زكي مبارك وسؤال النهضة

بهاء الدين الصالحي

الحوار المتمدن-العدد: 7997 - 2024 / 6 / 3 - 04:47
المحور: الادب والفن
    

اللغة المثالية في نظر الجاحظ هي اللغة التي تصنع في العقل صنيع الغيث في التربة الكريمة، ويرصد دكتور مصطفى ناصف ان الكلام هو مظهر الثقافة التي يحتاج اليها مجتمع تتناوبه اثار الظرف والمجون واثار الخطابة والاستهواء، نشأت كلمه البيان لتعبر عن وطاه الغموض او الالتباس، نشأت كلمه البيان ونمت لما اراد الجاحظ ان يقول انها فئات من المجتمع الثقافي اعوزها التواصل والقاعدة العقلية والوجدانية المشتركة.
ويتوافق ذلك مع مفهوم علم انثروبولوجيا اللغة حيث اللغة في علم الانثروبولوجيا جزء من الثقافة وعلم الانثروبولوجيا اللغوية هوذلك العلم الذي يدرس كيف ينقل الكلام الشخصي معلومات اجتماعيه وثقافيه واقتصاديه وفكريه وعلميه وكيفيه ارتباط المتغيرات اللغوية بالمتغيرات الفكرية.
وذلك تأسيسا علي ضرورة ضبط المصطلح حيث ساد مصطلح السرد وهو مرادف للقص مع العلم ان ذلك يقتضي التخصيص في مجالات معينة كالقصة والرواية دونما المقال الادبي والرسائل الاخوانية والديوانية والخطابة ولما كان العرب المؤسسون واعين بالتحدي الذي فرضه القرأن الكريم من خلال الدخول بقوة لمجال القصص ونعته بأحسن القصص ووجود افعل التفضيل نوع من التنبؤ بما يفعله الجيل التالي عن صدر الاسلام ودخول أقوام جدد بنثرهم الذي يعكس واقعا تاريخيا تم اختزاله لمضمون حكائي يقوم بدور تعليمي يضمر من داخله بنية معرفية وذلك تحسبا لفكرة الإطار الايديولوجي الذي جاء به الإسلام والمقولة المؤسسة ان الاسلام يجب ما قبله وبالتالي جاءت الحكايات بجاذبيتها كحصن أمن للنفس البشرية خاصة مع حالة الأقتتال الدائرة بين رموز الدعوة الإسلامية ومساحة الحرج عند جموع المسلمين ،وكذلك جاذبية الشفاهية كمنجز عربي أدي لظهور موسيقا الشعر التي تتعامل مع الاذن في المقام الاول وبالتالي مع التعبد بتسفيه الشعراء علي ظاهر القول القرأني ،بغض النظر عن وجود شعراء مسلمين في حضرة الرسول صلي الله عليه وسلم.
وبالتالي جاء مصطلح النثر بمعني التفرق وذلك تماشيا مع التعبير القرأني الدر المنثور ولكن المصطلح جاء مع الجاحظ حيث فرق مابين النثر الوصفي والنثر الفني الذي يسعي لبلورة قواعد بيانية وكذلك ضبط الكلام ومن هنا جاء مصطلح البيان والتبيين وذلك مع اعتبار المرحلة ان الشرعية الرئيسية كانت دينية ،وبالتالي جاء ضبط المصطلح لتحديد هوية الملتقي ليكون ( دوحة النثر الفني وتاريخيته) وكذلك ليجيب علي عدة أسئلة في تاريخ ابداع الشعوب بعيدا عن فكرة الشعوبية وادعاء أمة علي أمة بالفضل، وذلك تأسيسا علي نظرية الانعكاس والتي تؤسس لان التطورات الاقتصادية بما فيها من ادوات انتاج انعكست علي البناء الطبقي قادرة علي انتاج قيم جديدة يعبر عنها الادب ،والا فما نفسر نبوغ ابناء الحضارة الفارسية والرومانية في علوم اللغة العربية والبيان العربي وذلك مع دخولهم الاسلام وهو نوع من السيادة البديلة خاصة مع الحرمان المسبق من فكرة الولاية السياسية بحكم ضرورة قرشية الحاكم، وذلك حتي سقوط العصر العباسي الاول وظهور القوميات المجاورة كالتركية واعراقها المختلفة من سلجوقية وغيرها وذلك تحديدا بعد حادث سامراء الشهير .
