أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - آرام كربيت - هواجس ثقافية وأدبية ـ 200 ـ















المزيد.....



هواجس ثقافية وأدبية ـ 200 ـ


آرام كربيت

الحوار المتمدن-العدد: 8006 - 2024 / 6 / 12 - 00:11
المحور: الادب والفن
    


البضاعة
عندما تبور البضاعة تنخفض الأسعار، هذا هو قانون السوق، أنه يخضع للعرض والطلب.
أنت قبلت أن تكون بضاعة لهذا ليس من الجميل أن ترفع من مقامك في مكان فيه الكثير من البضاعة الجيدة والمستوردة والجميلة والأجمل.
هذا من أجلك ومن أجل الكثيرين الذين يشبهونك، ومن أجل أن لا تضيع الوقت سدًا.
أنظر إلى المرآة وقرب أجمل سلعة لديك وقارن بينها وبين البضاعة الأخرى الجديدة وقتها سترى الفرق الكبير بينكما.
وكلما مر يوم ستنخفض الأسعار أكثر لأن تحولات الطبيعة ومزاجيتها وتبدلاتها تؤثر على الطبقة الخارجية للسلعة.
في زمن العرض والطلب، في زمن إنعدام الحب والحاجة إليه، كل واحد يضع السعر الذي يناسبه ويناسب بضاعته في السوق، والشاري هو من يقرر الشراء أو الانسحاب من السوق.

المدينة
إن المدينة، هي المجتمع الأكثر كمالًا بين سائر التجمعات الإنسانية، وهي اسمى بالضرورة من أي كلّ آخر يمكن أن يعرفه العقل البشري ويشكله.
أي أن المدينة هي أعلى وأشمل رابطة كونها العقل الإنساني، نظمت لإشباع حاجات الحياة.
إن المجتمع المدني بوصفه مكانًا لممارسة الحياة السياسية والثقافية والاجتماعية الشاملة، شهد نهوضًا بالرغم من كل النكسات التي تعرض له من قبل المسيحية في القرون الوسطى.
ولكن منذ أن جاء معسكر العولمة إلى القمة الدولية، تشهد المدينة تراجعًا على كل المستويات، الثقافية والسياسية والاجتماعية، بل انحطاطًا منظمًا.
هناك تخطيط استراتيجي يعمل على تدمير المدينة من الداخل وتفكيك العقل الناظم لها.
أي تدمير العقل السياسي والاتجاه نحو الفوضى والدمار.
إلى أين يردون أن يأخذوا كل الإنجازت الثقافية والفنية والأدبية، بل إلى أين يريدون أن يأخذوا الطبيعة والإنسان؟
تريدون الثروة والمال والسلطة، هي في أيديكم، اتركوا لنا بقايا حياة للأجيال القادمة

القناع
القناع الذي تضعه على وجهك، الذي صنعته بيديك، هل هو لحماية جمالك أم خوفًا من البشاعة القابعة خلفه؟
وجد الجمال، جمال وجهك ليرى ويغني للضوء والبهاء، ليعانق الشمس والنجوم. لينهل من الخير والحب طاقته الخلاقة ويغمر الحياة بالفرح والأمل.
إن القناع يحجب عنك روح الحرية والجمال والسعادة الكامنة في أعماقك، أرم هذه الحمولة الزائدة التي اكتسبتها من المحيط الذي قيدك وانطلق إلى الفرح الموجود في داخلك.
إن الأقنعة وجدت لتحجب الضوء عنك، ولتمنع البريق الجميل الخارج من عينيك.
إن التصالح مع الذات هو أول خطوة نحو الامتلاء من ذاتك.

ـ لماذا جاؤوا إلى المعبد ما داموا يعرفون النصوص المقدسة عن ظهر غيب؟

الامتلاء
كيف ستشعر بالإمتلاء والروح التي في داخلك ميتة.
كيف يمكنك أن تستمتع بالحياة وأنت غير متصالح مع نفسك، وأنت تعاني من الوحدة والفراغ.
كيف يمكنك أن تقبض على السعادة وأنت في وحدتك تشعر بالخواء والدمار الذاتي.
أعلم تمامًا، لماذا لن تكون سعيدًا، لأن الحطام الذي تحمله في داخلك، الحطام التراكمي في أعماقك، لن يعتدل إلا إذا جلست مع ذاتك، وفلفلت العقد والأمراض الموجودة في قاعك، قاع نفسك القديمة المتجددة.
السعادة لا تأتي من الخارج، أنها في داخلك، أبحث عنها لتتوازن.

