|
إرهاصات البوح عند علي حسن الفواز
داود السلمان
الحوار المتمدن-العدد: 7985 - 2024 / 5 / 22 - 00:19
المحور:
الادب والفن
النصوص السابحة بالمعنى العميق لا تخشى مخاطر الغرق، طالما كانت وما تزال موقنة من نفسها، وتتحدى معاول الحطام المدجج بالنكوص، فهي تأبى التقهقر والخذلان معًا، فتتقدم للأمام وتشيح ببصرها عن طرق التخاذل، إذ تبقى صامدة صمود الجبال الشاهقة، لا تنحني ولا تلوذ بالخسران، أو حتى تطأطئ رأسها أمام الأعاصير التي توعد بالموت الرخيص. هكذا هو ديدن تلك النصوص، وتلك طباعها وسجيتها، فليس من الغريب بمكان أنْ تصمد تلك النصوص أمام الكم الهائل من الخراب، والدمار المكثّف ازاء الجمال بغرض دك صرحه، وتهديد وجوده، لأنّ وجود هذا الجمال يعني ازاحة القبح، بعد أن تغزوه بعقر داره، وقلعه من جذوره، وبه يتسنى للجمال أن يرتقي سماء التألق، فيشهق المعنى، ويسمو البوح مرتديا قبعة التحدي، حتى تمطر السماء بقصائد باذخة المعنى من لدن الشاعر: وهو المطلوب. هكذا هي فلسفة الجمال الساطع، تزهو بدلالها وتتراقص أمام مخيال الشاعر، الفائض بالأحاسيس النابعة من قلبه النديّ، لذا تأتيه القصائد طوع أمره، فتسجد بين يديه، بحنو وإدراك واعٍ كي، تتم صورة المشهد الجمالي، مذكرًا إيانا بالعصر الفيكتوري. أو هكذا أرى فربما أنا أحلم، وليست الأحلام مُحرّمة على متذوقيّ الجمال، وصناع الفلسفات، بوجوديتها السارترية أو بتاريخيتها الهيغلية. ومن العصر الفيكتوري، هذا، إلى جمال من نوع آخر، إلى البصرة الفيحاء، بأزقتها وشوارعها، وبيوتها وجمال ناسها، وسيّابها والحسن البصري، بجميع دراويشها ومتصوفيها. إلى "تهدجات العرّاف البصري"، الذي يقص لنا حكايته الشاعر المبدع علي حسن الفواز، بنصه هذا الذي بين أيدينا، وهو يتلوه على أذواقنا بكلماته العاطرة، فيمسها بالصميم. وثمّة ما يدعونا إلى الوقوف على نتاج الفواز الإبداعي، هي السّمة التي تميّزه عن الآخرين - الشعراء، أنّه يمتاز بطابع سردي في انسيابية الجُمل وتكثيفها، ورصّ تلك الجُمل بصور معبّرة، فضفاضة، فالصورة التي يرسمها الفواز هي: عبارة عن لوحات داخلية يرسمها بعناية خاصة، لا يراها إلا من محض أسلوب الفواز محضًا، ودقق بالأشكال الشعرية المعروفة عنه، كقوله: " أيها البصريون، إحشدوا الوقتَ بالبحرِ، بالطينِ، كرروا رؤيا الخلق، لملموا قراطيسَكم، إصعدوا عرباتِ الليلِ ويمّموا الطريقَ". ولعلنا لا نجافي الحقيقة إذا قلنا: إنّ الفواز يتعاطى البوح في معظم نصوصه، بل وحتى في كتاباته الفكرية والذهنية، فالبوح هو سلاحه الذي يحارب به جيوش السأم، وتحشدات الملل، وأفواج الشجن، التي دائما ما تنتاب الشاعر- بصورة عامة، وتقذفه في لجج من الحيرة، أمام هذا التراكم الهائل من النكوص والتشرذم الذي يعصف بمجتمعاتنا الحاضرة، بعد الخراب الانسانوي المفتعل، والحروب العبثية التي