أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - جواد بولس - كل شيء قد تغيّر ، حتى الاحتلال صار وحشيًا















المزيد.....

كل شيء قد تغيّر ، حتى الاحتلال صار وحشيًا


جواد بولس

الحوار المتمدن-العدد: 7994 - 2024 / 5 / 31 - 02:49
المحور: مواضيع وابحاث سياسية
    


كل شيء قد تغيّر، حتى الاحتلال صار وحشيًا

لم تكن محاكم الاحتلال العسكرية يومًا مكانا مريحًا للمحامين الذين يدافعون عن الاسرى الفلسطينيين، ولا للاسرى انفسهم، وبالطبع ليس لعائلاتهم. فهذه المحاكم التي باشرت عملها منذ اليوم الاول بعد انتهاء حرب حزيران /يونيو 1967 خطط لها أن تكون الذراع التي ستُحكم قبضة المحتل على رقبات الفلسطينيين الذين "يتجرأون" على مقاومة الاحتلال ويتحدون نتائجه العسكرية المبهرة بعد ستة أيام من حرب لم تنته فعليًا حتى يومنا هذا.
لم ينفرد جهاز المحاكم العسكرية ومعه المنظومة القضائية العسكرية بمهمة قمع المواطنين الفلسطينيين والامعان في معاقبتهم وردعهم، بل قام بهذه الوظائف الى جانبهم جهاز القضاء الاسرائيلي المدني وعلى رأسه "المحكمة العليا الاسرائيلية" التي حرصت على مهمة تبييض ممارسات الاحتلال وتسويغه كحالة "طبيعية وقانونية" وليس بكونه جريمة بمقتضى المواثيق الدولية وأعرافها.
تاريخ المحاكم الاسرائيلية، العسكرية والمدنية، أسود؛ والحديث عن دَور قُضاتها في صناعة الظلم عبر سنيّ الاحتلال، يحتاج الى كتابة مجلدات كبيرة. لقد كان الاسير الفلسطيني، وما زال، ضحية عزلاء في قاعات تلك المحاكم، لا يحظى بأية فرصة حقيقية للدفاع عن قضيته ولا ينال اجراءات ما يسمى بقواميس عدل الامم "المحكمة النزيهة". ومثله كنا نحن المحامين، ندافع في معارك محسومة ضدنا مسبقا او كأننا نقف امام طواحين الهواء او نركض في حقول كان القضاة فيها مجرد "فزاعات" تتحرك بدفع الريح بدون قلوب وبلا أرواح. كان معظم القضاة، وقبلهم المدّعون العسكريون وقبلهم المحققون وقبلهم الجنود الذين اعتقلوا الاسرى، مقتنعين أنهم يقومون بواجبهم المقدس خدمة لدولتهم ودفاعا عن شعبهم ! فالفلسطيني، كل فلسطيني، هو عدوهم ويصير"ارهابيا" عندما يختار طريق النضال ضد الاحتلال. أما نحن المحامين، فكانت قطاعات واسعة بين الجنود والمدعين والمحققين والقضاة ينظرون الينا غالبًا، كموكلينا: "ارهابيين" يدافعون عن "ارهابيين"، لا أكثر ولا أقل. انها حكايتي خلال اكثر من اربعين عاما وقفت فيها في مكاني الطبيعي وعلى ضفة التاريخ الصحيحة، وشاهدت كيف كان يُهزم الاحتلال فيها في كل مرة كان يقف الأسير الفلسطيني امام سجانه او امام قاضي المحكمة ويبتسم شامخا ، رغم الوجع، في وجوههم كأنه فلقة الصبح ضحّاكًا وساخرا من ذيل عتمتهم الخائبة. أربعون عامًا حاول فيها الاحتلال، بدون كلل، أن يبتلع نواصي الأمل الفلسطيني وأن يئد خلايا افراحهم؛ فكان يجرب ويفشل ويجرب ويفشل. كانت فلسطين تدفع مهورها وتمضي عاقدة ضفائر احلامها على خواصر القدر، وكانت تلد بنات وأبناءً يعشقون منازلة المستحيل ويؤمنون أن غدهم ينام في حدقات امهاتهم ويفيق ينتظرهم عند نواصي البرق. هكذا كان العمر يمضي، وكان كل شيء حولنا يتغير ويتبدل؛ لقد صار الاحتلال أوحش وسار جلاوزته على غرائز الطغاة في اشتهاء الدم واللهو عند سماع حشرجات الفرائس؛ وصارت فلسطين أوهن وأعجز بعد ان خانها "الاخوة" وغدر بها الاشقاء وراحت تفتش عن ميناء لتلقي فيه مرساتها. أما انا فكبرت في الهمّ وشعرت "بوحدي". هرمت احلامي ولم اعد احتمل صلف المحاكم ولا عربدة الجنود ولا نزق القضاة. لقد قالوا : لكل زمن رجاله؛ ربما هكذا كان ولكن ليس في هذا الزمن، زمن الموت الحافي في فلسطين وزمن"لمّ شمل" جثث ابنائها في حفر الضمائر الغائبة. لم انتظر بروز هذا الجحيم منذ السابع من اكتوبر،؛ فعندما احسست أن جهاز القضاء الاسرائيلي قد فسد بالكامل وتعطلت كل مجسّاته وبات مجرد هيكل تستوطنه فيالق الاحتلال، بدأت ابتعد عن ساحات المحاكم، ولا ازورها الا لماما، فكان حتى هذا القليل كثيرا.
قبل أيام قدمت الى محكمة عوفر العسكرية لامثل أبا وابنه من سكان مدينة رام الله، كان الجيش قد اعتقلهما بشبهة تقديم خدمات الى حركة حماس من مكان عملهما.