ولعل تركيزها علي عنوان دوحة النثر الفني وتاريخيته يكون قادر علي خلق استمرارية تاريخية لأشكال الابداع العربي ورأب الهوة المعرفية التي ادت لوأد تراث كامل من الابداع العربي بحجة ان المقامة ليست قصة وان عالم السجع العربي خارج اطار الحضارة القادمة من ذلك العالم الغربي الذي يستند علي الحضارة اليونانية القديمة ،خاصة وأن الظرف الحضاري الذي أدي لذلك كان مفصليا قد تحول الي قاعدة عامة فحدث تشوه في حركة النثر الفني العربي ،وزاد الامر غموضا سيطرة المنطق الفرنسي والانجليزي من خلال شخصيتان لهما كاريزما كبيرة في الواقع الثقافي المصري وهما طه حسين وعباس محمود العقاد وكلاهما كانا يستندان الي المؤسسة الرسمية وهي الوفد ،وقد ادت تلك المساندة الي طمر رافدين مهمين في الثقافة المصرية وهما محمد زكي عبدالسلام مبارك وأحمد ضيف وكانا علي خلاف مع طه حسين ،ولعل النثر الفني في القرن الرابع وهو متن رسالة الدكتوراة الثانية والتي حصل عليها من السوربون والذي يعد تأريخا حقيقيا للنثر الفني عبر الدول الإسلامية مشرفا ومغربا، وذلك بشهادة أساتذة السوربون انفسهم .
ولا على ذلك كله مدخلا للإجابة على سؤال هل استطاع العرب معرفه النثر الفني بكل مقاييسه العلمية.
بنية القصة القصيرة كما وردت في القرن الرابع الهجري مثال يورده زكي مبارك في كتاب النثر الفني في القرن الرابع الهجري الجزء الأول خلال عرضه لكتاب المكافأة الذي طبع ١٩١٤ بعناية الاديب الفاضل امين عبدالعزيز أفندي والذي ظفر به من احد باعة الكتب بنابلس وقد اهداه الي البحاثة احمد زكي باشا والكتاب يقع في ١٢٨ صفحة والكتاب وضعه ابو جعفر احمد بن يوسف المصري وكان ابوه يوسف بن إبراهيم ويكني بأبي الحسن وقد توفي ٣٤٠ هجرية : ونزل الي حارتنا غلام أمرد تأخذه العين ،وكنت أسلم عليه أذا أجتزت به كما افعل هذا مع غيره من جيرتي، فأنصرفت يوما الي منزلي فوجدته قائما علي بابه ، فدفع الي رقعة يذكر فيها انه عباسي من ولد المأمون، ويسألني بره ،ودخل من كان معي بدخولي ، فقضيت شغلي بالجماعة حتي انصرفوا، ووضعت المائدة بيني وبين العباسي ،فكلنا وهو يتأملني فلا يجد في شئ قدره ، فلما غسل يده دفعت ثلاث دنانير اليه ، واعتذرت اليه عن تقصيري في حقه ، وانصرف وقد رأيت تسجيلي في حماليق عينيه .
ويورد زكي مبارك ان الاسطر القليلة عرض الكاتب مسألة خلقية دقيقة عرضا لا اخلال فيه ولا تطويل ،وذكاء الكاتب وبراعته في التعبير : واكلنا وهو يتأملني فلا يجد في شيئا قدره .وهو يعكس نوعا من التجنيس الراقي للغة .
والجديد في هذا الكتاب مااورده زكي مبارك :
ان احمد ابن يوسف سبق البهاء زهير في إدخال ألفاظ وتعابير وأخيلة مصرية مثال :
ادخل كلمة ست في مكان سيده كلفظة فصيحة ،كذلك استخدام كلمة نفر للشخص المفرد وليس للجمع وتجمع خمسة انفار ،بخلاف الفصحي : اجتمع نفر من الجن ، استخدام كلمة المركب بدلا من السفينة ، استخدام كلمة التليس للجوال الكبير وهي موجودة في كتاب المكافأة ،المصريون يشبعون تاء الخطاب في مخاطبة الأنثى فيقولون فعلتيه بدلا من فعلته .
