ــ مظفر النواب في دمشق علي غير ميعاد ـ
الشاعر الجريء في عصر الهذيان ـ
سيار الجميل
( مؤرخ عراقي مقيم في الامارات )
لم أكن أدري انني سألتقي الشاعر العراقي المعروف مظفر النواب في يوم من الايام، علما بأنني قد سمعت عنه الكثير وترنمت بابيات من شعره المؤثر وصفقت لمواقفه الجريئة منذ سنوات طوال وقد علمت اسوة بغيري من المثقفين نتفا من اخباره وبعض منعطفات في حياته النضالية الصاخبة والساخنة وخصوصا من الناحيتين السياسية والفنية.. خصوصا وقد كان اسم النواب قد طار علي الالسن ولهجت بذكره المجالس والملتقيات والنوادي والمقاهي والشوارع العربية.. عندما يؤكد الجميع من جميع الاجيال أن مظفرا قد تميز بخاصيتين اثنتين أولاهما شعره الدافق المعبر عن اعماق النفس الحزينة. وثانيهما جرأته العراقية غير المتناهية امام اكبر طغاة هذا العصر والذي رحل غير مأسوف عليه! وفوق هذا وذاك، لم نجده قد مدح حاكما من الحكام ابدا، وربما تجّني علي بعضهم، فليست كل الاصابع سواسية ابدا، وربما كنت صائبا! هذا الناسك العراقي الاسمر القادم من اعماق قلب العراق بكل خصبه ورجولته وصلعته اللامعة لوحدها من دون شمس.. وبكل احساساته الحارة ودفق مشاعره وسليط لسانه في قول كلمة حق عند سلطان جائر، ناهيكم عن تقديمه اشعارا تعبيرية بالعربية تخترق النفس البشرية والمشاعر الرقيقة والعتية بكل قوة وأنفة وعنفوان اولاد الكاظمية وكأنها السيف القاطع الذي يفجر الشرايين والاوردة بكل دمائها القانية الزكية.
لقاء من غير ميعاد
خرجت في آخر سفرة لي الي سوريا من الهيلتون في دمشق مغادرا وكان لدي متسع من الوقت علي طائرتي ظهيرة يوم الثلاثاء العاشر من أيلول (سبتمبر) 2002 راجعا الي الامارات في الطريق من تورنتو وكنت بحاجة الي اقتناء بعض الاصدارات الدمشقية من مركز المدينة، واكملت غايتي ومشيت نحو دوار يوسف العظمة في الصالحية.. دلفت هناك الي مقهي الهافانا القديم وكنت لوحدي تنتابني الهواجس المختلفة والافكار المتنوعة اذ لم يبق علي اقلاع الطائرة من دمشق سوي ساعات.. جلست قرب النوافذ الزجاجية التي لم تكن لماعة ونظيفة ابدا وانا احتسي فنجانا من القهوة الاكسبريسو التي افضلها علي غيرها من الانواع واشتقت الي ارتشاف سيكارة معها، ولكنني كنت قد قطعت صلتي بالتدخين الي الابد.. كنت اقلب في صحيفة عربية بحثا صعبا عن مقالة يمكن ان تقرأ، فلم أجد فطويتها باستياء، ومرت برهة من الوقت كنت فيها اقلب نظري في وجوه المارة من الاخوة السوريين علي الطريق المحاذي، وفجأة مر من امامي رجل يلبس قميصا وبنطلونا له سمرته العراقية وتفترش رأسه صلعة ملساء تتداني عنها شعيرات بيضاء غزاها المشيب، قلت في نفسي: حقا انه مظفر النواب كما تنبؤني مخيلتي.. قطع الشارع ثم اختفي، فقلت: لقد ضاعت علي فرصة التعرف عليه والتحدث اليه!
مضت حوالي عشر دقائق، فاذا به يرجع من حيث وجدته وهو يتأبط كتابا وبضع جرائد وهم بدخول المقهي ففتح النادل له الباب هاشا باشا بوجهه.. ووجدته يقدم اليه التعازي، واصبح وجها لوجه امامي فوقفت لالقي عليه التحية وقدمت التعازي اليه سائلا اياه عمن افتقده، فقال: انها اختي التي توفيت هنا في دمشق وجئت اليها..بهدوء بالغ وبدون تكلف او اصطناع، جلس معي علي نفس مائدتي بعد ان عرفني وسألته: عما يريد ان يرتشفه، فقال: انهم يعرفون القهوة التي اشربها! تأملت فيه كثيرا وفي وجه هذا الرجل الذي شغل الناس به كثيرا وافتتنوا بكلماته وشعره الذي يدخل العروق والمسامات وقصائده الفظيعة التي تركع امامها الهامات.. تأملت في عيونه وكانتا تبرقان كالشهاب في وسط حلكة الظلام الدامس..
