عبد العزيز نايل
الحوار المتمدن-العدد: 1758 - 2006 / 12 / 8 - 09:49
المحور:
الادب والفن
كيف كان يتسنى لها أن تُدير رأسها في اتجاه فخذها الأيمن, ودون أن تؤثر تلك أللفتة على يديها, فيدٌ وظَّفَتْها لأن تَربت على ظهره والأخرى لتنامَ بين كفيه ولو أن يداً منهما تَخلّت عن وظيفتها لاستيقظ, وهو الذي لا يغلق عيناه على نعاسه إِلَّا نصف ساعة في الليل, بعدها تطمئن عليه فاطمة, وتنام إلى جواره, تخاف إن هي أدارت رأسها في اتجاه فخذها الأيمن, فتستطلع تلك الخطواتِ الناعمةَ وهي تجول فوق فخذها العريان, وتخشى إن تَحرك الدمُ في يدها فربما يستيقظ النائمُ الذي لا ينام نصف ساعته إلا وهو محتضن يدها بين كفيه.... تسارعت الخطواتُ الناعمةُ فوق فخذها, كان ملمسها باردا, ولكن جسدَ فاطمة راسخُ كحجر الرحاية العلوي وقد شبع موتا فوق صدر شقيقه الحجر السفلي, إلا من رأسها الذي شَرعت أن تميله أولا للأمام ثم تديره رويدا رويدا في اتجاه فخذها الأيمن على أن يكون كل ذلك في غفلة من كامل أعضاء جسدها والتي كانت فاطمة تجاهد أن تضخَ أحاسيسَها كلها في يديها مُملية عليها ثباتا وإخلاصا فيما وظِّفتْ له, وكذلك استطاعت ألا تسمح لنقطة دم واحدة أن ترتعش داخل الأوردة والشرايين في يديها, واصلت رأسُها الآن سيرها إلى منتهاها أمامَ صدرها, وما زالت فاطمة تمارس سلطتها وسطوتها على يديها, الآن يبدأ رأسها مسيرته في اتجاه الكتف الأيمن زاحفا على تيار من الهواء الدافئ والذي ينزلق من منخرها زفيرا متهالكا, وعيناها مُثبّتتان بعيني أبيها المسدلتين أمناً وسلامًا, ترقبه وهي واثقة أن الله يستمع إلى توسلها الخفي وأنه سوف يمكّنها من أن تُؤمنَ لأبيها نومته, اصطدم خدها الأيمن بالكتف الأيمن, الآن يمكنها إن حركت عينها في محجريهما أن ترى ما الذي يدب فوق فخذها الأيمن, فعلت ذلك وما إن وقعت عيناها على تلك العقرب السوداء حتى ارتجف القلب منها, صاحَبَ رجفته الأولى أن ارتجفت يداه في يدها, ساعتها ودَّت لو استطاعت أن تطعن قلبها فتخرسه فلا تكون دقاته ورجفته سببا في أن ترجف يدُ النائم مرة أخرى, أغلقت عينيها مستسلمة لهذه العقرب السوداء فهي إن ظلت مبصرة إياها سترتاع ...فيرتاع النائم, يا رب...... قالتها بأوتار الحنجرة الخرساء مدوية فاخترقت سبع سماوات, والأضراس العلوية تعمل عمل رحايتها على الأضراس السفلية, فاستجاب الله إلى صرختها, فلم تكمل العقربُ الطريقَ إلى الدفء الكامن في أعلى الفخذ, عادت أدراجها, تتنزل من فوق ركبتها, لم تعد فاطمة تستشعرها, اجتذب الأب يده من يدها فانتفضت فاطمة تفتح عينيها, تسرع ممسكة بقالبٍ من الطوب الأحمر اقتلعته من "كانون " النار لتطحن العقرب قبل أن تتوجه إلى جسد أبيها..... طحنتها وعادت لترتمي بصدرها على صدر أبيها الذي نام نصف ساعته, كانت تجهش باكية, وهو يربت على ظهرها مغمغما في شجن, رفعت رأسها, فالتقت عيناها بعينيه, أحزنها أنه لا يراها, فتفيض منها أشواق العشاق, أخذت تتمرغ في خديه يمينا مرة ويسارا مرة, وتمسح عن فمه, ما تهمي.... دموعا مالحةً, ولما تزل على شفتيه ابتسامة لا تقوى على الاكتمال, بأصابع واهنة كان يعزف على ظهرها لحنا عاجزاً, فاعتدلت تمطره تدليلا وترانيمَ بآيات الاطمئنان, فتقول له: لا تعبأ فأنا عيناك بعد أن انطفأ النور بعينك, ملّكْتُك رِجْلِيّ وعافيتي فلا تَهتَم آ إن كان الموت خسيسًا واختار لأن يسكن في رجليك , فلا تجعله سعيدا لا تتوسل قلبه , دعْ رجليك له وأنا أطوف بك الأرض وإن أحببت أعرْتَك أجنحتي فتطير بها , كما أنك لا تحتاج لأن تتكلم , فأنا أعرف ما تحتاج , أو تَذْكُر ... وأنا على حجرك في الشهر الثاني والثالث والرابع من عمري, وكما كنت تعرفني, وأنا عطشى, أو أني تبولت على نفسي, الآن أنا أعرفك...... فاستمتع أنك عدت كما طفلي !!! تَوقَفتْ فاطمة عن الاسترسال في إسماعه آياتِ الاطمئنان, حين رأت نهرين ينفلتان من عينيه على خديه بلا مجرى, صارا فيضانا ساح على أذنيه, رفعته واضعةً رأسه بين نهديها