|
النظام الطائفي والطائفية في الدولة الإسلامية --- تابع ---
سعيد الوجاني
كاتب ، محلل سياسي ، شاعر
(Oujjani Said)
الحوار المتمدن-العدد: 7984 - 2024 / 5 / 21 - 13:26
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
( تابع ) 2 ) تطور الطوائف في الإسلام . فسّر ظهور الطوائف في الإسلام ، تفسيرات شتى ، تتباين بالتحيّز والموضوعية ، تبعاً لميول المؤرخ واتجاه الكاتب . ولعل اشهر التفسيرات وأكثرها انتشارا بين الأوساط الطائفية والشوفينية العنصرية ، نظرية ابن حزم الاندلسي . وهي كنظرية عنصرية ، لم يكن من الغريب ان تشيع بين المستشرقين الغربيين الجواسيس ، ومن تأثر بهم من دعاة الفكر القومي في البلاد العربية . يقول ابن حزم الاندلسي : " والاصل في اكثر خروج هذه الطوائف عن ديانة الإسلام ، ان الفرس كانوا من سعة الملك وعلو اليد على جميع الأمم وجلالة الخطير في انفسهم ، حتى انهم كانوا يُسموّن الاحرار والابناء ، وكانوا يعدّون سائر الناس عبيدا لهم . فلما امتحنوا بزوال الدولة عنهم على ايدي العرب ، وكانت العرب اقل الأمم عند الفرس خطرا تعاظمهم الامر ، وتضاعفت لديهم المصيبة ، وراموا كيد الإسلام بالمحاربة في أوقات شتى . ففي كل ذلك يظهر الله سبحانه وتعالى الحق ، فرأوا كيده على الحيلة أنجع ، فأظهر قوم منهم الإسلام ، واستمالوا اهل التشيّع بإظهار محبة ( اهل بيت صلعم ) ، واستشناع ظلم علي ( ر ) ، ثم سلكوا بهم مسالك شتى حتى اخرجوهم من الإسلام .. وقد سلك هذا المسلك أيضا عبدالله بن سبأ الحميري اليهودي ، فإنه لعنه الله اظهر الإسلام لكيد اهله ، فهو اصل اثارة الناس على عثمان ( ر ) ، واحرق علي بن ابي طالب ( ر ) منهم طوائف اعتصموا بالإلهية ، ومن هذه الأصول الملعونة حدثت الاسماعلية والقرامطة ، وهما مجاهرتان بترك الإسلام جملة قائلتان بالمجوسية المحضة ، ثم مذهب " مزدك الموبذ " الذي كان يظهر على عهد " أنو شروان بن تيماد " ملك الفرس ، وكان يقول بوجوب تأسي الناس والأموال .. " ( الفصل في الملل والاهواء والنحل 2 : 115 ) . لم يكن ابن حزم اول من ردّ ظهور المذاهب في الإسلام الى " ابن سبأ " الذي نسب اليه قابليات خارقة لم تتوفر ( للأنبياء ) ، كقدرته السحرية لاستمالة الناس ، وتوجيههم كيفما شاء ، وكأنهم قطيعا من الأغنام . لكن الوقائع التاريخية تكذّب هذا التفسير الساذج لظهور الطوائف المذهبية في الإسلام ، لان الخلاف الديني السياسي ظهر اول ما ظهر بين المسلمين الأوائل انفسهم قبل ان ينتقل الى اهل الأقاليم المغزوّة ( غزو ) ، والاقوام المقهورة ، كالفرس مثلا . ولقد شاعت اسطورة " السبئية " بين مؤرخي الإسلام من غير الشيعة ، حتى اخذ بها كُتّاب مرموقون ، عُرفوا بالنزاهة والتجرد عن الافتراء الذي نسبه ابن حزم الى الاسماعلية ، والقرامطة ، والزدكية ، والشيعة عموما . فقد أورد الطبري – وهو صاحب مدرسة عقلانية محايدة – روايات يستشف منها الى ارجاع الخلاف المذهبي الى مساعي عبدالله ابن سبأ ( تاريخ الطبري 4 : 330 – 330 ، 346 الخ ) . لكن الطبري يورد أيضا خلافا لغيره من المؤرخين ، روايات أخرى اكثر صلة بالظروف الاجتماعية التي ظهرت فيها المدارس المذهبية . فأشار الى عوامل تكوينها مثل تراكم الغنائم الحربية بسبب الغزو ، بأيدي قلة متنفّذة من المسؤولين ، وحرمان أكثرية المهاجرين الجدد الى الامصار الإسلامية ، من المستلزمات البسيطة للحياة . وهذه تفسيرات اقرب للقبول ، واكثر انسجاما مع التكوين التاريخي للمجتمع الإسلامي .. ومن الجانب الاخر ، فقد طرحت المدارس الامامية تفسيرا آخر لأصول الانقسام المذهبي ، وظهور الطوائف في الإسلام ، وردته الى انكار مكانة الامام علي بن ابي طالب ، وغصبه حقّه الوراثي في خلافة ( صلعم ) ، باعتباره