لم اكن اتخيل انني سأجد امامي انسانا بمنتهي البساطة والالفة والتواضع والهدوء والاخلاقيات العالية، وكذلك بمنتهي الوداعة والخجل والصوت المنخفض.. كنت اتخيله كما استوحيت ذلك من قراءة شعره ـ سامحني الله ـ : رجل فظ ومشاكس ومتجهم الرؤية وفظ الطباع! لقد بدا لي واضحا ان مظفر النواب يمتلك في دواخله واعماقه احساسات متنوعة تصنع منه شخصيتين اثنتين، اولاهما شخصية حقيقية ومثالية في علاقاتها وقيمها واخلاقياتها وكل الطيبة التي زرعتها عنده مخصبات بلاد وادي الرافدين الازلية.. وثانيتهما شخصية غير حقيقية وواقعية يتقمصها بكل حبكة وصنعة ومهارة عندما ينتج ويلقي شعره علي الناس وهو يتفنن في صياغة نفسه علي اقصي درجات الواقعية التي تتطلب في بعض الاحيان الوقاحة والمواجهة الشرسة وللضرورة احكام! وفي كلتا الحالتين، فشاعرنا مظفر يبدو وكأنه من اولئك الشعراء الصعاليك العراقيين الافذاذ، ولكن وظف كل ملكاته وخلجاته ومداد يراعه بنجاح منقطع النظير في سبيل تحقيق الاهداف التي آمن بها وناضل من اجلها عقائديا في الصميم.. ويريد ان يجدها وقد تحققت بسرعة خاطفة علي ارض الواقع، ويصحو فيجد انه يحلم كان يحلم حلما ورديا، في حين ان الواقع يفوح بالنتانة والعفونة!
المنكشفون راحوا يراقبوننا
ورحت واياه في حديث مختصر وكان وقتي ضيقا اذ لم يبق علي موعد وجودي في المطار الا ساعة واحدة.. باغتنا فجأة ثلاثة من الشباب العراقيين وقد انتفخت كروشهم وبرقت عيونهم وليس لهم الا دوران رقبتهم ذات اليمين وذات الشمال مع ضحكات بليدة.. عرفتهم من حركاتهم انهم عراقيون قبل ان ينطقوا بكلماتهم الجلفية السمجة، اخذوا يسلمون علي مظفر وهو يجيبهم بكل ادب والحوا عليه ان يقيم لهم امسية شعرية وقدم احدهم الاخر اليه باعتبارهم شخصيات مرموقة!
كان احدهم مريبا وثانيهم بدشداشة بيضاء وثالثهم صاحب لغة سوقية.. الحوا كثيرا وهم يتضاحكون ويتنابزون باستهتار لا مثيل له ثم جلسوا علي الطاولة المجاورة باشمئزاز لا يمكنني وصفه، وكأنهم لصقات كريهة من غبائهم وانهم ثلاثة من التافهين الذين يستخدمون مخابراتيا ولكنهم يفضحون انفسهم. اطرق احدهم بسمعه الينا ونحن نحادث بعضنا بعضا ويبدو انه تلقف اسمي ليعرف من اكون وكأنه حصل علي جائزة لا تقدّر بثمن! انها واحدة من نماذج متابعاتهم الغبية، وقد تأكد عندي بأن مظفرا كان ملاحقا ومرصودا في كل ساعة ولحظة حتي سقوط الطاغية، واعتقد انه يدرك ذلك تمام الادراك!
حوار لم يكتمل
قلت: ما الجديد من ابداعك الذي عندك؟
قال: شيء كثير سيصدر قريبا
قلت: وديوانك الاخير فيه بعض التشوهات!
قال: لقد سطا البعض علي قسم من اشعاري ونشروها مشوهة خفيه من دون ان اراها!
قلـت: لك الحق في مقاضاة الدار التي نشرتهما
قال: انهما دارتان وهميتان لا وجود لهما!