الله
الصراع على امتلاك الله، احتكاره، أدخل الشعوب التوحيدية في صراع عسكري دموي اقتصادي سياسي اجتماعي امتد لعشرات القرون.
حفر المؤمنين، الخنادق وعلو المتاريس وبنوا الحصون والقلاح ورفعوا الحواجز عاليًا، ومهدوا الطريق لبناء السجون النفسية الكبيرة والواسعة لتتسع للملايين من الأفاضل.
كل مؤمن بنى لنفسه سياجًا، سوره، ووضع أعلامه وراياته على المدخل والمخرج، واحد لدخول الله والأخر لدخول الشيطان.
لا يمكن للمؤمن أن يعيش خارج السجن، خارج ساحات الحرب أو خارج التعصب، فانتج شعوب مملوءة بالمرضى والمقعدين والمشوهين.
حروب المومنين خلفت وما تزال تخلف في الشعوب المعاصرة عاهات وأمراض لا يمكن أن تزول إلا إعادة بناء الإنسان نفسيًا وعقليًا.
إن الحروب الدينية ورثت لعصرنا حروب من نوع جديد، العنصرية، الحروب القومية والنازية والشيوعية.
الأيديولوجيات جور عميقة لا قعر لها، التخلص منها ليس بالأمر السهل أو البسيط.
التعصب والعنصرية مرض، ونحن متعصبون وعنصريون، مرضى.
لا يظنن أحدكم أننا، العالم المسيحي الإسلامي اليهودي، والغربي، بيننا اختلاف أو خلاف في الجوهر.
الخلاف بيننا هو في مقدار المرض وعمقه وحجمه.
والغرب أيضًا مريض.
الشرق والغرب يغذون من بعضهم والنتائج كارثية على المدى الطويل. الغرب توقف عن التطور الاجتماعي، أصبح مختلطًا منقسمًا.
الغرب القديم، قبل محاكمة نورنبرغ يختلف عن الغرب بعد المحاكمة.
إنه تخريب متعمد وبفعل فاعل.

المستلبين
الكثير من المستلبين يحتاجون إلى حماية الأب السياسي، ليحمي عجزهم وضعف ثقتهم بأنفسهم.
لا يستطيعون أن يقفوا على أقدامهم إلا بوجود هذا الأب الضامن لهم، ليرضعهم حليبه ويقدم لهم الحماية والسند.
يجلسون في حضرته عند مدخل الباب، بالقرب من القنادر، ويصغوا له بدقة شديدة وكأنهم في الروضة ليتلقوا الدرر من فمه ليحولوها إلى قوانين يفتوا بها للآخرين.
مدرسة الاستبداد منتجة للشخصيات المستلبة الضعيفة الذليلة التابعة.
وإذا لا تصدقوا أنظروا إلى أي رئيس أو قائد سياسي وشوفوا الأطفال كيف ينظرون إلى قائدهم أو أبوهم السياسي بشبق وكأنهم يريدون أن يأكلوه عشقًا.
وإذا أراد منهم ان يديروا مؤخرتهم له فلن يمانعوا.
الأمر ليس بيدهم، الصغار في الوعي كالصغار في السن، يمكن إعادة صياغتهم كما يريد الأب
.
عصرنا
الجميل في عصرنا الحالي، أنه كشف النقاب عن أغلب القامات الأدبية والفنية والفكرية والسياسية.
واسقط الكثير من الأصنام الذي تغنى بها الكثير الكثير.
بالنسبة لي الحياة موقف، والكتابة يجب أن يكون فيها تناغم بين الكاتب وما يكتب، وما يصدر عنه من أفكار أو اشعار أو مواقف سواء كان فنانًا أو شاعرًا.
إذا انفصل المفكر أو الفيلسوف او الأديب عن موقفه من الحياة السياسية والاجتماعية والإنسانية ماذا نسمي هذا؟
بهذا الحالة لماذا ندين فلان أو فلان إذا جلس في حضن السلطان وأكل من على مائدته وشرب، وتحول إلى فضلات مثل المتنبي، وخضوعه الكريه لشهواته أمام رغبات السلطة أو السلطان.
هل الموقف من الحياة والسلطة يعادل الجلوس في حضرتها والتغني بأمجادها؟
وهل دغدغة بيضات السلطان يعادل ذلك السجين الذي يجلد يوميًا في السجن من أجل الحرية؟
لماذا صمت الكتاب والأدباء العرب عن انتهازية محمود درويش ودونيته عندما أخذ جائزتين من الرئيس بن علي؟
أليس هذا تسويقًا سياسيًا لديكتاتور تافه ورخيص، جلاد من طراز رفيع؟
عندما يكون هناك خلل في مجتمع ما، يقوده ديكتاتور فاسد وجلاد مثل نيرون، على الأديب أو المفكر أو الفنان ان يكون ضد الابتذال، أن يرفض، أن يقف في وجه الريح.
أما إذا جلس في حضرة صولجانه معززًا مكرمًا وسعيدًا بالهداية والنياشين والأموال، في هذه الحالة ماذا نسميه؟
إذا كل شيء يساوي كل شيء، فلماذا نحكي على ميشيل كيلو أو برهان غليون أو أنس العبدة أو سهير الأتاسي أو بشار الأسد؟