وصلت باب المحكمة الرئيسي فادخلني الحارس مستهجنًا قدومي بعد طول غياب. فاجبته مؤكدا انه ليس الشوق لهم، بل عساها رغبتي بمقاومة اليأس والاطمئنان عمّن واكبت تاريخهم منذ ايام صباي. ادخلني معتذرا مني اذ كان عليه ان يفتشني لان كل شيء تغير، هكذا قال بخجل ظاهر. دخلت في ممر طويل على جانبيه شريط عال من الاسلاك الشائكة فمشيت بينها بهدوء محاولا ان اطرد من رأسي صورة الشياة وهي تدفع في مثل هذه الممرات قبل ذبحها.
وصلت ساحة صغيرة تحدها نفس الاسلاك الشائكة من جميع الجهات، وفيها غرفة انتظار معدّة لاحتواء عائلات الاسرى التي تنجح بالوصول الى ساحة المحكمة. منها دلفت الى ساحة اصغر محاطة بالاسلاك الشائكة، وضع فيها "كرڤان"، مكون من غرفتين صغيرتين كان الجنود يستعملونه "فتبرعوا" به للمحامين ليزجوا داخله، وهو المكان الوحيد الذي يسمح للمحامين ان يمكثوا فيه ريثما ينادى على اسمائهم للدخول الى قاعة المحكمة. تعودت بسرعة على المكان بصحبة الزملاء وبعد ان أفهمت بان أيام كنا نستطيع دخول ساحات المحكمة الداخلية ونجوب في وبين قاعاتها او نزور غرف السكرتارية او المدعين العسكريين، قد ولت؛ فكل شي قد تغير، افهمني زملائي!
حاولت ان استفسر عن موعد جلسة موكليّ، فضحك المحامون بشفقة ظاهرة، وقالوا يا استاذنا هذه مهمة مستحيلة. انتظر فسيأتيك جندي مترجم ويدعوك. ولكن لا احد يستطيع ان يضمن لك متى سيحدث هذا، وقالوا: كان يا ما كان، فكل شيء في هذا المكان قد تغير يا استاذنا !
لم يحالفني الحظ قبل استراحة الظهر، فانتظرت حتى انهى الجنود والقضاة غذاءهم؛ وجاء المترجم وصاح باسم موكلي سائلا مَن من المحامين يمثله فقفزت ودخلت مسرعا قاعة المحكمة. انتظرت في القاعة باجواء كلها فوضى وصراخ. كان الجندي يحاول ان يجد مكان اعتقال موكلي ،الاب، كي يعرضه على شاشة الفيديو ، فالاسرى لا يُحضرون الى قاعات المحاكم. بعد نصف ساعة من الفوضى واشتباك اصوات حرس السجون الذين كانوا يفتشون عن امكنة اعتقال الاسرى مع اصوات الجنود المترجمين والجنود الحراس بدأت الجلسة. طلب المحقق تمديد توقيف الاب وابنه بثمانية ايام اضافية بعد العشرة التي كانا قد قضياها. اعترضت وطلبت اطلاق سراحيهما، الا ان القاضي قرر تمديد التوقيف بحجة اعطاء فرصة للمحققين لانهاء التحقيق منوّها الى ان المادة التي عاينها لا تحمل خطورة كما كان ادعى المحقق. حاولت ان اصرخ في القاعة لاشرح لموكليّ من خلال شاشة الفيديو ماذا جرى بشأنهما ، الا ان السجان الذي كان يرافقهما من بعيد قرر قطع الاتصال. خرجت مذهولا من المشهد ، لا باكيا ولا ضاحكا بل مصدومًا. كنت انظر باتجاه القاضي، رآني من فوق رؤوس الجنود والمترجمين والمحامين فقلب كفي يديه بحركة المهرج، وقال: هي الدنيا سيد بولس، فكل شيء هنا قد تغير! قال وانتقل ليكمل الفصل التالي في مسرحية العبث.
انتهت مدة التحقيق التي اقرّتها المحكمة فاخبرتني النيابة العسكرية انهم قرروا عدم تقديم لائحتي اتهام بحق موكليّ. فرحت وقلت في نفسي: معقول ان يكون فعلا كل شيء قد تغير ؟ اتصلت مع سكرتارية المحكمة لاستوضح كيف ومن اين سيفرج عن موكليّ، فاجابتني المجندة: لن يفرج عنهما؛ اذ اصدرت المخابرات بحقهما امري اعتقال اداريّين: للابن لمدة ستة شهور وللاب لمدة اربعة شهور. سمعتها وتمتمت: على ما يبدو لا شيء قد تغير. هو الاحتلال يخاف ويحن ويتوحش عامًا بعد عام فيبدل عصيّه ووجوهه واقفاصه معنا وحسب.
انتظرت عشرة ايام حتى عينت لهما سكرتارية المحكمة في عوفر جلستين للنظر في صحة الامرين.
وصلت في الموعد المحدد الى باب المحكمة فسالني الحارس بدعابة "يبدو انك قد عدت الى عشيقتك، فانت محام مشهور ولا تستطيع ان تتركها/ مهنتك." قالها بلهجة محترمة وجدية، فاجبته: "لكل زمن رجاله، وهذا زمن الندم والهباء الذي لم يعد زمني؛ اما معشوقتي فسابقى أنا خادمها ما دام يطلع فوق سمائها القمر" ؛ قلت ولم اتحقق اذا فهم مرادي. مشيت مرة اخرى في تلك المسارب وبين الاسلاك الشائكة حتى وصلت قفص المحامين؛ وأخبرتهم بما حصل معي فلم يستغربوا. ثم فهمت ان مع جميعهم حصل مثلما حصل معي والا كيف وصل عدد المعتقلين الاداريين في ايامنا الى 3400 معتقل اداري ؟!
ثم أضاف احدهم وكان من محامي الجيل الجديد: على ما يبدو يا استاذنا، ان كل شيء قد تغير عن زمانكم. قالها واستمر وزملاؤه في مزاولة شعائر يومهم وانا معهم في ذلك القفص الصغير.



