أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - عبد العالي عبد ربي البقالي - آش قريتونا















المزيد.....

آش قريتونا


عبد العالي عبد ربي البقالي

الحوار المتمدن-العدد: 8007 - 2024 / 6 / 13 - 04:04
المحور: الادب والفن
    


تسلم آخر ورقة امتحان من التلميذ الوحيد المتبقي بالقاعة التي تجرى فيها امتحانات البكالوريا. تأكد من كتابة معلوماته الشخصية بدقة، وأمره بالتوقيع أمام اسمه. عد الأوراق ورتبها بالشكل الذي تؤكد عليه التعليمات، ثم توجه إلى حيث عليه أن يسلمها. كل ذلك في حيادية تامة كما لو أنه يقوم بعمل لا جدوى منه ولا أهمية، فقد وضعت السنوات الستة والثلاثين التي قضاها في التعليم إحساسه في ثلاجة، حيث لا تفاعل وتركيز في عمل صار روتينيا إلى أبعد حد.
كذلك سار في طريقه إلى كتابة الامتحان مفصولا عما يحيط به من عوالم، لا يلقي بالا للأحاديث التي تناهت إلى سمعه وهو في طريقه، أحادث تدور كلها عن الامتحان... فيها نبرات الاعتزاز عند المؤمنين بتوفقهم في الإجابة عن أسئلة الامتحان، في مقابل نبرات الخيبة عند الذين ينتظرون كارثة.

دخل قاعة الكتابة حيث وجد طاولات موزعة على فضائها، خصصت كل واحدة منها بجناح واقسام مبينة على ورقة أثبتت على حافتها، بحث عن الطاولة المناسبة للقسم الذي جاء منه، وسلم الأوراق للشخص المكلف، الذي قام هو الآخر بعدها والتأكد من ترتيبها، ثم وضعها في مظروف كبير وأغلقه ليطلب من صاحبنا التوقيع على ظهره، وانصرف.

كالمسرنم عبر فضاءات الساحة التي سادها نفس المشهد الذي رآه إلى جانب قاعات الامتحان، مشهد رآه مضببا مفصولا عن عالمه، يشبه إلى حد كبير شريط فيديو رديء يعرض على آلة لم تعد صالحة لهذا الزمن.

اختار الخروج من باب جانب يحاذي البوابة الرئيسية للمؤسسة، يخصص عادة لدخول الإداريين والأساتذة والعاملين، هروبا مما تعرفه البوابة الرئيسية من حركة لا تتوقف، وانتظار لخروج الممتحنين ومواجهتهم بالأسئلة المعتادة في مثل هذه المناسبة، حضر الأهل والأصدقاء، وربما الجيران أيضا مدفوعين بحب فضول يدفعهم للتسابق نحو الخارجين وإمطارهم بأسئلة لا تنتهي، متبوعة بعناق وابتسام. في حين انشغل الصغار الحاضرون بعالمهم ولعبهم.

واصل طريقه بطيئا، مفصولا عن عالمهم، في منظر شيخ شغلته عن هذه العوالم متاعبه وأمراضه وانشغالات الحياة التي لم يعد فيها مكان لانشغالات مهنية. إلا ان الأحاديث رفضت احترام رغبته في اقتحامها لوحدة أرادها أن تكون تامة، حيث بلغت إلى مسمعه عبارات تشي بارتباطها بأجواء الامتحان التي شغلت الناس الذين لم يعودوا يتحدثون في أمر غيرها، المراقبون كان لطفاء معنا، يعلن صوت، وينفي الآخر مؤكدا بأن لا أحد كان قادرا على التحرك، فينال الأول عبارات المدح والشكر، في حين تنهال عبارات الشتم والتقريع على راس الآخر. يشترك في ذلك الممتحنون والزوار. أحاديث أخرى عن طبيعة الأسئلة مثل سابقتها تتوزع ذات اليمين وذات الشمال.

صدى تعليقات مضادة، تناقش، تعلق، وصلت إلى مسمعه ايضا متقطعة.. الأسئلة في المتناول.. التلاميذ غير مهتمين... الغش انتشر بدرجة لم لا تنفع فيها الإجراءات التي تخرج فيها الوزارة كل عام، ما أن يحل الموسم المقبل حتى تتحول بدورها إلى إجراء روتيني لا يفيد سوى المسؤول الذي يقف أمام نواب الأمة يشرح لهم-وهم لاهون عنه- بافتخار ما جادت به قريحة إدارته في مواجهة الغش... ويتواصل سيل الشتائم التي تصبها العائلات على رؤوس المراقبين الذين لم يتجاوبوا مع طلبات فلذات أكبادهم والتي غالبا ما تبدأ بعبارة "أستاذ تعامل معنا"... آلمه كل هذا الكلام، واشاح بوجهه نحو الفراغ في محاولة منه للانفصال عن هذا العالم الذي يسبب له القرف، مواصلا سيره البطيء تاركا العجلة تدور، تطحن الفراغ وتمنع عالمه من الامتلاء.