قطعة الخام
التقطتك قطعة خام مركونة على ضفة نهر.
حملتك فوق صدري وكتفي وسرت بك إلى مرسمي، ثم وضعتك على الطاولة.
درست تضاريس وجهك ورقبتك ورأسك وصدرك وبقايا جسدك، بعد ان أخذت مقاساتك
قلت لنفسي سأنحت هذا البهاء المركون هنا
بدأت بك بيدي وأظافري. تحولت يداي إلى أزاميل حادة.
لم أكن اشعر إلا بالفرح.
كان دمي ينزف في كل ثانية ودقيقة وأنا منهمك بك، مغموسًا بك إلى حد الجنون إلى أن ولدت مني وأصبحت أنت هو أنت، آية من آيات الجمال.
ثم نفخت بك الحياة إلى أن أصبحت كائنًا حقيقيًا ترقص وتتحرك وتغني وتعزف وتكتب وتضحك.
وقفت أنظر إليك، إلى ملامحك الجميلة، ولم أكن أكل من النظر إلى وجهك.
بعد أن اكتملت نموًا وحياتًا رأيتك تأخذ طريقك وتسير إلى المجهول إلى أن غبت عن نظري.
التفت حولي أريد استعادتك، بيد أنك أكملت طريقك إلى أن ضعت مني.

الفناء
ذهبت إلى الفناء بمحض إرادتي ولم أخبر ذاتي.
لم اسال ماذا هناك؟
رأيت الليل الأخرس واقفًا والنيازك تتساقط في احتفاليات السماء ونزوح النجوم إلى التمازج؟
فتحت خطوط السماء ومسكت كفي بكفي وربطهتما بالخيط المدلى من الأعالي؟
سألني:
ماذا تفعل هنا أو هناك؟ أخبرنا. فقلوبنا العطشى عطشى بحجم الكون.
قلت:
جلدي مسكون بالغموض وأنا مغامر ألعب مع وحدتي.
تعال إلي أو خذ يديك إلى يديك
أفتح عينيك لأراك، لأكون لك
وتكونني
خمر ونهد وجعبة رحلات.

الطائفية
الطائفية نبتت في ظل الدين الإسلام وترسخت فيه، واستمرت في ظل السلطنة العثمانية.
كان العلوي والمسيحي والدرزي وغيرهم يعامل كذمي، ككائن فاقد للأهلية العقلية والإنسانية، يدفع الجزية وهو صاغر.
وكان يتم إجبار كل طائفة على ارتداء ثوب له لون محدد ليؤشر عليه كشكل من أشكال الاحتقار والدونية، ويمارس عليها كل أنواع الذل والإخضاع.
لقد تم عزل الطوائف في بيئاتهم النفسية والعقلية، وتحولوا مع الأيام إلى كائنات ذليلة لا قيمة معنوية واجتماعية وسياسية لها مع محيطها ونفسها.
لقد حاولت السلطنة الانفتاح على الحداثة في القرن الثامن عشر، وجرى خلال ذلك محاولات حثيثة في تحسين ظروف هذه الفئات الاجتماعية المغبونة تاريخيًا، ووضع مشروع دستور للمواطنة في العام 1876 على يد مدحت باشا، بيد أن المشروع تم دفنه على يد السلطان عبد الحميد الثاني في السنة ذاتها، لأنه رأى أن هذا المشروع سيفكك الدولة الاستبدادية المركبة بالقوة العسكرية من الداخل.
وعمليًا حدث هذا، فقد انفجر البلقان كله، وتحرر قسم كبير منه إلى أن تم الاستقلال التام لدوله في العام 1912 ـ 1913.
إن الانفجار الذي تم حالة طبيعية لدولة فاسدة منخورة من الداخل واستعلائية.
الطوائف إذا أردت أن تكون معك عليك أن تنظر إلى تاريخية العلاقة معها، وأن تشعرها بالأمان على مصيرها.
لقد لعب حافظ الاسد وغيره على وتر الطائفية وما زال الكثير يتعامل مع هذا الجانب باستخفاف وعدم اهتمام وعدم إعطاءها حقها من البحث الحقيقي.
أغلب الناس في منطقتنا مرتبطين بطوائفهم ومنكمشين عليها وخائفين على مصائرهم لهذا فإن الزن عليهم دائما بمناسبة وغير مناسبة سيعمق المسافة بين أبناء المجتمع الواحد.
سهل جدًا أن يتم استثمار الطوائف إذا وجد بديل حقيقي سواء من الداخل أو الخارج