وقد قسم الكتاب الي ثلاثة أقسام: المكافأة علي الحسن ، المكافأة علي القبيح ، حسن العقبي .
وقد اورد كذلك حكاية اوردها عبدالله عبدالكريم والذي كان مطلعا علي أحوال احمد بن طولون
وفي سبيل تدقيق زكي مبارك علي ان النثر عربيا ينقض مقولة ان المقامة فارسية المنشأ حيث يخطأ رأي الحريري بأن بديع الزمان الهمداني هو أول من كتب المقامات مع أصله وثقافته الفارسية .
وقد اكد زكي مبارك ان بديع الزمان ليس مبتكر فن المقامة ولكنه ابن دريد المتوفي سنة ٣٢١هجرية وسر إهمال ريادته عدة اسباب :
ان ابن دريد اسمي قصصه احاديث بينما اورد بديع الزمان اسم المقامات لها وقد كتبها ٣٨٢هجرية وقد عارض بها أربعين حديثا لابن دريد الذي ولد في البصرة ٢٢٣وتوفي ٣٢١هجرية اي قبل تأليف بدبع الزمان بستون عاما ،وقد رد طه حسين زكي مبارك لكتاب زهر الآداب والذي حلي كتابه القالي بأربعين حديث نقلها عن ابن دريد ،وعلي الرغم من ذلك تعد مقامات بديع الزمان افضل صياغة وقد نشر الحريري بعد ذلك فن المقامة .وقد حسم مبارك ان لغة بديع الزمان اقل سجعا وتكلفا من مقامات الحريري ، لا يؤكد ان فن المقامة هو فن القصة وانما يبرر ذلك بأن العرب بفطرتهم لم يكونوا يميلون الي القصص المعقد الذي وجد عند اليونان ،ولكنه يري ان المقامة انجاز بشري يلائم الثقافة العربية ، خاصة وأن هناك نماذج من المقامات عبارة عن قصة قصيرة بما تشمل شخصيات وعقدة مثل المقامة المضيرية والمقامة البغدادية .
وقد حسم زكي مبارك بوجود حياة عقلية وتراث ابداعي ولكنه تلاشي بحكم هزيمة حزب المعارضة وبالتالي تم وأد كل مقولاته ،علاوة علي كمية التشويه الذي لحق بذلك التراث من خلال محاولة تكييفه مع الفهم الشعوبي للاسلام الذي ساد بحكم الاختلافات السياسية المصبوغة بالدين .
ولعل مدرسة اداب القاهرة ويمثل د خيري دومة احد نماذجها الافذاذ من أنصار ذلك الاتجاه وهو رتق الفتق المعرفي من خلال إعادة الاعتبار لتراث النثر الفني العربي واعتبار نماذجه المختلفة نوعا من التأريخ للحياة العقلية والاجتماعية .
ونحن ندشن دوحة النثر العربي وتاريخيته نسعي لإعادة الاعتبار لكل الوان التعبير القديمة والتي لم تمت وذلك وأدا للازدواجية التي يعانيها مجتمعنا ولعل مدخلنا الاقرب للتحقق هو ساحة النثر الفني التي تستوعب عدة موضوعات تستوعب القدرة التصريفية للغة العربية .
علاوة علي إمكانية طرح فكرة توطين الأداب التي طرحها د عبدالعزيز الاهواني بدلا من التحقيب الذي يفترض نمطية المجتمعات الإنسانية حتي وان تجاورت جغرافيا .
٢٣/٥/٢٠٢٤

#بهاء_الدين_الصالحي (هاشتاغ)      

---

اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين	حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل

كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على:

الفيسبوك

التويتر

اليوتيوب

RSS

الانستغرام

لينكدإن

تيلكرام

بنترست

تمبلر

بلوكر

فليبورد

الموبايل

كيفية إشراك-إيصال مواضيعكم أو مواضيع تهمكم  إلى اكبر عدد ممكن من القراء والقارئات