر الكلاسيكي في
هوامشه، وفي أحيان أخرى لا يظن ذلك ضروريا.
في قصيدة بعنوان & فتنة المبكى& مثلاً يأخذه الإيقاع والقافية إلى اقتباس بيتين من
محفوظاته الكلاسيكية:
جرّدوا السيفّ فكانوا جزراً أوقدوا النارَ فكانوا حطبا
إنْ قطعْنا ذنبَ الأفعى فمنْ في غدٍ يُلحق رأسا ذنبا?

ثم يضيف في الهوامش: & هذا البيت والسابق له من بائية بني غسان:
همْ جرّدوا السيفَ فاجعلهمْ له جزرًا همْ أوقدوا النارَ فاجعلهمْ لها حَطبا
لا تقطعَنْ ذنبَ الأفعى وترسلها إنْ كنتَ شهما فألحق رأسَها الذنيا

والشاعر لا يستقي من الشعر القديم فقط، وهو كما ذكرنا يشيرعادة إليها في
الهوامش، بل يستعير من القدماء أحيانا ألفاظهم ومصطلحاتهم ايضا، واعيا أنّ
القارئ حتى في عصره، لا يقدر على فهمها، فيُضطر إلى تفسيرها أيضا. انظر إليه
كيف يستعير في بيتين متتاليين مصطلحات من لعبة المَيْسر الجاهلية وأسماء

15
الأسْهم، ومن أسماء النجوم، مضيفا إليها القول القديم المعروف & لا ناقة له ولا
جمل& أيضاً :
ورجّت سهامُ الحربِ والحربُ مَيسرٌ وبعدَ المعلّى في السهام سَفيحُ
ولا ناقةٌ فيها ولا جملٌ لَنا وأيُّهما سعدٌ فنحنُ ذبيحُ
ليس الإلماع إلى الشعر الكلاسيكي غريبا على كلّ حال، لدى الشعراء الكلاسيكيين
الجدد، لكنْ يلفت النظر فعلاً ما تتخلّل قصائد البستاني من الماعات إلى التراث
الإسلامي بالذات كالقرآن الكريم والأحاديث النبوية. وهي الماعات كثيرة تتخلّل
قصائده يفسّرها في الهوامش حينا، ولا يفسّرها حين يعتبرها شائعة مفهومة للقارئ.
في قصيدة & سكت الكنار& مثلاً، وهي مطولة & ذاتية& يروي فيها الشاعر حكاية
كناره وهروبه، نقرأ هذه البداية :

يا ناسُ أفتوني بما هو جائز وبما يجبْ
باللهِ، بالأملاكِ، والوحيِ المنزَّلِ في الكتُبْ
وبأمه العذراءِ مريمَ والصليبِ ومن صُلبْ
بالمصطفى وابنيْ عليّ والجميلِ أبي لهبْ
وبمعبدٍ ربّ الغناءِ وكلِّ معبودٍ ورَبْ
الإلماعات إلى التراث الإسلامي كثيرة، مبثوثة في قصائده السياسية، خاصّة حين
يعمد إلى تأكيد حقّ العرب والمسلمين في فلسطين والقدس. ونكتفي أخيرا بمثال لا
يذكّر فيه الشاعر بالتراث الديني الإسلامي فحسب، بل يتبنى & الأسلوب الإسلامي&
أيضا، فيسمّي الإنجليز & مشركين& ، بالإضافة إلى التناصّات الواضحة في هذا
المقتبس من الشعر الكلاسيكي:
حيفاءُ ميناءُ الحِمى ولو انّهُ والمشركونَ عليهِ غيرُ موحّدِ
غنّيتُها وكأنَّ خولَةَ جارَتي وكأنَّ لي طللًا ببرقةِ ثهمدِ
وكأنَّ رضوى كَرملي وكأنّني ألقى المليحةَ في الخِمار الأسود