تسائله, ماذا جرى , ألا يعجبك أبي أني صرت لك أما وأبا .... فشرع يحرك يده, تسقط منه, أمسكت بيديه, باردتين, ثقيلتين, ورأسه أيضا يتثاقل على صدرها,راحت تَهزّه فلم تسمعْ له همهمة ولا غمغمة ,هل مات توت !!!!!!! في لحظة صغيرة تكورت الأزمنة الماضية والآتية ,رأت نفسها وحيدة ,ترمح في التيه يمينا ويسارا وهرولة للأمام وللخلف ولا تجد أناسا ولا تجد الماء ,والخبز تتخطفه وحوش ضارية ,ولا تجد في التيه مغيثا ,ضمته كما لو كانت ترغب أن تدفنه تحت النهدين ,فلما فشلت أن تحقنه تحت جلدها , راحت ترفع رأسها فرأت من فتحات" البوص" التي صنعت منها سقفا للبيت , رأت نجوما تلمع وشهابا ينطفئ , عرفته نذير الشؤم ,شدت هواء البيت تملأ رئتيها وتسامق رأسها فوق البيت تصرخ "بووووووه " فاهتز لصرختها جريد النخل العالي وأوراق الأشجار وأبواب ونوافذ تُفْتَح وَتُغَلَّق ونباح الكلاب الذي لا يتوقف اختلط بتصفيق أجنحة لطيور تهرب من فوق النخل وتهجر أعشاشها , محذرة من شؤم قادم فيؤكده نعيق الغربان وصراخ البوم ..... وكأن ريحا صرصر عاتية قد انفلتت من باب السماء وبوابات الأرض تشق سكون الليل , تلك مراسيم تستبق موكب "عزرائيل" إذا ما جاء إلى قريتنا تتزامن أصوات صرير الأبواب وأصوات مغاليق الأبواب الخشبية , يتدافع للخارج كل الناس , تتجاذبهم " بووووووه" إلى بيت العم توت , عارفين بأنهم بعد قليل , سيحملون النعش بواحد أو واحدة للبر الغربي .... وفاطمة ما زالت تعوي كذئب بري "بووووووه..توت ...مات...ولما لم تفتح الباب لهم, فدكوه دكة واحدة... صار الباب الهش قنطرة يعبره الناس جميعا حتى وقفوا على رأس فاطمة وهي تدفع بابيها " توت " تود لو تسكنه بين الجلد وبين اللحم, تكاثرت النساء عليها ليرفعنها بعيدا, وحلاق قريتنا يحاول أن يقتلع " توت " من أسنان شوكة عزرائيل فلم يقوى, وقف كما لو كان يخجل من قدراته, يعلن " توت"... مات...سمعته فاطمة فصارت تصرخ وتتلوى كحية ناعمة تتزحلق بين أياديهم, فتشق عليه الجلباب وعلى الأرض انبطحت تتمرغ في معجنة الطين, ومنها تغترف وبالكفين تلطخ جبهتها وشعر الرأس, وتلطخ فوق الصدر, جذبت حبلا تتحزم به, ثم غدت تحجل على قدم وتعدد ..... "أبايا يا حبيبي فايتني على مين ..وليه يابايا ..ويتيمة وغريبة ... أبايا يا حبيبي فايتني على مين ... وليه يا بايا .. وبنتك وحيدة..... والنسوة يرددن خلفها العديد وقد تحزمن بالحبال... ألقت فاطمة بجسدها بين الرجال على حافة المقبرة تود النزول مع "توت " وهم يتجاذبونها غير عابئين وغير عابئة بيد تمتد مانعة إياها وقد أمسكت بنهدها أو بصرتها, محاولة إقناعهم بأنها ستطارد الدود في مقبرته وتتحدث مع الملكين نيابة عنه, قال لها أحدهم, بابنتي في القبر سيبصر ويتكلم, فلما سمعت النسوة ما قاله, علت الزغاريد, وتعجل الحفار إغلاق فوهة القبر ومضوا... تمددت على القش في دارها, وطوابير من النمل حولها تجيء وتروح سارقة من حولها, الغذاء والسكر, والنسوة أمضين نهارهن يتمايلن على النواح والعويل, وكلما حكت واحدة من العجائز عن العم " توت " يوم..كان...وكان...وكان..... يعلو النحيب ويعلو الصراخ... أسلمت شمس النهار دربها للّيل, فوقفت فاطمة وهي تترنح قالت: أنا ذاهبة إليه, فلعله يحتاج شيئا, بعض النسوة تبعنها إشفاقا عليها, فلما رأت بالقرب من مقبرته بعضا من العظام وقِطَعًا من القماش الأبيض وكَمًا غفيرا من الكلاب النائمة حولها, كانت رائحة المكان تزكم الأنف من النَتَنْ, فتفلت فاطمة على هذه الجيفة, ولم تلحظ أن فوهة القبر مفتوحة, كان إغلاقها واهنا فاجترأت الكلاب على جثة " توت" ولم تبقِ منها سوى العظام وفروة الرأس التي لا تُرى في الليل , لم تُكمل فاطمة الفاتحة على روح أبيها فأخذت تَتْفُل حتى لم يبق في فمها لعاب , وفي دارها شرعت تقرأ الفاتحة , لكنها بدأت تتجشأ كل ما في بطنها عندما تذكرت رائحةَ النَتَنْ التي كانت على مَقربة من مقبرة "توت "
#عبد_العزيز_نايل (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