|
القاتل المتسلسل
ريان علوش
(Rayan Alloush)
الحوار المتمدن-العدد: 8004 - 2024 / 6 / 10 - 14:47
المحور:
الادب والفن
في تسعينات القرن الماضي عملت كمدرس وكيل في مدارس قرى حلب، ولا تحسبوا أن الأمر كان هينا، بل كان هناك صراع حقيقي على هذه المهنة التي غالبا ما يكون المدرسين فيها طلبة جامعة لجؤوا إليها كي يعولوا أنفسهم غير عابئين بالظروف المرافقة التي لا تراعي آدمية المدرس. في ذلك العام تم قبولي في منتصف العام الدراسي، حيث تم تعييني في قرية لا تبعد كثيرا عن المدينة، وهذا ما استغربته، إذ أن هكذا مكان يحتاج لدعم كبير. عوملت في تلك القرية بحذر، وهذا شيئ طبيعي في قرى محافظة لم أستغربه، لكن كان الأمر مبالغا فيه، ولم أعرف سبب ذلك التحفظ. بالقرب من مسكني الذي كان يتألف من غرفة واحدة لفت انتباهي الشاب الذي كان يقطن في الجهة المقابلة. كان في سني تقريبا، لكنه بدا مريضا. كان نحيلا غائر العينين، شعره ولحيته قد أطلقهم بإهمال واضح، وكان يقضي أغلب أوقاته وحيدا يجلس في ظل شجرة التوت الكبيرة الموجودة في باحة منزله، و رغم أنه كان يتجاهل تحيتي، إلا أنني واصلت القائها عليه، ولم أكن أعلم سبب اصراري ذلك. ذات مساء، وبينما كنت في غرفتي طُرق بابي، ففتحته وإذ بذلك الشاب، الذي دلف إلى الداخل بعد أن دعوته. بعد أن جلس على الكرسي تمعنت به، بدا لي وكأنه في النزع الأخير فأرعبني، ودون مقدمات بدأ الحديث قائلا: أعلم بأنك متوجس مني ومعك حق، لكن فليكن في علمك بأنني لم أكن كذلك فيما مضى، كنت شابا يافعا مليئا بالحيوية، مقبلا على الحياة بفرح وحب، إلا ان الظروف غدرت بي بقسوة. كنت منصتا جيدا له لم اقاطعه، ليس لأنني كنت أريد أن يكمل حديثه دفعة واحدة فقط، وإنما لأنه كان يتحدث وكأنه يحدث نفسه ايضا. تابع قائلا: وفاة والدي جعلت مني المعيل الوحيد لأسرتي، وهذا الأمر اضطرني لترك مدرستي والسفر إلى لبنان حيث عملت في مهنة العتالة، و رغم قساوة العمل إلا انني كنت سعيدا، لأن عملي كان سببا باكمال اختي دراستها، إضافة لدواء والدتي باهظ الثمن، سنوات مرت على حالتي هذه لم أستطع خلالها زيارة القرية سوى عدة مرات، فباتت أخبار عائلتي بالكاد أعرفها، وذات يوم وصلتني رسالة تفيد بأنه يتوجب علي الحضور في الحال. أقلقتني تلك الرسالة جدا، ولم تغب والدتي عن ذهني لأنني خمنت بأن مكروها أصابها. في اليوم التالي حزمت أشيائي متجها نحو القرية، وعندما وصلت كنت ألقي التحية على المارة كالعادة، ولكن كانوا يشيحون النظر عني وكأني ارتكبت إثما، وحتى تلك اللحظة لم أكن لأعرف السبب، وعندما دخلت إلى البيت بحثت عن والدتي التي ما إن رأتني حتى انهارت بالبكاء. سألتها عما حدث، وقبل أن تجيبني دلف عمي من الباب قائلا: لقد جلبت أختك العار لنا، لقد هربت إلى المدينة والله أعلم ماالذي تفعله حاليا، العار عارك وشرف لك أن تغسله بيديك، ثم سلمني مدية كبيرة يستعملها لذبح الخراف. في اليوم التالي ذهبت إلى المدينة، وبعد عدة أيام علمت بمكان سكنها، طرقت الباب، ففتحت بعد أن عرفتها بنفسي، وعندما رأتني كانت كالغريق الذي أتى من ينقذه، ففتحت ذراعيها