أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - محمود شقير - الأدب بوصفه تعبيرًا عن الجرح















المزيد.....

الأدب بوصفه تعبيرًا عن الجرح


محمود شقير

الحوار المتمدن-العدد: 8012 - 2024 / 6 / 18 - 14:25
المحور: الادب والفن
    


إذا سلمنا بأن الأدب تعبير عن الضعف الإنساني وعن هشاشة الكائن البشري، أو عن جرح كما جاء في العنوان، فإن بعض وقائع حياتي وحياة الفلسطينيين تعدّ تطبيقًا ساطعًا لتلك المقولة.
فقد ولدت بعد اشتعال الحرب العالمية الثانية بعامين، وحين انتهت هذه الحرب بهزيمة النازية كان عمري أربع سنوات، ولست أذكر شيئًا من تفاصيل تلك الحرب إلا فيما بعد حين صرت راشدًا، لكنني عانيت من حرب أخرى وترعرعت إبّان هيمنتها على حياتنا، وما زلت أحيا في ظل تفاصيلها المؤلمة.
وقد اصطبغت حياتي وتجاربي في الحياة، كما اصطبغت قصصي ورواياتي وكثير مما كتبت بألوان الحرب التي شنها الصهاينة على فلسطين منذ أكثر من مئة عام، وما زالوا يواصلون حربهم علينا بكل صلف وإصرار.
كان عمري سبع سنوات حين وقعت النكبة المأساة.
وقد تأثّرتُ كثيرًا حينما شاهدت الناس وهم يغادرون بيوتهم مكرهين، وخفت حينما كنت أستمع إلى انفجارات القذائف المنصبّة على القدس وأهل القدس، ثم لم تلبث الحرب أن اقتربت من بيتنا. ذات مساء، كنا، أنا وأبي، نتناول طعام العشاء، وفجأة انفجرت بالقرب من بيتنا قنبلة. كان لدويّها وقع مذهل في نفوسنا. فلم نكمل عشاءنا، ورحنا نلوذ بغرفة أخرى ليست لها نوافذ من جهة الغرب، خشية أن تنفجر قنبلة أخرى، فتهلكنا.
2
ولم تكن الحرب وحدها هي التي تركت أثرها علي، بل إن للتخلف الاجتماعي الذي كان يسم مجتمعنا أثرًا علي. إذ بعد حلول النكبة، أصبح جدي لأبي يميل إلى العزلة والانطواء.
كان يقضي بعض وقته وهو يقرأ في كتاب مخيف عن عذاب النار في الآخرة، ويروي لمن يأتيه زائراً بعض ما قرأه في ذلك الكتاب. أستمع بين الحين والآخر إلى نتفٍ مما يرويه. يقول إن قيام المرأة بالزغردة في أيّ مناسبة حرام، وسوف تأتي يوم القيامة وفي طرف لسانها ثعبان. ويتحدث عن عقارب في جهنم، الواحدة منها بحجم الجمل، وعن أفاعٍ مرعبة يسلطها الله على الكفار من أهل النار.
ولم تكن حكايات جدّي وحدها هي التي تثير المخاوف في نفسي، فقد كانت لأمي حكايات مستقاة مما مرّ بها من أحداث.
حدّثتنا عن المرأة المجنونة التي صادفتها في وادي الديماس. رأتها من على البعد جالسة في الوادي منفولة الشعر، فالتحقت أمّي بجمع من الرجال والنساء من قرية العبيدية، كانوا عائدين من القدس إلى بيوتهم، فمشت معهم حتى تجاوزت تلك المرأة، التي ظلت تحدق فيها من دون بقية النساء، كأنها تريد أن تنقض عليها، فلم ينقذها من ذلك سوى وجودها مع هذا الجمع من الناس.
وحينما اقتربوا من منطقة "الحرذان" اتجهوا نحو العبيدية، فانفصلت أمي عنهم لأنها كانت ذاهبة إلى البرّيّة لزيارة والدها. نصحوها بأن تغذّ الخطى كي لا تتبعها تلك المرأة التي فقدت عقلها بعد استشهاد أخيها على أيدي العصابات الصهيونية عام 1948، فأسرعت أمّي مبتعدة وهي خائفة.
وحدّثتنا أمّي مراراً، عن معاناتها المريرة في السنوات الأولى لمغادرتها البرّيّة، وقدومها للسكن في بيتنا الجديد في جبل المكبر قريبًا من القدس. كان الجبل في تلك الفترة، قبل النكبة بعشر سنوات، خالياً من البيوت تقريباً. وثمة امرأة مشدودة القوام مثل فرس شموس، تظهر غاضبة كلَّ فجرٍ على مقربة من بيتنا، فتصيح بأهل البيت لأنهم ما زالوا نياماً، تدعوهم إلى الاستيقاظ، ثم لا تلبث أن تختفي بعد أداء مهمتها التي لم يكن أحد يعرف السبب في إلحاحها عليها.