افضل المؤهلين لهذا المقام واقرب المرشحين رحما ب ( صلعم ) ، فأوردت تبريرات شهيرة لدعم رأيها هذا ، منها وجود النص على إمامة علي في خطبة " غدير خمّ " ، ومنها أيضا ترجيح مذهب الوراثة في الملك والامامة . وفي نظرنا المتواضع ، فان هذا الرأي لم يحض بموافقة مدارس أخرى ، أنكرت مبدأ الوراثة السياسية ، وقالت إنّ المبدأ الذي نص عليه القرآن في إمامة المسلمين ، هو مذهب الشورى . وقد احتج أبو بكر بهذا المبدأ عندما رفض تسليم ارض " فدك " الى ورثة النبي ، حيث استند الى حديث نبوي يقول : " نحن معاشر الأنبياء لا نورث .. " ( انظر البلاذري . فتوح البلدان . ص 44 ، ياقوت معجم البلدان . مادة : فدك ) . وقال أصحاب هذه المدارس ، ان الخلافة بالبيعة لمن يُجمع عليه اهل الحل والعقد من المسلمين ، ويوردون حججا لترجيح قولهم هذا ، منها قبول الامام علي بيعة الخلفاء الثلاث من قبله ، ومنها حجج أخرى يطول سردها . فلسنا في معرض مناقشة التبريرات النظرية والفقهية لإمامة الفاضل او المفضول ، ولا الدفاع عن مدرسة مذهبيّة معيّنة ضد أخرى ، وانّ ما يعنينا هنا تحديد المغزى الاجتماعي للصراع المذهبي . فنرى ان ظهور المذاهب في الإسلام ، ونشوء الطوائف المذهبية ، يعود الى حقيقتين أساسيتين : اولاً --- الصراع بين المدينة والدولة : اتخذ الصراع الطبقي في الإسلام ، أشكالاً معقدة غير مألوفة ، يتعين توضيحها قبل تناول الطوائف الإسلامية . فقد وُلِدت مع ظهور الإسلام تناقضات أساسية ، إستمدّت جذورها من التكوينات الاجتماعية السابقة للإسلام ، وتطورت في اطار الامصار الجديدة . وقد اتخذت هذه التناقضات شكل صدام بين " المدينة " كوحدة اجتماعية – سياسية ، وبين " الدولة " المركزية الكبرى ، اصبح فيما بعد القوة المُحرّكة للمجتمع الإسلامي الأول . برزت هذه الظاهرة جلياً في الآيات القرآنية ، حيث يرد ذكر " القرى " و " القرية " ، باعتبارها الكيان السياسي الحضري المعروف قبل الإسلام .. فمكة تميزت بكونها " أم القرى " . وقد أُشير الى مكة والطائف باصطلاح " القريتين ". ولا بد من الإشارة هنا ، الى انّ معنى " القرية " في المفهوم اللغوي القديم ، هو غير المفهوم الدارج في الوقت الحاضر . فقد كانت تعني " المدينة – الدولة " مثل مدينة الحضر ، وتدمر ، والبتراء ، ومكة ، والطائف ، ويثرب وغيرها . فكانت هذه المدن يمثّل كل منها دولة صغيرة مستقلة ، لها حكومتها ، وارضها الزراعية المحيطة بها ، والمناطق التابعة لها . ولم يستخدم اصطلاح القرية قديما بمعنى البادية او الريف ، وانما حرّف هذا في العصر الحاضر . فيرد في لسان العرب مثلا " : القرية .. المصر الجامع .. ويقال أهل القارية للحاضرة ، وأهل البادية للبدو .. " . وامام هذا التكوين " القروي " – بالمعنى القديم – للمجتمع الجاهلي ، ظهر الإسلام يدعو الى الوحدة السياسية المطلقة ، بتلبية الناس لدعوة صلعم ، وطاعتهم لرسالته السماوية . فالإسلام كما هو معروف يعني الطاعة . بمعنى تنازل الكيانات السياسية المستقلة – القرى والقبائل -- ، وانصهارها جميعا بالكيان المركزي الإسلامي الجديد . وقد دام التناقض بين الكيان القروي ( كيان المدينة – الدولة ) ، وبين الدولة المركزية الإسلامية ذات الابعاد العالمية بضعة قرون ، وانعكس في عملية التنقل الدائم للعواصم الإسلامية طيلة القرون الثلاث الأولى للإسلام -- مكة ، والمدينة ، والكوفة ، وبغداد ، وسامراء كأمثلة على ذلك . وفي اطار هذا التناقض ظهرت الطوائف في الإسلام ، كانعكاس لصراع اهل الكوفة وغيرها من الامصار الإسلامية ، ضد مركز الدولة الإسلامية كما سنبين فيما بعد .. ان التكوين التوحيدي للإسلام الأول ، لم يتسع لظهور نظام طائفي ، بل تعارض معه تمام المعارضة ، لان المجتمع الإسلامي