الكوميديا الإلهيّة، الخيال الفائق

علي حسين يوسف
(Ali Huseein Yousif)

الحوار المتمدن-العدد: 8009 - 2024 / 6 / 15 - 16:48
المحور: الادب والفن
    

الكوميديا الإلهيّة قصيدة ملحميّة طويلة كتبها الشّاعر الإيطاليّ دانتي (من فلورنسة) المتوفي سنة ١٣٢١ م وتعدّ من أعظم الأعمال الأدبيّة التي أنتجتها أوربا في العصور الوسطىٰ.
الكوميديا الإلهيّة مؤلّفة من ثلاثة أناشيد، كلّ نشيد ثلاث وثلاثون أغنية، تقابل سني حياة عيسىٰ المسيح علىٰ الأرض، تضاف إليها أغنية أخرىٰ في النّشيد الأوّل فتكون عدتها مائة كاملة. وعدد أبياتها ١٤٢٣٣ بيتاً.
تروي الملحمه حكاية رحلة خياليّة يقوم بها دانتي نفسه الىٰ ثلاثة عوالم، وهي: الجحيم فالمطهّر فجنة الفردوس الساحرة . استغرقت الرّحلة أسبوعاً كاملاً ؛ أمضى يومين منها في الجحيم، وأربعة في المطهّر، ويوم واحد في الجنة.
بدأت الرّحله مساء الجمعة في الثّالث من نيسان سنه ١٣٠٠ ميلاديّة المصادف ذكرىٰ صلب السّيّد المسيح.
والبداية مع الجحيم. فيما كان الشّاعر يسير في غابة مظلمة لاحقته وحوش مفترسة ثلاثة، وهي: الفهد (رمز الثّراء)، والأسد (رمز الغرور) والذئب (رمز البخل).
وهٰذه الدّلالات مجتمعة، ترمز إلىٰ الرّذائل الثّلاث، التي تعدّ الأساس والجوهر لكلّ العاهات الأخلاقيّة.
وفي هٰذه اللحظات المرعبة اذا بالشّاعر الملحميّ الرّومانيّ [(ڤرجيل) وهو من سكنة الجحيم لوثنيّته)] الذي يرمز إلىٰ العقل الإنسانيّ وإلى الإمبراطوريّة الرّومانيّة المسيحيّة في آنٍ واحد يأتي لنجدته مبعوثاً من حبيبته بياتريس نزيلة الجنّة لطهارة إيمانها فينتزعه من المأزق الخطير ويقود خطاه في رحلة طويلة إلىٰ طبقات الجحيم التّسعة ومركزها جوف الكرة الارضيّة.
يلتقي دانتي في الجحيم بأهل الأثم والأشرار، وفيهم الشّعراء مثل فرجيل نفسه والعلماء والفلاسفة النابغين مثل ابن سينا وابن رشد وهم يُسامون العذاب فهؤلاء قد فاتهم عصر الإيمان.
وهنا يمكن أن نلحظ أنّ الجحيم يعكس مفهوم العدل الإلهيّ، حيث تتجسّد العدالة في العقوبات التي يعانيها المذنبون. في هٰذا الجزء، يلتقي دانتي بالعديد من الشّخصيّات التّاريخيّة والأسطوريّة التي لم ينفعها علمها ونبوغها لعدم إيمانهم.
ثمّ يقوده الدّليل إلىٰ المطهّر ذي الطّبقات التّسعة المتراكمة وهي مرتفع ما بين الارض والسّماء العلويّة حيث يمرّ هناك بأرواح الكفرة الذين ينتظرون التّوبة.
ويمكن القول أنّ المطهّر يقدّم فرصة للأرواح للتّطهر والتّكفير عن خطاياها من خلال الألم والمعاناة، ولكنّه عالم يحمل ـ أيضاً ـ الأمل في الوصول إلىٰ الفردوس.
وفي المرحلة الثّالثة وبعد الخروج من الجحيم والمطهّر تنقطع صحبته للشّاعر فرجيل وتلتقيه حبيبته بياتريس التي ترمز للّاهوت وللكنيسة المسيحيّة المبعوثة من جديد لتقود خطاه في رحلة أخيرة إلىٰ دوائر الجنّة التّسعة حيث تقيم بياتريس هناك لينعم دانتي في خاتمة هٰذه الرّحلة ببهاء لا حدود له بصحبة الأطهار الخالدين إذ أنّ الفردوس هو مكان السّعادة الأبديّة والنّعيم، حيث تعيش الأرواح في انسجام مع الإرادة الإلهية. يُعبّر هٰذا الجزء عن الانسجام الإلهيّ والكمال الروحيّ.
وأخيراً فإنّ الكوميديا الإلهيّة تستكشف مفهوم العدالة الرّبانيّة من خلال العقوبات والتّطهير والنّعيم. أظهر دانتي من خلالها أنّ الحبّ الإلهيّ هو القوّة المحرّكة وراء الكون. سلّطت القصيدة الضّوء علىٰ أهميّة التّوبة والتّطهير بوصفه شرطاً للنّعيم الأبديّ.
تمثّل هٰذه الرّحلة لدانتي هداية الإنسان الرّوحيّة من حالة الخطايا إلىٰ حالة الاتحاد مع الله.
كانت الكوميديا الإلهيّة من أوائل الأعمال الأدبيّة الكبرىٰ التي كُتبت بالعاميّة الإيطاليّة بدلاً من اللاتينيّة، ممّا جعلها أكثر قابليّة للوصول لعامّة النّاس.
أثّرت هٰذه الملحمة بشكل كبير علىٰ الأدب والفنّ والثّقافة الغربيّة وقدّمت نموذجاً لفهم العلاقة بين الإنسان والإله والمجتمع. لقد كانت عملاً ضخماً ومعقّداً جمع بين الأدب والفلسفة واللاهوت، ممّا منحها فرصة الدّيمومة في أن تكون مصدرَ إلهامٍ للعديد من القراء والكتّاب والباحثين عبر العصور.
الكوميديا الإلهيّة لدانتي أليغييري أكثر من مجرّد قصيدة ملحميّة؛ إنّها رحلة فلسفيّة وروحيّة تستكشف أعماق النّفس البشريّة وارتقاء الرّوح نحو الحقيقة الإلهيّة. بدمجها بين الرّؤى اللاهوتيّة والفكر الفلسفيّ، تقدّم لنا منظوراً عميقاً عن العدالة، التّوبة، والخلاص. إنّ إبداع دانتي في تصوير الجحيم، المطهّر، والفردوس لا يعكس فقط خيالاً أدبيّاً فذاً، بل يكشف عن فهم عميق للتّجربة الإنسانيّة ورحلتها الأبديّة نحو الكمال الإلهيّ. فالكوميديا الإلهيّة هي مرآة تعكس لنا جوهر الوجود ومعنىٰ الحياة في ضوء الأبديّة.

#علي_حسين_يوسف (هاشتاغ)       Ali_Huseein_Yousif#          

---

اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل	حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين

كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على:

الفيسبوك

التويتر

اليوتيوب

RSS

الانستغرام

لينكدإن

تيلكرام

بنترست

تمبلر

بلوكر

فليبورد

الموبايل

كيفية إشراك-إيصال مواضيعكم أو مواضيع تهمكم  إلى اكبر عدد ممكن من القراء والقارئات