كان خوف أمي في تلك السنوات ينتقل إليّ وإلى أخواتي، خصوصاً وهي تحدثنا عن همهمات مبهمة لرجال غامضين، تسمعها طوال ساعات ما قبل منتصف الليل، قادمة من كهف كبير لا يبعد من بيتنا إلا بضع عشرات من الأمتار.
كانت الحقيقة تختلط بالوهم في ذهن أمي.
3
وكانت مضافة جدّي تمتلئ بين الحين والآخر بأعداد كبيرة من الناس الذين يتجمّعون لكي يقضي جدّي بينهم في نزاع على قطعة أرض، أو في شأن امرأة يوشك زوجها أن يطلقها، أو ما يقع بين أبناء العشائر من مشاجرات لهذا السبب أو ذاك.
آنذاك، كانت المضافة تتحوّل إلى مكان يُحظر دخوله على الأطفال، وقد تعرّضت مرّات عدّة إلى خيبات مريرة، جعلتني حتى يومنا هذا أشعر بالرهبة والارتباك كلما دخلت على حشد من الناس. كنت أدخل المضافة، فتأخذني المفاجأة الضارية، حيث لا يعيرني أحد من الجالسين أيَّ انتباه، حتى أبي الذي يكون جالساً بينهم يتحوّل إلى شخص غريب الطباع، فلا تنفرج أساريره ولا يسمح لي بالاقتراب منه.
أما جدّي فلا يكتفي بعدم الاكتراث، بل ينتهرني بغضب طالباً مني الانصراف، فأنصرف وأنا كسيف الخاطر متألّم مما طالني من أذى نفسي وإحراج.
لذلك شكّلت مضافة جدّي تحدّيًا لي من نوع خاص، فلم يكن الكلام فيها متاحاً لكل راغب فيه. فثمة أصول للكلام تنبغي مراعاتها، فإذا تكلم ذوو السلطة والجاه من أبناء العشيرة، وجب الإصغاء لهم، حتى لو كان كلامهم قليل الأهمية. وإذا تجاسر من لا سلطة لهم ولا جاه من أبناء العشيرة، على الكلام، كان حظهم من الإصغاء لهم محدوداً، ولا يندر أن تشوبه السخريات والتدخّلات والمقاطعات.
أما الأطفال، ممن هم في مثل سنّي آنذاك، فلم يكن مسموحاً لهم بالجلوس في المضافة إذا كانت عامرة بالضيوف، أما إذا كانت التعليلة في المضافة مقتصرة على أبناء العائلة، فقد كان مسموحاً لهم بالجلوس، ولكن بصمت وإذعان.
كان عليّ، وأنا جالس في المضافة، أن أصغي فقط، وإذا حظيت ذات مرّة بتوجيه سؤال عابر إليّ من أحد الكبار، فمن واجبي أن أجيبه باختصار، فإذا تباطأتُ في الإجابة أو تلعثمت، اندلعت فوق رأسي السخريات التي غالباً ما كانت توقعني في الإرتباك، ثم تُسلمني إلى حالة من الصمت الاضطراري المؤلم المُهين.
كنت مضطراً إلى الصمت داخل جدران المضافة حتى سنوات الشباب، فلما حاولت كسر هذا الصمت، بدت محاولاتي خجولة أكثر مما ينبغي، ربما بسبب تهيبي من الأجواء الصارمة التي عشتها إبّان سنوات الطفولة في تلك المضافة المتجهّمة. وبدا لي أن من يُصغون إلي، إنما يفعلون ذلك على مضض، فلم أعد راضيًا عن محاولاتي العديدة لأخذ زمام المبادرة، ولفرض ما أبغيه من كلام على السامعين، فوجدت أن أفضل شيء يحقق لي بعض الرضى عن النفس، الانسحاب إلى مضافتي الخاصّة، أبنيها على الورق، وأدير عبر أرجائها الفسيحة، ما أشاء من كلام ومن حوارات، أنا سيّدها وخالقها، وأنا المسؤول عنها والمتحكم فيها.
كانت الكتابة هي ردّي الممكن على سلطة الصمت، وصرت ألجأ إليها كلما وجدت في نفسي حاجة للبوح أو رغبة في تحدّي المضافة – مضافة جدّي – التي توسّعت مع الزمن، واتخذت شكل سلطة مجتمعية، ما زالت تفرض عليّ، وعلى الغالبية العظمى من أبناء مجتمعي، الكثير من شروطها المجحفة، وما زلت أحاول – عبر الكتابة – أن أفرض عليها شروطي المختلفة.