الأرض
في السابق كانت الأرض أمام نافذة البيت خلاء وجمال وفضاء رحب، يطل الفتى عليها ويتأمل الحقول والبراري العذبة الممتدة على مدى النظر.
صلته بها كانت تضفي على روحه إحساس عذب بالحياة والطبيعة والأُنْسٌ.
لم يكن يخاف الغربة والتشرد والضياع والهجرة.
والحياة امتلاء وسكن ووطن وانتماء.
اليوم، يعيش الإنسان المعاصر تمزق وبحث حثيث عن موطأ قدم. فالأرض لم تعد تلك الأرض، ولم يعد الوطن وطنًا ولا المكان يتسع الكائن الممزق.
فما بين الولادة والموت يتأرجح بين الغربة العميقة والاغتراب الأعماق.
من نحن في هذا الزمن؟

آرام كرابيت
الوقت في تدمر
عندما تقترب الساعة من الثانية عشرة ظهراً في سجن تدمر العسكري، ينسل من عمق الصمت الراكد صوت متحفز، عواء إرتطام الحديد بالحديد. صوت بلوات الطعام. هذا الصوت يوقظ فينا الإحساس بالبعد، بعمق البعد عن الحياة والناس والزمن في هذا المكان الغائب عن رعشة البقاء. صوت البلوات أشبه بإقلاع الطائرات الحربية في لحظة الذروة. نتيقن لحظتها أن دورة الرتابة والتكرارفي طريقها إلى الاندفاع منذرة ببدء توزيع الطعام والخضار أو الفواكه على الباحات والمهاجع.
الصمت رمز هذا المكان وزمانه وجميع المعتقلين في كهوفهم العميقة يناجون أنفسهم في لحظات تقطيع الوقت الميت. بشر مرميون خلف الجدران كذاكرة ميتة مسكونة في سلة النسيان يتعقبون دروب الرحيل من مرارة المكان الأخرس إلى زمن آخر في محاولة البقاء على قيد الحياة.
الأبواب موصدة من الخارج ولا شيء يحفزنا على الصمود إلا الصبر والقدرة على التحمل.
المكان يقين ميت.
تبدأ تسالينا تنتعش عندما نسمع صوت وقع قرقعة الحديد وقتها نتحفز ونتجه نحو الباب.
تحت الباب مساحة للحرية والهروب إلى الحرية.
تحت الباب فتحة بطول ثمانون سم وأرتفاع ثلاثة سنتمترات تطل على الباحة.
اسرع إلى هناك، إلى المكان. انبطح على الأرض مستنداً على كعب زندي ووجهي بكف يدي املأ عيني بالفيض والنور القادم من الطرف الآخر. من وراء الباب. أرى الفضاء المفتوح، فضاء الحياة الطلق. شمس أو مطر حر أو برد، ماء السماء وتمددها على الأرض أو شمس طافحة بالتمدد على الخلاء.
يتمدد راتب شعبو أو عمر الحايك، حكمت مرجانة أو عمار رزق، عزيز تبسي أو تيسير الحسون على أرض المهجع ليلتقط من ذلك البريق بعض البريق، بعض من بقع الشمس أو بعض من الظلال المتكئة على الفضاء. ليشاهدوا أشياء غير الجدران القديمة للمهجع.
من خلال الثقب الصغير المزروع في الباب تلقائياً، ثقب مأكسد بقطر ميلمترين تتسلل منه كومة أو باقة من الضياء والضوء. ولون من ألوان الحياة القادم من الطرف الآخر من دورة الحياة ولعبتها.
على هذا الثقب تتسمر عيني مدة طويلة.
نتألم ونتحسر ونهرب ونغب من هذه الدائرة الصغيرة أشياء كثيرة كأن نعد البحص والحصى والرمل, نعد قضبان النافذة المغروسة في جدار المهجع الثالث ونقدر عرض الباحة بستة أمتار يسير إلى اليمين مسافة عشرة أمتار. نرى الشرطة والرقباء. نحسدهم. شعرهم طويل أنيقين. يأتون ليتحمموا ويستمتعوا بالدفئ أو البرد. ولا هم ولا غم يشغل بالهم. يلعبون بالماء ويغنون ويصرخون ويضحكون فلا سلطة تلاحقهم ولا أمن يتعقبهم أو يعد عليهم أنفاسهم.
