|
درج خشبي
فوز حمزة
الحوار المتمدن-العدد: 8003 - 2024 / 6 / 9 - 22:11
المحور:
الادب والفن
دخلتْ في هدوءٍ مرتدية روب الحمّام الأبيض تنبعث منها رائحة صابون بعطر زهرة الخزامى. أدار عنقه صوب باب الغرفة حين سمع صريره، رؤيتها أحييت فيه إحساسًا رائعًا حمله إلى أوقاتٍ كانا يستحمان معًا. تعبأتْ رئتاه بالرّائحة، بينما راح يراقب خصلات شعرها المبللة وهي تقطر، مر بخياله مشهد تلك الأيام من زواجهما. كادتْ دمعة تفر من عينيهِ، لولا أنها خلعتْ عنها الرّوب، فشغلته عن الذّكريات بجسدها الذي لم يزل بضًا، أبيض اللون. وهي تحاول إخفاء ثدييها المنتفضين تحت حمالة الصّدر السّوداء، انتابته لحظةُ حزن عميق، كان يود لو لحظة يدس بها رأسه بينهما، لتحلق النوارس بعدها عاليًا صوب الغيوم، يشقُ غناؤها صفحة السّماء، بعد إعلان البحر ثورته! امتلأ صدره بالتنهدات وهو يحدق في الشّامة الكبيرة أعلى ظهرها، اجتاحته رغبة عارمة لاحتضانها والإمساك ملء كفيه بالعنقودين المستفزين. أحاسيس متنافرة تملكته ولّدت في نفسهِ صراعًا لا يعرف كيف ينفّس عنه. لحظة مرتْ، أشعرته بالغضب، ثم تلتها لحظة جعلته يعيش طعم الضّياع و التّمزق. أنْ تكون حاضرًا في ذاكرة أحدهم وغائبًا في ذات اللحظة كما يحدث له الآن، ذلك يشبه البركان الموشك على الانفجار إلا إنه لن ينفجر فتهتز الأرض من حوله لتبعثر الخوف والهلع والتّرقب وتفقد كل ما له صلة بالوقت. كل ذلك لم يحرك خلية واحدة من جسده المنبوذ منذ سنوات فوق هذا الفراش البارد كأنه حصان هزيل، لا يفعل شيئًا سوى انتظار الهلاك. الثواني تزحف كجيش يقوده الموت، فتلتهمه ليتآكل شيئًا فشيئًا. بقايا إنسان لا يحسن عمل أي شيء سوى التنفس. أغلق عينيه ليرى حقيقته التي تمثلت أمامه بكل بشاعة؛ رجل مشلول لزوجة جميلة وصغيرة! خلايا جسده تموت الواحدة تلو الأخرى و يموت معها الأمل في استرجاعِ قوتهِ المتحجرة داخل جسده، أفكار سوداء استعمرتْ عظامه الخاوية .. تمنى الموت لتنتهي كل الأفكار السّوداء التي تلتف بظلالها حوله وتخنقه بصمتٍ في كل ثانية لتمضي بهِ كما يمضي الذئب بفريسته. كثيراً ما كان يدور في خلده محادثتها بالأمر، يعرض عليها الطّلاق والتّحرر من الارتباط به، لكنه في آخر ثانية يتراجع تحت وطأة الخوف في أن توافق وتتركه وحيدًا. مجرد التفكير في الأمر يرعبه، فيتراجع متخاذلًا، منكسرًا، و جبانًا ... لم ينقذه من سيل أفكاره التي لم تنقطع كشلال شديد الانحدار سوى عطرها الذي تسلل إليه مخترقًا أنفاسه رغمًا عنه، نظر إليها وهي تذرع الغرفة جيئة وذهابًا استعدادًا للخروج. أبهره حسنها كما كان يبهرهُ من قبل، لم تنظر صوبه لمرة واحدة، لم تحاول أخذ رأيه في الفستان الذي سترتديه كما كانت تفعل، بدلًا من ذلك أخذت تحدث نفسها بصوت يكاد لا يسمع: سأرتدي الأخضر، هو الأنسب. كعادتها، تبدو مرتبكة في اللحظات الأخيرة قبل الخروج ومثل كل مرة، رنين هاتفها ينقذها، وهي ترد بنعم، التفتتْ نحوه مبتسمة كأن أحدهم ذكرها به. قالتْ قبل غلق الهاتف كلمة نعم لأربع مرات وكلمة لا خمس مرات. مؤلمة هاتان الكلمتان حد الدمع! بينما كان يردد مع نفسه بوجعٍ: لم أعدْ أحتمل، الشّكوك ستقتلني قبل المرض، نار الشّك تحرق قلبي ودخانها يملأ أوردتي، كل شيء من حولي يرتعش! العتمةُ تفتح أذرعها