4
ولم أكن أشعر باستقرار في المكان منذ كنت طفلاً.
آنذاك، وأنا في السابعة من عمري اضطررت إلى مغادرة البيت مع أهلي ذات ليلة من ليالي صيف العام 1948 من جراء هجوم غادر شنّته العصابات الصهيونية على جبل المكبر التابع لقرية السواحرة، مسقط رأسي. غبنا عن البيت ما يزيد عن أربعة أشهر أمضيناها في القسم الشرقي من القرية، ثم عدنا إليه.
ظلّت حالة الخوف من جرّاء العيش القلق في المكان ماثلة في الذاكرة طوال فترات طفولتي وشبابي، بالنظر إلى وجود عدو على الحدود، مستعدّ لاجتياح القرية حيث أعيش، أو لإطلاق النار على الجزء الشرقي من القدس، حيث أتلقّى العلم في مدرستها الثانوية، بعد احتلال جزئها الغربي في العام 1948.
ثم ما لبث هذا الجزء الشرقي أن جرى احتلاله في العام 1967 ، وكان من نتيجة ذلك أن اضطررنا أنا وأهلي وأبناء القرية إلى مغادرة بيوتنا نحو القسم الشرقي من القرية كما فعلنا من قبل، وإنما لأسابيع معدودات هذه المرة، فيما واصل بعض أبناء القرية نزوحهم نحو الشرق بعيدًا من الوطن. ولم نكن نحن الباقين في الوطن آمنين على أرواحنا في زمن الاحتلال. وكان من جرّاء ذلك أن اعتُقلت مرتين مدّة عشرين شهرًا، ثم أبعدت عن البيت وعن القدس وعن الوطن إلى الخارج، إلى الحدود اللبنانية.
هناك، في المنفى، وفي ظل فقدان المكان الأوّل الذي نشأت فيه، لم أشعر باستقرار، كنت كما لو أنني معلّق بين الأرض والسماء، رغم ما أضفاه المنفى على ثقافتي من عمق واتساع، ومن قدرة على النظر إلى الوطن من بعيد بتجرّد وحياد، وعلى محاكمة التجربة الفلسطينية بما لها وبما عليها، من دون تحيّز أو مغالاة.
غير أنني لم أعد قادرًا على كتابة قصة قصيرة بالأسلوب السابق الذي اعتدته وأنا في الوطن، لم أعد قادرًا على استحضار المكان بتفاصيله الحميمة. ثم وجدت حلاً لهذه المعضلة بكتابة قصص قصيرة جدًّا لا تتطلّب مكانًا مفصّلًا، بل إنها تكتفي بمكان جزئي محدود.
وحين عدت إلى الوطن، إلى المكان الأول بعد غياب قسري دام ثماني عشرة سنة، كتبت قصصًا ساخرة يقع المكان وأهله في قلبها. وبسبب أن أهل المكان كانوا مقيَّدين في تنقلهم ما بين المدن والقرى من جرّاء الحواجز العسكرية الإسرائيلية، فقد استدعيت بعض لاعبي كرة القدم، ومغنّين ومغنيات وممثلين سينمائيين وسياسيين وعارضات أزياء من العالم لزيارة الحي الشعبي الذي يقيم فيه أهلي وناسي، للردّ على حالة الحصار وعدم القدرة على التنقّل بحرّيّة في المكان، وللسخرية من عنجهية المحتلين وجبروتهم، وفي الوقت ذاته السخرية مما فينا من تخلّف، نتحمل نحن قسطًا من تبعاته، ويتحمل المحتلون القسط الأكبر بسبب تجميدهم فرص تطوّرنا الطبيعي مثل سائر الشعوب.
وكان من نتائج العودة إلى المكان الأول استنفار الذاكرة واستحضار البرّيّة التي عاش فيها أهلي وأبناء عشيرة الشقيرات، ثم ارتحالهم إلى تخوم القدس، والكتابة عن ذلك في ثلاث روايات، ربما كان الدافع إلى كتابتها الردّ على حالة القلق التي ظلت تلحّ علي، وتشير إلى عدم استقراري في المكان من جراء وجود الاحتلال وممارساته التعسفيّة ضد الفلسطينيين، وفي محاولاته الدائبة لتهويد المكان، والتعاطي معنا على اعتبار أننا غرباء، لا نمتّ بأيِّ صلة للمكان الذي هو فلسطين، وتلك كذبة لم يشهد التاريخ لها أيَّ مثيل.