#جواد_بولس (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- نادي الأمل الفلسطيني
- فلسطين بين اسرائيل الصهيونية واسرائيل التوراتية
- الوحدة والمسؤولية قبل غزة وبعدها
- ما بعد بعد مدرسة مار متري..الطريق الى البطريركية
- محاولة اغلاق مدرسة -مار متري- منبه على صراع مستمر
- -يوم الاسير- قبل وبعد أكتوبر، يوم الوجع الفلسطيني
- حين كذّبت غزة شعار -معا سننتصر- واحترقت وحدها
- العرب في اسرائيل، بين محنة حاضرة ونعمة مشتهاة
- جنازة للعدل في حيفا
- لو أردنا وعملنا لنجونا
- من تراتيل اذار ، نار الحرية خالدة
- انتخابات المجالس المحلية في اسرائيل بين حربين: غزة وصناديق ا ...
- عندما خسرت القدس -شرقها-
- أفراح فلسطينية ملفعة بأكفان
- قدر بين صمتين: صمت الحكمة والحالمين وصمت العاجزين والغافلين
- هل سيبقى الخوف سيدا في أماكننا
- هل يُشرق العدل في هاغ أم يَشرق؟
- حجة المعقولية، حد فاصل بين اسرائيليتين
- ميلاد تحت الركام، ليس بالدين وحده يحيا البشر
- هل واجهت اسرائيل في اليابع من أكتوبر خطرا وجوديا ؟


المزيد.....




- جدل في مصر بعد اعتماد قانون يمنح القطاع الخاص حق إدارة المست ...
- غزة.. الحياة تستمر رغم الألم
- قبل المناظرة بساعات.. ما ينبغي أن يتجنبه كل من بايدن وترامب ...
- المجر تُعيق إصدار بيان مشترك لدول الاتحاد يندد بحظر روسيا لو ...
- خبير ألماني: أربعة أو خمسة أطفال يموتون من الجوع يوميا في ال ...
- البيت الأبيض: لا نعتزم إجبار كييف على تقديم تنازلات إقليمية ...
- نيبينزيا: كييف دمرت أكثر من 1000 مؤسسة صحية وتعليمية وقتلت م ...
- نتنياهو يرد على انتقاد غالانت والبيت الأبيض يعلّق
- الحوثيون والمقاومة العراقية تستهدفان سفينة إسرائيلية في مينا ...
- وزيرا الخارجية المصري والتركي يبحثان هاتفيا العلاقات الثنائي ...


المزيد.....

- تأملات في كتاب (راتب شعبو): قصة حزب العمل الشيوعي في سوريا 1 ... / نصار يحيى
- الكتاب الأول / مقاربات ورؤى / في عرين البوتقة // في مسار الت ... / عيسى بن ضيف الله حداد
- هواجس ثقافية 188 / آرام كربيت
- قبو الثلاثين / السماح عبد الله
- والتر رودني: السلطة للشعب لا للديكتاتور / وليد الخشاب
- ورقات من دفاتر ناظم العربي - الكتاب الأول / بشير الحامدي
- ورقات من دفترناظم العربي - الكتاب الأول / بشير الحامدي
- الفصل الثالث: في باطن الأرض من كتاب “الذاكرة المصادرة، محنة ... / ماري سيغارا
- الموجود والمفقود من عوامل الثورة في الربيع العربي / رسلان جادالله عامر
- 7 تشرين الأول وحرب الإبادة الصهيونية على مستعمًرة قطاع غزة / زهير الصباغ


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - جواد بولس - كل شيء قد تغيّر ، حتى الاحتلال صار وحشيًا