|
الأرنب الذكي
طالب عباس الظاهر
الحوار المتمدن-العدد: 7994 - 2024 / 5 / 31 - 20:13
المحور:
الادب والفن
كانت حيوانات القرية المسالمة تعيش براحة وأمان وطمأنينة، والجميع سعيد في حياته، ونشط في عمله، لأن الكل يعيش بمحبة وتعاون ووئام مع الآخرين يعرف ماله وما عليه من حقوق وواجبات، تعلو المصلحة الجماعية على مصالح الأفراد، حتى عكر صفاء الحياة في القرية قدوم دبَّ شريرٍ، وسكنه في مغارة في أعلى جبل يحدُّ القرية من الشمال، بعد أن انهارت كلاب الحراسة في معركتها معه لقلة عددها، فانقلب أمن القرية إلى خوف، وسعادتها تحولت إلى حزن، وبدأ وجود الدب يشكل مصدر تهديد دائم لهم ولممتلكاتهم، إذ إنه كلما جاع ينزل من المغارة تحت جناح الظلام، ويهجم على القرية، ويطارد صغار الحيوانات الضعيفة مما يصادفه ويصطادها لتكون وجبات طعامه الشهية في المغارة، وراح القلق والرعب يسيطران على الكبار منهم قبل الصغار.. ماذا يفعلون مع هذا الدب الشرير؟ فلا أحد منهم يقوى على مواجهته.. لضخامته وشراسته. دعا الخروف المعمر وهو من أكابر حيوانات القرية إلى اجتماع الحيوانات في بيته من أجل مناقشة هذه المشكلة، واقتراح الحلول الممكنة لها، والاتفاق على أفضلها مما يمكن تنفيذه منها، وكما جرت العادة عندهم كلما واجهت القرية تهديداً، أو تعرض أحد أفرادها لمشكلة أو ظلم، أو أصيب بمرض ما، فقد كان الجميع يتعاون في تقديم المساعدة من أجل إيجاد الحل له إذا كانت مشكلة، أو جلب العلاج المناسب للشفاء في المرض. وبعد أن يتم التداول بأفضل المقترحات للحل تتم المباشرة في تنفيذ أفضلها فورا، شرط الاتفاق عليه، ومن ثم توزع المهام والواجبات على الراغبين بالقيام بها كل حسب إمكانياته ورغبته، قالت السلحفاة ما رأيكم لو يتم بناء سور حول بيوت القرية من الطين والحجر، أو جذوع وأغصان الأشجار وتعزيزها بالنباتات الشوكية القاسية، لكي تمنع الدبّ اللعين من الدخول؟ بينما أقترح التمساح حفر خندق حول البيوت، وتحويل ساقية صغيرة من مجرى النهر الكبير لملؤه بالمياه، وأقترح كبير الكلاب تشكيل قوة ضاربة من جميع الكلاب القوية القادرة على المواجهة ومن غيرها من الحيوانات الأخرى القوية أيضا، ومهاجمة الدب بغتة في مغارته وقتله، أو إجباره على الفرار، وترك المغارة لتكون نقطة حراسة متقدمة تمنع أي تجاوز قادم من غريب آخر ومن تقربه من القرية وتهديه لها ثانية، وأخيرا أقترح الغزال بالخروج من القرية وهجرها بالرحيل إلى مكان آخر بعيد وآمن من الغابة الواسعة. إلا إن كل المقترحات كانت لا تلقى الترحيب المناسب، وتواجه بالرفض من لجنة الحكماء المؤلفة من كبار الحيوانات، كالحمار الوحشي والبقرة السوداء والقرد المعمر، بعد أن يبينوا للجميع حتى المقترحين أنفسهم لها بعدم جدواها، وفشلها في حالة التطبيق، فبخصوص السور فإن الدب ضخم وقوي يمكنه هدم جزء منه للعبور بعمل فتحة يدخل ويخرج منها قبل أن تنمو وتستحكم فيه الشجيرات الشوكية كمتسلق العليَّق