قلت: وماذا ستفعل؟
قال: سأعيد نشرهما مصححين وانبه الي هذه الاساءة!
قلت: وفي اي بلد تقيم اليوم، فانني اسمع انك لا تستقر في مكان واحد ؟
قال: ليس لي مكان ثابت واحد.. تراني اشد الرحال من مكان الي اخر، وقد جئت سوريا بمناسبة وفاة شقيقتي!
استطردنا في حديثنا عن اصدقاء قدماء بدا لي انه يعرفهم جميعا، ويحتفظ بذاكرة وقادة، ثم انتقلنا الي حديث الساعة وكانت التهديدات قد برزت قوية ضد نظام الحكم في العراق..
قلت: دعني أسألك عن مسألة يختلف حولها المهتمون بك وبشعرك وسيرتك..
قال: ما هي؟
قلت: مسألة اختطافك وارجاعك الي العراق (وكان مظفر النواب قد تعرض للاختطاف من قبل اجهزة مخابرات العهد السابق، وفشلت محاولة ارجاعه الي العراق بسبب نشاطاته السياسية المعارضة لنظام الحكم).
قال: بعد انقلاب 1963 الاسود هربت الي ايران علي امل ان يساعدني حزب توده الشيوعي من اجل اللجوء الي الاتحاد السوفييتي.. ولكن قبضت علي الحكومة الايرانية وقايضتني مع الحكومة العراقية التي كانت بدورها قد سلمت بعض الشيوعيين الهاربين من ايران الي الحكومة الايرانية! اما محاولة الاختطاف فقد جرت في عقد السبعينيات من اليونان ولكنها فشلت! ولعبت الصدفة لعبتها في احداث ذلك الفشل، وبقيت مطاردا حتي اليوم كما تري.
قلت: ايهما افضل ان تكتب الشعر من داخل العراق ام تكتبه وانت في خارجه؟
قال: سيان، فالعراق حالة متجددة دوما وهي تعيش حية متدفقة في شراييني وفي عقلي ووجداني وضميري.. انه العراق مثوي الشعر والشعراء.
قلت: ذكرناك كثيرا منذ ثلاثين سنة او اكثر، وانا اتطلع لرؤيتك وكان لدي احساس ان اراك في مكان ما من هذا العالم وها قد صادفتك في قلب دمشق وكأن لدي احساساً غريباً بذلك!
قال: دمشق.. نعم، لها مكانة في القلب وانا اليوم منشد تماما الي مقهي الهافانا..
قلت: الامور تتسارع مع الاحداث نحو الحرب بين امريكا ونظام صدام حسين!
قال: انا ضد احتلال امريكا للعراق مهما كانت الاسباب والدوافع.
قلت: (وأنا اخفض صوتي رعبا من الثلاثة المنصتين): ولكنه يعطيهم كل الذرائع من اجل ان يبقي في السلطة.. انه هو نفسه الذي يقود العراق الي الانتحار والجوقات العربية معه!
قال: لا يمكنني تخيل ذلك!
قلت: هل سيخلص العراق من براثن الوحش الكاسر من أجل ان يستعيد حياته؟
وأزف الرحيل
واستمر الحديث في عدة مسائل.. حتي اقترب وقتي فاستأذنت من الرجل وتبادلنا العناوين والثلاثة الذين علي جانبنا يتلصصون وينصتون علينا في حالة مثيرة للاستهزاء والقرف معا! ودعته ثم حملت حقيبتي وخرجت لأري التاكسي في انتظاري ومضيت الي مطار دمشق الدولي وطرت الي مكاني وانا استرجع في ذاكرتي سلسلة تاريخ طويل من العنف سجل في العراق وان مظفر النواب واحد من ابرز الشهود المثقفين علي تاريخ مفعم بكل التناقضات المريرة. وقلت لنفسي: لقد ادخلوا اليوم اسمي في زنزانة جديدة! وكنت قد وعدت هذا الرجل بأن اكتب عن لقائنا هذا ووعد الحر دين.. وفعلا كتبت هذه المقالة وارسلتها للنشر في صحيفة عربية معروفة، وبعد ايام اتصل بي محررها معتذرا اشد الاعتذار وقال: دع مجلتنا بعيدة عن اسم مظفر النواب فهذا الاسم يخشاه جميع المسؤولين العرب!