يمارسها المتسلطين، حتى ضجّت بهم الأرض، والشاعر هو الأكثر من سواه مَن يشعر بهذا الخراب، لأنّه حسّاس أكثر من اللازم. الشاعر هو كتلة من المشاعر المنسابة كالماء الدافع، وهو مع ذلك شاغل فكره بصناعة الجمال، أي الجمال مقابل الخراب، فحتما الجمال سيتنصر على الخراب، بالنهاية، كذلك هو منتصر دوما. وأما الخراب فمئاله إلى الاضمحلال والتقهقر. شاعرنا الفواز في هذا النص، أخذ يمارس دور الفيلسوف، وإن كانا هما المخصوصان بترميم صروح الجمال، لكن ثمة فوارق بينهما: الشاعر يرمم صروحه بخيال محض، وإما الفيلسوف فيصنع طوب الترميم بفكر خصب. بمعنى أنّ الشاعر يعطي العنان للخيال، والفيلسوف يعطي العنان للتأمل والفكر. وكأني أرى بأن الفواز مزج بين الحدين. وفي هذا النص تحديدًا، أشم رائحة تفلسف خصبة. النص: (تهدجات العرّاف البصري) للشاعر- علي حسن الفواز لها ما تكشفهُ الرؤيا، ولي ما تفضحهُ طرقي وقراطيسي، أتقّصى ألمعنى، وأفتحُ بابَ التأويلِ، فتتسعُ الفكرةُ، تناوشني وجهَ الغائبِ، أو وجهَ علي الزنج، مغوياً بوصايا الحربِ، أو مصلوباً تخذلهُ الريحُ، توهمه بجهاتِ البصرةِ، إذ يحصرُها الجندُ، فتُخفي ما تحتَ قميصِ الذبحِ، اسماءً، أقنعةً، ليلاً مُحتَفياً بوصايا المقتولين، وصايا من تدنوه تراباً، او تُقصيه بلاداً.. أصغي، إذ تُصغي، وكلانا يرهفه خوفُ الموجةِ، فنشيحُ ونشيخُ، تتقصانا الحربُ، فيهبطُ عرّاف الزنج إلى البصرةِ، يكتبُ قرطاسا للفقراءِ، للصوفيين، للمخذولين، للبكّائين، يدعو: يا أولادَ النحوِ، ومجازَ الفكرة، وعواءَ الروحِ، هذا البرقُ لكم، علّقوا به اسماءكم، راياتِكم. لا تنطروا الغيابَ، إذ تُشافهُكم الحكمةُ بالمحو، والحربُ بخائنةِ التأويل. أيها البصريون، إحشدوا الوقتَ بالبحرِ، بالطينِ، كرروا رؤيا الخلق، لملموا قراطيسَكم ، إصعدوا عرباتِ الليلِ ويمّموا الطريقَ الى "بصرياثا" 2 لها ما يُقالُ، وما تتشهى، ولي ما أخفيه وما أفضحهُ، فأنا ألمُعتزلُيُ، العالقُ بالوردةِ، والحكمةِ والتوريةِ، أُكرِمُ بين يديها العشبةَ، اتهجّى ما قال البصريُ لإبنِ عطاء، إذ كاشفهُ السرَ، وبادلهُ المعنى، وأوصاه خبيئاتِ الفكرةِ، فالبصرةُ بنتُ الفكرةِ، بنتُ خبيئتها، أو شهوتِها النافرةِ. لها ما يكتمُه العرّافُ، أو ما يصرفُه النحويُ، فالبوحُ البصريُّ نواحٌ، والعزلةُ فيها اغواءٌ للوقتِ، او تعريةٌ للروح.. أنا المعتزليُّ، عرّافُ التأويلِ، سافتحُ للبصرةِ قرطاسي، كي تمحو ما دوّنه الجندُ، أو ما أوّله العسسُ، إذ كان إبنُ أبيه يرشّ الخوفّ، ويعلّق رأسَ الصحو على أعمدةِ السدر.. 3 لها ما يضلُّ عن المعنى، أو ما يُهرّبه الوضوحُ، ولي أنّ أرممَ الخطوَ إليها، افتحُ أبوابَ التوريةِ، فيدهمني المجازُ، أتشّهاها سحراً، أو تعويذةً للخلاص، أو غوايةَ ما لا يُدركُ، أو ما يستحضرهُ الغائبِ، ويفضحه المجمورُ برؤيا الماء...