تناهى إلى سمعه نداء رده إلى عامله الذي كان يفضل أن يبقى منفصلا عنه، تجاهله معتبرا نفسه غير معني به، بل أقنع نفسه بذلك، فهو لا يُدرس في المؤسسة التي كلف بأعمال مراقبة الامتحان فيها، كما أنها بعيدة عن مسكنه ومساكن من يُفترض أنه يعرفهم. أكيد أن النداء موجه لشخص آخر، وليس هناك داع لأن يتوجه إليهم احدهم بالنداء عقب امتحان من الامتحانات، فقد جنبته طريقته في التعامل في مثل هذه الظروف ما كان يصله من أحاديث عن مواجهات بين ممتحمين ومكلفين بأعمال المراقبة، فهو قد تعود أن يكون مقلا في الحديث، لا يوجه نصائح لأحد، ولا يتوعد أحدا، ولا يتلصص على أوراق الممتحمين قصد تقييم إجاباتهم بإيماءات وإشارات يُفهم منها رضاه أو عدمه مع ما تخطه أقلامهم على أوراق التحرير، كما أنه يعمل على تنبيه من تسول لهم انفسهم القيام بعمل محظور بإماءة أو تعبير للوجه دونما حاجة إلى رفع عقيرته بالصياح والتهديد، دون أن يتسبب ذلك في الدخول في نقاشات هو في غنى عنها، قطع النداء الثاني استرساله في تقليب الاحتمالات، ومع النداء الثالث تأكد له بما لا يدع مجالا للشك أنه هو المعني بالنداءات بذاته وصفاته.

واصل طريقه بنفس البطء، متمهلا في الالتفات كما لو أنه يريد أن يضبط غريمه متلبسا بفعل النداء دون ان يتوقف أو يغير مساره، وما إن ظهرت له ملامح المنادي حتى خمن أن هذا الشخص ليس بالغريب عنه بشكل كلي، إنه هو... هو ذلك التلميذ الجالس في نهاية الصف الثاني هذا الصباح بقاعة الامتحان، والذي صدرت عنه محاولات لإخراج شيء من جيبه، إما ورقة أو هاتف، مع محاولات لطلب المساعدة من تلاميذ آخرين، لكنه تصدى لمحاولاته بإشارات منه وتنبيهات دون أن يشعر أحدا بالأمر، وهو تصرف صدر منه نحو ممتحنين غيره، حيث كانت تدخلاته مرة بإشارات، ومرة بطلب واضح بالكف عن كل محاولة للتواصل مع الآخرين.

تلاقت النظرات فأشار إليه التلميذ طالبا منه فرصة للحديث معه، فكر بداية أن يتجاهل النداء ويمضي لحال سبيله، فلا شيء يجمعه بهذا التلميذ الذي كان قبل قليل أمامه يتوسل إليه بالسماح له بإنقاذ ما يمكن إنقاذه من موسم صعب وطويل، وها هو الآن يتعقبه طالبا الدخول معه في حوار لا يعل أحد إلى أين سيأخذهما. لكن فكرته بدت له غير منطقية، إذ لا يمكن أن تتجاهل شخصا يتوجه إليك بطلب للحديث معك إلا بالهرب منه، وهذا أمر غير مستساغ. فكر بدل ذلك ان يلجمه بالبدء بالتهجم عليه حتى يقطع دابر كل شك فيما ستؤول إليه الأمور. بادره بقوله: أتعرفني؟ أنا لا أعرفك.. ولا شيء يجمعني بك. بدا مرتبكا في رده جامعا بين التردد والاعتذار، أردت: أن اقول لك فقط إنك حاصرتنا في الامتحان وحرمتنا من التعاون لأخذ أجوبة ننقذ بها ما يمكن إنقاذه. أصبح بعد هذا التراجع غير ممكن، وأضحى لزاما عليه الرد عليه ولجمه بجواب يفقده القدرة على مواصلة الحوار معه، فقال له: رجال الأمن أمام المؤسسة، توجه إليهم ووجه لهم شكاية تعيد فيها ما قلته الآن. الكلام عن الأمن والشرطة جعله يحسب الأمور بمنطق لم يكن ينتظره، فرد ما لنا والأمن، الأهل ينتظرون النتيجة ونحن بلغنا سنا لا تراجع فيه، وأنت حرمتنا من فرصة كانت مواتية لنا. قرر أن يغير من لهجته معه، مفضلا أن يدع الأمور تأخذ مسارها الطبيعي، فحدثه حديث الأباء لأبنائهم مفعم بالتوجيه والنصح، هذا الكلام ينبغي أن توجهه لنفسك لا لغيرك، كل الظروف كانت تدعوك أنت وغيرك للعمل والتحصيل من أجل بلوغك ما تصبو إليه، ورضى والديك وأهلك عنه، تحولت ملامحه الهادئة إلى ملامح ثور هائج خانق غاضب رافعا من صوته على ما كان سابقا: الجد، العمل... آش قريتونا؟؟؟!!