تبقى عيوننا ملتصقة على شقوق الضوء المنبعثة من الباحة. هناك على بعد خطوة من الجدار والباب ضوء حر وشمس حرة ترتع في الوجود والحرية.
أثناء التمدد على الأرض نلتزم الهدوء التام دون أن يصدر عنا أي صوت أو ضجيج ينم عن شيء له علاقة بالخروج عن المألوف وقوانين السجن الصارمة. نتحرك بتأن. نتفادى إصدار أي جلبة حتى لا يرانا الشرطي. يحمينا جدار عازل عن الشراقة.
النوافذ موصدة بطبقات سميكة من أكياس النايلون. وحذاء العسكري القابع فوق السقف بعيد عنا في النهار تحمينا قضبان الفولاذ المشبك فيه.
نبقى على أمل أن تتمزق الجدران وتتفتق شقوقها ليتسلل منها الضوء النائم وراء الباب ليحملنا إلى غابات خضراء مزنرة بروائح الطبيعة وجداول الأنهار والمياه العذبة.
بصوت أخرس بالوشوشات الهاجسة نتكلم. أقول:
ـ عمر إنهم قادمون. أصوات أقدامهم ترتطم بالأرض.
يبقى عمر صامتاً لا يتكلم، هكذا هو طبعه قليل الكلام. تبقى عينيه مسمرة على الحركة الخارجية بينما حكمت يكمل ما بدأته:
ـ أنظر إليهم إنهم يحملون بلو الرز أو البرغل. لقد وضعوا الكرتون على مساكات البلو. يبدو إنه حار جداً وثقيل على رجلين.
بمرارة وتعب وقرف يرمي الرجال البلوات على الأرض بالقرب من مهجعنا في الباحة الثانية. نرى وجوههم العابسة والعرق السائل يتصبب من كل مكان منهم عندما يجرجون أقدامهم جراً. يتبادلون الحديث بالإشارات والهمس. أيديهم قذرة. حفاة، نصف عراة، حليقي الشعر. وثيابهم أسمال وأشكالهم مثلنا مثل حكايات أهل الكهف والكهوف المجهولة.
قطرات الحزن منغمسة بعمق وسكينة فوق خدودهم التي لا تقرأ منها إلا لغة الإجهاد والتعب والهزيمة:
لا يتكلمون ولا يصدر منهم أي إشارة أو كلمة تنم عن غبن أونق أو رفض, إنهم البلدية سجناء مثلنا، لكنه موثوق بهم لا علاقة لهم بالسياسة على الإطلاق أرتكبوا مخالفات جنائية. الأن إنهم خدام. خدم السجانين والسجناء معاً يعملون طوال الوقت دون مقابل.
يقول عمر هاجسًا:
إنهم يوزعون الطعام، لنراقب كيف يتم توزيع الخضار. يسأل ما هو نوع الطعام الذي في البلو؟
قلت مازحاً:
ـ مرقة مع عدة قطع من الباذنجان طوال الصيف. وجزر مع المرق طوال الشتاء لا شيء جديد.
أنظارنا تتجه نحو الكمية:
ـ هل تتوقع أن الكمية التي ستوضع في ماعوننا قليلة أم تكفينا. كمية الرز، هل ستكون كافية أم لا تسد الرمق، فيه سمن مهدرج أم رز حاف؟
يتدخل حكمت:
فواكه أم خضار؟
يخيم هدوء تام. ننتظر مجيئهم. تخمد حركة البلدية. بعد قليل نسمع صوت جلبة، حركة أقدامهم تقرع الأرض وفي أيديهم سحاحير.
نبدأ نتحزر:
ـ بطيخ أم خيار، فجل أم تفاح، برتقال أو عنب؟ ما هي الكمية التي ستوضع لنا لنراقب ماذا يفعلون وكيف يوزعون هذه الأشياء اليومية.
نتابع الحدث مثل فيلم سينما أو مسلسل تلفزيوني مكررعلى مدى الشهور والسنين والأيام.