الأول ، كان يحمل بعض تقاليد المجتمع الجاهلي الذي وُلِد فيه بما في ذلك نظام القرى الحُرّة . فقد ذمّت التقاليد البوية التكوين الطائفي للمجتمع ، وحرّمت تقسيم الناس طوائف وشيع مختلفة . بل ادانت الأنظمة المركزية القديمة معتبرة كياناتها الطائفية دليلا على الظلم والجبروت . وسنجد في القرآن دعوة لرفض النظام الطائفي حين ذكرت آية ( القصص 4 ) " ان فرعون علا في الأرض وجعل أهلها شيعاً ) . وجاء أيضا : ( ان الذين فرّقوا دينهم وكانوا شيعاً لست منهم في شيء ) ( الانعام 159 ) . لم يكن نظام الطوائف مجهولا عن المسلمين الأوائل . فإصطلاح " الطوائف " بمعناه السياسي ، ظهر اول ما ظهر في اللغة العربية ، إشارة الى نظام ملوك الطوائف الذين ورثوا دولة الاسكندر المقدوني ، فيقول السهيلي : " وكانت ملوك الطوائف متعادين يغير عضهم على بعض ، وقد تحصّن كل واحد منهم في حصن ، وتحوّر الى حيّز ، منهم عرب ، ومنهم أشغانيون فرس ... وكان الذي فرقهم وشتّت شملهم ، وادخل بعضهم بين بعض – لئلا يستوثق بهم ملك ، ولا يقوم لهم سلطان – الاسكندر بن فيلبش اليوناني ... " ( الروض الانف 1: 31 ) . وفي رواية أخرى ، انّ ارسطوطاليس هو الذي أشار على الاسكندر ، إقامة نظام الطوائف فقال له : " فرق كلمتهم بان تجعل لكل طائفة منهم ملكا ، فلا يؤدي بعضهم الى بعض طاعة ، ويلجأ كل فريق منهم اليك ،فملّك الاسكندر ملوك الطوائف " ( الاسكافي / لطف التدبير ص 16 ) . ويفسر الاسكافي ظهور المسيحية في الدولة الرومانية ، بدوافع طائفية . اذ يقول ان الروم اجتمعت على خلع قسطنطين ، فشاور مستشاريه فقالوا له : " لا طاقة لك بقومك وقد اجتمعت كلمتهم على خلْعك ، وهم على غير دين يفهمونه . هذا والروم لا تعرف النصرانية ، وهي تعبد الاوثان على جاهليتها . قال : فما الحيلة ؟ . قالوا له : تستأذن لتحجّ الى بيت المقدس ، ثم تطلب دينا من اديان الأنبياء ، فتدعوهم اليه ، وتحملهم عليه ، فانهم يفترقون فرقتين ، فرقة تصير معك على دينك ، وأخرى تشدّ عنك ، فتقاتل من عصاك بمن اطاعك ، فانك تظهر عليهم ، لان كل قوم قاتلوا على دين ، فهم الغالبون " ( المصدر السابق ص 48 ) . كان هذا قبل مجيئ Nicolas Machiavel ، وقبل مجيئ الحسن الثاني . يظهر جليا اذن أن المسلمين القدماء ، كانوا يفهمون مغزى النظام الطائفي بكل دقة ، وقد فهموا الفرق بين النظام الطائفي الذي هو نظام سياسي مقيت وكريه ، وبين الطائفية التي تتعايش في الدولة الطائفية ، فكانوا بذلك يرون في الإسلام الأول ضماناً لعدم تطور مثل هذا النظام التقسيمي . والحقيقة فان الفترة الإسلامية الأولى ، لم تشهد نظاما طائفيا بين المسلمين انفسهم ، وانما كان الانقسام الطائفي يقوم بين اهل الإسلام ، أهل الذمّة . ولكن مجرى التاريخ قد اظهر النظام الطائفي كنتيجة منطقية لتطور الدولة المركزية القائمة على القهر والجبروت والغزو والتوسع ، لا سيما تلك الدول الاستعمارية القديمة ، والملكيات المركزية الكبرى التي سيطرت على مناطق شاسعة من العالم .. ولم يظهر النظام الطائفي في الإسلام ، الاّ عندما ابتعدت الدولة الإسلامية عن أصولها ( المدنية – القروية ) القديمة ، واستخدمت العسكريين المماليك ، خصوصا بعد فترة البويهيين والسلاجقة الترك .. ( يتبع )
#سعيد_الوجاني (هاشتاغ)
Oujjani_Said#
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
الكاتب-ة لايسمح
بالتعليق على هذا
الموضوع
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
النظام الطائفي والطائفية في الدولة الإسلامية
-
الإطار الاجتماعي للنعرة القبلية والمذهبية
-
أول حكم ذاتي لمواجهة النعرة القبلية في الدولة الاسلامية
-
هل الملك محمد السادس من اعتبر خيار الحرب استراتيجي مع الجزائ
...