هكذا نجدُ أنّ وديع البستاني ليس فقط & لبنانيّ المولد فلسطيني التوطن& ، بل إنّه
أيضًا & مسيحيُ المولدِ والنشأةِ مسلمُ البيئةِ والثقافةِ& لا يلتفت إلى الرابط الدينيّ بينه

16
وبين الإنجليز، إذْ هو مسكونٌ بالرابط القوميّ الوطنيّ، الرابطِ الأوّلِ والأهمِّ في
حياتِه وشعره!
هذا هو الشاعر وديع البستاني: شاعر لبنانيّ فلسطينيّ، مسيحيّ مسلمٌ، أوّل من
تصدّى للتحدّي الانتدابي - الصهيوني في فلسطين، فكرّس شعره وحياته للدّفاعِ عن
القضية الفلسطينية طوالَ فترة الانتداب، فاستحقّ في رأينا اعتبارَه رائدا للشعر
الفلسطيني!



#سليمان_جبران (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- نهضة الأدب الفلسطيني
- الشعر الفلسطيني في إسرائيل
- السخرية في الفارياق
- الشعر في كتاب الفارياق
- المقامات في كتاب الفارياق
- لم أتغيّر .. وقفت على الرصيف!
- في -التواصل- ومشتقّاته
- من الجملة إلى الموضوعة في التعبير
- ناسك قتلوك يا جول!
- سالم لأنّه ظلّ . . سالما!
- لائحة الدفاع
- صغار لكن..
- الشاعر جورج نجيب خليل
- مقدّمة كتاب الفارياق: مبناه وأسلوبه وسخريته
- يهود لا يعرفون العبريّة!!
- القناعة كنز لا يفنى؟!
- كيف تصير في هذه الأيام، أديبا مرموقا، وبأقل جهد ؟!
- -الجمرة- المتّقدة على الذوام في شعر الجواهري
- حِكَم من الحياة والتراث!
- من الحِكم الخالدة للشاعر الفيلسوف أبو العلاء المعَرّي ( 973 ...


المزيد.....




- -نور وحركة في التنوع- في معرض تشكيلي بالصويرة المغربية
- “موت التوأمان أريك وإريك“ مشاهدة مسلسل house of the dragon ا ...
- السعودية.. تركي آل الشيخ يدافع عن فيلم -أولاد رزق 3- ويكشف ع ...
- بأجواء من القرن التاسع عشر.. موسكو تحيي فعالية -حفل بوشكين ا ...
- إيرادات فيلم -إنسايد أوت 2- تتجاوز مليار دولار عالميا
- ح1 جزء ثاني صلاح الدين.. تردد قناة الفجر الجزائرية الناقلة ل ...
- لبنان-.. -أبو سليم- يسقط على المسرح أثناء تكريمه (فيديو)
- مارلون براندو: -وحش التمثيل- الذي رحل قبل عشرين عاماً
- -متحف البراءة-.. بوح باموق من الصفحات إلى أعين الزائرين
- ترددات قنوات الكرتون .. تردد قناة توم وجيري الجديد 2024 على ...


المزيد.....

- نظرية التداخلات الأجناسية في رواية كل من عليها خان للسيد ح ... / روباش عليمة
- خواطر الشيطان / عدنان رضوان
- إتقان الذات / عدنان رضوان
- الكتابة المسرحية للأطفال بين الواقع والتجريب أعمال السيد ... / الويزة جبابلية
- تمثلات التجريب في المسرح العربي : السيد حافظ أنموذجاً / عبدالستار عبد ثابت البيضاني
- الصراع الدرامى فى مسرح السيد حافظ التجريبى مسرحية بوابة الم ... / محمد السيد عبدالعاطي دحريجة
- سأُحاولُكِ مرَّة أُخرى/ ديوان / ريتا عودة
- أنا جنونُكَ--- مجموعة قصصيّة / ريتا عودة
- صحيفة -روسيا الأدبية- تنشر بحث: -بوشكين العربي- باللغة الروس ... / شاهر أحمد نصر
- حكايات أحفادي- قصص قصيرة جدا / السيد حافظ


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - الادب والفن - سليمان جبران - وديع البستاني