هل الكمية قليلة، نصف بطيخة أو أقل أو أكثر؟ جيراننا من القوى الدينية والقومية، الإخوان المسلمين والبعث العراقي، ما هو مقدار الكمية التي سيوزوعوها عليهم؟
أصبحت علاقتنا بالأعداد والأرقام والكميات هي شغلنا اليومي المستمر والتسلية الرئيسية التي لا يراها الشرطة ولا يعرفوا بعنها وربما لا تتوفر في المهاجع الأخرى. أغلب الأوقات يكون بلو الطعام قرب مهجعنا أو المهجع رقم واحد القريب منا في الباحة الثانية، باحة حمامات الشرطة العسكرية.
اليوم ستة تفاحات وضعت بجانب باب المهجع رقم واحد الذي يبلغ عددهم سبعون فرداً. البارحة ثلاثة برتقالات وضعت بجانب باب المهجع رقم ثلاثة الذي يتجاوز عددهم الثلاثون فرداً.
عند يتم توزيع الطعام سيدخلونه السجناء ويتقاسمون الحصص بالمليمتر عبر سكين مصنوع من البلاستيك اللدن الذي شحذ على الجدران عبر حفه من الجوانب ليصبح قادراً على تقطيع حزوز التفاح أو البرتقال أما إذا كانت الفاكهة كرزاً فلكل واحد حبتان أو ثلاثة من أجل حماية اللثة من الاسقربوط أو مرض تساقط الأسنان.
في هذه اللعبة ننعتق من دائرة الدوران اليومي المكرر التي تتساوى فيها الأيام والشهور والسنين والساعات مع بعضها. نحاول عبثاً أن نتوسل طراوة الحياة في هذا المكان الصعب أن نحسب جيداً كيف نتصالح مع ذواتنا، مع بعضنا. ومع الجدران. ومع الهواء الراكد المتعفن ورائحة الرطوبة والسيان المنبعثة من المكان المتكلس والمرحاض القابع في وسط المهجع دون باب أو عازل. فهو الحمام والمرحاض والمطبخ ومكان غسل الأيدي.
لا شيء يداوي قلوبنا المثقلة بالغربة والجفاف. لا شيء. لا وجه امرأة ندية، لا لون ملامحها أو قامتها أو صفاء جمالها. لا شيء يرطب القلب الجاف المرمي بعيداً عن العالم.
عندما يخلوا الصمت للصمت، عندما تهدأ زوبعة الحركة تقترب العصافير من محيط المكان.
الطعام الموجود في البلو يترك تحت المطر في الشتاء وتحت حرارة الشمس في الصيف. تأتي هذه الكائنات المنذورة للحرية والصيرورة والوجود وتستلقي تحت ظلال البلو تلتقط بضعة حبات من الرز أو البرغل.
عيوننا جائعة لرؤية كائن حي، كائن يتنفس الحرية. تبقى عيوننا مسلطة على هذه العصافير المتجمعة حول بعضها البعض، حول بلو الطعام الجاثي في حضن المكان القريب من مهجعنا.
الحراس في خلواتهم مسترخين لا نسمع ضجيجهم في النهار. يبدأ عملهم وزعيقهم في الليل. على الفتحة الدائرية الصغيرة أبقى مسمراً. تتسمر عيني على مشاهد الكائنات الجميلة الحلوة.
في هذه اللحظات أحس بالانعتاق والحرية. أسمو وأحلق وأطير واتشوف جمال الكون وسره وأبداع تكوينه فوق أجنحة العصافير وقدرتها على البقاء حرة طليقة. اتنفس الحلم المخلوط بالأمل. وأرى شيئاً مختلفاً عما هو سائد غير الجدران والصمت والسجن.
عصافير بلادنا خائفة مثلنا، قلقة كثيرة الحركة تكثر الألتفات نحو كل الاتجاهات. ميناء عيونها البيضاء تحلق في المجهول وبؤبؤتها تحدق يمنى ويسرى.
عصافير جافلة قلبها بين كفيها تنتظر الرحيل إلى الضفاف الآخرى، سارحة الابصار نحو توريات الأمل المذعور. يحطهم الرحال المر ليغمسوا أعناقهم في البحث عن رعشة البقاء. عصافير بأحجامها المرهونة للقدر تسترخي في باحتنا طلباً للطعام.