لتعانقني، إلا أني عاجلتها بطعنة في بطنها، وأخرى في صدرها، ثم ثالثة ورابعة لا أتذكر أين. كنت أتصرف كالمنوم مغناطيسيا، ولكن بعد أن رأيتها مضرجة بالدماء صحوت، وبكيت حتى اغمي علي. بعد أيام قضيتها في السجن خرجت، فاستقبلني أهل القرية استقبال الأبطال بالزغاريد والأفراح، وفيما بعد بدأت تتضح لي الحكاية. هنا سكت قليلا كمن كان يسترد أنفاسه، ثم قال: كانت أختي جميلة وذكية، أحلامها لا حدود لها، ولم نكن إخوة فقط بل اصدقاء أيضا، وكان شبان القرية يتسابقون لخطبتها إلا انها كانت ترفض واضعة إكمال دراستها كهدف رئيسي، هذا الأمر لم يعجب عمي، الذي خطبها، أو باعها لرجل عجوز قادم من الخليج. تنهد الشاب بعمق ثم تابع قائلا: لم تجد أختي سندا لها سوى مدرس القرية الذي ساعدها في الهروب وتأمين مسكن في المدينة,،ثم تابع بصوت متحشرج قائلا: روحها تلاحقني في صحوي و في نومي، لن اسامح نفسي، لن أسامح نفسي، قالها ثم خرج من الباب جسد بلا روح. في الصباح التالي استيقظت مذعورا على عويل والدته، فخرجت مسرعا متجها نحوها، وعندما وصلت كان قد سبقني بعض الجيران، وكانت بعض النسوة يهدأنها، بينما كان الرجال يضربون كفا بكف قائلين: لا حول ولا قوة إلا بالله. على غصن شجرة التوت شاهدت حبلا متدليا، وكان بنهايته جثة الشاب، وعندما أمعنت به النظر لم ألحظ أي تغيير في سحنته، اللهم سوى عيناه اللتان بدتا أكثر اتساعا، وأكثر تحدي.
#ريان_علوش (هاشتاغ)
Rayan_Alloush#
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
حمولاتنا الثقيلة
-
الحرب العالمية الثالثة
-
لقد فات الآوان
-
نباح قبل النوم
-
مجتمعات اخرطي
-
أصحاب العمامات
-
السوريون مرتزقة
-
حمير الشرق
-
نبوغ مبكر
-
الماركسيون لا يمثلون الماركسية!!
-
الضحية
-
أمارجي
المزيد.....
-
مصر.. انتحار موظف في دار الأوبرا ورسالة غامضة عن -ظالمه- تثي
...
-
تمشريط تقليد معزز للتكافل يحافظ عليه الشباب في القرى الجزائر
...
-
تعقيدات الملكية الفكرية.. وريثا -تانتان- يحتجان على إتاحتها
...
-
مخرج فرنسي إيراني يُحرم من تصوير فيلم في فرنسا بسبب رفض تأشي
...
-
السعودية.. الحزن يعم الوسط الفني على رحيل الفنان القدير محم
...
-
إلغاء حفلة فنية للفنانين الراحلين الشاب عقيل والشاب حسني بال
...
-
اللغة الأم لا تضر بالاندماج، وفقا لتحقيق حكومي
-
عبد الله تايه: ما حدث في غزة أكبر من وصفه بأية لغة
-
موسكو تحتضن المهرجان الدولي الثالث للأفلام الوثائقية -RT زمن
...
-
زيادة الإقبال على تعلم اللغة العربية في أفغانستان
المزيد.....
-
مختارات من الشعر العربي المعاصر كتاب كامل
/ كاظم حسن سعيد
-
نظرات نقدية في تجربة السيد حافظ الإبداعية 111
/ مصطفى رمضاني
-
جحيم المعتقلات في العراق كتاب كامل
/ كاظم حسن سعيد
-
رضاب سام
/ سجاد حسن عواد
-
اللغة الشعرية في رواية كابتشينو ل السيد حافظ - 110
/ وردة عطابي - إشراق عماري
-
تجربة الميج 21 الأولي لفاطمة ياسين
/ محمد دوير
-
مذكرات -آل پاتشينو- عن -العرّاب-
/ جلال نعيم
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
المزيد.....
|