-
هل طالب النظام المزاجي البوليسي باسترجاع الصحراء الشرقية ؟
-
من يملك مفتاح حل نزاع الصحراء الغربية
-
النعرة المذهبية الدينية في تشتيت الوحدة الشعبية
-
السلاح يلعلع بالقصر الملكي
-
النظام القبلي في الدولة الثيوقراطية الإسلامية
-
الدولة المزاجية . مغرب الاستثناءات
-
سورية تعترف بالجمهورية العربية الصحراوية ، ولقاء ثلاثي في اخ
...
-
الانقلابات في ظل الملك محمد السادس
-
حين تتر أس دولة بوليسية فاشية ومارقة مجلس حقوق الانسان بالام
...
-
في الثقافة والتثقيف السياسي ( الحلقة الثالثة )
-
الأمم المتحدة / الأمين العام للأمم المتحدة
-
رئيس الحكومة الاسبانية السيد بذرو سنشيز
-
الجنرال شنقريحة يهدد النظام المغربي ، بقرع طبول الحرب بالحدو
...
-
موقف إسبانيا وفرنسا من نزاع الصحراء الغربية
-
هل يجري التحضير لإعادة بناء اتحاد مغاربي ؟
-
حين يغير البوليس موضوع الدراسة
المزيد.....
-
منشور يشعل فوضى في منتجع تزلّج إيطالي.. ماذا كتب فيه؟
-
-أم صوفيا-.. سلمى أبو ضيف تنجب طفلتها الأولى
-
رداً على تصريحات ترامب بشأن -تهجير- أهل غزة، دعوات إلى التظا
...
-
اللجنة المحلية للحزب في الديوانية: ندين الاعتداء على المحتجي
...
-
حادث مطار ريغان يربط موسكو وواشنطن في مباحثات إنسانية
-
غزة.. انتشال 520 جثة من تحت الأنقاض منذ وقف إطلاق النار
-
الدفاع الروسية تعلن تحرير 6 بلدات في كورسك ودونيتسك وخاركوف
...
-
وقفة صامتة أمام السفارة الأمريكية في تل أبيب للمطالبة بالإفر
...
-
بيسكوف: التعليق على تكهنات حول -قوات كوريا الشمالية في كورسك
...
-
فنلندا.. منع طالب من زيارة محطة نووية بسبب جنسيته الروسية
المزيد.....
-
الخروج للنهار (كتاب الموتى)
/ شريف الصيفي
-
قراءة في الحال والأداء الوطني خلال العدوان الإسرائيلي وحرب ا
...
/ صلاح محمد عبد العاطي
-
لبنان: أزمة غذاء في ظل الحرب والاستغلال الرأسمالي
/ غسان مكارم
-
إرادة الشعوب ستسقط مشروع الشرق الأوسط الجديد الصهيو- أمريكي-
...
/ محمد حسن خليل
-
المجلد العشرون - دراسات ومقالات- منشورة بين عامي 2023 و 2024
/ غازي الصوراني
-
المجلد الثامن عشر - دراسات ومقالات - منشورة عام 2021
/ غازي الصوراني
-
المجلد السابع عشر - دراسات ومقالات- منشورة عام 2020
/ غازي الصوراني
-
المجلد السادس عشر " دراسات ومقالات" منشورة بين عامي 2015 و
...
/ غازي الصوراني
-
دراسات ومقالات في الفكر والسياسة والاقتصاد والمجتمع - المجلد
...
/ غازي الصوراني
-
تداخل الاجناس الأدبية في رواية قهوة سادة للكاتب السيد حافظ
/ غنية ولهي- - - سمية حملاوي
المزيد.....
|