العصافير كائنات حرة قوية صادقة مع نفسها ووجودها، لا تقبل الزيف والحلول الوسط تزقزق عندما تخلد للالتصاق بالطبيعة.
تلتم هذه العصافير القادمة من القدر البعيد في الباحة الفارغة. يعلمون أن المعتقلين في مهاجعهم عاجزين عن فعل شيء يسيء لهم. مع هذا تراهم مجللين بالخوف يرتأون الهروب المرهف على البقاء في مكانهم لهذا يكثرون الالتفات. يمرنون أرواحهم على الاضطراب ودورات الضوء الهارب.
هذا عصفور قلق يعرج بالكاد يقوى على حمل جسده المنهك وذاك مقطوع الرجل يقفز على قدم وساق واحدة تحت عباءة الحذر ولا يقوى على حمل جسده، بيد أن إرادة الحياة الغاوية تدفعه لعدم الاستسلام لغيبوبة الراحة. تحط العصافير رحالها اليومي عند بابنا. في البدء يقفون بجانب البلو يراقبون كل شيء وعندما يتأكدون أن المكان آمن يقفز أحدهم إلى داخل البلو ولكن سرعان من يتراجع وينزل عائدًا إلى الأرض هرباً من الحرارة العالية المنبعثة منه.
يقف الجميع حائرون لا يدرون ماذا يفعلون. يحاول غيره يطير بسرعة وينثر بضعة حبات من الرز أو البرغل على الأرض ثم يقفل عائداً من أجل التقاط ما حصل عليه ولكن بقية العصافير تكون قد اجهدت على تلك الحبات. يعاود غيره المحاولة ويحدث معه مثلما حدث مع الذي قبله. تبقى العصافير تلعب بجانب البلوات على أمل أن يبرد الطعام.
كل بضعة أيام نرى أعداداً جديدة من العصافير مقطوعة الساق تنط على قدم وساق واحدة.
العصفور كائن نشيط لا ينتظر أي أمل أو قدر يغير شيئاً مسار حياته. يبحث عن طعامه في كل مكان أو عن عش أو خلوة لنومه ونوم زوجته.
إحدى المرات رأيت عصفوراً جريحاً نازفاً تعرض لأعتداء من قبل أحد الحراس. جسده كله يرتعش يرجف من الوجع والألم. آثار الاصابة على صدره بادية للعين بوضوح تام واقفاً يتحين الفرصة من أجل الحصول على طعامه. يقفز بصعوبة بالغة، يقع على الأرض متعفراً بالتراب والرمال، بيد أنه يعادود المحاولة مرة ثانية، لا يلتفت إلى وجعه وألمه وعينه على الطعام، أن يسد نداء البقاء. لم يكن هناك من يسانده أو يآزره في مسعاه في الحصول على غذاءه. كل عصفور مشغول بهمه، ببقاءه.
كان ذلك الجريح أمام خيارين:
إما أن يموت نازفاً وجائعاً ومهزوماً أو يموت وهو يكافح من أجل بقاءه.
في السويد يمنع أن تسأل المرء عن معتقده, يعتبر هذا من الكبائر.
يعتبر المعتقد شيء خاص بك عليك أن تحافظ عليه لنفسك.
في بلادنا يعتبر المعتقد هوية ووجود وجب الدفاع عنه إلى حد الموت أو تصفية الأخر المختلف فيما إذا تعرض له بالسوء, لهذا ترى المرء يعبر عن نفسه عبر رموزه ويتباهى بذلك أمام الملأ كنوع من المكاشفة العلنية والتمرد عليه, على الحاضر المكسور والمهزوم.
إن افتقاد مجتمعاتنا لمقومات الحياة المعاصرة, المجتمع المدني, للحريات, للدسستور والدولة المعاصرة, يدفعه ذلك للجوء إلى الذات, إلى الماضي للاحتماء به. يذهب إليه, يزينه ويلونه ليطابق هذا الذات مع الموضوع وفق مقاساته وتصوراته.