#داود_السلمان (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
منطق العاطفة والخيال الخصب لدى الشاعرة وجدان وحيد شلال
-
جنان السعدي حين يصوغ المعاني السامية
-
مبدعون عرفتهم عن كثب (2) وليد حسين
-
أحمد خلف.. يحرث في أرض الكتابة ويصنع الجمال
-
تأمّل في (لَم يَكُنْ عارِيًا ذلك الظِّلُّ) للشاعر حمزة فيصل
...
-
علي الحسون هل يكتب الشعر أم ينزف جراحًا؟
-
ملامح الصورة الجمالية لدى الشاعرة منى سبع
-
تحليل سويولوجي لقصة (نصيف الأحمر) للكاتب سعد السوداني
-
الأسطورة ولعبة الأضداد في (العابد في مرويته الأخيرة)
-
السلاسة والانسيابية في نصوص راوية الشاعر
-
فلسفة المشاغبة عند القاص كاظم حسوني
-
سردية عادل المعموري التي أنصفت المرأة
-
القاص كامل الدلفي في (ذاكرة الطباشير)
-
النسق السّردي في (أبواق صاخبة) للقاص حسين الرفاعي
-
الرمزية والبناء القصصي عند الكاتبة فوز حمزة
-
في قصته (دعابل) رياض داخل يهتك أسرار الطفولة
-
الرمزية في (تداعيات) الشاعر واثق الجلبي
-
تعاطي البوح في نص (ستكون معي) للشاعر حميد الساعدي
-
الرمزية الباذخة في نص (وحدهم يعبرون الجسر) للشاعر التونسي ال
...
-
تجلي المعاني السامية في نصوص الأديب صابر المعارج
المزيد.....
-
توجه حكومي لإطلاق مشروع المدينة الثقافية في عكركوف التاريخية
...
-
السينما والأدب.. فضاءات العلاقة والتأثير والتلقي
-
ملك بريطانيا يتعاون مع -أمازون- لإنتاج فيلم وثائقي
-
مسقط.. برنامج المواسم الثقافية الروسية
-
الملك تشارلز يخرج عن التقاليد بفيلم وثائقي جديد ينقل رسالته
...
-
موسكو ومسقط توقعان بيان إطلاق مهرجان -المواسم الروسية- في سل
...
-
-أجمل كلمة في القاموس-.. -تعريفة- ترامب وتجارة الكلمات بين ل
...
-
-يا فؤادي لا تسل أين الهوى-...50 عاما على رحيل كوكب الشرق أم
...
-
تلاشي الحبر وانكسار القلم.. اندثار الكتابة اليدوية يهدد قدرا
...
-
مسلسل طائر الرفراف الحلقة92 مترجمة للعربية تردد قناة star tv
...
المزيد.....
-
مختارات من الشعر العربي المعاصر كتاب كامل
/ كاظم حسن سعيد
-
نظرات نقدية في تجربة السيد حافظ الإبداعية 111
/ مصطفى رمضاني
-
جحيم المعتقلات في العراق كتاب كامل
/ كاظم حسن سعيد
-
رضاب سام
/ سجاد حسن عواد
-
اللغة الشعرية في رواية كابتشينو ل السيد حافظ - 110
/ وردة عطابي - إشراق عماري
-
تجربة الميج 21 الأولي لفاطمة ياسين
/ محمد دوير
-
مذكرات -آل پاتشينو- عن -العرّاب-
/ جلال نعيم
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
المزيد.....
|