#محمود_شقير (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- باسم خندقجي أسير بثلاثة مؤبدات شاعر وروائي
- أنا ومدينتي الأولى: القدس4
- أنا ومدينتي الأولى القدس3
- أنا ومدينتي الأولى: القدس2
- أنا ومدينتي الأولى: القدس
- ما قلّ ودل3/ على هامش هذه الحرب
- القدس في كتابات الأسيرات والأسرى8
- القدس في كتابات الأسيرات والأسرى7
- القدس في كتابات الأسيرات والأسرى6
- القدس في كتابات الاسيرات والأسرى5
- القدس في كتابات الأسيرات والأسرى4
- القدس في كتابات الأسيرات والأسرى3
- القدس في كتابات الأسيرات والأسرى2
- القدس في كتابات الأسيرات والأسرى
- تحية وسؤال
- للحلم بقية/ مجموعة قصصية للأسير سائد سلامة
- رواية وليد أبو بكر: العدوى... دفاع عن الأمل ضد اليأس
- على هامش الحرب الأخيرة2
- عن كتاب محمود شقير: غسان كنفاني... إلى الأبد/ بقلم: سعيد مضي ...
- القدس وحدها هناك/ لا شيء في القلب غير القدس/ للكاتب محمود شق ...


المزيد.....




- تردد قناة الزعيم سينما 2024 نايل سات مشاهدة احدث افلام عيد ا ...
- جبل الزيتون.. يوميات ضابط تركي في المشرق العربي
- شوف ابنك هيدخل كلية إيه.. رابط نتيجة الدبلومات الفنية 2024 ب ...
- LINK نتيجة الدبلومات الفنية 2024 الدور الأول بالاسم ورقم الج ...
- رسمي Link نتيجة الدبلومات الفنية 2024 برقم الجلوس والاسم عب ...
- مشاهدة مسلسل تل الرياح الحلقة 127 مترجمة فيديو لاروزا بجودة ...
- بتقنية الخداع البصري.. مصورة كينية تحتفي بالجمال والثقافة في ...
- ضحك من القلب على مغامرات الفأر والقط..تردد قناة توم وجيري ال ...
- حكاية الشتاء.. خريف عمر الروائي بول أوستر
- فنان عراقي هاجر وطنه المسرح وجد وطنه في مسرح ستوكهولم


المزيد.....

- خواطر الشيطان / عدنان رضوان
- إتقان الذات / عدنان رضوان
- الكتابة المسرحية للأطفال بين الواقع والتجريب أعمال السيد ... / الويزة جبابلية
- تمثلات التجريب في المسرح العربي : السيد حافظ أنموذجاً / عبدالستار عبد ثابت البيضاني
- الصراع الدرامى فى مسرح السيد حافظ التجريبى مسرحية بوابة الم ... / محمد السيد عبدالعاطي دحريجة
- سأُحاولُكِ مرَّة أُخرى/ ديوان / ريتا عودة
- أنا جنونُكَ--- مجموعة قصصيّة / ريتا عودة
- صحيفة -روسيا الأدبية- تنشر بحث: -بوشكين العربي- باللغة الروس ... / شاهر أحمد نصر
- حكايات أحفادي- قصص قصيرة جدا / السيد حافظ
- غرائبية العتبات النصية في مسرواية "حتى يطمئن قلبي": السيد حا ... / مروة محمد أبواليزيد


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - محمود شقير - الأدب بوصفه تعبيرًا عن الجرح