لتهميش قضية عادلة, عليك افتعال مشكلة كبيرة.
لقد نسي العرب قضية فلسطين عندما اشتعل لبنان. كنا في قضية, صرنا في مصيبة. كانت لنا مطالب اجتماعية سياسية محقة, صرنا نتمنى خروج داعش وجبهة النصرة.
نهرب من تحت الدلف إلى تحت المزراب.
أصبحنا مثل ذلك المسكين, يركض دون توقف, ليمسك بالجزرة المربوطة بعصا, نركض إلى الأمام دون جدوى

خلق عدو
خلق عدو مرعب, مربك, لإعادة انتاج مشكلة وطنية عميقة, لإشغال المجتمع فيه, لتضييع أو تفويت أية فرصة لبناء دولة, وطن.
داعش لم تأت من عبث, هي خيار أجهزة المخابرات في علاقة المركز بأطرافه في الزمن الجديد, تحت راية محاربة الإرهاب .
من يسلم مدن كبيرة, دون قتال, يعلم ماذا يريد, ولديه معرفة إلى أين تسير الأمور.

الدين لم يهذب البشر
الأديان لم تهذب البشر، لم تغير في سلوكهم ورغباتهم وغرائزهم أي شيء، وبقيت النفس الإنسانية مادة خام، كما البدء، لأنها تعاملت معهم كخارج، كأداة، كشيء يجري الحفر عليه لإعادة إنتاجه وفق رؤية القائمين عليه، وإعادة تنظيمه وترتيب عقله وفق رؤية مسبقة.
الأديان تنظر إلى الناس باستعلاء وفوقية، وفق أفكار متعالية، وفق أمتلاك الحقيقة، مما أبقهم خارج الخارج.
وأقوال المسيح كمثال، من ضربك على خدك الأيمن در له الأيسر ما زالت تسبح في الفضاء، لم تتجذر في الأرض، لأنها ليست جزءًا من أرض الواقع.
وأغلب المؤمنين بالأديان حولوا هذا الأخير إلى حصان أو حمار، ركبوا عليه، مارسوا التقية، الايمان الشكلاني، هوية كاذبة، وعاشوا حياتهم ضمن فعل تناقضي، وكل واحد من هؤلاء يعيش حياته كما يريد، ثم يعاني من الأزدواجية بين الأيمان، ومتطلبات الحياة ورغباتها، بين الوصول إلى الجنس والرغبة والمال والسيطرة وتعاليم الدين.
حياة المؤمن صعبة، أنه يعاني من حدين متناحرين، الامتثال للدين والخضوع له، وبين التمرد عليه للوصول إلى الرغبات والشهوات



#آرام_كربيت (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- هواجس ثقافية وسياسية 199
- هواجس ثقافية 198
- هواجس ثقافية 197
- هواجس ثقافية 196
- هواجس ثقافية 195
- هواجس ثقافية 194
- هواجس ثقافية 193
- هواجس ثقافية وفكرية 192
- هواجس سياسية ويستفاليا ــ 191 ــ
- هواجس نفسية وثقافية ـ 190 ــ
- هواجس ثقافية وأدبية وسياسية 189
- هواجس ثقافية 188
- هواجس ثقافية وأدبية ـ 187 ـ
- هواجس ثقافية وفكرية ـ 186 ـ
- هواجس ثقافية وفكرية 185
- هواجس ثقافية ـ 184 ـ
- هواجس سياسية وثقافية 183
- هواجس ثقافية وفكرية 182
- هواجس ثقافية ـ 181 ـ
- هواجس ثقافية 180


المزيد.....




- مصر.. فنانة شهيرة تتقدم بشكوى ضد -مصبغة غسيل-
- تردد قناة الزعيم سينما 2024 نايل سات مشاهدة احدث افلام عيد ا ...
- جبل الزيتون.. يوميات ضابط تركي في المشرق العربي
- شوف ابنك هيدخل كلية إيه.. رابط نتيجة الدبلومات الفنية 2024 ب ...
- LINK نتيجة الدبلومات الفنية 2024 الدور الأول بالاسم ورقم الج ...
- رسمي Link نتيجة الدبلومات الفنية 2024 برقم الجلوس والاسم عب ...
- مشاهدة مسلسل تل الرياح الحلقة 127 مترجمة فيديو لاروزا بجودة ...
- بتقنية الخداع البصري.. مصورة كينية تحتفي بالجمال والثقافة في ...
- ضحك من القلب على مغامرات الفأر والقط..تردد قناة توم وجيري ال ...
- حكاية الشتاء.. خريف عمر الروائي بول أوستر


المزيد.....

- خواطر الشيطان / عدنان رضوان
- إتقان الذات / عدنان رضوان
- الكتابة المسرحية للأطفال بين الواقع والتجريب أعمال السيد ... / الويزة جبابلية
- تمثلات التجريب في المسرح العربي : السيد حافظ أنموذجاً / عبدالستار عبد ثابت البيضاني
- الصراع الدرامى فى مسرح السيد حافظ التجريبى مسرحية بوابة الم ... / محمد السيد عبدالعاطي دحريجة
- سأُحاولُكِ مرَّة أُخرى/ ديوان / ريتا عودة
- أنا جنونُكَ--- مجموعة قصصيّة / ريتا عودة
- صحيفة -روسيا الأدبية- تنشر بحث: -بوشكين العربي- باللغة الروس ... / شاهر أحمد نصر
- حكايات أحفادي- قصص قصيرة جدا / السيد حافظ
- غرائبية العتبات النصية في مسرواية "حتى يطمئن قلبي": السيد حا ... / مروة محمد أبواليزيد


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - الادب والفن - آرام كربيت - هواجس ثقافية وأدبية ـ 200 ـ