لتضم روحي والظّلام يهوي بمطرقته على رأسي، فأجد نفسي في مكان ما أصارع شياطين الأرض بأقدام مقيدة بسلاسل من نار، كيف لعقلي أن ينعم بالسكينة؟! وهو يحاول السّيطرة على أنفاسه الملتهبة، وضعت يدها على جبينه ثم دستها بين خصلات شعره. فتح عينيه ليجدها تجلس بجانب السّرير مبتسمة. تيار الدم عاد إلى وجهه فتغير لون الحياة! هي وحدها مَنْ يعيد تنظيم الأشياء، فتعود الشّمس دافئة ويعود المطر حنون. نظر إلى عينيها النّرجسيتين فأخبرته عن الحزن المختبئ فيهما، نظراتها أخبرته كم هي عاشقة وأيضًا مشفقة! طبعت قبلة فوق شفتيهِ قبل أن تقول له جملتها المعهودة وتخرج: لن أتأخر .. كما توقع، عادتْ ثانية للغرفةِ كما تفعل كل مرة، لتفتح ذلك الدّرج الخشبي وتخرج منه شيئًا دسته بحذر في حقيبتها مع حرص بالغ ألا يراه. تركته وحيدًا في الغرفة. شعر بانعدام كل شيء، الزّمن يتباطأ من حوله والصّمت يتسرب إليه عبر النّوافذ التي سمحت للظّلام التّسلل عبرها بجرأة. أمسى أرجوحة للقدر والهواجس التي وجدته طعامًا شهيًا! تملكته رغبة للهرب من شكوكه التي جعلت منه صيدًا ثمينًا! تمنى لو أن معجزة تحدث لينبت له جناحان ليرى ما بداخل ذلك الدُرج اللعين الذي أرهقه لأشهر وجعلته يواجه الوساوس دون درع واقٍ. نظر إلى سقف الغرفة الذي شهدَ معه أحزان وحدته. كل شيء يحيطُ به ساكن و الدقائق من حولهِ تحترقُ بصمت! سلّم جسدهُ المشلول للنّوم وهو يحدق في الدّرجِ الخشبي.
#فوز_حمزة (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
مَنْ أنت في أي علاقة؟
-
حنين العودة
-
حلم غاف
-
حكاية قبل النوم
-
حديث قبل الفطور
-
حروف بخط اليد
-
حدث في العاشرة مساءً
-
قصائد متفرقة
-
جلست أحتسي فقري
-
بيرة بالليمون
-
جلسة سرية
-
اليوم الثامن
-
بلغاري .. عربي
-
الفاصل كان لحظة
-
قالت رأيتكَ
-
أزواج الزوجة
-
الحب في زمن الكورونا
-
أدوات استفهام
-
آدم الأخير
-
فوز الكلابي موشاة بأحلام قصصها
المزيد.....
-
مسلسل طائر الرفراف الحلقة92 مترجمة للعربية تردد قناة star tv
...
-
الفنانة دنيا بطمة تنهي محكوميتها في قضية -حمزة مون بيبي- وتغ
...
-
دي?يد لينتش المخرج السينمائي الأميركي.. وداعاً!
-
مالية الإقليم تقول إنها تقترب من حل المشاكل الفنية مع المالي
...
-
ما حقيقة الفيديو المتداول لـ-المترجمة الغامضة- الموظفة في مك
...
-
مصر.. السلطات تتحرك بعد انتحار موظف في دار الأوبرا
-
مصر.. لجنة للتحقيق في ملابسات وفاة موظف بدار الأوبرا بعد أنب
...
-
انتحار موظف الأوبرا بمصر.. خبراء يحذرون من -التعذيب المهني-
...
-
الحكاية المطرّزة لغزو النورمان لإنجلترا.. مشروع لترميم -نسيج
...
-
-شاهد إثبات- لأغاثا كريستي.. 100 عام من الإثارة
المزيد.....
-
مختارات من الشعر العربي المعاصر كتاب كامل
/ كاظم حسن سعيد
-
نظرات نقدية في تجربة السيد حافظ الإبداعية 111
/ مصطفى رمضاني
-
جحيم المعتقلات في العراق كتاب كامل
/ كاظم حسن سعيد
-
رضاب سام
/ سجاد حسن عواد
-
اللغة الشعرية في رواية كابتشينو ل السيد حافظ - 110
/ وردة عطابي - إشراق عماري
-
تجربة الميج 21 الأولي لفاطمة ياسين
/ محمد دوير
-
مذكرات -آل پاتشينو- عن -العرّاب-
/ جلال نعيم
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
المزيد.....
|