أسكتته المفاجأة ولم يرد، فلم يكن ينتظر هذا التغير المفاجئ في ملامح وجهه ولا في لهجة حديثه، لم يدر ما إذا كان عليه أن يوقف الأمور عند هذا الحد، ام يناقشه ويضعه أمام صورة واضحة يحمل فيها كل طرف مسؤوليته، وجاء انسحاب التلميذ خلال الفترة التي ساد فيها الصمت واضعا حدا لكل حوار قد لا يكون إلا حوارا للطرشان. وأثار الهدوء زوبعة في ذهنه حول من المقصود بالمخاطب في قوله آش قريتونا؟؟ ومرة أخرى، تأبى الصور إلى أن تتقافز إلى ذهنه في مثل عرضها فيما سبق، صور عن أحداث طبعت موسما دراسيا مليئا بالغليان. إضرابات.. مسيرات... بلاغات وبلاغات مضادة... جلسات للحوار وتساؤلات عن أدوار ممكنة للتنسيقيات ونفض اليد عن النقابات المتهمة بخيانتها... صور يجمع بينها عنوان "موسم استثنائي" وتوقفت الصور عند الإجراءات التي تلت فترات الانفراج، تعديلات تستهدف البرنامج الدراسي بالتخفيف منه والتركيز فيه على المهم، تغيير لتواريخ الامتحانات الإشهادية التي أعلن عنها في وقت سابق، انطلاق حملات الدعم لتعويض ما ضاع من الزمن المدرسي، وما صاحب ذلك عن أحاديث عمن استفاد من الدعم ومن لم يستفد، عمن رغب في ذلك، ومن اعتبر فترات الدعم عطلا يحسن استغلالها في الراحة، تكييف الإطارات المرجعية للامتحانات مع ما عرفه الموسم الدراسي من تعثر وتوقف.... وعبارة صوتية واحدة تصاحب الشريط: آش قيرتونا؟؟؟ آش قريتونا... آش آش آش...؟؟؟؟؟!!



#عبد_العالي_عبد_ربي_البقالي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- رهاب فيروس كورورنا بين الكوتش والواعظ


المزيد.....




- كبير مخرجي RT العربية يقدم دورة تدريبية لطلاب يدرسون اللغة ا ...
- -المواسم الروسية- إلى ريو دي جانيرو
- تامر حسني.. -سوبرمان- خلال حفله في عيد الأضحى
- أديل بفستان لمصمم الزي العسكري الروسي
- في المغرب.. فنان يوثق بقايا استعمارية -منسية- بين الأراضي ال ...
- تركي آل الشيخ يعلن عن مفاجأة بين عمرو دياب ونانسي عجرم
- أدب النهايات العبري.. إسرائيل وهاجس الزوال العنيد
- -مصافحة وأحضان-.. تركي آل الشيخ يستقبل عمرو دياب في الرياض و ...
- -بيكاسو السعودية-..فنان يلفت الأنظار برسومات ذات طابع ثقافي ...
- كتبت الشاعرة العراقية (مسار الياسري) . : - حكايتُنا كأحزان ا ...


المزيد.....

- الكتابة المسرحية للأطفال بين الواقع والتجريب أعمال السيد ... / الويزة جبابلية
- تمثلات التجريب في المسرح العربي : السيد حافظ أنموذجاً / عبدالستار عبد ثابت البيضاني
- الصراع الدرامى فى مسرح السيد حافظ التجريبى مسرحية بوابة الم ... / محمد السيد عبدالعاطي دحريجة
- سأُحاولُكِ مرَّة أُخرى/ ديوان / ريتا عودة
- أنا جنونُكَ--- مجموعة قصصيّة / ريتا عودة
- صحيفة -روسيا الأدبية- تنشر بحث: -بوشكين العربي- باللغة الروس ... / شاهر أحمد نصر
- حكايات أحفادي- قصص قصيرة جدا / السيد حافظ
- غرائبية العتبات النصية في مسرواية "حتى يطمئن قلبي": السيد حا ... / مروة محمد أبواليزيد
- أبسن: الحداثة .. الجماليات .. الشخصيات النسائية / رضا الظاهر
- السلام على محمود درويش " شعر" / محمود شاهين


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - عبد العالي عبد ربي البقالي - آش قريتونا