الشوكي وغيره، فهي تحتاج لوقت طويل لتكون منيعة، كما إن الخندق يتطلب بذل جهد كبير ووقت طويل، لا يمكن خلاله أن يمهلهم الدب فيه من إكماله، وربما يشن الهجمات على القرية خلال انشغالهم بالعمل نهارا، وبخصوص المواجهة وخوض معركة مع الدب للقضاء عليه أو هزيمته فهو أمر لا طاقة لحيوانات القرية المسالمة عليه لضخامته وشراسته، وقد خسرت القرية بالفعل بعض نفر من كلاب الحراسة في أول دخوله القرية حينما واجهته بشراسة، لكنه قضى عليها نهائيا، ولا يمكن أن تجازف القرية وتضحي بالمزيد. أما مقترح ترك القرية وهجرها فهو جبن لا يمكن الموافقة عليه لأنها قريتهم، وفيها حياتهم ومستقبلهم، ويجب على كل فرد من المجموعة أن يدافع ليس فقط عن حقه في الحياة، بل وعن حياة الآخرين فيها.. مضحيا بكل ما يملك، ويعد الرحيل خيانة لدماء كل الذين ماتوا في الدفاع عنا وعنها، فالقوة تكمن هنا يا رفاق في اتحاد قوى الجميع في مواجهة الأخطار، كل منا مكمل للآخر في دوره ومسؤوليته.. القوي والضعيف، فكل متوحد هو ضعيف مهما كانت قوته، وكل مجتمع قوي مهما كان ضعفه، هكذا تحدث الحمار الوحشي وعلا صوته بشيء من العصبية والغضب، حتى خيم صمت ثقيل على المكان وكاد يسمع سقوط ورقة يابسه أو حركتها على الأرض مع الهواء. ظل الصمت سائدا لزمن بدا طويلا جداً، ولهيبته لا يتجرأ أحدا على كسره، والحزن خيم على القلوب، ولكن بعض العيون توجهت بلحاظها الخفي وعتابها إلى الغزال، بينما الغزال طأطأ رأسه ندما، مقدماً اعتذاره بلغة جسده، وبدا أسفه واضحاً على تقديمه مقترح الهروب من القرية وتركها، ولفّت الحيرة جميع الحيوانات المجتمعة بسبب عدم التوصل إلى حل مناسب وهي المرة الأولى التي تعجز ولم تتوصل فيها الحيوانات إلى حل يلبي جزء من طموحها على الأقل. هنا في هذه الأثناء والأجواء والصمت مازال مسيطرا على الجميع استأذن الأرنب للكلام، فأذن له القرد المعمر.. لكن بعض اللغط الخافت تصاعد هنا وهناك، ولسان الحال يفشي بأن الحيوانات الكبيرة والقوية عجزت عن إيجاد حل مناسب للمشكلة؛ فهل يجده أرنب صغير؟ لكن الأرنب تكلم بثبات مقترحاً عمل حفرة كبيرة في طريق الدب الشرير، وملأها بالمياه، وتغطيتها للتمويه بقشرة خفيفة من التراب وبعض الحشائش وأوراق الشجر أثناء النهار والدب نائم، ومن ثم استدراجه ليلا وهو جائع من قبل أحد الحيوانات الصغيرة بالركض من أمامه فوقها لكي يطارده من أجل افتراسه.. فيسقط فيها، لأن وزنه ثقيل جداً، ويتم التخلص منه. هنا استبشرت الوجوه فرحاً بهذا الحل البسيط، وأبدت لجنة الحكماء موافقتها فوراً، لكن البقرة السوداء بعد صمت ثقيل قالت.. ولكن من يتجرأ على استفزاز الدب الشرس، والمخاطرة بالتقرب إليه وهو جائع؟ هنا وبكل ثبات أبدى الأرنب رغبته بأن يكون هو صاحب المبادرة، وسط احترام الجميع وتصفيقهم الحار لذكائه وشجاعته. وبالفعل كمن الأرنب منذ بداية الليل في مخبئ أمين مشرف على باب مغارة الدب، لكي يراه عندما يخرج، ساعات من الإنتظار مرّت حتى خرج الدب وكان جائع وهو يتمطى وينفض التراب عن فروة جسده الضخم، رافعا يديه إلى الأعلى، ومطلقا اصواتا عالية، وكان الليل مقمر، وما أن نزل على الطريق المؤدي إلى القرية؛ تحرك الأرنب بهدوء ليظهر أمامه على الطريق، فرح الدبُّ أن وجد أرنباً بهذه السهولة، ليكون وجبته الشهية، فقرر فوراً أن يصطاده قبل أن يختفي عن نظره، فركض خلفه بكل ما أوتي من سرعة، وركض الأرنب أمامه صوب الحفرة وعبر من فوقها، فتبعه الدب، ولكن ما أن صار فوقها بجسمه الضخم نزل به سقفها وسقط في المياه، ظل يصرخ عالياً حتى سمعته وهي فرحة جميع حيوانات القرية.. الدقائق تمضي شيئا .. فشيئا حتى بدأ الدب يطلق شهقاته الأخيرة قبل أن يلفظ نفسه الأخير ويموت غرقاً. وعندما بزغت شمس صباح اليوم التالي، كانت تبدو خيوط أشعة الإشراق أكثر بهجة مما هي عليه، والنسائم أكثر نقاوة، وغناء الطيور أكثر جمالا، وكان كل شيء على ما يرام، والفرحة لا توصف بالخلاص، والسعادة والنشاط والحيوية تبدو واضحة في حركة جميع الحيوانات وهي تستقبل يوم عمل جديد، بعد أن حقق لهم الأرنب الذكي حلمهم الجميل بالتخلص من تهديد الدب الشرير.
#طالب_عباس_الظاهر (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
ابنة الخلود
-
متوالية التشرِّد
-
متواليات قصصية
-
ما هكذا يورد الشعر
-
النقد البهلواني!
-
عبق الجنة!
-
غادر ولم يعد!
-
اسطولُ جدي!
-
حزني غلام امرد
-
حزني غلام أمرد
-
لا تبتئس ياصاحبي
-
فنارات
-
أمنية
-
لوحة
-
- لايك -
-
انفجار العصر!
-
حكاية ظل - ق.ق.ج
-
في وداع نجيب محفوظ في ذكراه العاشرة
-
زيارة استثنائية
-
جنون تحت المطر
المزيد.....
-
الثقافة السورية توافق على تعيين لجنة تسيير أعمال نقابة الفنا
...
-
طيران الاحتلال الاسرائيلي يقصف دوار السينما في مدينة جنين با
...
-
الاحتلال يقصف محيط دوار السينما في جنين
-
فيلم وثائقي جديد يثير هوية المُلتقط الفعلي لصورة -فتاة الناب
...
-
افتتاح فعاليات مهرجان السنة الصينية الجديدة في موسكو ـ فيديو
...
-
ماكرون يعلن عن عملية تجديد تستغرق عدة سنوات لتحديث متحف اللو
...
-
محمد الأثري.. فارس اللغة
-
الممثلان التركيان خالد أرغنتش ورضا كوجا أوغلو يواجهان تهمة -
...
-
فنانو وكتاب سوريا يتوافدون على وطنهم.. الناطور ورضوان معا في
...
-
” إنقاذ غازي ” عرض مسلسل عثمان الحلقة 178 كاملة ومترجمة بالع
...
المزيد.....
-
مختارات من الشعر العربي المعاصر كتاب كامل
/ كاظم حسن سعيد
-
نظرات نقدية في تجربة السيد حافظ الإبداعية 111
/ مصطفى رمضاني
-
جحيم المعتقلات في العراق كتاب كامل
/ كاظم حسن سعيد
-
رضاب سام
/ سجاد حسن عواد
-
اللغة الشعرية في رواية كابتشينو ل السيد حافظ - 110
/ وردة عطابي - إشراق عماري
-
تجربة الميج 21 الأولي لفاطمة ياسين
/ محمد دوير
-
مذكرات -آل پاتشينو- عن -العرّاب-
/ جلال نعيم
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
المزيد.....
|